Lakhasly

Online English Summarizer tool, free and accurate!

Summarize result (38%)

ثالثا : أدوات المعرفة : الوحي والعقل والحس أدوات المعرفة - في التربية الإسلامية - ثلاث هي : الوحي والعقل والحس. فالوحي هو أداة المعرفة في ميدانها الأول - ميدان الغيب - . أما العقل والحس فهما أداتا المعرفة - في ميدانها الثاني - ميدان الآفاق والأنفس - ۱ ـ تكامل أدوات المعرفة : تتكامل أدوات المعرفة الثلاث لبلوغ الغاية الرئيسية وهي معرفة الله تعالى. فالوحي للعقل بمنزلة الشمس أو الضوء للبصر . فكما أن البصر لا يبصر الأشياء إذا انفرد في الظلمة، كذلك العقل لا يبصر الحقائق وأهدافها إذا انفرد في البحث عنها. وتكررت الإشارة إلى هذه البصائر في مواضع عديد. قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه . (سورة الأنعام: الآية ١٠٤ . هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يوقنون . (سورة الأعراف الآية (۲۰۳) . - ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر. بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون . (سورة القصص : الآية ٤٣ ) . هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون . (سورة الجاثية : الآية (۲۰) . ويعرفها الرازي أنها اسم للعلم والإدراك التام الحاصل للعقل (۱) والذي نراه أنها • إرشادات إلهية تقود العقل إلى العلم الصحيح وإلى استخدام ثمرات العلم استخداماً سليماً عن طريق تحديد مسار العقل وغايات المعرفة وميادينها. كذلك هي تحفظ العقل من الانحراف إلى ميادين الوهم والظن والخرافة. واجتهاد العقل والبحث في ضوء هذه «البصائر) كالاجتهاد في البحث عن (۱) الرازي، الشيء الخفي في النهار أو الضوء والاجتهاد بدون هذه البصائر كالبحث عن الشيء الخفي في الظلمة. ولذلك النهار مبصراً» في مواضع عديدة من القرآن الكريم(١). والقعود عن الاجتهاد مع وجود هذه البصائر لا يوصل إلى المعرفة مثل عدم البحث عن الشيء الخفي رغم وجود الضوء أو النهار . ويتضح تكامل عمل الوحي والعقل والحس في مكان آخر من القرآن عند الحديث عمن جمعوا بين معارف الوحي والعقل والحس : إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون). (سورة الأعراف : الآية (۲۰۱). فالطائف قد يكون فكرة خاطئة تتسلل إلى مركز التفكير وتطوف فيه بسبب مقولة ينفثها شيطان إنسان على صحيفة (۱) من ذلك قوله تعالى : هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً . ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصراً). الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً . (سورة غافر: الآية (٦١ . أو في كتاب أو من خلال مذياع أو تلفاز أو خاطرة شريرة تدخل النفس بسبب التأثر بشيطان إنسان يسوقها كنصيحة أو فتنة أو . . أو حس محرم يطوف في أعصاب الجسد بسبب منظر مثير أو قصيدة ماجنة أو أغنية منحلة يطرحها شياطين مردوا في هذه الشيطنة فإذا مس الذين اتقوا مزالق الوهم والرذيلة والخطأ بمعرفتهم ودراستهم شيء من هذا الطائف الشيطاني تذكروا ما وعتهم عقولهم من «بصائر» الوحي عن أمثال هذا الطائف ونتائج عمله السيء فأبصرت عقولهم خطورته وانتهت أعضاؤهم وتوقفت عن فعله . وتاريخ العقل يقدم الأمثلة الكثيرة لضرورة التكامل بين الوحي والعقل والخطورة انفصال أي منهما عن الآخر. فحين انفصل العقل عن الوحي جنح ـ في مرحلة ما ـ إلى الاستبصار بالسحر وضرب الحصا كمنهاج للمعرفة؛ فتحكم العرافون والسحرة في حضارات ودول كما حدث في الحضارة الفرعونية والحضارة البابلية . وفي مرحلة ما لجأ العقل إلى الاستبصار بقوى وأرواح غيبية موهومة . وفي مرحلة العصر التكنولوجيا يطرح العقل المنفصل عن الوحي حلولاً لمشكلات العصر تبدو آثارها المدمرة واضحة مثل اقتراح الحروب وقتل العناصر الضعيفة والفقيرة لحل مشكلة الغذاء وتوزيع السكان. واقتراح الشذوذ الجنسي لمعالجة الخلافات التي تقوم في الأسرة وغير ذلك مما تبشر فيه فلسفات احتلت مكان بصائر» الوحي الصحيح . والقرآن يسمى عمل العقل والحس ـ نظر ــ ويعرف ـ - ابن تيمية النظر فيقول: «النظر هو نظر القلب ونظر العين» (١). ونظر القلب عند ابن تيمية يعني العمل العقلي لأن العقل عنده فعل من أفعال القلب وليس كائناً مستقلاً ويقول أيضاً: والنظر جنس تحته حق وباطل، ومحمود ومذموم » (٢) . ويتكرر الحض على النظر في الآفاق والأنفس وفي المكونات والمخلوقات في مواضع كثيرة من القرآن. ومن السذاجة أن نتصور أن المعنى المقصود بالنظر في جميع المواقع أنه مجرد النظر بالعين المجردة لأن الموضوعات التي يطلب النظر إليها كثير منها لا تطوله العين المجردة إذا لم يصاحبها المايكروسكوبات المكبرة والمراصد والتلسكوبات والتشريح الطبي، ودراسة تطور الأحياء وغير ذلك مما هو معروف في (۱) ابن تيمية ، ومن أمثلة الدعوة إلى النظر في - ميدان الآفاق ـــ ما يلي : - أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض . (سورة الأعراف الآية (۱۸٥ فلينظر الإنسان إلى طعامه، (سورة عبس : الآيات ٢٤ - ٣٢) . - - أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج. .(۷ قل انظروا ماذا في السموات والأرض . (سورة يونس : الآية (۱۰۱) . قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق (سورة العنكبوت الآية (۲۰. أما النظر في ميدان الأنفس فهو مثل قوله تعالى : فلينظر الإنسان مم خلق، يخرج من بين الصلب والترائب . (سورة الطارق : الآية (٥). - قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين . (سورة الأنعام : الآية (۱۱). - أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم . (سورة يوسف : الآية (۱۹). إن الأمر القرآني بالبحث العلمي هو جزء من الأمر الإلهي لتحقيق الإيمان ورعايته وتنميته، لأن البحث العلمي يقوي الإيمان ويرسخه وهو بعض أدواته ووسائله. وحين يقول تعالى : أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت فذلك أمر لدراسة تركيب أجساد الإبل ووظائف أعضائها وطريقة تكيفها مع البيئة الصحراوية التي تعيش فيها. والذين توجهوا - من العلماء المسلمين - إلى ميادين الفلك إنما كانوا مدفوعين بقوله تعالى: ﴿قل انظروا ماذا في السموات والأرض. والأمر الإلهي : انظروا ماذا في السموات والأرض ) هو بنفس الأسلوب الذي ورد فيه الأمر الإلهي أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة - وإن كان نقاش الفقهاء يدور ليجعل الأمر الأول فرض كفاية والأمر الثاني فرض عين ـ. ولذلك قرر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة . ٢ - الكيفية التي يتعاون بها الوحي والعقل والحس يتعاون كل من الوحي والعقل والحس للوصول إلى المعرفة اليقينية كالتالي : - ( أ ) «تتلو آيات الوحي» ـ الخبر ــ الذي يتضمن أمرين : الأول الإرشاد والتوجيه إلى ميدان البحث وموضوعه الذي هو بعض الكائنات أو الأحداث أو المظاهر الموجودة في ميدان الآفاق والأنفس والثاني ذكر غايات العلم الناتج من هذا الميدان وهي التعرف على صفة من صفات الله أو فعل من أفعاله أو قدرة من قدراته . وفائدة إرشاد الوحي وتوجيهه هنا أنه يوفر للعقل أمرين : الأول أنه يحفظه من التوجه الخاطىء إلى خيالات وموضوعات لا وجود لها في عالم الخلق كما حدث للعقل في فترات مختلفة حين وقع فريسة – الميتافيزيقا ـ والخرافة - والأوهام والسحر فإرشاد الوحي يتوجه بالعقل إلى البحث في شيء موجود فعلا لأن العقل لا يستطيع الوصول إلى معرفة في غير مادة موجودة. ولقد أدرك هذه الخاصة ابن تيمية حين قال : إن العلم بالموجود وصفاته هو الأصل، وإن العلم بالعدم المطلق والمقيد تبع له وفرع عليه وأيضاً فالعلم بالعدم لا فائدة للعالم به الالتمام العلم بالموجود. إذ تصور لا شيء» لا يستفيد به العالم»(۱). والفائدة الثانية هي أن إرشاد الوحي يحفظ العقل - يقظا - إلى الهدف من البحث والمعرفة وهو معرفة الله وعبادته لا التجبر والعلو في الأرض، ويظل يقظاً إلى أن مصدر المعرفة هو الله فلا يدعيها الإنسان ويتلبس العجرفة والعجب والطغيان . التي - (ب) يطلب الوحي إلى الدارس أن يدخل «مختبر آيات الآفاق والأنفس» ثم يستعمل قواه العقلية والسمعية والحسية أشار إليها القرآن باسم السمع والبصر والفؤاد» لدراسة الموضوع الذي أرشد الوحي إليه ووجه إلى ميدانه ثم يقارن النتائج التي توصل إليها في - مختبر الآفاق والأنفس ـ بالمعلومات التي تلاها الوحي. فإذا أحس الدارس تطبيق هذا المنهج في المعرفة برهنت النتائج الحسية المخبرية التي توصل البحث إليها صدق المعلومات التي جاء بها خبر الوحي، فحصل الاطمئنان ورسخ الإيمان. وهذا التكامل بين آيات الوحي وآيات الكون والأنفس صفة أصيلة في منهج المعرفة الإسلامية. وأول من قام بهذه (۱) ابن تيمية ، ص ٦٦ - ٦٧ . التجارب الكونية هم الأنبياء والرسل. فهذا إبراهيم عليه السلام يطلب من الله تجربة عملية تريه كيف يحيي الله الموتى فيسأله الله أو لم تؤمن؟ قال: بلى، ولكن ليطمئن قلبي فيجيبه الله إلى طلبه ويأمره بأن يذبح ثلاثة من الطير ويقسمها إلى أقسام في أماكن متباعدة ليرى بعد ذلك كيف تتلاحم الأقسام وتدب بها الحياة. ولقد كشف الله للباحثين في الطب الحديث كيف تتلاحم الخلايا وتنمو وتدب بها الحياة . وهذا «عزير» يتحقق من ظاهرة الخلق والموت والبعث بتجربة بيولوجية عملية مادتها هو نفسه وحماره الذي يركبه . وهذا موسى عليه السلام يطلب أن ينظر إلى الله جهرة فيمرره الله بتجربة كونية مادتها الجبل الذي تهدم من خشية الله . وحين طلبت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم معجزة مادية جاءها الأمر بالتوجه إلى مختبر الكون لشهود هذه المعجزات إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب. وإذا كان الجيل الأول من قريش لم يحسن هذا التوجه فإن الأجيال المسلمة ـ بعد ذلك ـ توجهت إلى مختبر الكون وفتحت الباب الذي سارت عليه أوربا بعد ذلك دون أن تقتبس معه الأهداف والغايات . ولا بد للباحث أو الدارس أن يستمر في بحثه ودراسته حتى يحقق أمرين : الأول الرسوخ في العلم أي التعمق الوافي في دراسة الموضوع والتمكن من فهم مكوناته وأحواله. ولقد أشاد الله سبحانه وتعالى بالراسخين في العلم لأنهم يصلون إلى الإيمان الراسخ : والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا . (سورة آل عمران الآية (٧ ولكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك. وفي المقابل قلل من السطحية في العلم التي تقف بصاحبها عند ظواهر المعرفة : يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا . (سورة الروم : - الآية ( . والأمر الثاني هو الإحاطة الشاملة بموضوع العلم والحذر من العلم الجزئي والمعرفة الجزئية لأن هذه الجزئية تقود إلى التكذيب بخبر المعرفة وتؤدي إلى الخطأ في الاستنتاج والحكم : الآية (۳۹). وبل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه (سورة يونس : ﴾ قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علماً». (سورة النمل : الآية (٨٤) . إن عدم الانتباه إلى هذين الشرطين: الرسوخ في العلم والإحاطة الشاملة بموضوع العلم جعل البعض يعتقد بتنافر الدين والعلم. ونتيجة لذلك دعا بعض الكتاب الإسلاميين إلى عدم المقارنة بين مقررات الدين وثمرات العلم لأن حقائق الدين ثابتة ومقررات العلم متغيرة. والواقع أن العلم الكامل لا يتغير وإنما الذي يتغير هو «العلم الجزئي» الذي فيه نقص أو يخالطه ظن أو هوى، فيكون فيه ما يظن أنه علم وليس بعلم فالقول بكروية الأرض أصبح علماً كاملاً لا خوف من تعديله أو تغييره بعد الصعود إلى القمر والدوران في الفضاء، ولكن عندما كان يقال إن الذرة غير قابلة للانقسام كان ظناً وليس علماً. لذلك لا تناقض أبداً بين الدين الصحيح والعلم الصحيح، وإنما يقع التناقض حين يتطرق الخطأ إلى الدين أو العلم. وإلى هذا أشار القرآن : ما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني عن الحق شيئاً). (سورة النجم : الآية (۲۸) . ۳ - آثار الانشقاق بين أدوات المعرفة ونقد العلماء الغربيين لمنهج المعرفة المعاصر : في الفترات التاريخية التي تكامل خلالها الوحي والعقل والحس في ميدان المعرفة برزت آثار هذا التكامل في حياة الإنسان وفي ثمار المعرفة حيث شاع الاستقرار وشيـدت الحضارات. ولكن الفترات التي شاهدت الانشقاق بين أدوات المعرفة انحرفت الحضارة عن مسارها الطبيعي وتداعت سلبيات العلم المجرد من الإيمان فشقي الإنسان بالعلم وانتهت الحضارة إلى السقوط. ونحن نقدم لذلك مثلين اثنين الأول من الحضارة الإسلامية والثاني من الحضارة الغربية المعاصرة . أما عن المثل الأول فلقد سبق عصور الضعف والانحلال في الحضارة الإسلامية انشقاق في أدوات المعرفة وميادينها، حيث تقوقع الفقهاء في دراسة ما أورثه الآباء وترديد ما أفرزه فهم هؤلاء الآباء ونظرهم في «خبر الوحي»، وتوقفوا عن النظر في آيات الكتاب نفسها. كذلك عارضوا النظر في آيات الآفاق والأنفس وعطلوا أداة العقل في ميدان العلم مبالغة في محاربة اتجاهات الزندقة. كذلك جزءوا ميدان الفقه نفسه إلى مذهبيات وفرق وأحزاب وقطعوا الصلات القائمة بين هذه الميادين. ونتيجة لذلك كله وقعوا في أخطاء ٢٦٠ كثيرة وخرجوا بمفاهيم أظهرت الوحي والعقل بمظهر المتناقضين . كذلك اخترع المتكلمون لأنفسهم منهجاً ـ عقلياً ـ لا يتكامل مع الوحي ولا يستعين بالحس فافتقروا بذلك إلى إرشاد الوحي وتجربة الحواس العملية. - وأما الصوفية فقد تنكروا للعقل ورفضوا دوره في النظر في آيات الكتاب وآيات الآفاق والأنفس واعتمدوا التخييل الذي أسموه إلهاماً. وأما الفلاسفة فقد وضعوا العقل في مواجهة الوحي وبذلك حرموا العقل من «بصائر الوحي» وجعلوه يتوجه إلى أوهام اليونان التي خرجت به إلى دائرة الوهم والخرافة(۱) ولقد نجم عن ذلك الانشقاق في منهج المعرفة ضعف الحضارة الإسلامية وما جره هذا الضعف مشکلات من اجتماعية واقتصادية في الداخل وهزائم وانهيارات أمام غزاة التتار والصليبيين والمغول من خارج، واستمر هذا الضعف حتى انهيار الحضارة الإسلامية في مطلع العصر الحديث. (۱) دكتور ماجد عرسان الكيلاني تطور مفهوم النظرية التربوية الإسلامية . وأما عن المثل الثاني فإن أصوات المختصين في الحضارة الغربية المعاصرة ترتفع - الآن - محذرة من الآثار السلبية التي أحدثها الانشقاق بين أدوات المعرفة المذكورة. - - ومن الأصوات القوية التي نددت بمنهاج المعرفة المعاصر أبراهام ماسلو (Abraham Maslow) رئيس جمعيات علماء النفس في الولايات المتحدة في السبعينات والذي وصفته المجلات المتخصصة بأنه حل محل دارون وفرويد وسكنر في التأثير على العقل الغربي عامة ومن أقواله في هذا المجال : لا بد من طريقة جديدة للمعرفة، ولا بد من معنى أوسع للعلم فإن ملحد القرن التاسع عشر قد حرق البيت بدل أن يعيد ترميمه، فلقد رمى بجميع الأسئلة التي يطرحها الدين وبإجاباتها معاً وأدار ظهره لكل مقررات الدين لأن القائمين على الدين قد طلعوا عليه بإجابات لا يستطيع قبولها ولا تقوم على شواهد وبراهين يمكن أن يبلعها العالم الذي يحترم نفسه . ولكن اليوم وقد أصبح العالم أكثر معرفة واستنارة فإنه وإن كان لا يستطيع قبول الإجابات الدينية، فقد أصبح واضحاً لديه أن موضوعات البحث الدينية ومباحث الدين والأسئلة التي يطرحها الدين حول النشأة والوجود والمصير هي قضايا علمية تستحق الاحترام الكامل، وهي قضايا عميقة الجذور في الطبيعة البشرية ويمكن دراستها وتمحيصها بأسلوب علمي ،رصين وإن الكنيسة كانت تحاول الإجابة عن أسئلة إنسانية رفيعة صحيحة، وهي وإن أخطأت الإجابة فإن الأسئلة نفسها كانت تستحق القبول الكامل والتبرير الكامل. ومن المسلم به ـ الآن ـ أن علماء النفس الطبيعيين والإنسانيين سوف يعتبرون كل شخص لا يهتم بالدين وموضوعاته وقضاياه إنما هو إنسان شاذ مريض»(۱) س لذلك وممن ناقش آثار الانشقاق بين أدوات المعرفة البروفسور د. هاردي الذي ذكر أن اقتصار مناهج المعرفة على ميدان المحسوس هو تصور ساذج وغير عملي . ويضرب مثلاً فيقول لو أن إنساناً قصر المعرفة على ما يحسه ويراه لما كان بالإمكان معرفة قارة افريقيا من خلال ما كتبه الذين رأوها وإنما لا بد لكل من أراد أن يعرفها أن يسافر إليها ويرى فيها كل شيء وهذا أمر صعب التحقيق باهض التكاليف. ويضيف ـ هاردي ـ أن قصر المعرفة على الحس وحده - - سوف يخرج منها علوماً كالرياضيات واللغة أن اللغة هي (1) أبراهام ماسلو. خطر الانشقاق بين الدين والعلم». التي تحمل الأفكار التي تعجز عن حملها الخبرات التي تقتصر على الحواس (۱). ونضيف إلى ما قاله - هاردي - إن قصر المعرفة على ما يحسه الإنسان ويراه يستدعي التنكر لكل ما يحمله التاريخ لنا عن الماضي، ولكل ما تنقله الكتابة من تراث الماضي، وأننا لو أردنا أن نتحقق من ذلك لوجب علينا استرجاع الماضي بوقائعه وزمانه وهذا أمر مستحيل التحقيق والقول به يعيد الإنسان إلى طور البدائية الأولى . وناقش آخرون مشکلات مناهج المعرفة المعاصرة فاستعرضوا تاريخ المعرفة وذكروا أن «مناهج المعرفة» تتغير حسب حاجات الإنسان ثم خلصوا إلى القول أن مناهج المعرفة القائمة في