Lakhasly

Online English Summarizer tool, free and accurate!

Summarize result (Using the clustering technique)

وعند إدريس قصص أخرى مبنية على الإلحاح على ضمير المخاطب مرات كثيرة ؛
بحيث تتحول الصفحات الأولى كلها إلى خطاب متصل موجه إلى المروي عليه ،
وهذه أيضا لا تحتاج إلى وقفة طويلة ،
لأن شواهد المروي عليه فيها واضحة وضوحًا تعليميا .
من ذلك مثلاً قصة "أحمد المجلس البلدي" ،
حيث يتكرر ضمير الخطاب في الفقرة الأولى وحدها سبع مرات متوالية : "أني تذهب كنت تجد أحمد العقلة ،
نجارا تلقاه ،
حلاقًا تلقاه ،
تاجراً في مخلفات الجيش تلقاه ،
ثم هو بعد هذا يجيد شغل الآلاتية ،
وكي الناس للشفاء من الأمراض،
وجس البهائم العشر ،
والقيام بأعمال الأبونيه وتعهدات فرق المزيكا والرقص،
وإصلاح الكلوبات والبوابير في الأفراح ،
وحتى في تلتيم الموتى تلقاه" (آخر الدنيا ص ٥٠ ) ولا يتوقف ضمير الخطاب عند فقرة البداية ،
بل يتجاوزها إلى ما يلي من الصفحات وبنفس درجة التكرار : " وأحمد العقلة لا تستطيع أن تحدد له سنًا أو هيئة أو حرفة حتى ولا قامة .
إذا أردته قصيراً وجدته ،
طويلاً وجدته ،
اليسرى عوراء عن بعد وسليمة عن قرب .
أما البدايات التي تحتاج لوقفة أطول،
فهي تلك التي تلقي الضمير المخاطب مرة واحدة ثم تتناساه ،
أو تلك التي لا ذكر فيها لضمير المخاطب ،
ولكنك لا تستطيع مع ذلك أن تفلت من الصوت الذي يتحدث إليك ؛
لأنه حاضر أولاً في كلمات عابرة قد لا تلتفت إليها ،
ولأنه حاضر ثانياً في السياق التشويقي الغزير الذي تأتيك من خلاله القصة .
في بداية قصة مثل "طبلية من السماء" ،
يمر ضمير المخاطب المستتر في حرف واحد ودون أن يلفت انتباهنا كثيراً ،
ليس فقط لأنه غير ملموس في ضمير بارز،
وإنما لأنه أيضًا يأتي في سياق مليء بالإثارة والتشويق ،
حتي على مستوى الصياغة اللغوية المفاجئة : " أن ترى إنسانا يجري في شارع من شوارع منية النصر فذلك حادث ".
؛ فهذه الجملة البسيطة المفاجئة تضعك في قلب الحدث من أول لحظة ،
عبر ضمير الخطاب الذي يمر في كلمة "ترى" ،
وعبر المعلومات المثيرة التي يلقيها الراوي عليك في بساطة وتلقائية من يحدثك عن شيء تعرفه ،
والراوي على السواء ،
وإذا كنت لا تذكره فلن يفعل الراوي أكثر من أن يذكرك به .
هذه الحادثة المفاجئة "إنسان" يجري في الشارع تقع في قرية مصرية نمطية ،
حتي بالنسبة لاسمها : " منية النصر" ،
ولا يفعل الراوي بعد ذلك أكثر من أن يدعك تستذكر من خلال عينيه ،
مجموعة .
من المشاهد التي لابد عشت مثلها في قريتك ،
ويستغرق حكي هذه المشاهد أكثر من نصف مساحة القصة ،
نصف مساحة القصة حديث متصل عن الذكريات المشتركة بينك وبين الراوي،
قبل أن تدخل إلى قصة الشيخ علي وطبلية السماء .
هذه المقدمات المطولة للقصص ،
وعمليات الاستطراد الوصفية الحرة التي سنتحدث عنها بعد قليل ،
كانت جزءاً لا يتجزأ من سرد يوسف إدريس ،
ولعلك - كما يقول شكري عياد - لو سألت يوسف إدريس في تلك الأيام ماذا يريد أن يقول للناس،
لأجابك في أغلب الظن : إنما أريد أن أضع أمامهم صورة حياتهم .
(۱۹) .
نعم كان هذا الوصف الاستطرادي العام - الذي يخرق حبكة القصة التقليدية - جزءا من واقعية يوسف إدريس الخاصة،
وهي واقعية تتمتع بمقدرة فائقة على صناعة النمط ،
ومزج الخاص بالعام داخل نسيج العمل الفني.
غير أن هذا الوصف كان قبل ذلك ،
جزءاً من الحميمية التي يتحدث بها الراوي المحدث إلى مستمعيه ،
ويضحي من أجلها بالاتساق الشكلي لقصصه ،
كما يضحي بوهم القصة التقليدية التي يختفي فيها المؤلف ،
وقد لا يكون في مطلع القصة أي ذكر لضمير المخاطب ،
ومع ذلك تستشعر وجود المخاطب بقوة وعمق ،
ففي مطلع شيخوخة بدون جنون نستمع إلى جملة الراوي الفجائية تحتل وحدها السطر الأول من القصة : "في صباح كهذا مات عم محمد" ،
وكلمة "كهذا" تفترض ضمناً موقف الراوي وسط جماعة من المستمعين ،
حيث يشبه الصباح الذي مات فيه عم محمد بهذا الصباح الذي يجمعه بمستمعيه ،
وكأنك ترى الراوي يشير بيديه إلى الصباح ،
ويشهد المستمعين على ذلك وتلعب المعلومات التشويقية بعد ذلك ،
الدور نفسه الذي لعبته في القصة السابقة ،
فهناك "موت" ،
وهناك "عم محمد" ،
وهناك علاقة خاصة بين الراوي وعم محمد تسمح له بأن يسميه "عم محمد" وهناك زمن خاص على مستويين : صباح ماض مات فيه عم محمد ،
وصباح آخر حاضر يجمع الراوي بمستمعيه .
جملة صغيرة مركزة تحمل كمية ضخمة من المعلومات المثيرة غير المكتملة سيسعى المستمع حتمًا إلى استكمالها ،
وأنى له أن يستكملها ما لم يسلم قياده تماما محدثه الذي ألقى إليه بهذه المعلومات الأولى .
وفي مطلع قصة "محطة" أيضًا ،
يدخل الراوي إلى الحدث مباشرة ،
ويلعب اسم الإشارة _ وأشياء أخرى - دوراً شبيها بالدور الذي لعبه في القصة السابقة ؛
إذ تبدأ القصة : "في المحطة الأولى صعد الشاب - واحد من شبان هذه الأيام - القميص نص كم ومفتوح مع أننا لا نزال في الشتاء ،
وشعرات الصدر القليلة بارزة من فتحته ،
والبلوفر مخلوع ومربوط من أكمامه حول العنق ،
والسلسة إياها تارة ملفوفة حول ساعده وأخرى دائرة بين أصابعه ( حادثة شرف ص ٥ ) والواقع أنه ليس اسم الإشارة وحده ،
هو الذي يضع الراوي والقارئ في موقف "الحديث" ؛
فكلمات مثل "شبان" و "نص كم" و "إياها" ،
بما تحمله من نغمة عامية وبما تتضمنه من اتفاق مسبق بين الراوي ومستمعيه ،
تؤكد موقف الحديث ،
هذا فضلاً عن "نا" المتكلمين في "أننا" و"نزال" ،
كلما ابتعدنا عن المؤشرات المباشرة للمروي عليه ،
وخاصة ضمير المخاطب ،
واقتربنا من المؤشرات غير المباشرة ،
سندخل في جوهر السرد الإدريسي الذي يضمر "الحديث" أكثر مما يفصح عنه .
وكلما كان الحديث مضمراً كان إدراكه من جانب القارئ أبعد منالا،
وتأثيره أكثر قوة .
وحين يتخلى يوسف إدريس نسبيا عن ضمير المخاطب بتنويعاته،
يتسلل إليك بطرقه الأخرى الأكثر فاعلية،
لكنه لا يفتأ يذكرك بوجوده وبحديثه إليك ،
ومن أهم الأشياء التي تحول سرد يوسف إدريس إلى ما يقرب من الحديث" الشفاهي،
قدرته على التعميم وصناعة النمط .
وللتعميم عنده درجات ،
تبدأ بالجماعات المختلفة التي تحكي قصصها الذاتية بصيغة الجمع ،
أو التي يحكي عنها راوينا المحدث،
وذلك على نحو يصبح معه حضور الجماعة في سرد يوسف إدريس مدهشًا : من جماعة التلاميذ التي يحكي عنها الراوي في قصص مثل "الشهادة" و "التمرين الأول" ،
إلى جماعة الأطفال التي تحكي عن نفسها في "ليلة صيف" و "سره الباتع" ،
إلى جماعات القرويين التي تحكي ويحكى عنها في "الهجانة" ،
إلى جماعة السهارى في قصة " في الليل" ،
إلى جماعة الأطباء وجماعة الحانوتية .
إلى آخر هذه الجماعات التي يمتلئ بها عالم يوسف إدريس حاكيةً ومحكيًا عنها ،
وحضور هذه الجماعات بهذه الكثافة يخفف تماما من وطأة حضور الراوي المحدث ،
لدرجة أن القارئ قد لا يشعر بوجود الراوي ،
الذي لا يتحول إلى شخصية قصصية فحسب،
ثم ينتقل التعميم إلى درجة أعلى هي "القرية" / النمط ،
أو "بلدنا" ،
أو "البلد" .
وهنا يصل الراوي المحدث إلى درجة عالية من التوحد مع القارئ .
سنصادف مثل هذه الكلمات كثيراً في قصص يوسف إدريس ،
وسوف نعثر دائما على درجة من درجات هذه الصياغة العامة للنمط في كل قصة يمكنك أن تقرأ هذا الوصف التعميمي للقرية في ثلاث قصص متتالية من مجموعة "حادثة شرف" ؛
ففي "طبلية من السماء" نقرأ : " .
فالناس هناك نادراً ما يجرون ،
ولماذا يجرون وليس في القرية ما يستحق الجري ؟ المواعيد لا تحسب بالدقائق والثواني.
والقطارات تتحرك في بطء الشمس ،
قطار إذا طلعت ،
وآخر حين تتوسط السماء ،
ومع مغيبها يفوت واحد .
ويدفع إلى التهور والسرعة .
كل شيء بطيء هادئ عاقل ،
وكل شيء قانع مستمتع بهدوئه ذاك والسرعة غير مطلوبة أبداً والعجلة من الشيطان .
