Lakhasly

5. تعريف ما بعد البنيوية
   إن ما بعد البنيوية ليست نظرية متماسكة بقدر ما هي مجموعة من المواضيع المتقاربة التي طورها المنظرون في الستينيات. وتشمل هذه المواضيع المشتركة (التي ستتم مناقشتها قريبا) تجزئة المعنى، وتوطين السياسة، وانحدار فكرة "الحقيقة"، وعدم مركزية الموضوع. وبعبارة أخرى، من الأفضل فهم ما بعد البنيوية باعتبارها اتجاها نظريا، باعتبارها مجموعة من الأفكار المفصلة بشكل فضفاض والتي تجد تعبيرا مشتركا في أعمال الكتاب الفرنسيين المؤثرين في النصف الثاني من القرن العشرين.
   2 بالإضافة إلى فوكو، الذي يتم عرض أعماله في هذا الفصل، يشمل هؤلاء الكتاب رولاند بارت، وجاك دريدا، وجوليا كريستيفا، وجاك لاكان، وجيل دولوز، وفيليكس غواتاري. ومن المثير للاهتمام أنه على الرغم من أن معظم الكتاب الذين تم تحديدهم مع ما بعد البنيوية هم فرنسيون، فإن أصول ما بعد البنيوية لها أصولها العامة في التقاليد الأمريكية للنقد الأدبي (Poster
   1989: 6). إن الطريقة التي اعتمد بها علماء الأدب الأمريكيون ووحدوا أفكار المفكرين الفرنسيين هي التي خلقت ما يعرف اليوم بنظرية ما بعد البنيوية. ومن المفارقات، ولكن ليس من المستغرب، إذن، أن معظم هؤلاء المنظرين الفرنسيين الذين تم تصنيفهم وتعريفهم على أنهم "ما بعد البنيوية" لا يكتبون تحت عنوان "ما بعد البنيوية" ولا يعرفون أنفسهم مع ما بعد البنيوية كحركة نظرية.
   سميت ما بعد البنيوية بهذا الاسم لأنها تمثل تحديًا لتقاليد النظرية السائدة في أوروبا الوسطى وأمريكا في منتصف القرن العشرين: البنيوية. يؤكد الفكر البنيوي على أن هناك قوى في الحياة الاجتماعية تنبثق من النشاط البشري ولكنها تقف خارج نطاق الفاعلية أو التدخل البشري. غالبًا ما تسمى هذه القوى الاجتماعية بـ "الخصائص الناشئة"، وهي
   "الحقائق الاجتماعية" الخارجية والمقيدة التي وصفها
   المنظر الاجتماعي الكلاسيكي إميل دوركهايم في عمله؛
   64
   ويتردد صدى تأكيد بنيوي مماثل في العديد من أعمال
   المنظرين الكلاسيكيين الآخرين في علم الاجتماع، وخاصة كارل ماركس وماكس فيبر (انظر الفصول 2-4). في الواقع، من خلال الاستفادة من هذه المصادر الكلاسيكية، تمكن تالكوت بارسونز من بلورة نظريته الوظيفية البنيوية التي سادت خلال السنوات الوسطى من القرن العشرين (انظر الفصل 9). فيما يتعلق بإطارنا ما بعد النظري، تعكس البنيوية نهجًا جماعيًا للنظام، أي التركيز على قسرية الهياكل والقوى المجتمعية. علم الاجتماع الأمريكي
   ظهرت نسخة مختلفة من البنيوية خلال منتصف القرن العشرين. القرن العشرين في فرنسا.[3] تتميز البنيوية الفرنسية عن البنيوية الوظيفية الأمريكية في تركيزها الخاص على اللغة. على النقيض من الوظيفية البنيوية لبارسونز التي تؤكد على التنظيم الاجتماعي الإنساني على مستوى المؤسسات والتفاعل، تركز البنيوية الفرنسية على المعنى ودور اللغة في تنظيم أنظمة الأفكار. يسعى البنيويون الفرنسيون إلى توضيح كيف أن للغة خصائص شكلية (مثل
   القواعد) توفر البنية ليس فقط للتواصل ولكن أيضًا للجوانب الأوسع للوجود الإنساني. لنأخذ على سبيل المثال اللغة والجنس. في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، تحدت الناشطات النسويات في الولايات المتحدة التمييز الجنسي المتأصل في مصطلحات مثل "رجل الإطفاء" و"الشرطي". "ساعي البريد"، وما إلى ذلك، أكد المدافعون عن الوضع اللغوي الراهن أن الهوس بالكلمات كان أمرًا تافهًا يعرفه الجميع
   65