الوقت الحاضر لم تعد ملائمة لمجتمعات ما بعد العصر الصناعي لأن فروض المعرفة كانت ــ في العصر - الصناعي - تقوم على اعتبار العقل أرقى أدوات المعرفة وأن الملاحظة والتجربة هي الأدوات الصادقة الوحيدة في ميدان المعرفة. وكان الاعتقاد أن الإنسان سوف يكتشف بواسطة العقل قوانين الحياة والخلق ،والكون وسوف يتحرر من قيود الجهل وينتقل إلى مستقبل أفضل. The Philosophy of Education. (London: George (۱) Allen & Unwin . ولكن ما إن حلت الستينات والسبعينات من هذا القرن حتى بدأ الشك بصحة هذه التطلعات وظهر القول إن اقتصار المعرفة على العقل وميدان العلم الطبيعي أدى إلى ظهور الإنسان ذي البعد الواحد وإن الاعتماد على المفاهيم التكنولوجية والعلمية وحدها أوجد كرة أرضية قاحلة وإن الحاجة ماسة لإيجاد منهج معرفة متوازن وشامل وجديد. كذلك تكررت الإشارات والكتابات حول أهمية أساليب المعرفة الروحية والخبرات الذاتية، وإن المعرفة أوسع مما حددتها مناهج المعرفة التكنولوجية وإنها يجب أن تتسع لتشمل القيم والدين والخبرات الذاتية من هذا الاستعراض لمشكلات مناهج المعرفة المعاصرة نتبين أن الحاجة ماسة إلى منهج المعرفة الإسلامي بشموله وعمقه . ولكن من الإنصاف والصدق مع النفس أن نقول إن المسلم المعاصر لا يمارس منهج المعرفة الإسلامي ولا هو مؤهل لبعثه وكذلك البيئة المعاصرة في العالم الإسلامي بيئة غير . صالحة لبلورة هذا المنهج ووضعه موضع التطبيق وإحالة العلوم المتولدة منه إلى تطبيقات زاخرة بما يتطلبه العصر ويحتاجه أبناء العصر وتحديات العصر. فالمسلم المعاصر يعيش أزمة فكرية ونفسية تحول بينه وبين هذا الدور الفعال المطلوب وتتخذ أزمة المسلم المعاصر في هذا الميدان مظاهر عدة هي : الأول ؛ أنه حين يتصدى للبحث والمعرفة يكتفي بأن يتباهى بأسفار التراث الإسلامي المكدسة في خزائن العالم. وهو «يفاخر» الآخرين بأن هذه كلها انبثقت على أيد أسلافه الذين قادوا الحضارة العالمية آنذاك، ثم يود ـ بناء على ذلك ـ أن يعترف له الآخرون بالفضل، وأن يسبغوا عليه حلل الاحترام وهالات التبجيل. - إن الأزمة التي يعاني منها المسلم المعاصر في هذا المجال أنه يخلط بين أمرين هامين ويكتفي بأحدهما دون الآخر وهذان الأمران هما: الرسالة والتراث . هي فالرسالة هي عطاء الجيل الحاضر الذي يسهم به في مسيرة الحضارة العالمية الحاضرة لحل مشكلات الحاضر وتلبية تطلعات المستقبل . أما - التراث - فهو إسهامات «الآباء» في الحضارة العالمية التي عاصروها وعطاؤهم الذي قدموه للبشرية خلال العصور التي عاشوها . وقيام - الآباء - بدورهم في الماضي لا يعفي الأبناء الذين يعيشون في الحاضر عن القيام بدورهم في حمل الرسالة والإسهام في مسيرة الحضارة العالمية الحاضرة : - تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون . (سورة البقرة : الآية ١٣٤ ، .(١٤١ والمسلم المعاصر لا يقوم بواجبه في حمل «الرسالة» وهو لا يجهد عقله ونفسه في بلورة مضامينها وما يجب أن تكون عليه لتلبية حاجاته هو نفسه وللإسهام في حاجات الآخرين، وهو غير مستعد لتقديم ما تحتاجه الرسالة من تضحية بالمال والنفس. ولذلك فهو لا يسهم في الفكر الإنساني المعاصر والحضارة الإنسانية المعاصرة، وإنما هو «آبائي» يكتفي بالتباهي بتراث الآباء فيكتب بتمجيده الكتب والمقالات ويحشو به أذهان الناشئة وينظم بمدحه القصائد والأناشيد والأغاني، ويقيم له المعارض ويجذب له عشاق الآثار. ثم يعيش بعد ذلك طفيلياً على إسهامات الآخرين ومنتوجاتهم. والمظهر الثاني لأزمة المسلم المعاصر أنه إذا رأى الآخرين وهم يضعون مناهج المعرفة موضع التطبيق ويقطفون ثمارها الإيجابية ويتداعون لمعالجة نقائصها السلبية فإنه لا يتحرك للإسهام في الإبقاء على ثمرات الإيجابيات ومعالجة السلبيات بطريقة توفر له الاحترام وإنما يتشنج وينفعل ويحقر أعمال الآخرين ويتصيد الأخطاء ويشهر بالسلبيات ويقارن بينها وبين الإيجابيات في تراث الآباء . والمظهر الثالث لأزمة المسلم المعاصر أنه لا يريد أن يعترف بأزمته ولا يود تشخيصها وتمحيصها كمقدمة لعلاجها. فهو يرفض «النقد الذاتي» ويعتبره شتماً وتحقيراً وتتبعاً للعورات. وحين تتفاقم مشكلاته وآثار أزمته فإنه يحمل نتائج هذه الآثار والمضاعفات للذين جذبتهم روائح ضعفه وجاءوا ليستثمروا أزمته - كالاستعمار والشيوعية والصهيونية - فهو يعكس القاعدة الإسلامية التي تقرر أن ما يصيب القوم هو ثمار ما كسبت أيديهم وأن ما بهم من حال أسيفة هو ثمرة ما جاء بنفسهم من أفكار وقيم خاطئة. فهو ــ حسب - تعبير القرآن - يرفض التوبة ويحمل الآخرين نتائج إصراره على الذنب . وجميع هذه المظاهر التي يعاني منها المسلم المعاصر تستدعي التركيز على البحث في أسباب أزمته وعلاجها في ميدان التربية - والتربية بالذات . - وليس من المبالغة أن نقول إن منهاج المعرفة الإسلامي يحتاج أن يسبقه إفراز جيل جديد من العلماء الذين يجري انتقاء خاماتهم من أذكياء الطلبة الموهوبين ـ أو من أولي الألباب حسب التعبير القرآني . فأمثال هؤلاء الموهوبين هم - القادرون على الاستفادة من منهج المعرفة الإسلامي وتطويره بما يلائم حاجات العصر وتحدياته ثم تطبيقه وقطف ثمراته .٤ - فريق المعرفة : الرسل والعلماء : يتكامل في ميدان المعرفة فريقان الفريق الأول هم الرسل. وأما عن دور الرسل في المعرفة فهو أنهم يتلقون الوحي من الخالق مباشرة. والمحور الذي تدور حوله موضوعات الوحي هو نماذج العلاقات الملائمة للطور الذي يأتي الرسول لينقل إليه المجموعة البشرية التى أرسل إليها. وتسمى هذه النماذج «المثل الأعلى». وليس لدينا منهج واضح مفصل عما جاء به فريق الرسل إلا منهج الرسول محمد صلى الله عليه وسلم الذي تلقاه عن الخالق سبحانه وتعالى بغية دفع عجلة التطور التي قادها الرسل ابتداء من مرحلة الرسالة الأسرية - أي رسالة آدم ـ ومروراً بالرسالات القروية ـ كرسالات صالح وعاد ـ - ثم الرسالات القومية - كرسالة موسى - حتى انتهت بالرسالة العالمية التي حمل لواءها محمد صلى الله عليه وسلم . - و «المثل الأعلى الذي جاء به هو الصيغة الجديدة » لنماذج العلاقات بين الخالق والإنسان والكون والحياة والآخرة في طور العالمية الذي جاءت رسالة الإسلام لتهيء الإنسانية لعبور هذا الطور. وفي هذا الطور الأخير نلمح شارات انتهاء الطفولة العقلية للإنسان وتأهيله لحمل أعباء مرحلة النضج العقلي الذي يمكنه من شهود أفعال الخالق وصفاته. وختم الرسالة بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم يتضمن الإشارة إلى هذه المهمة التي ألقيت على عاتق الإنسان. وأما عن دور الفريق الثاني - وهم العلماء ـ فهو القيام بأمرين اثنين : الأول : إبراز الشواهد الحسية التي تفرز الاطمئنان لصدق خبر الوحي من خلال النظر والمقارنة بين آيات الكتاب وآيات الآفاق والأنفس. والثاني : إعمال العقل والاجتهاد في ـ آيات الكتاب ـ - و - آيات الآفاق والأنفس - لابتكار الوسائل والأدوات التي تساعد على تجسيد المثل الأعلى وإشاعته وترجمته إلى واقع حياة وإلى ممارسات ونظم وحضارة . ه ــ أقسام فريق العلماء : لا يتوجه القرآن إلى علماء مختصين بالعلوم الدينية فحسب وإنما يتوجه توجهاً شاملاً إلى كافة أصناف العلماء، ويمكن أن نقسم فريق العلماء نقسم فريق العلماء ـ حسب التصور الإسلامي - - إلى ثلاثة أقسام هم العالم الديني والعالم الطبيعي، والعالم الاجتماعي . فالعالم الديني يبلور «المظهر الديني» للعبادة وتطبيقاته . أي هو يقوم بفقه آيات الكتاب والسنة لبلورة علاقات الإنسان بالله - علاقة العبودية، وعلاقة الإنسان بالآخرة ـ علاقة مسؤولية وجزاء ويتفرع عن ذلك تخصصات كثيرة في شؤون العقيدة والعبادة . والعالم الطبيعي يبلور المظهر الكوني» للعبادة أي هو يقوم بفقه آيات الله في الآفاق لبلورة علاقة الإنسان بالكون - علاقة تسخير. ويتفرع عن ذلك تخصصات كثيرة لا حصر لها في مختلف المكونات الطبيعية والكائنات الحية في آفاق الكون من السموات والأرض وما بينهما. والعالم الاجتماعي يبلور المظهر الاجتماعي للعبادة أي هو يقوم بفقه آيات الكتاب والسنة النبوية لبلورة علاقة الإنسان بالإنسان - علاقة العدل والإحسان، ولبلورة علاقة الإنسان بالحياة - علاقة الابتلاء. ويتفرع عن ذلك تخصصات لا حصر لها في شؤون التشريع والاجتماع والتربية وغير ذلك . - ويلحق بهذا الميدان عدد آخر من التخصصات منها : علم النفس الذي يقوم بفقه آيات الله في الأنفس، ويتفرع عن ذلك تخصصات في النفس الإنسانية والسلوك الإنساني، وتاريخ هذه النفس أفراداً