ومنية النصر كغيرها من بلاد الله الواسعة .
" حادثة شرف ص ٤٠ ) وفي اليد الكبيرة نقرأ : "وقريتنا دائماً هادئة ،
لا صوت .
لا زعيق .
لا شجار.
لاشيء ،
هواء يداعب ما على الأسطح من حطب ،
وقوافل الإوز ساكنة لا تكاكي ،
وكل شيء من الطين ،
والأرض فوقها تراب ،
وفي السماء دخان المواقد ،
والناس يتحركون في صمت ووجوم وبلا حماس كمن يدرك ألا داعي للعجلة مطلقًا .
إلى " ) حادثة شرف ص ٥٣) وفي حادثة شرف" نقرأ "والعزبة كأي عزبة ،
لم تكن كبيرة ،
بضع عشرات من البيوت المبنية حيث تكون ظهورها إلى الخارج ،
وأبواب الدور تفتح كلها على حوش داخلي واسع ،
حيث الساحة الصغيرة التي يقيمون فيها الأفراح ويعلقون العجول المريضة إذا ذبحت لتباع بالأقة وبالكوم ،
والأحداث في العزبة قليلة ومعروفة .
النهار يبدأ قبل مشرق الشمس وينتهي بعد مغيبها ،
والمكان المفضل هو عتبة البوابة الكبيرة حيث الهواء البحري وحيث يستحب النوم ساعة القيلولة ولعب السيجة .
إلخ حادثة شرف ص (٧٥ ويمكنك أن تقرأ أيضًا في مطلع قصة "الشيخ شيخة" ": بلاد الله واسعة وكثيرة ،
وكل بلدة فيها ما يكفيها .
كبار وصغار ،
وصبيان وإناث،
أناس وعائلات ،
ومسلمون وأقباط .
كالحال في بلدنا الذي .
في كل توصيف من هذه التوصيفات "للقرية" أو "بلدنا" أو "العزبة" أو "البلد" ،
درجة عالية من التعميم والثبات ،
تؤكدها _ كما يمكن للمرء أن يلاحظ - مؤشرات لغوية واضحة ،
مثل الصياغة في جمل اسمية غالباً ومعروف ما للجملة الاسمية من قدرة على صياغة الحقائق الثابتة والمطلقة) ،
وفي جمل فعلية فعلها مضارع أحيانًا ) وهي جمل تؤدي ما تؤديه الجملة الاسمية من دلالة الحضور والثبات ،
يعني سرد أحداث مضت وانتهت .
غير أن في هذه التوصيفات أيضاً درجة عالية من الخصوصية والمرونة ،
ترجع إلى ارتباط التوصيف في كل مرة بحادثة جديدة وعاطفة جديدة يريد الراوي أن ينقلها ،
ولا مانع من أن يرتبط هذا الوصف العام لكي تتحقق خصوصيته _ بأسماء لأشخاص وأماكن محددة لا يعرفها إلا الراوي وأبناء قريته مع أنها لا تزال أسماء وأماكن وحوادث مشابهة لما القرى الأخرى .
من ذلك مثلاً أن تبدأ الهجانة" بكلام عن اسطبل الأبعادية المجاورة" و "الساقيتين القبليتين" و "أرض البرنس" .
ومن ذلك أيضًا أن تبدأ "سره الباتع" بحديث عن "سراية آل ناصف" و"البقعة المسكونة التي قتل فيها سيد إبراهيم " .
وكل هذه أسماء لأماكن وأشخاص وحوادث لا يعرفها سوى الراوي وأبناء قريته.
وهكذا ،
يحقق التعميم والثبات المنتشر في قصص يوسف إدريس قدراً عالياً من الأرضية المشتركة بين الراوي وقرائه ،
لكنه نادراً ما يؤدي إلى الملل ؛
لأن الراوي عود قراءه دائمًا على المفاجأة والتشويق ،
وقد يصل هذا التعميم أحيانًا إلى مدى أبعد،
فتتحول هذه القرى والبلاد المتكررة إلى الوطن / مصر .
وقد يعلن الراوي عن هذا بوضوح ،
كما في قصتيه "الجرح" و "سره الباتع" .
وقد كتبت القصتان _ على اختلافهما _ استجابة للحظة واحدة حاسمة في تاريخ المد الوطني الناصري ،
في قصة "الجرح يقول الراوي - بضمير الجماعة،
وبلسان أربعة من الشباب المسافرين إلى منطقة القناة خلال العدوان : " وبدت البحيرة لا نهاية لاتساعها وأصبحنا بالقارب والريس والصاري نقطة تافهة في الوجود غير المحدود .
وتلك هي البحيرة ،
فما بالك ونحن من لحظة أن غادرنا القاهرة وطريق طويل يسلمنا إلى طريق أطول .
والأرض الخضراء على الجانبين ،
أرض واسعة لاحد لاتساعها ،
أوسع من أي شيء رأيناه ،
أوسع من السماء فالسماء تضيق بسطح الأرض ،
فتنحني السماء وتضع خط الأفق ،
والأرض لا ينهيها خط ولا أفق ؛
فبعد كل أفق تجد آفاقًا أوسع ،
والقرى كثيرة لا حصر لها ،
بين كل قرية وقرية قرية ،
وفي كل قرية مئات البيوت ،
وكل بيت يضع بعشرات الناس ،
وكل هؤلاء مصريون ،
كلهم مصريون .
لا يمكن أن يموتوا كلهم أبداً ،
ونترك إقليماً وندخل إقليما والأرض لا تنتهي والناس لا ينتهون ،
أناس متشابهون .
إلخ " (قاع المدينة ص ١٩١ ۱۹۲) هنا تتحول "القرى" و"البلاد" و"العزب" الكثيرة المتشابهة التي مرت بنا في عالم الكاتب ،
إلى مصر / الوطن ،
والصياغة التكرارية : بين كل قرية وقرية قرية تلخص هذا المعنى بقوة .
الراوي المحدث لا يتخلى مع ذلك ،
عن ضمير الخطاب الموجه إلى مستمعيه،
في كلمات عابرة ربما لا يتوقف عندها القارئ ،
مثل "فما بالك" و "تجد" ،
وضمائر الخطاب العابرة هذه ،
قصة "الجرح" - مع ذلك - استجابة ساخنة وسريعة لأحداث العدوان الثلاثي ،
وقد اتخذت طابعاً دراميًا واضحا ،
تبدى في بنية قصصية مكثفة وصارمة لا تسمح كثيراً باستطرادات "الحديث" الإدريسي .
أما قصة "سره الباتع" فاستجابة هادئة وغير مباشرة لنفس الأحداث ،
ويبلغ الاستطراد فيها أقصى درجاته،
رغم أنها تعرضت لتنقيح كثير ،
سره الباتع" واحدة من قصص يوسف إدريس الطويلة نسبيا ( ٥٨ صفحة ،
عن مثيلاتها من قصص يوسف إدريس الطويلة ؛
فطولها لا يرجع فحسب إلى عملية التحضير الطويلة التي يستغرقها التجهيز الهادئ لحدث النهاية المهم ،
القصص ) (٢٢) ،
وإنما يرجع قبل ذلك إلى أن الكاتب قد فتح الباب على مصراعيه،
للاستطرادات والتأملات التي جره إليها فن الحديث،
إلى الحد الذي جعل ناقداً مثل علي الراعي يعلن عن حيرته أمام هذه القصة ،
ويوجه إليها نقداً شديداً مشككا في كونها قصة : " فالمؤلف لا يحدد لنفسه هدفًا رئيسيًا معينًا يجعله العمود الفقري للقصة ثم يفرع عليه ما يشاء من أهداف .
ليس يتضح من هذه القصة مطلقًا إن كان يوسف إدريس يريد أن يعبر عن تجارب شخصية مرت به ،
أم يريد أن يقدم بحثًا في الفولكلور ،
أم أن يهدي مواطنيه رسما فنيا لوطنيتهم .
والواقع أن يوسف إدريس كان يريد أن يفعل هذا كله ،
الراعي ،
من ،
من فقدان التركيز اللازم لقصة قصيرة - أو حتى نوفيلا - جيدة ،
وكأن يوسف إدريس كان يردد ما ردده طه حسين من قبل : "أنا لا أكتب قصة ،
وإنما أسوق حديثاً .
وليس سوى الحديث هو الذي سيسمح له بأن يستعرض مراحل حياة الراوي كلها ،
وأن يضمن قصته مقالة كاملة عن اليأس والأمل والعلاقة بينهما ( ص ۱۲۹ (۱۳۱) ،
وأن يتوقف عن الحكي مرات لكي يلقي علينا تأملات من قبيل " أحيانًا يكون من الصعب بل من المستحيل أن نفكر في أشياء تعودنا ألا نفكر فيها وتعودنا أن نأخذها كما هي ؛
فتعذيب الحيوانات حرام أما ذبحها حلال ،
والمرأة تطلق شعرها والرجل يحلق شعره ،
ولا تعامل الحافي بمثل ما تعامل به راكب العربة مع أن كليهما إنسان ،
مراجعة إيمانه بالقضايا المسلم بها مسألة صعبة بل تكاد تكون مستحيلة " ( ص ١١٥) كل هذا فضلا الذاتية الحادة التي تغلب على سرد الراوي طوال الصفحات الأربعين التمهيدية ،
الذي تعلو نغمته إلى أعلى مستوى لها في عالم يوسف إدريس
كل هذه أشياء كان يمكن أن تدعو إلى الملل حقا في قصة "سره الباتع" ،
لولا أن الراوي يفاجئنا كعادته - في الصفحات الأخيرة من القصة - بحكاية خطاب روجيه كليمان ،
ويتركنا أمام نص الخطاب دون أدنى تعليق .
وهنا نستشعر أن الذاتية الطافحة في صفحات القصة الأربعين الأولى لم تكن إلا تمهيدا ماكراً للحياد الموضوعي الصارم الذي تنتهي به القصة : نص به القصة : نص الخطاب / الوثيقة الذي كتبه عن المصريين أعداؤهم الفرنسيس .
كما نستشعر أيضًا أن الهدوء الممل والتشعب الذي لاحظناه في الصفحات الأولى المطولة ،
لم يكن إلا تمهيدًا بارعًا للتركيز والحدة التي تميز النهاية في خطاب المواطن الفرنسي روجيه كليمان ،
يعيد إدريس إنتاج الرؤية التي قدمها في قصة "الجرح" ،
ويقدم - بموضوعية وبساطة نادرة - أقصى تعميم يمكن أن يحتمله عمل فني ،
ولا سيما إذا كان قصة قصيرة .
إنه هنا لا يقدم المصريين في لحظة محددة ،
بل يقدمهم في صورة حقيقة تاريخية مطلقة مطردة ،
يمتزج فيها التاريخ بالأسطورة ،
الحقائق بالخرافات ،
الكفاح المسلح بالرفض الصامت ،
