Lakhasly

على ساحل هذا الأبيض المتوسطء بإزاء مدنياته القديمة والحديثة كما يقف الصياد الذي
دهمته العتمةٌ ولم يعطه البحرٌ سمكة واحدةٌ ... لا لكنها قصةٌ شعب من الشعوب ما كان
صغر جغرافيته وتاريخه ليعوقه أو يكفّه أو يمنعه عن أن يعطي العالم - في عصر من
عصور تمدينه - أداةً التخاطب المثلىء وأساليبٌ العبادة الفُضْلىء وطرايْقٌ للفكر والعمل
قويمة. يل لعل صغره في رقعة الأرض وفي زحمة التاريخ. كان حافرًا لذلك الشعب دافعًا
إياه بعزم لا يُغلبء إلى الأخذ بضربٍ من ضُروبٍ العظمة أو السمُوٌ أو التّوسُع يكفي به
طموح ذاته. ويسدٌ عَوْرّهَا.

وهكذا رأينا لبنان يتبسط سفنًا ومدنّاء ويتسامى آلهة وهياكل. ويتوسع بالحرف
والفكر. ومن غاباته المقدسة كان يُشيّد معابِدَهُ الذاهبة صعدًاء ويبني مراكبّة الذاهبة

بعيدّاء كأنَّ له من ضِيقٍ مساحته. وصِعَرِ حَجْمِهِ عند المسافة ثأرًاء فلن يَقِرِّ له قرارٌ حتى
يدرك ثأرَةُ؛ مُقربًا الأبعاد. جامعًا الأضداد. واصلًا قطيعة المادة والروح على سّواء.

ليست الثقافة في بلدٍ من البلدان؛ ولا رسالتها في شعب من الشعوب؛ مما يُرتجّل
ارتجالًا. ولا ممّا يسن في ضَجَّة المجالس والمجامع؛ ولا مما تحدس به مخيلة شاعرٍ أو
ينضح به ذِهِنُ حكيم: ثم يُمَرَضِ على الوجود فرضًا. فالحياة نفسها (والتاريخ الذي يحكي

حكايتها) ليست سوى حوار لا ينتهيء بين الإنسان والطبيعة. ويندر أن تكون الكلمة
الأخيرة في ذلك الحوار لهذا الكائن من لحم ودم؛ حوارٌ لطيفٌ تارةً وتارةٌ عنيفٌ. مضطرد
أو منعكس. في صراحة أو جَمجِمةء كزقزقة العصفور وسقسقة الجدول؛ كاصطفاق الموج
وتقصف الرعدء يهمس همس النسيم أو يدوي دوي البركان.

لبنان مَلقى السيْل المتفرقة. ومعترك الأمم المتنافسة؛ ومزدّحم الثقافات المتقاطعة.
ما من قوة في الأرض تستطيع أن تغلق ساحله الغربيء هذا الباب المفتوح على مصراعيه
للأبيض المتوسطء من مدنيات وشعوب. يعطيها ويأخذ عنهاء ثم يُقذف به واحة غريقة
في الصحراء. كذلك ما من قوة في الأرض تستطيع أن تسلخه عن هذا الشرق الساميٌّ
الذي وصلته به. منذ كان التاريخ, يل قبل أن يكون. وشائج دم ولغة. وتقاليد وأساطير,

وعبادات وثقافات: ثم يُقذف به جزيرة عائمة في الأوقيانوس. سيظل لبنان حيث هو
وحيث كانء من الطبيعة ومن التاريخ. همزة وصل بين الشرق والغرب اللذين يلتقيان
فيه. وإذا صحٌّ أن ثمة مستقبلاء قريبًا أو بعيدّاء ليس يعرف الأثرة القومية وما يلازمها
من مظاهر الطمع والفتح والغلبة؛ ولا التحريم الفكري وما ينشأ عنه من تعصب على
اختلاف أنواعه؛ فقد كانت إذن ثقافة لبنان هي المثلىء ورسالته في الدنيا هي الفضلى:
ثقافةٌ تمازج؛ ورسالةٌ تواصل.

ولعل أكرم ما يُصِدَّرهُ لبنانُ من بضاعة, أبناؤه في النواحي الأربع من الأرض, بُناةُ
المدن والسفنء المخاطرون غير مغامرينء المثقفون طبعًا وتطبعًاء المحافظون في غير تزمُت:
المجدّدون من غير تعسّفء ناشرو الأبجدية قديمًا وحضنة العربية حديثًاء أبناؤه السّمِرُ
الميامين» حَمَلةٌ رسالته الثقافية في العالم