وجماعات. ويلحق بالميادين السابقة كلها ـ العالم الجمالي ـ الذي يبلور الجانب الجمالي في الميادين السابقة كلها وفي الوجود القائم. أو نقول هو يفقه جمال النعم الإلهية في العبادة والاجتماع والكون ويتفرع عن ذلك تخصصات لا حصر في الأدب والفن وعلم الأخلاق والأذواق. لها فكل من الأطراف السابقة فقيه يختص بفقه جانب من الوجود القائم. وإليهم مجتمعين وردت الإشارات القرآنية بـ «أولي الألباب الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض وما يعتريهما من أحوال ثم تكون نتيجة هذا التفكر والبحث إعلان الغاية والهدف ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك ! وحين تبرز هذه الجوانب المعرفية وتشيع في حياة الناس تتكون الثقافة الإسلامية بمعناها الشامل الكامل الذي يطبع الحياة الإسلامية ويميزها عما سواها في ميادين الفكر والقيم والعادات والتقاليد وأنماط السلوك والفن واللباس والبناء، والنظم والعلاقات وتتجسد عقيدة التوحيد في ذلك كله وتعطي الفرد المسلم والمجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية طابعها الخاص الذي تتميز كلها به . ٦ - التكامل بين فرقاء المعرفة : التكامل بين فريقي المعرفة من الرسل والعلماء أمر ضروري وضمان لاستمرار مسيرة الحياة واستقامتها وسموها وسلامتها. والانشقاق بينهما نذير تعثر في هذه المسيرة وانحرافها وحدوث الأزمات المهلكة والكوارث المدمرة ولهذا التكامل مظهران : الأول : تكامل الرسل والعلماء، والثاني: تكامل أطراف العلماء أنفسهم . أما عن الأول - تكامل الرسل والعلماء - فهو الذي يضمن للعلماء التزامهم بـ «المثل الأعلى» الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم للطور الجديد من الحياة. ويضمن توجيه جميع الإنجازات العلمية لخدمة هذا - المثل الأعلى . أما حين يختل التكامل ويقع الانشقاق بين الرسل والعلماء، فإن البصائر التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم تنطفىء من طريق العلماء وينحرفون وراء «مثل سوء» لا تناسب الطور العالمي الذي نعيشه فيه، فنحن نرى أن انشقاق العالم الطبيعي والعالم الاجتماعي عن «بصائر»، المثل الأعلى الإسلامي قد دفع بهما إلى «مثل سوء» تجسدت في «الوطنيات» أو «المذهبية» أو «الطبقية» أو «الطائفية» أو «العرقية » أو «ثقافة الاستهلاك والمتعة وحصر نشاطها العلمي في هذه الميادين. ونحن نرى أن ـ الأديب الجمالي ـ في فترات الانقطاع - عن بصائر الوحي يتوهم - مثله الأعلى ـ في امرأة أو مجلس شراب، وينتقل من التسبيح في جمال الإبداع الإلهي في الكون والإنسان والحياة إلى زخرف الأشياء والأشخاص. وإلى هذا يشير القرآن الكريم عند حديثه عن الشعراء الذين يتبعهم الغاوون ويهيمون في أودية المعاني المتعرجة والمشاعر والصور المضطربة، ويستثني من هؤلاء الذين يؤمنون بـ المثل الأعلى ويلتزمون بتوجيهاته في الإكثار من ذكر جمال الخلق الإلهي . ونحن نرى كذلك أن عدم اهتداء عالم النفس المعاصر» بنموذج – المثل الأعلى ــ الذي طرحه الوحي القرآني - - عن الإنسان أبقى هذا العالم حبيس ميدان المرحلة البدائية في تطور النفس الإنسانية، أو المرحلة التي يشير إليها القرآن الكريم باسم - النفس الأمارة بالسوء . ومن هذا الميدان • - استخرج عالم النفس الحديث - من أمثال فرويد ـ جميع مقرراته واستنتاجاته عن النفس البشرية ودوافعها. وهو لما يهتد بعد إلى مراتب النفس العليا التي يشير القرآن إليها باسم - النفس اللوامة ـ و ـ النفس المطمئنة ـ. - ونحن نرى أيضاً أن من انقطعوا من «علماء الدين» عن الاتصال المباشر بالقرآن والسنة وتحولوا إلى التقليد المذهبي فإنهم إما خرجوا من ميدان الحياة المتحركة وتحولوا إلى قصاص الأخبار الصالحين من الأموات، وبذلك توقفوا عن رسالة الدين الأساسية في مجامهة الشرور اليومية وتقويم انحرافات الأحياء، وإما أنهم تحولوا إلى مبررين لانحرافات المترفين من الطبقات العليا . وهذا كله عودة إلى «مثل غير عليا كانت في أطوار الطفولة البشرية التي مرت عنها الإنسانية وانتهى دورها. وكان من نتيجة ذلك اضطراب في مسيرة العقيدة والفكر والعلم والتربية والأدب والاجتماع والفن والثقافة . والمظهر الثاني للتكامل بين فرقاء المعرفة هو التكامل بين أطراف الفريق الثاني؛ أي بين كل من العالم الديني والعالم الطبيعي، فهذا التكامل ضروري لسببين : السبب الأول؛ أنهم مجتمعين يسهمون في تنمية الإيمان بالمثل الأعلى وتحويله إلى تطبيقات عملية. ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى أن المؤمنين هم الذين يعلمون الحق: فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم. ولقد عرف محمد إقبال - الإيمان - بقوله : «الإيمان أكثر من مجرد شعور فهو في حقيقته يشبه رضا النفس عن علم ومعرفة) (۱) . (۱) محمد إقبال تجديد التفكير الديني في الإسلام، ص٦ والرضى محله الشعور والإرادة والعلم والمعرفة محلها العقل. والحديث النبوي يذكر أن الإيمان قول وعمل. والقول هنا تعبير عن القناعة والشعور. فإذا جمعنا هذه التعاريف توصلنا إلى المعادلة التالية : الإيمان = علم ومعرفة + رضى + عمل. أي هو = عقل + إرادة + تطبيق . وهذه المكونات للإيمان هي وظائف كل من العالم الديني، والعالم الاجتماعي والعالم الجمالي. والانفصال بين هؤلاء معناه تفكك معادلة الإيمان وعدم انعقاد الإيمان نفسه فحين ينفصل العالم الجمالي عن • ، العالم الديني وعن العالم الطبيعي والعالم الاجتماعي ويهيم دون بصائر تضيء له الطريق ـ في أودية الشعور والإرادة وبلا أفكار صائبة ولا قناعات تستثمر الإرادة المتدفقة وتوظفها لخدمة «المثل الأعلى فإن الأمر ينتهي بالمتعلمين إلى أمرين: إما التهور والانفلات وهو التطرف وإما اليأس والانزواء وهو الجمود. والعالم المفكر حين يحسن الإمداد بالأفكار والمعارف دون أن تحركها الإرادة النبيلة فسوف تبقى الأفكار والمعارف ترفاً فكرياً لا يحرك إلى عمل ولا يقود إلى تطبيق . والعالم الطبيعي حين يحسن اكتشاف قوانين الكون وتسخيرها أي تحويلها إلى مخترعات وتطبيقات فإنه يزود المتعلمين بمهارات وأدوات دون أن تكون لديهم أفكار صائبة أو «مثل أعلى أو إرادات نبيلة يستعملون المخترعات والتطبيقات الجديدة في خدمتها. ولذلك ينتهي الأمر بالمستخدمين لهذه المخترعات إلى أمرين: الأول استعمالها في خدمة الأهواء والنزوات والشهوات الفردية والطبقية والعرقية وهو التطرف. وأما مقت هذه التطبيقات والمخترعات كما عبرت عن ذلك اتجاهات وثقافات معاصرة، وكما عبر عن ذلك تقرير المستشارين المقدم إلى اليونسكو عام ١٩٧٦ فقد جاء فيه : «لقد خضعت تطبيقات العلم إلى حد بعيد لحافز الربح ومصلحة قطاعات صغيرة في المجتمع البشري. وفي ثنايا هذه العملية تسربت صور الانحراف والتشويه إلى أوليات العلم نفسه وخلق الشعور بالإحباط وخيبة العلم والمطالبة بكبح العلم وترويض التكنولوجيا بصفة عامة . والحق أن العلم يمثل أحد المظاهر الإبداعية العظمى لعبقرية الإنسان، لكن المشكلة تكمن في انفصاله عن الاتجاه الإنساني والقيم الأساسية لحياة البشر. وهذا يستدعي تحديد مفهوم جديد للعلم يوفر تناسق التقدم في مجال العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية سواء» (۱) . والأمر الثاني هو استعمال المخترعات والتطبيقات العلمية في خدمة الأهواء السياسية والنزوات العنصرية والشهوات الطبقية والفردية وهو التطرف. ولقد عبر عن ذلك تقرير المستشارين المذكور أعلاه إذ جاء فيه : التكنولوجيا سلاح ذو حدين، فقد حققت للإنسان مزايا هائلة من ناحية وأدت إلى تراكم أجهزة الدمار من ناحية أخرى وزادت من حدة مظاهر عدم المساواة في العالم وأدت إلى نشوء أوضاع بالغة الخطر في سوء التكيف والاضطراب. وأدت كذلك إلى تبديد موارد الأرض وإشاعة التلوث فيها» (٢) . ويستمر التقرير في عرض آثار انفصال العلم الطبيعي حرم عن بقية العلوم الأخرى فيقول : إن رسوخ التكنولوجيا في بعض المجتمعات الأفراد والجماعات من إمكانية التأثير في ظروف حياتهم وعلى مصيرهم. وبذلك صار الإنسان يعاني من التدخلات التي (۱) اليونسكو، نحو عالم الغد: تقرير المستشارين بشأن المشكلات العالمية الكبرى (باريس) : ١٩٧٦)، ص ۱۰۸ - ۱۰۹ اقتحمت حياته الخاصة وصارت مشكلته تتركز في إقامة علاقات مفهومة وخلافه بين نفسه وجماعته وبيئته»(۱) والسبب الثاني لضرورة تكامل كل من العالم الديني والعالم الطبيعي والعالم الاجتماعي والعالم الجمالي هو أن التوحيد في العبادة والفكر والسلوك والاجتماع وسيلته التوحيد في أدوات المعرفة وفرقاء المعرفة .