الزمان بالمكان ،
الجسد بالروح .
إلخ.
وحتى في خطاب كليمان لا يتخلى إدريس عن ضمير المخاطب الأثير ،
وهذا أمر طبيعي ما دمنا نقرأ خطابًا ،
لكننا ندرك تماماً أن ضمير المخاطب الذي يتردد كثيراً هنا ،
لا علاقة له بنا كقراء ،
فالخطاب موجه من مواطن فرنسي إلى مواطن فرنسي ،
والمحقق الذي يعلق على الخطاب تعليقات قليلة عالم فرنسي أيضًا وعضو في الأكاديمي فرانسيز .
أما الراوي المحدث فيختفي تماما حالما يبدأ الخطاب ،
ولا يظهر بعد ذلك أبداً ،
بقيت نقطة هي أول ما لفت أنظار القراء والنقاد على السواء في قصص يوسف إدريس ،
أعني : لغته الخاصة التي لا معنى للحديث عن سرده دون الوقوف عندها .
الخاصة مرات متعددة ،
المسألة التي كانت لافتة ومثيرة ،
ولغة يوسف إدريس الخاصة هذه ،
مجال خصب للدرس اللغوي والنقدي ،
عندها إلا من منظور خاص : دورها في فن الحديث
لم يكن استخدام الكاتب للعامية بمفرداتها وتراكيبها - في السرد خاصة - مجرد نوع من التمرد على غرابة الفصحى وقيودها التي تحرمه من الوصول إلى هدفه النهائي : تصوير "مصرية" المصريين ،
ولم يكن كذلك مجرد وسيلة لإضفاء طابع شعبي أو كوميدي على قصصه ،
بل كانت هذه اللغة - بنغمتها الخاصة - نتيجة طبيعية لموقف "المحدث" الذي نراه وراء كل مظهر من مظاهر عالمه القصصي .
ولم يكن من قبيل المصادفة أن يقال إن إدريس كان يكتب القصة كلها أولا بالعامية ،
ثم يترجمها بعد ذلك إلى الفصحى ،
فهذا يعني ببساطة أنه كان يضع نفسه من البداية في موقف المحدث الشفهي الحر : يشرق ويغرب ويستخدم ما يشاء من ألفاظ وتركيبات ،
كأنه مجرد حكاء مصري شعبي .
ثم تأتي المرحلة التالية / مرحلة الصنعة ،
حيث يحول هذا الحديث الشفهي الخالص إلى قصة مكتوبة ،
دون أن نفقد نغمة الحديث الأصلي وحيويته.
يقول القاص محمد المنسي قنديل في شهادته عن يوسف إدريس : قال لي الكاتب الكبير عبد الله الطوخي شيئًا غريبا .
كان قد شاهد إحدى المسودات الأولى لقصة يوسف إدريس واكتشف أنه يكتب القصة كلها باللهجة العامية كما لو أنه يقصها على جماعة من الناس في أحد المجالس الشفهية ،
ثم يعيد كتابتها أو بالأحرى جمتها إلى اللغة الفصحى.
ولعل هذا أحد أسرار الحيوية الشديدة التي نجدها في كل سطر من سطوره ؛
فهو يتحدث بنفس لغة الناس الذين يكتب عنهم ،
ومهما يكن من أمر ،
فإن النتائج المترتبة على هذه الطريقة كانت عميقة وحاسمة بقدر ما كانت صادمة ومربكة ،
خاصة حين ظهرت أرخص ليالي ،
وقرأ الناس - ربما لأول مرة داخل نسيج السرد الفصيح - عبارات من قبيل وتشهد عبد الكريم " ،
"وكح رمضان"،
"يخطف رجله " ،
"جسده التخين"،
"مشيته المتطوحة " ،
"وانقلب المركز،
واستعبط عليهم" ،
"إذاجاءت سيرتها " ،
" ،
"وكان المعلم مريحا رأسه على البنك" ،
"ويا سلام لو جاءته بصرة" ،
"ثم يدب الورقة" ،
"ودور في الثاني في الثالث راحت العشرة " ،
"وفي يوم وعبده عائد" ،
"وكانت وقعة الذي يقابلهم أسود من شعر رأسه" ،
عمك دعدور بائع السردين الذي نظره شيش بيش" ،
وكلمات من قبيل "الاشمئناط " و "الشرز" و"يون " و "تقرقع .
"إلى آخر هذه العبارات والمفردات التي امتلأ بها سرد أرخص ليالي ،
على نحو يرجح معه فعلا أن تكون القصص قد كتبت بالعامية أولا .
إذا تجاوزنا ظاهرة ضمائر الخطاب وضمائر جمع المتكلمين المشار إليها كثيراً من قبل ،
سيكون أبرز ما في لغة إدريس - من حيث علاقتها بنغمة الحديث والمحدث - ثلاث ظواهر : أولا - أمثال هذه العبارات والتراكيب والمفردات المشار إليها منذ قليل ،
ثانيًا طبيعة التشبيهات التي يستخدمها إدريس ،
ثالثًا - البدايات بدايات القصص التي رأيناها منذ قليل،
لفتت التشبيهات والتراكيب الخاصة عند إدريس أنظار الدارسين من البداية ،
كما لفتت القراء من قبلهم،
وكان أكثر ما لفت القراء والدارسين في هذه التشبيهات والتراكيب ،
درجة الابتكار والغرابة ،
وقربها بالطبع من التشبيهات والتراكيب المستخدمة في العامية على نحو قد يصدم ذوق قراء الفصحى .
لكن هؤلاء الدارسين نادراً ما يلتفتون ( ٢٦ ) إلى ارتباطها بالقصة وأبطالها من ناحية ،
بعض هذه التشبيهات من الابتكار الشعري الخالص الخيال المؤلف ،
رغم أن طرفي التشبيه مستمدان من عالم القصة ومن وجهة نظر الراوي .
فحين نقرأ في قصة "سره الباتع" :" ونقيق الضفادع يملأ الليل بنغمة منظمة عميقة كأنه شخير الأرض التي نامت وراحت في النوم" ،
نعرف أن المشبه والمشبه به ( نقيق الضفادع وشخير الأرض النائمة ) ينتميان إلى عالم القصة ،
وعالم الراوي على وجه الخصوص،
حين نقرأ في أرخص ليالي : "كان" مخه اروق من ماء الطرمبة " ،
"ولكنه أعرف الناس بامرأته وأعرف من شمهورش برقدتها كزكيبة الذرة المفروطة ،
وقد تبعثر حولها الصغار الستة كالكلاب الهافتة ،
وكما تتهادى مياه الترعة لا يقلقها إلا موجات خانعة لا تكاد تشب حتى تموت عاش الناس وقد رضوا.
" ،
"كأحاديث الضحى الدافئ كان الكلام يشرق ويغرب في كسل هادئ" ،
"صلعته التي لها نعومة "الخيار" و "البوق" الذي يبرز من مقدمة التلفون كما تبرز شفاتير العبد" و"وبحة التلفون كحشرجة أم سليمان" ،
أو ثوب الخادمة الطفلة "الذي يشبه قطعة القماش التي ينظف بها الفرن "و "رجليها كمسمارين رفيعين" أو "شاربه الذي نماه وشوشه حتى غدا كحزمة متنافرة من عشب شيطاني - حين نقرأ كل هذا ندرك أن هذه التشبيهات جزء أساسي من عالم القصة وليست مجرد تشبيهات مبتكرة أو طريفة ،
وحشرجة أم سليمان مفردات تنتمي إلى العالم المشترك بين الراوي ومستمعيه.
وهي تشبيهات تعني أننا فعلا في مجلس حديث شفهي لا يحتاج معه السامعون إلى تفسير،
لأنهم يعرفون هذه المفردات كما يعرفها الراوي تماما .
أما القراء الغرباء فإنهم لابد يعرفون مفردات مشابهة.
في مسألة اللغة ودورها في تأكيد نغمة الحديث الشفهي ،
عند يوسف إدريس ) حتى داخل مرحلته الواقعية) : المرحلة الأولى هي مرحلة أرخص ليالي كانت القصص تقترب بحدة صادمة من صيغة الحديث الشفاهي ،
وتفتقر أحيانًا إلى درامية القصة القصيرة وتوترها وكثافتها ،
وبدا كأنها مكتوبة فعلا بالعامية ،
أو كأنها مجرد أحاديث شفهية .
وكانت الأداة الأساسية في تحقيق ذلك ،
مجموعة ضخمة من العبارات والتراكيب والمفردات العامية التي رأيناها تدخل نسيج السرد الفصيح وتغيره .
أما المرحلة الثانية فهي مرحلة قاع المدينة وحادثة شرف ،
وفيها خفف إدريس من غلواء التراكيب والتشبيهات العامية ،
واستبدل بها أداة أخرى ،
ربما جعلت نغمة الحديث أكثر خفاء وغموضًا ،
ولكن أكثر سحراً وتأثيراً .
في هذه المرحلة أصبحت المؤشرات اللغوية الدالة على صوت المحدث مركزة في شيئين : ضمير المخاطب ،
والبدايات ،
سواء بدايات القصص أو بدايات الفقرات .
ولعل القارئ يلاحظ أن غالبية الاقتباسات فيما يتصل بالعبارات والتراكيب والتشبيهات العامية كانت مستمدة من أرخص ليالي ،
بالإضافة إلى بدايات القصص ،
يبدأ كثير من الفقرات بكلمات وعبارات قاطعة في دلالتها على نغمة المحدث ،
كلمات من قبيل: "المهم "أو " والحقيقة "أو "والواقع "أو " والحق " أو "والغريب" أو "وطبعاً "أو " "بالاختصار" "أو " وبالتأكيد " أو " بالشرف "أو "بالضبط "أو "وفجأة.
"إلخ،
وعبارات من قبيل : "وجاء الفرج "أو " إلى هنا والأمر عادي "أو "والأدهى من ذلك "أو "ولا يتسرع أحد ويخمن أن .
" .
إلخ .
هذه النوعية من البدايات تؤكد حرص الراوي المحدث على استعادة مستمعيه من سياق القصة ،
وإحضارهم أمامه مع كل انتقالة في الحدث،
فهي كلمات وعبارات انفعالية مفاجئة توقظ القارئ وتلفته من جديد إلى الصوت الذي يتحدث ،
كما أنها الكلمات والعبارات التي يستحضرك بها الحكاء المصري الشعبي ويوقظك ،
وإن دخل عليها بعض التفصيح .
وستصبح الإشارة الموثقة إلى أمثال هذه الكلمات والعبارات في سرد يوسف إدريس أمراً مملا حقا ،


