Lakhasly

Online English Summarizer tool, free and accurate!

Summarize result (54%)

- الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية
إن أسباب تخلفنا المعاصر بالطبع لا تنفصل عن الأسباب السابقة لأن الماضي موصول بالحاضر. وقد شغل المفكرون العرب كثيرا بالكتابة عن هذه الأسباب وتحليلها، وقد دارت تحليلاتهم حول الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أدت إلى هذا التخلف العلمي، وميزوا في إطار ذلك بين عوامل خارجية فعلت فعلها المدير سلفا من قبل دول الاستعمار الغربية وعوامل داخلية ساعدت على ترسيخ هذا التخلف الذي يتصورون أنه فرض
علينا فرضا.أما العامل الخارجي الذي يركزون عليه فهو الاستعمار الغربي للبلدان العربية. إن هذا الاستعمار رغم ما صاحبه من دعاية إعلامية مكثفة حول أنه جاء لتحديث وتمدين البلدان العربية وإدخالها في زمرة الدول العلمية المتحضرة إلا أن الواقع الذي حدث يكذب ذلك، حيث أدى هذا الاستعمار برغم ما أحدثه من تحديث جزئي لبعض المرافق والهيئات والأفراد الذي استهدف في المقام الأول خدمة المستعمر نفسه إلى تمزيق البلاد العربية والإسلامية وإضعاف مقدراتها الذاتية، وربط هذه المقدرات وتلك الإمكانيات بعجلة التقدم الغربي الخدمة أهدافه التوسعية الاحتكارية. وقد بدا هذا واضحا بعد ما حصلت هذه الدول على استقلالها، فقد حصلت على الاستقلال السياسي نسبيا لكنها لم تحصل مطلقا على الاستقلال الاقتصادي فضلا عما غرسه الاستعمار الغربي من قيم وعادات غربية في المجتمعات العربية مما سهل التبعية العربية العربي هو غربي، ورسخ في الذهنية العربية مسألة التفوق الغربي الذي لا يمكن
ادى كل ذلك إلى بقاء الدول العربية على حالها التي تركها عليها الاستعمار في معظم المناطق حيث ظل تضارب المصالح بين الدول والشعوب العربية هو الأمر السائد - رغم محاولات الوحدة التي وجدت على السطح وسرعان مازالت وذلك لأن مصالح معظم هذه الدول ظلت مرتبطة وتابعة للدول التي استعمرتها من قبل بشكل أو بآخر. ومن ثم فقد دمرت البنية الاقتصادية المستقلة لهذه الدول سواء البنية الخاصة بكل دولة على حدة أو البنية التي يمكن أن تتوحد وتتكامل بينها جميعا. وباختصار، فقد ترك المستعمرون الدول العربية والإسلامية في حالة يصعب فيها أن تتغلب عوامل الوحدة والتكامل الاقتصادي والسياسي والعلمي. الخ على عوامل التفكك والانهيار والتبعية.وبالطبع فإن هذا العامل الخارجي لم يكن هو العامل الحاسم في التخلف العربي المعاصر إذ كان يمكن لعناصر المقاومة الداخلية لو توافر لأعضائها الدافعية و الإيجابية أن تفعل فعلها في الحفاظ على الهوية العلمية والثقافية وتنصر عوامل التقدم على عوامل التخلف والضعف لولا أن تضافر مع هذا العامل الخارجي التخريبي عوامل داخلية كثيرة لم يتداركها المجتمع العربي المعاصر
بعد. إذ إن البحث العلمي يتطلب مناخا سياسيا مواتيا، أساسه الإحساس بالحرية ونيل الحقوق والشعور بالأمن الاجتماعي والأمان النفسي، كما أن غياب التقدير الاجتماعي والاقتصادي للعالم بعد عاملا هاما من عوامل إحباطه وعدم قدرته على
الإبداع. إن نظرة بسيطة إلى المجتمعات العربية المعاصرة تؤكد أن المناخ السياسي والاجتماعي والتقدير الأدبي والمادي للعالم لا يزالان بعيدين عن توفير البيئة الملائمة للإبداع العلمي والتفوق التقني، فبالإضافة إلى غياب التقدير الاجتماعي للعلماء وللبحث العلمي من قبل المجتمع ككل، نجد أن حكومات الدول العربية لا تزال بعيدة عن إدراك الأهمية القصوى للبحث العلمي وتقدير المشتغلين به، ففي الوقت الذي تنفق فيه الدول الكبرى ما بين ٢ و ٤% من إجمال ناتجها القومي على عمليات توظيف البحث العلمي من أجل التنمية، نجد اتفاق دولنا لا يتعدى ٠.٣% على ضخامة الدخول القومية في الدول الكبرى وضالتها في الدول النامية. وعلى ذلك فإن مجموع إنفاق الدول النامية - ومنها دولنا العربية بالطبع لا يمثل أكثر من %١٫٦% من مجموع إنفاق دول العالم على عمليات البحث العلمي وتوظيفه في تطوير التنمية". فضلا عن الآلاف التي تعمل في مراكز البحث العلمي
المنتشرة في أرجاء بلاد عربية كثيرة؟!