Original text

ثالثا : أدوات المعرفة : الوحي والعقل والحس أدوات المعرفة - في التربية الإسلامية - ثلاث هي : الوحي والعقل والحس. فالوحي هو أداة المعرفة في ميدانها الأول - ميدان الغيب - . أما العقل والحس فهما أداتا المعرفة - في ميدانها الثاني - ميدان الآفاق والأنفس - ۱ ـ تكامل أدوات المعرفة : تتكامل أدوات المعرفة الثلاث لبلوغ الغاية الرئيسية وهي معرفة الله تعالى. فالوحي للعقل بمنزلة الشمس أو الضوء للبصر . فكما أن البصر لا يبصر الأشياء إذا انفرد في الظلمة، كذلك العقل لا يبصر الحقائق وأهدافها إذا انفرد في البحث عنها. وتكررت الإشارة إلى هذه البصائر في مواضع عديد. قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه . (سورة الأنعام: الآية ١٠٤ . هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يوقنون . (سورة الأعراف الآية (۲۰۳) . - ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر. بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون . (سورة القصص : الآية ٤٣ ) . هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون . (سورة الجاثية : الآية (۲۰) . ويعرفها الرازي أنها اسم للعلم والإدراك التام الحاصل للعقل (۱) والذي نراه أنها • إرشادات إلهية تقود العقل إلى العلم الصحيح وإلى استخدام ثمرات العلم استخداماً سليماً عن طريق تحديد مسار العقل وغايات المعرفة وميادينها. كذلك هي تحفظ العقل من الانحراف إلى ميادين الوهم والظن والخرافة. واجتهاد العقل والبحث في ضوء هذه «البصائر) كالاجتهاد في البحث عن (۱) الرازي، الشيء الخفي في النهار أو الضوء والاجتهاد بدون هذه البصائر كالبحث عن الشيء الخفي في الظلمة. ولذلك النهار مبصراً» في مواضع عديدة من القرآن الكريم(١). والقعود عن الاجتهاد مع وجود هذه البصائر لا يوصل إلى المعرفة مثل عدم البحث عن الشيء الخفي رغم وجود الضوء أو النهار . ويتضح تكامل عمل الوحي والعقل والحس في مكان آخر من القرآن عند الحديث عمن جمعوا بين معارف الوحي والعقل والحس : إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون). (سورة الأعراف : الآية (۲۰۱). فالطائف قد يكون فكرة خاطئة تتسلل إلى مركز التفكير وتطوف فيه بسبب مقولة ينفثها شيطان إنسان على صحيفة (۱) من ذلك قوله تعالى : هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً . ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصراً). الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً . (سورة غافر: الآية (٦١ . أو في كتاب أو من خلال مذياع أو تلفاز أو خاطرة شريرة تدخل النفس بسبب التأثر بشيطان إنسان يسوقها كنصيحة أو فتنة أو . . أو حس محرم يطوف في أعصاب الجسد بسبب منظر مثير أو قصيدة ماجنة أو أغنية منحلة يطرحها شياطين مردوا في هذه الشيطنة فإذا مس الذين اتقوا مزالق الوهم والرذيلة والخطأ بمعرفتهم ودراستهم شيء من هذا الطائف الشيطاني تذكروا ما وعتهم عقولهم من «بصائر» الوحي عن أمثال هذا الطائف ونتائج عمله السيء فأبصرت عقولهم خطورته وانتهت أعضاؤهم وتوقفت عن فعله . وتاريخ العقل يقدم الأمثلة الكثيرة لضرورة التكامل بين الوحي والعقل والخطورة انفصال أي منهما عن الآخر. فحين انفصل العقل عن الوحي جنح ـ في مرحلة ما ـ إلى الاستبصار بالسحر وضرب الحصا كمنهاج للمعرفة؛ فتحكم العرافون والسحرة في حضارات ودول كما حدث في الحضارة الفرعونية والحضارة البابلية . وفي مرحلة ما لجأ العقل إلى الاستبصار بقوى وأرواح غيبية موهومة . وفي مرحلة العصر التكنولوجيا يطرح العقل المنفصل عن الوحي حلولاً لمشكلات العصر تبدو آثارها المدمرة واضحة مثل اقتراح الحروب وقتل العناصر الضعيفة والفقيرة لحل مشكلة الغذاء وتوزيع السكان. واقتراح الشذوذ الجنسي لمعالجة الخلافات التي تقوم في الأسرة وغير ذلك مما تبشر فيه فلسفات احتلت مكان بصائر» الوحي الصحيح . والقرآن يسمى عمل العقل والحس ـ نظر ــ ويعرف ـ - ابن تيمية النظر فيقول: «النظر هو نظر القلب ونظر العين» (١). ونظر القلب عند ابن تيمية يعني العمل العقلي لأن العقل عنده فعل من أفعال القلب وليس كائناً مستقلاً ويقول أيضاً: والنظر جنس تحته حق وباطل، ومحمود ومذموم » (٢) . ويتكرر الحض على النظر في الآفاق والأنفس وفي المكونات والمخلوقات في مواضع كثيرة من القرآن. ومن السذاجة أن نتصور أن المعنى المقصود بالنظر في جميع المواقع أنه مجرد النظر بالعين المجردة لأن الموضوعات التي يطلب النظر إليها كثير منها لا تطوله العين المجردة إذا لم يصاحبها المايكروسكوبات المكبرة والمراصد والتلسكوبات والتشريح الطبي، ودراسة تطور الأحياء وغير ذلك مما هو معروف في (۱) ابن تيمية ، ومن أمثلة الدعوة إلى النظر في - ميدان الآفاق ـــ ما يلي : - أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض . (سورة الأعراف الآية (۱۸٥ فلينظر الإنسان إلى طعامه، (سورة عبس : الآيات ٢٤ - ٣٢) . - - أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج. .(۷ قل انظروا ماذا في السموات والأرض . (سورة يونس : الآية (۱۰۱) . قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق (سورة العنكبوت الآية (۲۰. أما النظر في ميدان الأنفس فهو مثل قوله تعالى : فلينظر الإنسان مم خلق، يخرج من بين الصلب والترائب . (سورة الطارق : الآية (٥). - قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين . (سورة الأنعام : الآية (۱۱). - أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم . (سورة يوسف : الآية (۱۹). إن الأمر القرآني بالبحث العلمي هو جزء من الأمر الإلهي لتحقيق الإيمان ورعايته وتنميته، لأن البحث العلمي يقوي الإيمان ويرسخه وهو بعض أدواته ووسائله. وحين يقول تعالى : أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت فذلك أمر لدراسة تركيب أجساد الإبل ووظائف أعضائها وطريقة تكيفها مع البيئة الصحراوية التي تعيش فيها. والذين توجهوا - من العلماء المسلمين - إلى ميادين الفلك إنما كانوا مدفوعين بقوله تعالى: ﴿قل انظروا ماذا في السموات والأرض. والأمر الإلهي : انظروا ماذا في السموات والأرض ) هو بنفس الأسلوب الذي ورد فيه الأمر الإلهي أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة - وإن كان نقاش الفقهاء يدور ليجعل الأمر الأول فرض كفاية والأمر الثاني فرض عين ـ. ولذلك قرر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة . ٢ - الكيفية التي يتعاون بها الوحي والعقل والحس يتعاون كل من الوحي والعقل والحس للوصول إلى المعرفة اليقينية كالتالي : - ( أ ) «تتلو آيات الوحي» ـ الخبر ــ الذي يتضمن أمرين : الأول الإرشاد والتوجيه إلى ميدان البحث وموضوعه الذي هو بعض الكائنات أو الأحداث أو المظاهر الموجودة في ميدان الآفاق والأنفس والثاني ذكر غايات العلم الناتج من هذا الميدان وهي التعرف على صفة من صفات الله أو فعل من أفعاله أو قدرة من قدراته . وفائدة إرشاد الوحي وتوجيهه هنا أنه يوفر للعقل أمرين : الأول أنه يحفظه من التوجه الخاطىء إلى خيالات وموضوعات لا وجود لها في عالم الخلق كما حدث للعقل في فترات مختلفة حين وقع فريسة – الميتافيزيقا ـ والخرافة - والأوهام والسحر فإرشاد الوحي يتوجه بالعقل إلى البحث في شيء موجود فعلا لأن العقل لا يستطيع الوصول إلى معرفة في غير مادة موجودة. ولقد أدرك هذه الخاصة ابن تيمية حين قال : إن العلم بالموجود وصفاته هو الأصل، وإن العلم بالعدم المطلق والمقيد تبع له وفرع عليه وأيضاً فالعلم بالعدم لا فائدة للعالم به الالتمام العلم بالموجود. إذ تصور لا شيء» لا يستفيد به العالم»(۱). والفائدة الثانية هي أن إرشاد الوحي يحفظ العقل - يقظا - إلى الهدف من البحث والمعرفة وهو معرفة الله وعبادته لا التجبر والعلو في الأرض، ويظل يقظاً إلى أن مصدر المعرفة هو الله فلا يدعيها الإنسان ويتلبس العجرفة والعجب والطغيان . التي - (ب) يطلب الوحي إلى الدارس أن يدخل «مختبر آيات الآفاق والأنفس» ثم يستعمل قواه العقلية والسمعية والحسية أشار إليها القرآن باسم السمع والبصر والفؤاد» لدراسة الموضوع الذي أرشد الوحي إليه ووجه إلى ميدانه ثم يقارن النتائج التي توصل إليها في - مختبر الآفاق والأنفس ـ بالمعلومات التي تلاها الوحي. فإذا أحس الدارس تطبيق هذا المنهج في المعرفة برهنت النتائج الحسية المخبرية التي توصل البحث إليها صدق المعلومات التي جاء بها خبر الوحي، فحصل الاطمئنان ورسخ الإيمان. وهذا التكامل بين آيات الوحي وآيات الكون والأنفس صفة أصيلة في منهج المعرفة الإسلامية. وأول من قام بهذه (۱) ابن تيمية ، ص ٦٦ - ٦٧ . التجارب الكونية هم الأنبياء والرسل. فهذا إبراهيم عليه السلام يطلب من الله تجربة عملية تريه كيف يحيي الله الموتى فيسأله الله أو لم تؤمن؟ قال: بلى، ولكن ليطمئن قلبي فيجيبه الله إلى طلبه ويأمره بأن يذبح ثلاثة من الطير ويقسمها إلى أقسام في أماكن متباعدة ليرى بعد ذلك كيف تتلاحم الأقسام وتدب بها الحياة. ولقد كشف الله للباحثين في الطب الحديث كيف تتلاحم الخلايا وتنمو وتدب بها الحياة . وهذا «عزير» يتحقق من ظاهرة الخلق والموت والبعث بتجربة بيولوجية عملية مادتها هو نفسه وحماره الذي يركبه . وهذا موسى عليه السلام يطلب أن ينظر إلى الله جهرة فيمرره الله بتجربة كونية مادتها الجبل الذي تهدم من خشية الله . وحين طلبت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم معجزة مادية جاءها الأمر بالتوجه إلى مختبر الكون لشهود هذه المعجزات إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب. وإذا كان الجيل الأول من قريش لم يحسن هذا التوجه فإن الأجيال المسلمة ـ بعد ذلك ـ توجهت إلى مختبر الكون وفتحت الباب الذي سارت عليه أوربا بعد ذلك دون أن تقتبس معه الأهداف والغايات . ولا بد للباحث أو الدارس أن يستمر في بحثه ودراسته حتى يحقق أمرين : الأول الرسوخ في العلم أي التعمق الوافي في دراسة الموضوع والتمكن من فهم مكوناته وأحواله. ولقد أشاد الله سبحانه وتعالى بالراسخين في العلم لأنهم يصلون إلى الإيمان الراسخ : والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا . (سورة آل عمران الآية (٧ ولكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك. وفي المقابل قلل من السطحية في العلم التي تقف بصاحبها عند ظواهر المعرفة : يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا . (سورة الروم : - الآية ( . والأمر الثاني هو الإحاطة الشاملة بموضوع العلم والحذر من العلم الجزئي والمعرفة الجزئية لأن هذه الجزئية تقود إلى التكذيب بخبر المعرفة وتؤدي إلى الخطأ في الاستنتاج والحكم : الآية (۳۹). وبل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه (سورة يونس : ﴾ قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علماً». (سورة النمل : الآية (٨٤) . إن عدم الانتباه إلى هذين الشرطين: الرسوخ في العلم والإحاطة الشاملة بموضوع العلم جعل البعض يعتقد بتنافر الدين والعلم. ونتيجة لذلك دعا بعض الكتاب الإسلاميين إلى عدم المقارنة بين مقررات الدين وثمرات العلم لأن حقائق الدين ثابتة ومقررات العلم متغيرة. والواقع أن العلم الكامل لا يتغير وإنما الذي يتغير هو «العلم الجزئي» الذي فيه نقص أو يخالطه ظن أو هوى، فيكون فيه ما يظن