Original text

وعند إدريس قصص أخرى مبنية على الإلحاح على ضمير المخاطب مرات كثيرة ؛ بحيث تتحول الصفحات الأولى كلها إلى خطاب متصل موجه إلى المروي عليه ، وهذه أيضا لا تحتاج إلى وقفة طويلة ، لأن شواهد المروي عليه فيها واضحة وضوحًا تعليميا . من ذلك مثلاً قصة "أحمد المجلس البلدي" ، حيث يتكرر ضمير الخطاب في الفقرة الأولى وحدها سبع مرات متوالية : "أني تذهب كنت تجد أحمد العقلة ، نجارا تلقاه ، حلاقًا تلقاه ، تاجراً في مخلفات الجيش تلقاه ، ثم هو بعد هذا يجيد شغل الآلاتية ، وكي الناس للشفاء من الأمراض، وجس البهائم العشر ، والقيام بأعمال الأبونيه وتعهدات فرق المزيكا والرقص، وإصلاح الكلوبات والبوابير في الأفراح ، وحتى في تلتيم الموتى تلقاه" (آخر الدنيا ص ٥٠ ) ولا يتوقف ضمير الخطاب عند فقرة البداية ، بل يتجاوزها إلى ما يلي من الصفحات وبنفس درجة التكرار : " وأحمد العقلة لا تستطيع أن تحدد له سنًا أو هيئة أو حرفة حتى ولا قامة .. إذا أردته قصيراً وجدته ، طويلاً وجدته ، أحيانا تبدو لك عينه
اليسرى عوراء عن بعد وسليمة عن قرب .. إلخ " (آخر الدنيا ص ٥١)
أما البدايات التي تحتاج لوقفة أطول، فهي تلك التي تلقي الضمير المخاطب مرة واحدة ثم تتناساه ، أو تلك التي لا ذكر فيها لضمير المخاطب ، ولكنك لا تستطيع مع ذلك أن تفلت من الصوت الذي يتحدث إليك ؛ لأنه حاضر أولاً في كلمات عابرة قد لا تلتفت إليها ، ولأنه حاضر ثانياً في السياق التشويقي الغزير الذي تأتيك من خلاله القصة .
في بداية قصة مثل "طبلية من السماء" ، يمر ضمير المخاطب المستتر في حرف واحد ودون أن يلفت انتباهنا كثيراً ، ليس فقط لأنه غير ملموس في ضمير بارز، وإنما لأنه أيضًا يأتي في سياق مليء بالإثارة والتشويق ، حتي على مستوى الصياغة اللغوية المفاجئة : " أن ترى إنسانا يجري في شارع من شوارع منية النصر فذلك حادث ".. ؛ فهذه الجملة البسيطة المفاجئة تضعك في قلب الحدث من أول لحظة ، عبر ضمير الخطاب الذي يمر في كلمة "ترى" ، وعبر المعلومات المثيرة التي يلقيها الراوي عليك في بساطة وتلقائية من يحدثك عن شيء تعرفه ، لأنه شيء نغطي تعرفه أنت
PYI
فن الحديث
والراوي على السواء ، وإذا كنت لا تذكره فلن يفعل الراوي أكثر من أن يذكرك به . هذه الحادثة المفاجئة "إنسان" يجري في الشارع تقع في قرية مصرية نمطية ، حتي بالنسبة لاسمها : " منية النصر" ، ولا يفعل الراوي بعد ذلك أكثر من أن يدعك تستذكر من خلال عينيه ، مجموعة . من المشاهد التي لابد عشت مثلها في قريتك ، ويستغرق حكي هذه المشاهد أكثر من نصف مساحة القصة ، نصف مساحة القصة حديث متصل عن الذكريات المشتركة بينك وبين الراوي، قبل أن تدخل إلى قصة الشيخ علي وطبلية السماء .
هذه المقدمات المطولة للقصص ، وعمليات الاستطراد الوصفية الحرة التي سنتحدث عنها بعد قليل ، كانت جزءاً لا يتجزأ من سرد يوسف إدريس ، ولعلك - كما يقول شكري عياد - لو سألت يوسف إدريس في تلك الأيام ماذا يريد أن يقول للناس، لأجابك في أغلب الظن : إنما أريد أن أضع أمامهم صورة حياتهم .. (۱۹) . نعم كان هذا الوصف الاستطرادي العام - الذي يخرق حبكة القصة التقليدية - جزءا من واقعية يوسف إدريس الخاصة، وهي واقعية تتمتع بمقدرة فائقة على صناعة النمط ، ومزج الخاص بالعام داخل نسيج العمل الفني. غير أن هذا الوصف كان قبل ذلك ، جزءاً من الحميمية التي يتحدث بها الراوي المحدث إلى مستمعيه ، ويضحي من أجلها بالاتساق الشكلي لقصصه ، كما يضحي بوهم القصة التقليدية التي يختفي فيها المؤلف ، صانعا - بدلاً من ذلك ـ اتساقه الخاص ووهمه الخاص
وقد لا يكون في مطلع القصة أي ذكر لضمير المخاطب ، ومع ذلك تستشعر وجود المخاطب بقوة وعمق ، ففي مطلع شيخوخة بدون جنون نستمع إلى جملة الراوي الفجائية تحتل وحدها السطر الأول من القصة : "في صباح كهذا مات عم محمد" ، وكلمة "كهذا" تفترض ضمناً موقف الراوي وسط جماعة من المستمعين ، حيث يشبه الصباح الذي مات فيه عم محمد بهذا الصباح الذي يجمعه بمستمعيه ، وكأنك ترى الراوي يشير بيديه إلى الصباح ، ويشهد المستمعين على ذلك وتلعب المعلومات التشويقية بعد ذلك ، الدور نفسه الذي لعبته في القصة السابقة ، فهناك "موت" ، وهناك "عم محمد" ، وهناك علاقة خاصة بين الراوي وعم محمد تسمح له بأن يسميه "عم محمد" وهناك زمن خاص على مستويين : صباح ماض مات فيه عم محمد ، وصباح آخر حاضر يجمع الراوي بمستمعيه . جملة صغيرة مركزة تحمل كمية ضخمة من المعلومات المثيرة غير المكتملة سيسعى المستمع حتمًا إلى استكمالها ، وأنى له أن يستكملها ما لم يسلم قياده تماما محدثه الذي ألقى إليه بهذه المعلومات الأولى .
د. خيري دومة
وفي مطلع قصة "محطة" أيضًا ، يدخل الراوي إلى الحدث مباشرة ، ويلعب اسم الإشارة _ وأشياء أخرى - دوراً شبيها بالدور الذي لعبه في القصة السابقة ؛ إذ تبدأ القصة : "في المحطة الأولى صعد الشاب - واحد من شبان هذه الأيام - القميص نص كم ومفتوح مع أننا لا نزال في الشتاء ، وشعرات الصدر القليلة بارزة من فتحته ، والبلوفر مخلوع ومربوط من أكمامه حول العنق ، والسلسة إياها تارة ملفوفة حول ساعده وأخرى دائرة بين أصابعه ( حادثة شرف ص ٥ ) والواقع أنه ليس اسم الإشارة وحده ، هو الذي يضع الراوي والقارئ في موقف "الحديث" ؛ فكلمات مثل "شبان" و "نص كم" و "إياها" ، بما تحمله من نغمة عامية وبما تتضمنه من اتفاق مسبق بين الراوي ومستمعيه ، تؤكد موقف الحديث ، هذا فضلاً عن "نا" المتكلمين في "أننا" و"نزال" ، حيث يضم الراوي نفسه إلى مستمعيه في التعجب لموقف الشاب وملبسه
كلما ابتعدنا عن المؤشرات المباشرة للمروي عليه ، وخاصة ضمير المخاطب ، واقتربنا من المؤشرات غير المباشرة ، سندخل في جوهر السرد الإدريسي الذي يضمر "الحديث" أكثر مما يفصح عنه . وكلما كان الحديث مضمراً كان إدراكه من جانب القارئ أبعد منالا، وتأثيره أكثر قوة . وحين يتخلى يوسف إدريس نسبيا عن ضمير المخاطب بتنويعاته، يتسلل إليك بطرقه الأخرى الأكثر فاعلية، لكنه لا يفتأ يذكرك بوجوده وبحديثه إليك ، إذ يستحضرك بضمير مخاطب عابر بين الحين
والآخر
(*)