أن كلمة "رجل" تعني "رجالاً ونساءً"، تماماً كما تعني كلمة "الإنسان" الجنس البشري. لكن النسويات جادلن بأنه بغض النظر عن القضايا المادية والمؤسسية (على سبيل المثال، عدد الرجال والنساء العاملين كضباط شرطة أو رجال إطفاء)، فإن المصطلحات نفسها كانت إشكالية لأن المصطلحات نفسها كانت لها عواقب. إعادة التأكيد على التمييز الجنسي سواء في تفكير
الأفراد أو في المجتمع ككل. تتوافق هذه الحجة على وجه التحديد مع الفرضية الأساسية للبنيوية الفرنسية: تؤثر الهياكل اللغوية على الأفراد والمجتمع بطرق منهجية بغض النظر عن نوايا مستخدمي اللغة الأفراد.
3. ظهرت البنيوية الفرنسية عبر مجموعة متنوعة من التخصصات والتقاليد النظرية، بما في ذلك الأنثروبولوجيا لكلود ليفي شتراوس، وعلم الاجتماع
الماركسي للويس ألتوسير، وعلم النفس التحليلي النفسي لجاك لاكان، والنقد الأدبي لرولاند بارت، واللغويات لفرديناند دي سوسور.
بالنسبة للجزء الأكبر، فازت النسويات في هذه المعركة،
واليوم، أصبحت المصطلحات غير المرتبطة بالجنس مثل "ضابط شرطة"، و"رجل الإطفاء"، و"ساعي البريد" مفضلة على المصطلحات المرتبطة بالجنس ("شرطي"، و"رجل إطفاء"، و"رجل بريد"، وما إلى ذلك). .). بعد فوات الأوان، يبدو بالتأكيد أن الناشطين في مجال حقوق المرأة كانوا على حق. اليوم، يدرك معظم الناس القوة الهائلة للغة وأهميتها على وجه التحديد لأننا نعيش في عالم ما بعد الحداثة. لكن البنيويين الفرنسيين أكدوا أنه ليس اللغة فقط، بل الأساطير وأنظمة القرابة والطقوس الدينية والإعلانات والأزياء
والعلاقات الطبقية والنفس البشرية، كلها تحتوي على عناصر شكلية يمكن فهمها من خلال تحليل هياكل المعنى. في المجمل، كما66

هناك قواعد نحوية وهياكل لغوية في اللغة يتبعها
المتحدثون دون أن يدركوها، وهناك صيغة صارمة لكل جانب من جوانب الحياة الاجتماعية تقريبًا تشكل الفهم، على الرغم من أن الفاعلين الاجتماعيين لا يدركون بالضرورة تأثيرها.
في معظم الروايات، تبدأ قصة البنيوية الفرنسية بتطوير عالم اللغويات السويسري فرديناند دي سوسير (1857-1913)
لما يعرف اليوم باسم "السيميائية".4 السيميائية هي دراسة العلامات، تلك الجوانب من التواصل الإنساني التي تستخدم للإشارة إلى وإيصال المعنى. في دورة في اللغويات العامة، طور سوسور (1915/1966) نظريته من خلال التمييز الرئيسي بين البنية الرسمية للغة (اللغة) والاستخدام اليومي للكلام (الإفراج
المشروط). بالنسبة لسوسور، اللغة (اللغة) هي البعد
البنيوي للغة الذي تم إضفاء الطابع المؤسسي عليه
وتشكيله من خلال إنشاء الأعراف الاجتماعية، في حين أن الكلام (التعبير المشروط) هو الاستخدام النشط للغة في التفاعل اليومي.
وبالتالي، فإن اللغة (اللغة) لها العديد من الخصائص التي لا يمتلكها الكلام (الإفراج المشروط)، فهي جماعية، ومحددة بشكل جيد، وملموسة، وتتكون من أنظمة ذات معاني مشتركة، وتخضع للدراسة الموضوعية، في حين أن الكلام (الإفراج المشروط) أكثر انتقالية وفردية.
4 توجد مجموعة موازية من الأفكار في أعمال الفيلسوف الأمريكي تشارلز ساندرز بيرس، الذي يعود إليه الفضل في صياغة مصطلح "السيميائية". فضل سوسير مصطلح "علم السيميولوجيا".
67