أنه علم وليس بعلم فالقول بكروية الأرض أصبح علماً كاملاً لا خوف من تعديله أو تغييره بعد الصعود إلى القمر والدوران في الفضاء، ولكن عندما كان يقال إن الذرة غير قابلة للانقسام كان ظناً وليس علماً. لذلك لا تناقض أبداً بين الدين الصحيح والعلم الصحيح، وإنما يقع التناقض حين يتطرق الخطأ إلى الدين أو العلم. وإلى هذا أشار القرآن : ما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني عن الحق شيئاً). (سورة النجم : الآية (۲۸) . ۳ - آثار الانشقاق بين أدوات المعرفة ونقد العلماء الغربيين لمنهج المعرفة المعاصر : في الفترات التاريخية التي تكامل خلالها الوحي والعقل والحس في ميدان المعرفة برزت آثار هذا التكامل في حياة الإنسان وفي ثمار المعرفة حيث شاع الاستقرار وشيـدت الحضارات. ولكن الفترات التي شاهدت الانشقاق بين أدوات المعرفة انحرفت الحضارة عن مسارها الطبيعي وتداعت سلبيات العلم المجرد من الإيمان فشقي الإنسان بالعلم وانتهت الحضارة إلى السقوط. ونحن نقدم لذلك مثلين اثنين الأول من الحضارة الإسلامية والثاني من الحضارة الغربية المعاصرة . أما عن المثل الأول فلقد سبق عصور الضعف والانحلال في الحضارة الإسلامية انشقاق في أدوات المعرفة وميادينها، حيث تقوقع الفقهاء في دراسة ما أورثه الآباء وترديد ما أفرزه فهم هؤلاء الآباء ونظرهم في «خبر الوحي»، وتوقفوا عن النظر في آيات الكتاب نفسها. كذلك عارضوا النظر في آيات الآفاق والأنفس وعطلوا أداة العقل في ميدان العلم مبالغة في محاربة اتجاهات الزندقة. كذلك جزءوا ميدان الفقه نفسه إلى مذهبيات وفرق وأحزاب وقطعوا الصلات القائمة بين هذه الميادين. ونتيجة لذلك كله وقعوا في أخطاء ٢٦٠ كثيرة وخرجوا بمفاهيم أظهرت الوحي والعقل بمظهر المتناقضين . كذلك اخترع المتكلمون لأنفسهم منهجاً ـ عقلياً ـ لا يتكامل مع الوحي ولا يستعين بالحس فافتقروا بذلك إلى إرشاد الوحي وتجربة الحواس العملية. - وأما الصوفية فقد تنكروا للعقل ورفضوا دوره في النظر في آيات الكتاب وآيات الآفاق والأنفس واعتمدوا التخييل الذي أسموه إلهاماً. وأما الفلاسفة فقد وضعوا العقل في مواجهة الوحي وبذلك حرموا العقل من «بصائر الوحي» وجعلوه يتوجه إلى أوهام اليونان التي خرجت به إلى دائرة الوهم والخرافة(۱) ولقد نجم عن ذلك الانشقاق في منهج المعرفة ضعف الحضارة الإسلامية وما جره هذا الضعف مشکلات من اجتماعية واقتصادية في الداخل وهزائم وانهيارات أمام غزاة التتار والصليبيين والمغول من خارج، واستمر هذا الضعف حتى انهيار الحضارة الإسلامية في مطلع العصر الحديث. (۱) دكتور ماجد عرسان الكيلاني تطور مفهوم النظرية التربوية الإسلامية . وأما عن المثل الثاني فإن أصوات المختصين في الحضارة الغربية المعاصرة ترتفع - الآن - محذرة من الآثار السلبية التي أحدثها الانشقاق بين أدوات المعرفة المذكورة. - - ومن الأصوات القوية التي نددت بمنهاج المعرفة المعاصر أبراهام ماسلو (Abraham Maslow) رئيس جمعيات علماء النفس في الولايات المتحدة في السبعينات والذي وصفته المجلات المتخصصة بأنه حل محل دارون وفرويد وسكنر في التأثير على العقل الغربي عامة ومن أقواله في هذا المجال : لا بد من طريقة جديدة للمعرفة، ولا بد من معنى أوسع للعلم فإن ملحد القرن التاسع عشر قد حرق البيت بدل أن يعيد ترميمه، فلقد رمى بجميع الأسئلة التي يطرحها الدين وبإجاباتها معاً وأدار ظهره لكل مقررات الدين لأن القائمين على الدين قد طلعوا عليه بإجابات لا يستطيع قبولها ولا تقوم على شواهد وبراهين يمكن أن يبلعها العالم الذي يحترم نفسه . ولكن اليوم وقد أصبح العالم أكثر معرفة واستنارة فإنه وإن كان لا يستطيع قبول الإجابات الدينية، فقد أصبح واضحاً لديه أن موضوعات البحث الدينية ومباحث الدين والأسئلة التي يطرحها الدين حول النشأة والوجود والمصير هي قضايا علمية تستحق الاحترام الكامل، وهي قضايا عميقة الجذور في الطبيعة البشرية ويمكن دراستها وتمحيصها بأسلوب علمي ،رصين وإن الكنيسة كانت تحاول الإجابة عن أسئلة إنسانية رفيعة صحيحة، وهي وإن أخطأت الإجابة فإن الأسئلة نفسها كانت تستحق القبول الكامل والتبرير الكامل. ومن المسلم به ـ الآن ـ أن علماء النفس الطبيعيين والإنسانيين سوف يعتبرون كل شخص لا يهتم بالدين وموضوعاته وقضاياه إنما هو إنسان شاذ مريض»(۱) س لذلك وممن ناقش آثار الانشقاق بين أدوات المعرفة البروفسور د. هاردي الذي ذكر أن اقتصار مناهج المعرفة على ميدان المحسوس هو تصور ساذج وغير عملي . ويضرب مثلاً فيقول لو أن إنساناً قصر المعرفة على ما يحسه ويراه لما كان بالإمكان معرفة قارة افريقيا من خلال ما كتبه الذين رأوها وإنما لا بد لكل من أراد أن يعرفها أن يسافر إليها ويرى فيها كل شيء وهذا أمر صعب التحقيق باهض التكاليف. ويضيف ـ هاردي ـ أن قصر المعرفة على الحس وحده - - سوف يخرج منها علوماً كالرياضيات واللغة أن اللغة هي (1) أبراهام ماسلو. خطر الانشقاق بين الدين والعلم». التي تحمل الأفكار التي تعجز عن حملها الخبرات التي تقتصر على الحواس (۱). ونضيف إلى ما قاله - هاردي - إن قصر المعرفة على ما يحسه الإنسان ويراه يستدعي التنكر لكل ما يحمله التاريخ لنا عن الماضي، ولكل ما تنقله الكتابة من تراث الماضي، وأننا لو أردنا أن نتحقق من ذلك لوجب علينا استرجاع الماضي بوقائعه وزمانه وهذا أمر مستحيل التحقيق والقول به يعيد الإنسان إلى طور البدائية الأولى . وناقش آخرون مشکلات مناهج المعرفة المعاصرة فاستعرضوا تاريخ المعرفة وذكروا أن «مناهج المعرفة» تتغير حسب حاجات الإنسان ثم خلصوا إلى القول أن مناهج المعرفة القائمة في الوقت الحاضر لم تعد ملائمة لمجتمعات ما بعد العصر الصناعي لأن فروض المعرفة كانت ــ في العصر - الصناعي - تقوم على اعتبار العقل أرقى أدوات المعرفة وأن الملاحظة والتجربة هي الأدوات الصادقة الوحيدة في ميدان المعرفة. وكان الاعتقاد أن الإنسان سوف يكتشف بواسطة العقل قوانين الحياة والخلق ،والكون وسوف يتحرر من قيود الجهل وينتقل إلى مستقبل أفضل. The Philosophy of Education. (London: George (۱) Allen & Unwin . ولكن ما إن حلت الستينات والسبعينات من هذا القرن حتى بدأ الشك بصحة هذه التطلعات وظهر القول إن اقتصار المعرفة على العقل وميدان العلم الطبيعي أدى إلى ظهور الإنسان ذي البعد الواحد وإن الاعتماد على المفاهيم التكنولوجية والعلمية وحدها أوجد كرة أرضية قاحلة وإن الحاجة ماسة لإيجاد منهج معرفة متوازن وشامل وجديد. كذلك تكررت الإشارات والكتابات حول أهمية أساليب المعرفة الروحية والخبرات الذاتية، وإن المعرفة أوسع مما حددتها مناهج المعرفة التكنولوجية وإنها يجب أن تتسع لتشمل القيم والدين والخبرات الذاتية من هذا الاستعراض لمشكلات مناهج المعرفة المعاصرة نتبين أن الحاجة ماسة إلى منهج المعرفة الإسلامي بشموله وعمقه . ولكن من الإنصاف والصدق مع النفس أن نقول إن المسلم المعاصر لا يمارس منهج المعرفة الإسلامي ولا هو مؤهل لبعثه وكذلك البيئة المعاصرة في العالم الإسلامي بيئة غير . صالحة لبلورة هذا المنهج ووضعه موضع التطبيق وإحالة العلوم المتولدة منه إلى تطبيقات زاخرة بما يتطلبه العصر ويحتاجه أبناء العصر وتحديات العصر. فالمسلم المعاصر يعيش أزمة فكرية ونفسية تحول بينه وبين هذا الدور الفعال المطلوب وتتخذ أزمة المسلم المعاصر في هذا الميدان مظاهر عدة هي : الأول ؛ أنه حين يتصدى للبحث والمعرفة يكتفي بأن يتباهى بأسفار التراث الإسلامي المكدسة في خزائن العالم. وهو «يفاخر» الآخرين بأن هذه كلها انبثقت على أيد أسلافه الذين قادوا الحضارة العالمية آنذاك، ثم يود ـ بناء على ذلك ـ أن يعترف له الآخرون بالفضل، وأن يسبغوا عليه حلل الاحترام وهالات التبجيل. - إن الأزمة التي يعاني منها المسلم المعاصر في هذا المجال أنه يخلط بين أمرين هامين ويكتفي بأحدهما دون الآخر وهذان الأمران هما: الرسالة والتراث . هي فالرسالة هي عطاء الجيل الحاضر الذي يسهم به في مسيرة الحضارة العالمية الحاضرة لحل مشكلات الحاضر وتلبية تطلعات المستقبل . أما - التراث - فهو إسهامات «الآباء» في الحضارة العالمية التي عاصروها وعطاؤهم الذي قدموه للبشرية خلال العصور التي عاشوها . وقيام - الآباء - بدورهم في الماضي لا يعفي الأبناء الذين يعيشون في الحاضر عن القيام بدورهم في حمل الرسالة والإسهام في مسيرة الحضارة العالمية الحاضرة : - تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون . (سورة البقرة : الآية ١٣٤ ، .(١٤١ والمسلم المعاصر لا يقوم بواجبه في حمل «الرسالة» وهو لا يجهد عقله ونفسه في بلورة مضامينها وما يجب أن تكون عليه لتلبية حاجاته هو نفسه وللإسهام في حاجات الآخرين، وهو غير مستعد لتقديم ما تحتاجه الرسالة من تضحية بالمال والنفس. ولذلك فهو لا يسهم في الفكر الإنساني المعاصر والحضارة الإنسانية المعاصرة، وإنما هو «آبائي» يكتفي بالتباهي بتراث الآباء فيكتب بتمجيده الكتب والمقالات ويحشو به أذهان الناشئة وينظم بمدحه القصائد والأناشيد والأغاني، ويقيم له المعارض ويجذب له عشاق الآثار. ثم يعيش بعد ذلك طفيلياً على إسهامات الآخرين ومنتوجاتهم. والمظهر الثاني لأزمة المسلم المعاصر أنه إذا رأى الآخرين وهم يضعون مناهج المعرفة موضع التطبيق ويقطفون ثمارها الإيجابية ويتداعون لمعالجة نقائصها السلبية فإنه لا يتحرك للإسهام في الإبقاء على ثمرات الإيجابيات ومعالجة السلبيات بطريقة توفر له الاحترام وإنما يتشنج وينفعل ويحقر أعمال الآخرين ويتصيد الأخطاء ويشهر بالسلبيات ويقارن بينها وبين الإيجابيات في تراث الآباء . والمظهر الثالث لأزمة المسلم المعاصر أنه لا يريد أن يعترف بأزمته ولا يود تشخيصها وتمحيصها كمقدمة لعلاجها. فهو يرفض «النقد الذاتي» ويعتبره شتماً وتحقيراً وتتبعاً للعورات. وحين تتفاقم مشكلاته وآثار أزمته فإنه يحمل نتائج هذه الآثار والمضاعفات للذين جذبتهم روائح ضعفه وجاءوا ليستثمروا أزمته - كالاستعمار والشيوعية والصهيونية - فهو يعكس القاعدة الإسلامية التي تقرر أن ما يصيب القوم هو ثمار ما كسبت أيديهم وأن ما بهم من حال أسيفة هو ثمرة ما جاء بنفسهم من أفكار وقيم خاطئة. فهو ــ حسب - تعبير القرآن - يرفض التوبة ويحمل الآخرين نتائج إصراره على الذنب . وجميع هذه المظاهر التي يعاني منها المسلم المعاصر تستدعي التركيز على البحث في أسباب أزمته وعلاجها في ميدان التربية - والتربية بالذات . - وليس من المبالغة أن نقول إن منهاج المعرفة الإسلامي يحتاج أن يسبقه إفراز جيل جديد من العلماء الذين يجري انتقاء خاماتهم من أذكياء الطلبة الموهوبين ـ أو من أولي الألباب حسب التعبير القرآني . فأمثال هؤلاء الموهوبين هم - القادرون على الاستفادة من منهج المعرفة الإسلامي وتطويره بما يلائم حاجات العصر وتحدياته ثم تطبيقه وقطف ثمراته .