ولعل خير من يجيب عن هذا التساؤل هو أنطوان زحلان الذي يعد من أبرز من تخصصوا في دراسة السياسة العلمية والتكنولوجية في الوطن العربي، فهو يقرر رغم إدراكه لوجود نحو ۳۰۰ وحدة للبحوث العلمية والإنماء في الوطن العربي، ورغم معرفته بوجود عشرات الجامعات العربية والزيادة المطردة في عددها باستمرار - أنه من المشكوك فيه إزاء هذا المستوى من الدعم المالي - الذي قدر متوسطه بتقدير متوسط الإنفاق المالي على هذه الجامعات وتلك المراكز، أن يكون في الإمكان التحدث عن بحث علمي أصيل، إذ لا يمكن لأحد أن ينجح في الاشتراك في نشاط علمي على هذه الأسس إلا إذا كان من ذوي القدرة الكبيرة على الإبداع والمثابرة".إن ما سبق يشير إلى جانب واحد فقط من الجوانب التي يمكن النظر من خلالها إلى الأسباب الداخلية للتخلف العلمي والتكنولوجي الذي يعاني منه الإنسان العربي أما الجانب الآخر فيتمثل في النظر فيما خلقته السياسات الحكومية العربية التي تصورت إمكانية التغلب على مشكلة التخلف العلمي والتكنولوجي عن طريق استيرادها من الغرب عبر قناتين؛ أولاهما اللجوء إلى الاستشارات العلمية الغربية للمساعدة في إقامة المشروعات الإنمائية زراعية كانت أم صناعية وثانيهما إرسال طلابها من المتفوقين في بعثات خارجية للجامعات الغربية. "
فماذا كانت نتيجة هذه السياسات؟
ومن شأن هذا الاحتكاك أن يكسب العلماء العرب الخبرة اللازمة لتحقيق التقدم المنشود. لكن الحقيقة أن الرياح أتت بما لا تشتهي السفن حيث أدت هذه السياسة - رغم ضرورتها الموضوعية وبعد مرور عدة عقود على إتباعها إلى تكريس التخلف وترسيخ أسبابه في البيئة المحلية العربية
فقد أدى ذلك إلى هدر الكثير من الأموال العربية التي كان يمكن استثمارها بطريقة أفضل، فقد قدرت دراسة حديثة حجم الخدمات الاستشارية التي قدمتها المكاتب والشركات الأجنبية في الدول العربية بحوالي ٣٣ مليار دولار امريكي في عام واحد هو عام ۱۹۷۹م. وأشارت نفس الدراسة إلى أن المنطقة العربية تمثل أهم سوق أجنبية للمكاتب الاستشارية في الولايات المتحدة الأمريكية، إذ تشمل ٣٥ بالمائة من صادرات الخدمات الاستشارية في مجال الإنشاءات وأعمال الهندسة المدنية، كما تحتل المنطقة العربية مرتبة متقدمة بالنسبة للخدمات الاستشارية اليابانية حيث توجه إليها نحو ثلث الصادرات
اليابانية من الخدمات الاستشارية الهندسية. وقد نقدر فداحة الأمر وضخامة الأموال التي تنفق على تلك الاستشارات إذا ما عرفنا أن حجمها يزداد عاما بعد عام نتيجة للاعتماد المتزايد عليها من قبل كل الدول العربية خاصة الغنية منها في معظم قطاعات
الإنتاج والنقل والمواصلات، بل في المدارس والجامعات.وفي هذا الصدد أجدني مدفوعا إلى القول بأن هدر الأموال العربية في جلب هذه الاستشارات غالبا مالا تؤدى المطلوب منها تماما، فالمقاييس التي بني عليها هذه الاستشارات إنما هي معايير لا تصلح إلا للتطبيق على البلدان التي
أنجبتها!