ومن أهم الأشياء التي تحول سرد يوسف إدريس إلى ما يقرب من الحديث" الشفاهي، قدرته على التعميم وصناعة النمط . وللتعميم عنده درجات ، تبدأ بالجماعات المختلفة التي تحكي قصصها الذاتية بصيغة الجمع ، أو التي يحكي عنها راوينا المحدث، وذلك على نحو يصبح معه حضور الجماعة في سرد يوسف إدريس مدهشًا : من جماعة التلاميذ التي يحكي عنها الراوي في قصص مثل "الشهادة" و "التمرين الأول" ، إلى جماعة الأطفال التي تحكي عن نفسها في "ليلة صيف" و "سره الباتع" ، إلى جماعات القرويين التي تحكي ويحكى عنها في "الهجانة" ، إلى جماعة السهارى في قصة " في الليل" ، إلى جماعة الأطباء وجماعة الحانوتية .. إلى آخر هذه الجماعات التي يمتلئ بها عالم يوسف إدريس حاكيةً ومحكيًا عنها ، وحضور هذه الجماعات بهذه الكثافة يخفف تماما من وطأة حضور الراوي المحدث ، لدرجة أن القارئ قد لا يشعر بوجود الراوي ، الذي لا يتحول إلى شخصية قصصية فحسب، بل شخصية مراوغة تتخفى وراء الجماعة
.
۳۲۳
فن الحديث
6
ثم ينتقل التعميم إلى درجة أعلى هي "القرية" / النمط ، أو "بلدنا" ، أو "البلد" . وهنا يصل الراوي المحدث إلى درجة عالية من التوحد مع القارئ . سنصادف مثل هذه الكلمات كثيراً في قصص يوسف إدريس ، وسوف نعثر دائما على درجة من درجات هذه الصياغة العامة للنمط في كل قصة يمكنك أن تقرأ هذا الوصف التعميمي للقرية في ثلاث قصص متتالية من مجموعة "حادثة شرف" ؛ ففي "طبلية من السماء" نقرأ : " .. فالناس هناك نادراً ما يجرون ، ولماذا يجرون وليس في القرية ما يستحق الجري ؟ المواعيد لا تحسب بالدقائق والثواني.. والقطارات تتحرك في بطء الشمس ، قطار إذا طلعت ، وآخر حين تتوسط السماء ، ومع مغيبها يفوت واحد . ولا ضجيج هناك يثير الأعصاب
ويدفع إلى التهور والسرعة . كل شيء بطيء هادئ عاقل ، وكل شيء قانع مستمتع بهدوئه ذاك والسرعة غير مطلوبة أبداً والعجلة من الشيطان .. ومنية النصر كغيرها من بلاد الله الواسعة ... " حادثة شرف ص ٤٠ ) وفي اليد الكبيرة نقرأ : "وقريتنا دائماً هادئة ، لا صوت ..لا زعيق .. لا شجار.. لاشيء ، هواء يداعب ما على الأسطح من حطب ، وقوافل الإوز ساكنة لا تكاكي ، وكل شيء من الطين ، والأرض فوقها تراب ، وفي السماء دخان المواقد ، والناس يتحركون في صمت ووجوم وبلا حماس كمن يدرك ألا داعي للعجلة مطلقًا .. إلى " ) حادثة شرف ص ٥٣) وفي حادثة شرف" نقرأ "والعزبة كأي عزبة ، لم تكن كبيرة ، بضع عشرات من البيوت المبنية حيث تكون ظهورها إلى الخارج ، وأبواب الدور تفتح كلها على حوش داخلي واسع ، حيث الساحة الصغيرة التي يقيمون فيها الأفراح ويعلقون العجول المريضة إذا ذبحت لتباع بالأقة وبالكوم ، والأحداث في العزبة قليلة ومعروفة .. النهار يبدأ قبل مشرق الشمس وينتهي بعد مغيبها ، والمكان المفضل هو عتبة البوابة الكبيرة حيث الهواء البحري وحيث يستحب النوم ساعة القيلولة ولعب السيجة .. إلخ حادثة شرف ص (٧٥ ويمكنك أن تقرأ أيضًا في مطلع قصة "الشيخ شيخة" ": بلاد الله واسعة وكثيرة ، وكل بلدة فيها ما يكفيها .. كبار وصغار ، وصبيان وإناث، أناس وعائلات ، ومسلمون وأقباط .. كالحال في بلدنا الذي ... إلخ (آخر الدنيا ص ١٥ )
...
في كل توصيف من هذه التوصيفات "للقرية" أو "بلدنا" أو "العزبة" أو "البلد" ، درجة عالية من التعميم والثبات ، تؤكدها _ كما يمكن للمرء أن يلاحظ - مؤشرات لغوية واضحة ، مثل الصياغة في جمل اسمية غالباً ومعروف ما للجملة الاسمية من قدرة على صياغة الحقائق الثابتة والمطلقة) ، وفي جمل فعلية فعلها مضارع أحيانًا ) وهي جمل تؤدي ما تؤديه الجملة الاسمية من دلالة الحضور والثبات ، ولم يحدث أن صيغت أي فقرة من الفقرات السابقة بالفعل الماضي) الذي
٣٢٤
د. خيري دومة
يعني سرد أحداث مضت وانتهت . غير أن في هذه التوصيفات أيضاً درجة عالية من الخصوصية والمرونة ، ترجع إلى ارتباط التوصيف في كل مرة بحادثة جديدة وعاطفة جديدة يريد الراوي أن ينقلها ، ولا مانع من أن يرتبط هذا الوصف العام لكي تتحقق خصوصيته _ بأسماء لأشخاص وأماكن محددة لا يعرفها إلا الراوي وأبناء قريته مع أنها لا تزال أسماء وأماكن وحوادث مشابهة لما القرى الأخرى . من ذلك مثلاً أن تبدأ الهجانة" بكلام عن اسطبل الأبعادية المجاورة" و "الساقيتين القبليتين" و "أرض البرنس" . ومن ذلك أيضًا أن تبدأ "سره الباتع" بحديث عن "سراية آل ناصف" و"البقعة المسكونة التي قتل فيها سيد إبراهيم " .. وكل هذه أسماء لأماكن وأشخاص وحوادث لا يعرفها سوى الراوي وأبناء قريته. وهكذا ، يحقق التعميم والثبات المنتشر في قصص يوسف إدريس قدراً عالياً من الأرضية المشتركة بين الراوي وقرائه ، لكنه نادراً ما يؤدي إلى الملل ؛ لأن الراوي عود قراءه دائمًا على المفاجأة والتشويق ، ولأنهم حتما سيعثرون في كل مرة على شيء
مختلف
وقد يصل هذا التعميم أحيانًا إلى مدى أبعد، فتتحول هذه القرى والبلاد المتكررة إلى الوطن / مصر . وقد يعلن الراوي عن هذا بوضوح ، كما في قصتيه "الجرح" و "سره الباتع" . وقد كتبت القصتان _ على اختلافهما _ استجابة للحظة واحدة حاسمة في تاريخ المد الوطني الناصري ، أعني : العدوان الثلاثي وما صاحبه من غليان
في قصة "الجرح يقول الراوي - بضمير الجماعة، وبلسان أربعة من الشباب المسافرين إلى منطقة القناة خلال العدوان : " وبدت البحيرة لا نهاية لاتساعها وأصبحنا بالقارب والريس والصاري نقطة تافهة في الوجود غير المحدود . وتلك هي البحيرة ، فما بالك ونحن من لحظة أن غادرنا القاهرة وطريق طويل يسلمنا إلى طريق أطول . والأرض الخضراء على الجانبين ، أرض واسعة لاحد لاتساعها ، أوسع من أي شيء رأيناه ، أوسع من السماء فالسماء تضيق بسطح الأرض ، فتنحني السماء وتضع خط الأفق ، والأرض لا ينهيها خط ولا أفق ؛ فبعد كل أفق تجد آفاقًا أوسع ، والقرى كثيرة لا حصر لها ، بين كل قرية وقرية قرية ، وفي كل قرية مئات البيوت ، وكل بيت يضع بعشرات الناس ، وكل هؤلاء مصريون ، كلهم مصريون . لا يمكن أن يموتوا كلهم أبداً ، ونترك إقليماً وندخل إقليما والأرض لا تنتهي والناس لا ينتهون ، أناس متشابهون .. إلخ " (قاع المدينة ص ١٩١ ۱۹۲) هنا تتحول "القرى" و"البلاد" و"العزب" الكثيرة المتشابهة التي مرت بنا في عالم الكاتب ، إلى مصر / الوطن ، والصياغة التكرارية : بين كل قرية وقرية قرية تلخص هذا المعنى بقوة . لكن
PYO
فن الحديث