٤ - فريق المعرفة : الرسل والعلماء : يتكامل في ميدان المعرفة فريقان الفريق الأول هم الرسل. وأما عن دور الرسل في المعرفة فهو أنهم يتلقون الوحي من الخالق مباشرة. والمحور الذي تدور حوله موضوعات الوحي هو نماذج العلاقات الملائمة للطور الذي يأتي الرسول لينقل إليه المجموعة البشرية التى أرسل إليها. وتسمى هذه النماذج «المثل الأعلى». وليس لدينا منهج واضح مفصل عما جاء به فريق الرسل إلا منهج الرسول محمد صلى الله عليه وسلم الذي تلقاه عن الخالق سبحانه وتعالى بغية دفع عجلة التطور التي قادها الرسل ابتداء من مرحلة الرسالة الأسرية - أي رسالة آدم ـ ومروراً بالرسالات القروية ـ كرسالات صالح وعاد ـ - ثم الرسالات القومية - كرسالة موسى - حتى انتهت بالرسالة العالمية التي حمل لواءها محمد صلى الله عليه وسلم . - و «المثل الأعلى الذي جاء به هو الصيغة الجديدة » لنماذج العلاقات بين الخالق والإنسان والكون والحياة والآخرة في طور العالمية الذي جاءت رسالة الإسلام لتهيء الإنسانية لعبور هذا الطور. وفي هذا الطور الأخير نلمح شارات انتهاء الطفولة العقلية للإنسان وتأهيله لحمل أعباء مرحلة النضج العقلي الذي يمكنه من شهود أفعال الخالق وصفاته. وختم الرسالة بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم يتضمن الإشارة إلى هذه المهمة التي ألقيت على عاتق الإنسان. وأما عن دور الفريق الثاني - وهم العلماء ـ فهو القيام بأمرين اثنين : الأول : إبراز الشواهد الحسية التي تفرز الاطمئنان لصدق خبر الوحي من خلال النظر والمقارنة بين آيات الكتاب وآيات الآفاق والأنفس. والثاني : إعمال العقل والاجتهاد في ـ آيات الكتاب ـ - و - آيات الآفاق والأنفس - لابتكار الوسائل والأدوات التي تساعد على تجسيد المثل الأعلى وإشاعته وترجمته إلى واقع حياة وإلى ممارسات ونظم وحضارة . ه ــ أقسام فريق العلماء : لا يتوجه القرآن إلى علماء مختصين بالعلوم الدينية فحسب وإنما يتوجه توجهاً شاملاً إلى كافة أصناف العلماء، ويمكن أن نقسم فريق العلماء نقسم فريق العلماء ـ حسب التصور الإسلامي - - إلى ثلاثة أقسام هم العالم الديني والعالم الطبيعي، والعالم الاجتماعي . فالعالم الديني يبلور «المظهر الديني» للعبادة وتطبيقاته . أي هو يقوم بفقه آيات الكتاب والسنة لبلورة علاقات الإنسان بالله - علاقة العبودية، وعلاقة الإنسان بالآخرة ـ علاقة مسؤولية وجزاء ويتفرع عن ذلك تخصصات كثيرة في شؤون العقيدة والعبادة . والعالم الطبيعي يبلور المظهر الكوني» للعبادة أي هو يقوم بفقه آيات الله في الآفاق لبلورة علاقة الإنسان بالكون - علاقة تسخير. ويتفرع عن ذلك تخصصات كثيرة لا حصر لها في مختلف المكونات الطبيعية والكائنات الحية في آفاق الكون من السموات والأرض وما بينهما. والعالم الاجتماعي يبلور المظهر الاجتماعي للعبادة أي هو يقوم بفقه آيات الكتاب والسنة النبوية لبلورة علاقة الإنسان بالإنسان - علاقة العدل والإحسان، ولبلورة علاقة الإنسان بالحياة - علاقة الابتلاء. ويتفرع عن ذلك تخصصات لا حصر لها في شؤون التشريع والاجتماع والتربية وغير ذلك . - ويلحق بهذا الميدان عدد آخر من التخصصات منها : علم النفس الذي يقوم بفقه آيات الله في الأنفس، ويتفرع عن ذلك تخصصات في النفس الإنسانية والسلوك الإنساني، وتاريخ هذه النفس أفراداً وجماعات. ويلحق بالميادين السابقة كلها ـ العالم الجمالي ـ الذي يبلور الجانب الجمالي في الميادين السابقة كلها وفي الوجود القائم. أو نقول هو يفقه جمال النعم الإلهية في العبادة والاجتماع والكون ويتفرع عن ذلك تخصصات لا حصر في الأدب والفن وعلم الأخلاق والأذواق. لها فكل من الأطراف السابقة فقيه يختص بفقه جانب من الوجود القائم. وإليهم مجتمعين وردت الإشارات القرآنية بـ «أولي الألباب الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض وما يعتريهما من أحوال ثم تكون نتيجة هذا التفكر والبحث إعلان الغاية والهدف ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك ! وحين تبرز هذه الجوانب المعرفية وتشيع في حياة الناس تتكون الثقافة الإسلامية بمعناها الشامل الكامل الذي يطبع الحياة الإسلامية ويميزها عما سواها في ميادين الفكر والقيم والعادات والتقاليد وأنماط السلوك والفن واللباس والبناء، والنظم والعلاقات وتتجسد عقيدة التوحيد في ذلك كله وتعطي الفرد المسلم والمجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية طابعها الخاص الذي تتميز كلها به . ٦ - التكامل بين فرقاء المعرفة : التكامل بين فريقي المعرفة من الرسل والعلماء أمر ضروري وضمان لاستمرار مسيرة الحياة واستقامتها وسموها وسلامتها. والانشقاق بينهما نذير تعثر في هذه المسيرة وانحرافها وحدوث الأزمات المهلكة والكوارث المدمرة ولهذا التكامل مظهران : الأول : تكامل الرسل والعلماء، والثاني: تكامل أطراف العلماء أنفسهم . أما عن الأول - تكامل الرسل والعلماء - فهو الذي يضمن للعلماء التزامهم بـ «المثل الأعلى» الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم للطور الجديد من الحياة. ويضمن توجيه جميع الإنجازات العلمية لخدمة هذا - المثل الأعلى . أما حين يختل التكامل ويقع الانشقاق بين الرسل والعلماء، فإن البصائر التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم تنطفىء من طريق العلماء وينحرفون وراء «مثل سوء» لا تناسب الطور العالمي الذي نعيشه فيه، فنحن نرى أن انشقاق العالم الطبيعي والعالم الاجتماعي عن «بصائر»، المثل الأعلى الإسلامي قد دفع بهما إلى «مثل سوء» تجسدت في «الوطنيات» أو «المذهبية» أو «الطبقية» أو «الطائفية» أو «العرقية » أو «ثقافة الاستهلاك والمتعة وحصر نشاطها العلمي في هذه الميادين. ونحن نرى أن ـ الأديب الجمالي ـ في فترات الانقطاع - عن بصائر الوحي يتوهم - مثله الأعلى ـ في امرأة أو مجلس شراب، وينتقل من التسبيح في جمال الإبداع الإلهي في الكون والإنسان والحياة إلى زخرف الأشياء والأشخاص. وإلى هذا يشير القرآن الكريم عند حديثه عن الشعراء الذين يتبعهم الغاوون ويهيمون في أودية المعاني المتعرجة والمشاعر والصور المضطربة، ويستثني من هؤلاء الذين يؤمنون بـ المثل الأعلى ويلتزمون بتوجيهاته في الإكثار من ذكر جمال الخلق الإلهي . ونحن نرى كذلك أن عدم اهتداء عالم النفس المعاصر» بنموذج – المثل الأعلى ــ الذي طرحه الوحي القرآني - - عن الإنسان أبقى هذا العالم حبيس ميدان المرحلة البدائية في تطور النفس الإنسانية، أو المرحلة التي يشير إليها القرآن الكريم باسم - النفس الأمارة بالسوء . ومن هذا الميدان • - استخرج عالم النفس الحديث - من أمثال فرويد ـ جميع مقرراته واستنتاجاته عن النفس البشرية ودوافعها. وهو لما يهتد بعد إلى مراتب النفس العليا التي يشير القرآن إليها باسم - النفس اللوامة ـ و ـ النفس المطمئنة ـ. - ونحن نرى أيضاً أن من انقطعوا من «علماء الدين» عن الاتصال المباشر بالقرآن والسنة وتحولوا إلى التقليد المذهبي فإنهم إما خرجوا من ميدان الحياة المتحركة وتحولوا إلى قصاص الأخبار الصالحين من الأموات، وبذلك توقفوا عن رسالة الدين الأساسية في مجامهة الشرور اليومية وتقويم انحرافات الأحياء، وإما أنهم تحولوا إلى مبررين لانحرافات المترفين من الطبقات العليا . وهذا كله عودة إلى «مثل غير عليا كانت في أطوار الطفولة البشرية التي مرت عنها الإنسانية وانتهى دورها. وكان من نتيجة ذلك اضطراب في مسيرة العقيدة والفكر والعلم والتربية والأدب والاجتماع والفن والثقافة . والمظهر الثاني للتكامل بين فرقاء المعرفة هو التكامل بين أطراف الفريق الثاني؛ أي بين كل من العالم الديني والعالم الطبيعي، فهذا التكامل ضروري لسببين : السبب الأول؛ أنهم مجتمعين يسهمون في تنمية الإيمان بالمثل الأعلى وتحويله إلى تطبيقات عملية. ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى أن المؤمنين هم الذين يعلمون الحق: فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم. ولقد عرف محمد إقبال - الإيمان - بقوله : «الإيمان أكثر من مجرد شعور فهو في حقيقته يشبه رضا النفس عن علم ومعرفة) (۱) . (۱) محمد إقبال تجديد التفكير الديني في الإسلام، ص٦ والرضى محله الشعور والإرادة والعلم والمعرفة محلها العقل. والحديث النبوي يذكر أن الإيمان قول وعمل. والقول هنا تعبير عن القناعة والشعور. فإذا جمعنا هذه التعاريف توصلنا إلى المعادلة التالية : الإيمان = علم ومعرفة + رضى + عمل. أي هو = عقل + إرادة + تطبيق . وهذه المكونات للإيمان هي وظائف كل من العالم الديني، والعالم الاجتماعي والعالم الجمالي. والانفصال بين هؤلاء معناه تفكك معادلة الإيمان وعدم انعقاد الإيمان نفسه فحين ينفصل العالم الجمالي عن • ، العالم الديني وعن العالم الطبيعي والعالم الاجتماعي ويهيم دون بصائر تضيء له الطريق ـ في أودية الشعور والإرادة وبلا أفكار صائبة ولا قناعات تستثمر الإرادة المتدفقة وتوظفها لخدمة «المثل الأعلى فإن الأمر ينتهي بالمتعلمين إلى أمرين: إما التهور والانفلات وهو التطرف وإما اليأس والانزواء وهو الجمود. والعالم المفكر حين يحسن الإمداد بالأفكار والمعارف دون أن تحركها الإرادة النبيلة فسوف تبقى الأفكار والمعارف ترفاً فكرياً لا يحرك إلى عمل ولا يقود إلى تطبيق . والعالم الطبيعي حين يحسن اكتشاف قوانين الكون وتسخيرها أي تحويلها إلى مخترعات وتطبيقات فإنه يزود المتعلمين بمهارات وأدوات دون أن تكون لديهم أفكار صائبة أو «مثل أعلى أو إرادات نبيلة يستعملون المخترعات والتطبيقات الجديدة في خدمتها. ولذلك ينتهي الأمر بالمستخدمين لهذه المخترعات إلى أمرين: الأول استعمالها في خدمة الأهواء والنزوات والشهوات الفردية والطبقية والعرقية وهو التطرف. وأما مقت هذه التطبيقات والمخترعات كما عبرت عن ذلك اتجاهات وثقافات معاصرة، وكما عبر عن ذلك تقرير المستشارين المقدم إلى اليونسكو عام ١٩٧٦ فقد جاء فيه : «لقد خضعت تطبيقات العلم إلى حد بعيد لحافز الربح ومصلحة قطاعات صغيرة في المجتمع البشري. وفي ثنايا هذه العملية تسربت صور الانحراف والتشويه إلى أوليات العلم نفسه وخلق الشعور بالإحباط وخيبة العلم والمطالبة بكبح العلم وترويض التكنولوجيا بصفة عامة . والحق أن العلم يمثل أحد المظاهر الإبداعية العظمى لعبقرية الإنسان، لكن المشكلة تكمن في انفصاله عن الاتجاه الإنساني والقيم الأساسية لحياة البشر. وهذا يستدعي تحديد مفهوم جديد للعلم يوفر تناسق التقدم في مجال العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية سواء» (۱) . والأمر الثاني هو استعمال المخترعات والتطبيقات العلمية في خدمة الأهواء السياسية والنزوات العنصرية والشهوات الطبقية والفردية وهو التطرف. ولقد عبر عن ذلك تقرير المستشارين المذكور أعلاه إذ جاء فيه : التكنولوجيا سلاح ذو حدين، فقد حققت للإنسان مزايا هائلة من ناحية وأدت إلى تراكم أجهزة الدمار من ناحية أخرى وزادت من حدة مظاهر عدم المساواة في العالم وأدت إلى نشوء أوضاع بالغة الخطر في سوء التكيف والاضطراب. وأدت كذلك إلى تبديد موارد الأرض وإشاعة التلوث فيها» (٢) . ويستمر التقرير في عرض آثار انفصال العلم الطبيعي حرم عن بقية العلوم الأخرى فيقول : إن رسوخ التكنولوجيا في بعض المجتمعات الأفراد والجماعات من إمكانية التأثير في ظروف حياتهم وعلى مصيرهم. وبذلك صار الإنسان يعاني من التدخلات التي (۱) اليونسكو، نحو عالم الغد: تقرير المستشارين بشأن المشكلات العالمية الكبرى (باريس) : ١٩٧٦)، ص ۱۰۸ - ۱۰۹ اقتحمت حياته الخاصة وصارت مشكلته تتركز في إقامة علاقات مفهومة وخلافه بين نفسه وجماعته وبيئته»(۱) والسبب الثاني لضرورة تكامل كل من العالم الديني والعالم الطبيعي والعالم الاجتماعي والعالم الجمالي هو أن التوحيد في العبادة والفكر والسلوك والاجتماع وسيلته التوحيد في أدوات المعرفة وفرقاء المعرفة .


