Lakhasly

هذي البلاد ينشد عقل الجر من الجنوب متضرعاً: أعِدْني إلى الأرز يا خالقصى من خلال وقفات، بانت أصالة شعر الغربة ومعانيه الأساسية. إن المواقف التي ولدت مثل هذا الشعر ليست بجديدة في التاريخ العربي؛ فمنذ أن تعرض الإنسان للارتحال، شدّته عاطفة الحنين إلى أرضه وأهله ؛ وقد عرفت البلاد العربية، ظاهرة الهجرة في العصر الحديث، وزادتها أنت اتساعاً تعقيدات الحياة وسهولة المواصلات؛ إلا أن المهاجرين الذين انفصلوا غريب اللسان غريب الفؤاد أعدني فإني في مَهْجَري فيضحك مني القرى والجماد أغرد كالطير في بَلْقَع. هذا الضياع نغص على المغترب عيشه؛ وذاك الضيق الذي قاسي منه . ، في وطنه لم يكن أرحم عن وطنهم بالجسد ظلوا متصلين به بالروح. هذا الجو العام هو الذي عاشه من رأينا من شعراء، ولقد ولدت وحدة أحاسيسهم تقارباً في معاني قصائدهم. فشفيق المعلوف إذ يستعيد ذكريات الصبا ويعزف على وتر الأمومة، يصف ما يحمله المغترب في قلبه من طموح وما يصيبه من جراح؛ وعندما يرى رشيد أيوب صورة بلاده فيما تقع عليه عينه في غربته، تغمر نفسه عاطفة الأسى ويصطبغ شعره بألوان الحرقة والألم؛ فهو حين يعرض لغربته القسرية وللظروف المادية القاسية التي عاناها المهاجرون، وكلّه أمل بعودة سعيدة تنسيه ما قاساه به ذُل وحــــرمـــان وقَرْب منكَ يُفجعنى ففيه الذلُ أَلْوانُ بُعاد عنك يا وطني مصيبة المهاجر، كما عبر عنها ميشال المعلوف في البيتين السابقين، أنّه هارب من عذاب إلى عذاب، ومن فشل إلى آخر ؛ فهو لم يجد في الغربة العزاء الذي كان يرجوه، يقول الياس فرحات مصوّراً حاله مختصراً أحوال كثيرين من رفقائه: طَوَى الدّهرُ مِن عُمري ثلاثينَ حِجَّةٌ طَوَيْتُ بها الأَصْفَاعَ أَسْعى وأَدْأَبُ أُغَرِّبُ خَلفَ الرّزق وهو مُشَرِّق وأقسم لو شَرَّقْتُ ، كَانَ يُغَرِّبُ من عذاب وحرمان. ولكنها في خطوطها العامة تلتقي عند ذكرى الوطن وحلم العودة إلى أحضانه. و لم يكن هذا الواقع وقفاً على من ذكرنا من شعراء، فالمهجريون يلتقون جميعاً على هذا الطريق؛ لقد وحدت بينهم الأحوال النفسيّة على تنوع ظروفهم ومواقفهم؛ فإذا قال أبو ماضي من الشمال والمهاجر في دياره عرضة لتجاذبات شتّى، فوطأة الحياة وشبح العوز يثقلان كاهله وذكرى الأهل والإخوان تضني نفسه وتزيد همومه؛ لقد حرم دف الوطن وعطف الأسرة و لم يلق بالمقابل ما كان يأمل به من بحبوحة وعيش هنيء؛ لذا ظلت صورة الوطن عالقة في ذهن شكر الله الجرّ : وطني، ستبقى الأَرضُ عندي كلها حتى أعود إليه أَرضَ التيه كيف نَسْلوه موطناً ما سلانا إنَّ ذكراه في النوى سلوان
وطيف الأهل يملأ قلب ميشال معلوف قَسَماً بِهِمْ ما حدث عن حبي لهم هم نازلون، وإن نأوا بفؤادي غربته غربة المهاجر، ضياعه في زحمة المدن الأميركية نفوره من حياة لم يألفها، ذلك كله ألقى به في أحضان الطبيعة ينشد البراءة والعيش الهنيء، وها هو الشاعر القروي يناجي الغاب والطائر، يرى في الأول صورة وطنه وعنوان بساطته، وفي الثاني صنو نفسه ومجسّد مي ويبقى للأم، قلب يختصر القلوب جميعاً، يقول الياس هل أنت يا عصفور مثلي غريب هل لك مثلي أخوة في الوطن؟ فرحات مصوّراً شوق أمه إلى رؤياه: أنفقت عمرك ترقبين رجوعنا والحمد هذه المعاني العامة تردّدت في أشعار المهجرتين وتجوس كل سفينة عيناكِ وتحملين الريح كل رسالة نها فؤادك فاكِ على تفاوت ثقافتهم وأوضاعهم، فهل أن خصائص فنية متشابهة ميزت أدبهم؟ أم أن فوارق ظهرت في نتاجهم، ولا سيما بين هؤلاء الذين عاشوا في شمالي والمهاجر، على حنينه وضيق عيشه يتعالى على جراحه ويسعى وراء رزق لم يحصد منه إلا الشقاء، ألم أميركا وأولئك الذين استقروا في جنوبيها؟ الواقع أن أحوالاً نفسية ضاغطة وحدت مشاعرهم جميعاً حتى بدا أدبهم، ناطقاً تكن هذه حال نصر سمعان طوف عداد أسعى وراء الرزق مجتهداً بلسان كل مهاجر ؛ طابع وجداني عميق ونزعة تجديدية أكسباه لوناً خاصاً من الرقة والدهر في الحرمان يجتهد وأجوب أطراف البلاد ولا راحل والبساطة ميّزه من أدب المشرق. إن جواً إجمالياً عاماً خيم على الشعر المهجري يدري ما فـي مــهــجــتــي أَحَدُ كله، وإن كان ثمة فوارق تفصيلية بين إنتاج أهل الشمال والجنوب. فمع «الرابطة القلمية» التي تميز إن صورة الشقاء والحرمان، وبخاصة في شعر الجنوبيين، وهي قد جعلت البسمة نادرة في أعضاؤها بمستواهم الثقافي، كثيراً ما طرح موضوعات ارتفعت إلى المستوى الإنساني، واغتنت بالتأمل الفكري والنزعة الصوفية. هذا الاتجاه أضعف صلة أدبهم بالواقع العربي، فتضاءل اهتمامه بالقضايا المحلية لتطغى عليه نزعة قصائدهم، وقوّت عندهم الريبة والتشاؤم، وأبقت يد حلم العودة عزاء لهم في فشلهم وغربتهم، يقول عقل الجر: وخير مغانم الدنيا غريب مثاليّة. قرنها أعضاء «الرابطة» بتعبير بسيط وعفوي، طوّر العبارة العربية، وقد اعتمد الرموز والصور المبتكرة، في تنويع واضح للأوزان والقوافي. يُتاح له إلى الوطن القُفول وإن كانت هذه العودة أملاً مشوباً بالحذر، كما عند شفيق المعلوف ودعي واديـاً لــنــا وشــبــابــا لم يذهب أعضاء «العصبة الأندلسية إلى هذا الحد من التجديد،