الراوي المحدث لا يتخلى مع ذلك ، عن ضمير الخطاب الموجه إلى مستمعيه، في كلمات عابرة ربما لا يتوقف عندها القارئ ، مثل "فما بالك" و "تجد" ، وضمائر الخطاب العابرة هذه ، تؤكد طابع الحديث الكامن أصلاً في التعميم بدرجاته المختلفة
(۲۰)
قصة "الجرح" - مع ذلك - استجابة ساخنة وسريعة لأحداث العدوان الثلاثي ، وقد اتخذت طابعاً دراميًا واضحا ، تبدى في بنية قصصية مكثفة وصارمة لا تسمح كثيراً باستطرادات "الحديث" الإدريسي . أما قصة "سره الباتع" فاستجابة هادئة وغير مباشرة لنفس الأحداث ، ويبلغ الاستطراد فيها أقصى درجاته، رغم أنها تعرضت لتنقيح كثير ، حتى في عنوانها الذي تغير من "قبر السلطان" إلى "سره الباتع"
11
(۲۱)
سره الباتع" واحدة من قصص يوسف إدريس الطويلة نسبيا ( ٥٨ صفحة ، لكنها تختلف
عن مثيلاتها من قصص يوسف إدريس الطويلة ؛ فطولها لا يرجع فحسب إلى عملية التحضير الطويلة التي يستغرقها التجهيز الهادئ لحدث النهاية المهم ، وهو الأمر المعتاد في بناء هذا النوع من
القصص ) (٢٢) ، وإنما يرجع قبل ذلك إلى أن الكاتب قد فتح الباب على مصراعيه، للاستطرادات والتأملات التي جره إليها فن الحديث، إلى الحد الذي جعل ناقداً مثل علي الراعي يعلن عن حيرته أمام هذه القصة ، ويوجه إليها نقداً شديداً مشككا في كونها قصة : " فالمؤلف لا يحدد لنفسه هدفًا رئيسيًا معينًا يجعله العمود الفقري للقصة ثم يفرع عليه ما يشاء من أهداف . ليس يتضح من هذه القصة مطلقًا إن كان يوسف إدريس يريد أن يعبر عن تجارب شخصية مرت به ، أم يريد أن يقدم بحثًا في الفولكلور ، أم أن يهدي مواطنيه رسما فنيا لوطنيتهم .. " (٢٣)
والواقع أن يوسف إدريس كان يريد أن يفعل هذا كله ، وقد أدى هذا فعلاً إلى ما لاحظه علي
الراعي ، من ، من فقدان التركيز اللازم لقصة قصيرة - أو حتى نوفيلا - جيدة ، وكأن يوسف إدريس كان يردد ما ردده طه حسين من قبل : "أنا لا أكتب قصة ، وإنما أسوق حديثاً . وليس سوى الحديث هو الذي سيسمح له بأن يستعرض مراحل حياة الراوي كلها ، وأن يضمن قصته مقالة كاملة عن اليأس والأمل والعلاقة بينهما ( ص ۱۲۹ (۱۳۱) ، وأن يتوقف عن الحكي مرات لكي يلقي علينا تأملات من قبيل " أحيانًا يكون من الصعب بل من المستحيل أن نفكر في أشياء تعودنا ألا نفكر فيها وتعودنا أن نأخذها كما هي ؛ فتعذيب الحيوانات حرام أما ذبحها حلال ، والمرأة تطلق شعرها والرجل يحلق شعره ، ولا تعامل الحافي بمثل ما تعامل به راكب العربة مع أن كليهما إنسان ، وأن يبدأ الواحد في
٣٢٦
د. خيري دومة
مراجعة إيمانه بالقضايا المسلم بها مسألة صعبة بل تكاد تكون مستحيلة " ( ص ١١٥) كل هذا فضلا الذاتية الحادة التي تغلب على سرد الراوي طوال الصفحات الأربعين التمهيدية ، وضمير الخطاب
الذي تعلو نغمته إلى أعلى مستوى لها في عالم يوسف إدريس
عن
.
.
كل هذه أشياء كان يمكن أن تدعو إلى الملل حقا في قصة "سره الباتع" ، لولا أن الراوي يفاجئنا كعادته - في الصفحات الأخيرة من القصة - بحكاية خطاب روجيه كليمان ، ويتركنا أمام نص الخطاب دون أدنى تعليق . وهنا نستشعر أن الذاتية الطافحة في صفحات القصة الأربعين الأولى لم تكن إلا تمهيدا ماكراً للحياد الموضوعي الصارم الذي تنتهي به القصة : نص به القصة : نص الخطاب / الوثيقة الذي كتبه عن المصريين أعداؤهم الفرنسيس . كما نستشعر أيضًا أن الهدوء الممل والتشعب الذي لاحظناه في الصفحات الأولى المطولة ، لم يكن إلا تمهيدًا بارعًا للتركيز والحدة التي تميز النهاية في خطاب المواطن الفرنسي روجيه كليمان ، يعيد إدريس إنتاج الرؤية التي قدمها في قصة "الجرح" ، ويقدم - بموضوعية وبساطة نادرة - أقصى تعميم يمكن أن يحتمله عمل فني ، ولا سيما إذا كان قصة قصيرة . إنه هنا لا يقدم المصريين في لحظة محددة ، بل يقدمهم في صورة حقيقة تاريخية مطلقة مطردة ، يمتزج فيها التاريخ بالأسطورة ، الحقائق بالخرافات ، الكفاح المسلح بالرفض الصامت ، الزمان بالمكان ، الجسد بالروح ..إلخ.
وحتى في خطاب كليمان لا يتخلى إدريس عن ضمير المخاطب الأثير ، وهذا أمر طبيعي ما دمنا نقرأ خطابًا ، لكننا ندرك تماماً أن ضمير المخاطب الذي يتردد كثيراً هنا ، لا علاقة له بنا كقراء ، فالخطاب موجه من مواطن فرنسي إلى مواطن فرنسي ، والمحقق الذي يعلق على الخطاب تعليقات قليلة عالم فرنسي أيضًا وعضو في الأكاديمي فرانسيز . أما الراوي المحدث فيختفي تماما حالما يبدأ الخطاب ، ولا يظهر بعد ذلك أبداً ، فنص القصة ينتهي بنهاية النص / الوثيقة : صوت كليمان يستنجد بصديقه الذي يرسل إليه الخطاب / الوثيقة : " النجدة يا روان " ( ص ١٥٨)
(٦)
بقيت نقطة هي أول ما لفت أنظار القراء والنقاد على السواء في قصص يوسف إدريس ،
أعني : لغته الخاصة التي لا معنى للحديث عن سرده دون الوقوف عندها . وقد درست هذه اللغة
الخاصة مرات متعددة ، وانصب تركيز النقاد في معظم الأحوال على مسألة العامية والفصحي (٢٤)
وهي
المسألة التي كانت لافتة ومثيرة ، خاصة في بدايات يوسف إدريس
6
۳۲۷
فن الحديث
ولغة يوسف إدريس الخاصة هذه ، مجال خصب للدرس اللغوي والنقدي ، ولكننا لن نتوقف
عندها إلا من منظور خاص : دورها في فن الحديث
لم يكن استخدام الكاتب للعامية بمفرداتها وتراكيبها - في السرد خاصة - مجرد نوع من التمرد على غرابة الفصحى وقيودها التي تحرمه من الوصول إلى هدفه النهائي : تصوير "مصرية" المصريين ، ولم يكن كذلك مجرد وسيلة لإضفاء طابع شعبي أو كوميدي على قصصه ، بل كانت هذه اللغة - بنغمتها الخاصة - نتيجة طبيعية لموقف "المحدث" الذي نراه وراء كل مظهر من مظاهر عالمه القصصي . ولم يكن من قبيل المصادفة أن يقال إن إدريس كان يكتب القصة كلها أولا بالعامية ، ثم يترجمها بعد ذلك إلى الفصحى ، فهذا يعني ببساطة أنه كان يضع نفسه من البداية في موقف المحدث الشفهي الحر : يشرق ويغرب ويستخدم ما يشاء من ألفاظ وتركيبات ، كأنه مجرد حكاء مصري شعبي . ثم تأتي المرحلة التالية / مرحلة الصنعة ، حيث يحول هذا الحديث الشفهي الخالص إلى قصة مكتوبة ، دون أن نفقد نغمة الحديث الأصلي وحيويته. يقول القاص محمد المنسي قنديل في شهادته عن يوسف إدريس : قال لي الكاتب الكبير عبد الله الطوخي شيئًا غريبا . كان قد شاهد إحدى المسودات الأولى لقصة يوسف إدريس واكتشف أنه يكتب القصة كلها باللهجة العامية كما لو أنه يقصها على جماعة من الناس في أحد المجالس الشفهية ، ثم يعيد كتابتها أو بالأحرى جمتها إلى اللغة الفصحى. ولعل هذا أحد أسرار الحيوية الشديدة التي نجدها في كل سطر من سطوره ؛ فهو يتحدث بنفس لغة الناس الذين يكتب عنهم ، بنفس العفوية والتدفق تاركا كل مواضعات الصنعة خلف ظهره ولا يلجأ إليها إلا في مرحلة تالية