ومن هذا التمييز، طور سوسير وصفًا للبنية الشكلية
للعلامة. بالنسبة لسوسور، العلامة هي تلك المخصصة
اجتماعيا لتمثيل معنى الأشياء والتجارب. أي شيء يحمل معنى – اللغة، والإيماءات غير اللفظية، وإشارات
الشوارع، والملابس، والصور – يمكن أن يؤدي وظيفته. كل إشارة بدورها مبنية من عنصرين مترابطين: المدلول والدال. والمدلول هو تلك الفكرة، أو الشيء،
أو الخبرة، أو المعتقد، أو المفهوم، أو الشعور الذي يرغب فرد في التعبير عنه لآخر (على سبيل المثال، تحية شخص ما عند الاجتماع). الدال هو ذلك التمثيل المغروس بعمق والمخصص للوقوف على المدلول (على سبيل المثال،المصافحة، أو التقبيل على الخدين، أو قول "مرحبًا").
يتحد زوج الدلال والدال ليشكل بعدين لا ينفصلان
لإشارة لها خاصيتان أساسيتان. أولاً، العلاقة التي
تربط الدال بالمدلول هي في الأساس علاقة اعتباطية،
ولا تنتج إلا من خلال الأعراف الاجتماعية التي أنشأها مجتمع المتحدثين. لا يوجد "سبب" يجعل الصورة الصوتية للمفهوم مرتبطة بأي معنى معين. ثانيًا، إن زوج الدال والمدلول له معنى مستقر نسبيًا لأن العلامات لا توجد إلا في سياق بنية مؤسسية مستقرة للغة. المعاني هي نتيجة التفاعل أو العلاقات بين العلامات، ولا يمكن تغييرها كلها مرة واحدة. وهكذا، فإن اللغةبالنسبة لسوسور لها خصائص ثابتة وديناميكية، لأنها تجسد الطبيعة المهيكلة لمؤسسة اجتماعية ولكنها أيضا بمثابة علامة.

68
عرضة للتحولات والتغيرات نتيجة لطبيعتها التعسفية.
لقد تطورت ما بعد البنيوية من خلال نقد النموذج السيميائي الذي طوره سوسور. على النقيض من البنيويين الفرنسيين الذين يؤكدون على المعنى الرسمي والنمطي والمشترك بشكل عام للعلامة، فإن ما بعد البنيويين يشككون في عالمية المعنى المشترك كما تنقله العلامات. إنهم يشككون في وجود أنماط عالمية من المعنى ويجادلون بدلاً من ذلك بأن معنى العلامات قد تجزأ. يؤكد أنصار ما بعد البنيوية أنه بدلاً من العلامات المفهومة عالميًا، أصبح لدينا اليوم “دلالات عائمة”.
لقد أصبحت الروابط بين المدلولات ودوالاتها غير
مستقرة، بحيث لم تعد الدالات مرتبطة بمدلول واحد
فقط، وأصبحت الدالات ممثلة بدالات مختلفة. لقد انهارت البنية الداخلية للعلامة، وانفصلت الدلالات عن
أي مدلول ثابت، مما جعل المعنى مضاعفًا ومفتوحًا
ومجزأً. ومع ذلك، ليست اللغة والمعنى والعلامات هي موضوعات النقد ما بعد البنيوي فقط. وبدلاً من ذلك، يصف أنصار ما بعد البنيوية عالمنا الاجتماعي والثقافي بأكمله بأنه عالم يتسم بالتشرذم وعدم الاستقرار والارتباك المتأصل. من وجهة نظر ما بعد البنيوية، فإن الحياة الاجتماعية فوضوية ونسبية بشكل جذري دون أي إمكانية للوحدة أو الإجماع أو التحليل المتماسك. إن مفاهيم الحقيقة والمعرفة والقوة والهوية كلها
69
تحدى. هذه النسبية هي أحد الأسباب الرئيسية وراء تسمية نظريات ما بعد البنيوية بهذا الاسم: تحليل العالم الاجتماعي يعتمد على افتراض أن أنماط الحياة الاجتماعية وروتينها وأعرافها غير مستقرة بطبيعتها وبالتالي منظمة بشكل مؤقت فقط.
بالإضافة إلى تحدي فكرة وجود مطالبات عالمية بالفهم الكامل للواقع، يؤكد أنصار ما بعد البنيوية أن هذه المطالبات نفسها مستمدة من منظور الأفراد الذين يشغلون مناصب امتياز (مثل المستويات العالية من المكانة). لم يعد يُنظر إلى الحقيقة على أنها "الحقيقة" بحرف T الكبير، بل يُنظر إليها بدلاً من ذلك على أنها "حقيقة" ناتجة عن وجهة نظر معينة ومميزة والتي هي في حد ذاتها ليست صحيحة ولا خاطئة. يؤكد أنصار ما بعد البنيوية أن أهمية الهياكل الاجتماعية كقوى مقيدة للعمل الفردي قد تم تقليصها واستبدالها بممارسة أكثر مرونة للسلطة تتجلى في أشكال متعددة ضمن السياقات المحلية، وبدون القوة القسرية للمؤسسات الاجتماعية الشاملة. باختصار، من منظور ما بعد البنيوية، يتطلب الفهم السوسيولوجي للمجتمعات المعاصرة تجاوز تحليل الهياكل ووجهات النظر الموحدة ونحو التحقيق في الممارسات اليومية
المحلية.
70