Summarize English and Arabic text online

Summarize text automatically

Summarize English and Arabic text using the statistical algorithm and sorting sentences based on its importance

Download Summary

You can download the summary result with one of any available formats such as PDF,DOCX and TXT

Permanent URL

ٌYou can share the summary link easily, we keep the summary on the website for future reference,except for private summaries.

Other Features

We are working on adding new features to make summarization more easy and accurate


Latest summaries

تراجع مكانة الق...

تراجع مكانة القضية الفلسطينية في السياسة الدولية فرض على الجزائر تحديات كبيرة، لكنه لم يغيّر من ثواب...

أيقونة الكوميدي...

أيقونة الكوميديا والدراما بقيمة 100 مليون دولار. قابل عادل إمام ولد عام 1940 في المنصورة، مصر، وبدأ ...

أتقدم إلى سموكم...

أتقدم إلى سموكم الكريم أنا المواطن / أسامة سلطان خلف الله الحارثي، السجل المدني رقم/١٧٣٧٣٨٣ ، بهذا ا...

[1] الحمد لله ...

[1] الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا أخذه ورسوله صلى ...

ad يترقب المقيم...

ad يترقب المقيمون في دول مجلس التعاون الخليجي بدء تفعيل التأشيرة الخليجية الموحدة بعد مرور أكثر من ع...

Bullying is a r...

Bullying is a repeated aggressive behavior that involves an imbalance of power between the bully and...

فاللغة العربية ...

فاللغة العربية ليست فقط لغة المسلمين، ووسيلة لتحقيق غاية أخرى وهي تعديل سلوك التلاميذ اللغوي من خلال...

1-تعتبر أسرة مح...

1-تعتبر أسرة محمد آل علي الإبداع والإبتكار هي أول نقطة في الإنطلاق إلى التحسين في شتى المجالات حيث ق...

يعتبر فول الصوي...

يعتبر فول الصويا من المحاصيل الغذائية والصناعية الهامة على المستوى العالمي نظراً لاحتواء بذوره على ن...

Traffic Padding...

Traffic Padding: inserting some bogus data into the traffic to thwart the adversary’s attempt to use...

السلام عليكم ور...

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته اليوم ذهب إلى دورة القرآن وتعلمت القرآن ثم عدت إلى منزلي ومكتبي قلي...

يجمع نظام التكا...

يجمع نظام التكاليف بجوار المحاسبة على الفعليات،التوفيق في ظروف حدوثها وأسبابها ومدى الكفاءة في التنف...