(٢٥)
ومهما يكن من أمر ، فإن النتائج المترتبة على هذه الطريقة كانت عميقة وحاسمة بقدر ما كانت صادمة ومربكة ، خاصة حين ظهرت أرخص ليالي ، وقرأ الناس - ربما لأول مرة داخل نسيج السرد الفصيح - عبارات من قبيل وتشهد عبد الكريم " ، "وكح رمضان"، "يخطف رجله " ، "جسده التخين"، "مشيته المتطوحة " ، "وانقلب المركز، واستعبط عليهم" ، "إذاجاءت سيرتها " ،
" ، "وكان المعلم مريحا رأسه على البنك" ، "ويا سلام لو جاءته بصرة" ، "ثم يدب الورقة" ، "ودور في الثاني في الثالث راحت العشرة " ، "وفي يوم وعبده عائد" ، "وكانت وقعة الذي يقابلهم أسود من شعر رأسه" ، عمك دعدور بائع السردين الذي نظره شيش بيش" ، وكلمات من قبيل "الاشمئناط " و "الشرز" و"يون " و "تقرقع .. "إلى آخر هذه العبارات والمفردات التي امتلأ بها سرد أرخص ليالي ، على نحو يرجح معه فعلا أن تكون القصص قد كتبت بالعامية أولا .
۳۲۸
د. خيري دومة
إذا تجاوزنا ظاهرة ضمائر الخطاب وضمائر جمع المتكلمين المشار إليها كثيراً من قبل ، سيكون أبرز ما في لغة إدريس - من حيث علاقتها بنغمة الحديث والمحدث - ثلاث ظواهر : أولا - أمثال هذه العبارات والتراكيب والمفردات المشار إليها منذ قليل ، ثانيًا طبيعة التشبيهات التي يستخدمها إدريس ، ثالثًا - البدايات بدايات القصص التي رأيناها منذ قليل، فضلا عن بداية كثير من
الفقرات )
لفتت التشبيهات والتراكيب الخاصة عند إدريس أنظار الدارسين من البداية ، كما لفتت القراء من قبلهم، وكان أكثر ما لفت القراء والدارسين في هذه التشبيهات والتراكيب ، درجة الابتكار والغرابة ، وقربها بالطبع من التشبيهات والتراكيب المستخدمة في العامية على نحو قد يصدم ذوق قراء الفصحى . لكن هؤلاء الدارسين نادراً ما يلتفتون ( ٢٦ ) إلى ارتباطها بالقصة وأبطالها من ناحية ، وبالراوي ومستمعيه من ناحية أخرى
.
بعض هذه التشبيهات من الابتكار الشعري الخالص الخيال المؤلف ، رغم أن طرفي التشبيه مستمدان من عالم القصة ومن وجهة نظر الراوي . فحين نقرأ في قصة "سره الباتع" :" ونقيق الضفادع يملأ الليل بنغمة منظمة عميقة كأنه شخير الأرض التي نامت وراحت في النوم" ، نعرف أن المشبه والمشبه به ( نقيق الضفادع وشخير الأرض النائمة ) ينتميان إلى عالم القصة ، وعالم الراوي على وجه الخصوص، لكننا ندرك أيضًا أن في العلاقة المجازية بينهما قدراً من الابتكار الشعري
للمؤلف
حين نقرأ في أرخص ليالي : "كان" مخه اروق من ماء الطرمبة " ، "ولكنه أعرف الناس بامرأته وأعرف من شمهورش برقدتها كزكيبة الذرة المفروطة ، وقد تبعثر حولها الصغار الستة كالكلاب الهافتة ، وكما تتهادى مياه الترعة لا يقلقها إلا موجات خانعة لا تكاد تشب حتى تموت عاش الناس وقد رضوا.." ، "كأحاديث الضحى الدافئ كان الكلام يشرق ويغرب في كسل هادئ" ، "صلعته التي لها نعومة "الخيار" و "البوق" الذي يبرز من مقدمة التلفون كما تبرز شفاتير العبد" و"وبحة التلفون كحشرجة أم سليمان" ، أو ثوب الخادمة الطفلة "الذي يشبه قطعة القماش التي ينظف بها الفرن "و "رجليها كمسمارين رفيعين" أو "شاربه الذي نماه وشوشه حتى غدا كحزمة متنافرة من عشب شيطاني - حين نقرأ كل هذا ندرك أن هذه التشبيهات جزء أساسي من عالم القصة وليست مجرد تشبيهات مبتكرة أو طريفة ، وندرك قبل هذا أن شفاتير حسن العبد
حسن
Pra
فن الحديث
وحشرجة أم سليمان مفردات تنتمي إلى العالم المشترك بين الراوي ومستمعيه. وهي تشبيهات تعني أننا فعلا في مجلس حديث شفهي لا يحتاج معه السامعون إلى تفسير، لأنهم يعرفون هذه المفردات كما يعرفها الراوي تماما . أما القراء الغرباء فإنهم لابد يعرفون مفردات مشابهة.
في مسألة اللغة ودورها في تأكيد نغمة الحديث الشفهي ، يمكن أن تميز بوضوح بين مرحلتين
عند يوسف إدريس ) حتى داخل مرحلته الواقعية) : المرحلة الأولى هي مرحلة أرخص ليالي كانت القصص تقترب بحدة صادمة من صيغة الحديث الشفاهي ، وتفتقر أحيانًا إلى درامية القصة القصيرة وتوترها وكثافتها ، وبدا كأنها مكتوبة فعلا بالعامية ، أو كأنها مجرد أحاديث شفهية .. وكانت الأداة الأساسية في تحقيق ذلك ، مجموعة ضخمة من العبارات والتراكيب والمفردات العامية التي رأيناها تدخل نسيج السرد الفصيح وتغيره . أما المرحلة الثانية فهي مرحلة قاع المدينة وحادثة شرف ، وفيها خفف إدريس من غلواء التراكيب والتشبيهات العامية ، واستبدل بها أداة أخرى ، ربما جعلت نغمة الحديث أكثر خفاء وغموضًا ، ولكن أكثر سحراً وتأثيراً . في هذه المرحلة أصبحت المؤشرات اللغوية الدالة على صوت المحدث مركزة في شيئين : ضمير المخاطب ، والبدايات ، سواء بدايات القصص أو بدايات الفقرات . ولعل القارئ يلاحظ أن غالبية الاقتباسات فيما يتصل بالعبارات والتراكيب والتشبيهات العامية كانت مستمدة من أرخص ليالي ، أما البدايات الساخنة التي تحاصر القارئ فمأخوذة غالبا من قاع المدينة وحادثة شرف
بالإضافة إلى بدايات القصص ، يبدأ كثير من الفقرات بكلمات وعبارات قاطعة في دلالتها على نغمة المحدث ، كلمات من قبيل: "المهم "أو " والحقيقة "أو "والواقع "أو " والحق " أو "والغريب" أو "وطبعاً "أو " "بالاختصار" "أو " وبالتأكيد " أو " بالشرف "أو "بالضبط "أو "وفجأة.. "إلخ، وعبارات من قبيل : "وجاء الفرج "أو " إلى هنا والأمر عادي "أو "والأدهى من ذلك "أو "ولا يتسرع أحد ويخمن أن .. " .. إلخ . هذه النوعية من البدايات تؤكد حرص الراوي المحدث على استعادة مستمعيه من سياق القصة ، وإحضارهم أمامه مع كل انتقالة في الحدث، فهي كلمات وعبارات انفعالية مفاجئة توقظ القارئ وتلفته من جديد إلى الصوت الذي يتحدث ، كما أنها الكلمات والعبارات التي يستحضرك بها الحكاء المصري الشعبي ويوقظك ، وإن دخل عليها بعض التفصيح . وستصبح الإشارة الموثقة إلى أمثال هذه الكلمات والعبارات في سرد يوسف إدريس أمراً مملا حقا ، لأنها من الكثرة التي لا يصلح معها توثيق