6 التوجه النظري لفوكو
كما هو موضح في الشكل 14.1. ما بعد البنيوية الاستفزازية عند فوكو يمكن فهم هذا النهج على أنه مواجهة صريحة ومحاولة لتصحيح نقاط الضعف النظرية للبنيوية. أنه في حين أن البنيوية هي في الغالب جماعية وغير عقلانية. تضيف نظرية فوكو أبعادًا فردية وعقلانية إلى هذا التوجه النظري. على
وجه التحديد، من حيث النظام. لا يتخلى فوكو تمامًا عن التركيز الجماعي للبنيويين الفرنسيين على أنظمة اللغة والإشارة باعتبارها هياكل محددة تشكل وتشكل النشاط والسلوك البشري. ومع ذلك، بدلًا من تبني تصور أحادي البعد للرموز الموجودة مسبقًا والتي تعمل على الأفراد،يؤكد فوكو، مثل علماء الظواهر الموضحين في الفصل 13، على أنه لا يتشكل وجودهم إلا من خلال استخدام الرموز على مستوى الفرد. وبهذا المعنى، فإن الرموز لا توجد مسبقًا بالموضوع على الإطلاق. تفترض اللغة والرموز والمعارف جميعًا أن الأفراد يستخدمون المعرفة لإنشاء عالمهم الاجتماعي.
يتم توضيح تعدد أبعاد التوجه النظري لفوكو في الشكل من خلال المفاهيم المعبأة التي تمتد بعدين (على سبيل المثال، الفرد الانضباطي، البانوبتيكون) أو، في حالة السلطة/المعرفة، جميع الأبعاد الأربعة.
71

الشكل 14.1 مفاهيم فوكو الأساسية وتوجهه النظري فيما يتعلق بالعمل، يرى فوكو، مثل البنيويين الفرنسيين، أن اللغة تعمل بطريقة غير واعية ومعتادة نسبيًا – وليس بطريقة حسابية استراتيجية. في العادة، نحن لا نتلاعب بالرموز اللغوية لتحقيق أقصى قدر من مصلحتنا الذاتية؛ بل نحن ببساطة نستخدمها بطريقة مسلم بها وغير تأملية. "ومع ذلك، من المهم أن يربط فوكو تركيزه على الأعمال غير العقلانية للرموز السيميائية والاجتماعية والنفسية مع تقدير الطبيعة الاستراتيجية والتلاعبية للانضباط والعقاب، مما يعكس العالم العقلاني. وهكذا، على سبيل المثال، استكشافه في التحول التاريخي التدريجي في أساليب تأديب ومعاقبة الأفراد من أولئك الذين يعتمدون على مشهد التعذيب الجسدي العلني
إلى أولئك الذين يغرسون التنظيم الذاتي الداخلي
72
يؤكد حقيقة أن الانضباط والعقاب يتناسبان مع
مصالح السلطات التي تسعى للسيطرة على سكانها.
$ كما يعلم طلاب اللغات الأجنبية، من المرهق محاولة
تفسير أفكارك بلغة يتعين عليك التفكير فيها بوعي
والتلاعب بها من أجل استخدامها. تحدث إحدى القفزات المعرفية الأكثر أهمية في اكتساب اللغة عندما تتوقف عن الترجمة من لغتك الأولى إلى لغتك الثانية ويمكنك استخدام اللغة الجديدة تلقائيًا. يدرك العديد من الأشخاص أنهم قاموا بهذا التحول من خلال ملاحظة أنهم بدأوا يحلمون بلغتهم الجديدة.
وبالمثل، تعكس إشكالية السلطة/المعرفة عند فوكو
منهجه المحفز متعدد الأبعاد. السلطة ليست شيئًا
متجسدًا داخل الفرد أو البنية الاجتماعية ويتم تنفيذه
بطريقة قسرية متفردة؛ بل إن القوة تكون أقوى
عندما تظهر تحت ستار المعرفة على المستويين
الفردي والجماعي. إن السلطة هي في الوقت نفسه
استراتيجية ومتلاعبة (أي عقلانية) وغير واعية وغير تأملية (أي غير عقلانية). إن السلطة ليست منظمة (جماعية) أو غير منظمة (فردية) بقدر ما هي غير منظمة. المعرفة ليست مجرد مجموعة مشتركة (جماعية) من المعاني التي تمكن الأفراد من فهم عالمهم والتنقل فيه (غير عقلاني). إنها أيضًا وسيلة لممارسة السيطرة (العقلانية) على المجتمع وعلى أولئك الذين يعيشون فيه