Summarize English and Arabic text online

Summarize text automatically

Summarize English and Arabic text using the statistical algorithm and sorting sentences based on its importance

Download Summary

You can download the summary result with one of any available formats such as PDF,DOCX and TXT

Permanent URL

ٌYou can share the summary link easily, we keep the summary on the website for future reference,except for private summaries.

Other Features

We are working on adding new features to make summarization more easy and accurate


Latest summaries

وصلت ماريال وآن...

وصلت ماريال وآن لبيت السيدة سبنسر الكبير وسألت ماريال عن خطأ اإلتيان بفتاة وقد طلبت صبي قالت لها سبن...

1. المقدمة تعت...

1. المقدمة تعتبر العمارة التقليدية الليبية جزءًا لا يتجزأ من الهوية الوطنية والثقافية لليبيا. على م...

كان في البداية ...

كان في البداية نقاش حول كيفية تعليم طلاب التربية الخاصة كمعلمات خلال التطبيق، من ثم كان عرض بين المع...

المركّبات العضو...

المركّبات العضويّة تعبّر المركّبات العضويّة عن مجموعةٍ كبيرةٍ من المركّبات الكيميائيّة، وتتميّز باحت...

المطر الحمضي هو...

المطر الحمضي هو أحد ملوثات الهواء الخطرة وينتج بسبب تلوث الهواء بملوثات أولية مثل أكاسيد الكبريت وال...

أمام هذا الوضع؛...

أمام هذا الوضع؛ عرفت الصين موجة من السخط والغضب عمّت أرجائها رافضة الحكم الإمبراطوري الفاشل وتدخلات ...

تعتبر رؤية سمو ...

تعتبر رؤية سمو الشيخة فاطمة ركائز أساسية في البناء التنموي للمرأة في الدولة، والتي انعكست في وضع الخ...

أهم المراكز الت...

أهم المراكز التجارية في الجزيرة ومن أشهر الأسواق التجارية في تلك الحقبة كانت سوق عكاظ التي كانت تقام...

ويُقال: لليلتين...

ويُقال: لليلتين خلتا منه، وقيل لاثنتي عشرة خلت منه وهو أصح ودفن ليلة الأربعاء وسط الليل وقيل ليلة ال...

(٣) تحديد النغم...

(٣) تحديد النغمة في النص الدرامي وليكن هذا مدخلنا إلى شكسبير! فمن ذا الذي يستطيع أن يقطع بأن هذه «ال...

كل لغة لها عيوب...

كل لغة لها عيوبها وقيودها. بعض الناس يشعرون بالإحباط الشديد من العيوب بأنفسهم! لقد كانت هناك أكثر من...

هي شركة متخصصة ...

هي شركة متخصصة في الأجهزة الكهربائية مثل الثلاجات والغسالات والمواقد من المحتمل أن تشارك Union Air ،...