إن ما أقوله هنا ليس غريبا وإن بدا كذلك لأول وهلة فتجارب الأمم الأخرى قد أثبتت عدم جدوى الاعتماد المتزايد على مثل هذه الاستشارات الأجنبية، ولنا في التجربة اليابانية خير مثال؛ فاستراتيجية البحث العلمي والتكنولوجي اليابانية كما يروي ذلك اثنان من خبرائها - تقوم على التقليل من الاعتماد على التكنولوجيين الأجانب نظرا لأنهم غالبا ما ينظرون إلى التكنولوجيا المتاحة لهم على أنها الأكثر تفوقا وبناء على ذلك فإنهم يحضرونها في صفقات إجمالية إلى بلدان تختلف اختلافا كبيرا عن بلدانهم دون إخضاعها للتعديلات الضرورية، إذ أن لكل بلد أو موقع أوضاعا جغرافية ومناخية وموارد وأسعارا نسبية مختلفة . الخ
والحقيقة أن نظرة واحدة إلى المدن العربية الحديثة التي بنيت باستشارات أجنبية توضح ما أعنيه تماما وما أشار إليه خبراء اليابان فيما سبق، إذ سنجد في قلب الصحراء أبنية زجاجية وعمارات شاهقة، وأنماط أثاث لا تتلاءم مطلقا مع البيئة الصحراوية، ولا تتلاءم مع طبيعة سكانها ورغباتهم ومتطلباتهم.إن انعدام التناسق الجمالي في هذه الأبنية وغياب الطابع المحلي فيها، كلها مسائل لابد أن تلفت انتباه المختصين لأن استمرارها يعني فقدان الهوية المعمارية العربية الإسلامية الأصيلة.إن ذلك مجرد جانب واحد من جوانب كثيرة يجب أن تثير انتباه أنصار استمرار استيراد التكنولوجيا الغربية وتقليدها عبر استيراد مستشاريها دون مراعاة لسلبيات هذا الاتجاه التي أهمها ضياع الأموال وفقدان الهوية إن الأجدر بنا في هذا المجال أن تخصص الجزء الأكبر من الأموال التي تنفق على هذه الاستشارات الأجنبية للإنفاق على المؤسسات العلمية ومراكز البحث العلمي العربية لتتمكن من تطوير ذاتها وتحديث قدراتها لخدمة الاقتصاد
العربي مما سيؤدي شيئا فشيئا إلى تقليص الاعتماد على الشركات والمستشارين الأجانب في كل المجالات، ثم إلى التخلي عنهم نهائيا.أما فيما يتعلق بمسألة البعثات الخارجية فإنني أعتقد أنه قد أن أوان تقييم نتائجها بموضوعية، إذ أنه على الرغم من أهميتها في الوقت الحالي، خاصة أن معظم الدول العربية لا تزال تعاني من النقص الشديد في الخبرات العلمية القادرة على العطاء العلمي والتكنولوجي، إلا أنها ذات جوانب سلبية عديدة ينبغي النظر إليها بعين الاعتبار ودراستها دراسة متأنية.ومن هذه الجوانب ما يرتبط بما قلناه فيما سبق، فعدم الاهتمام بتوفير وسائل البحث العلمي من الأجهزة والمعدات المتطورة، والخدمات المكتبية والكوادر الفنية المساعدة . الخ، يؤدي إلى هجرة أعداد كبيرة من العلماء العرب الذين نرسلهم إلى الخارج ليتعلموا ولينقلوا إلينا ما تعلموه، فإذا بهم يستقرون في الخارج ويعملون بالدول والمراكز البحثية التي تعلموا فيها، وذلك لإحساسهم بأن ما تعلموه لن يجدوا السبيل إلى تطبيقه والاستفادة منه في بلدانهم، فضلا عن الإهمال وعدم التقدير الذى يتوقعون أنهم سيلاقونه إذا عادوا إلى أوطانهم!
ويكفي أن أشير هنا حتى ندرك مدى ما نخسره من كفاءات علمية مدربة وواعدة نتيجة لذلك إلى أنه منذ بداية الستينات وحتى منتصف السبعينات فقدت البلدان النامية قرابة الأربعمائة ألف متخصص رحلوا إلى الدول الصناعية الكبرى الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وبريطانيا)". وهذا الرقم لا يشير إلى كل الحقيقة لأنه أغفل بعض البلدان الصناعية التي تستقطب عددا كبيرا من هؤلاء العلماء المهاجرين مثل أستراليا وفرنسا. وقد أشار تقرير صدر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية إلى أن العقول المهاجرة من دول العالم الثالث إلى البلدان الثلاثة الكبرى المستفيدة من هجرة هذه العقول - أمريكا وكندا وبريطانيا في الفترة بين عامي ۱۹۷۱ - ۱۹۹۲ م تمثل خسارة للدول النامية تساوي إثنين وأربعين مليارا من الدولارات. وبالطبع فإن فقدن البلدان النامية لهؤلاء العلماء المهاجرين وخبراتهم العلمية يؤدي في النهاية إلى زيادة الفجوة التي تفصل هذه البلدان عن الدول الصناعية الكبرى اتساعا وعمقا، كما أن أخطر ما في هذا الأمر أنه يؤثر بالسلب على العلماء المقيمين في أوطانهم ويزعزع معنوياتهم، ولا شك أن أكثر ما يؤثر في نفسية العالم العربي الذي قضى عمره في خدمة وطنه بكل جدية وإخلاص واجتهاد أن يجد أن حكومته تقدر الخبرة الأجنبية التي اكتسبها ذلك العالم الذي هاجر وترك الوطن أكثر من تقديرها له!
وكلنا يعلم أن الانبهار لا يزال يصيبنا حينما نسمع عن نجاح عالم مصري أو عربي في الخارج، ونرد ذلك لا إلى عبقرية العقلية العربية وقدرتها على الإبداع إذا ما توافرت لها الإمكانيات، بل إلى ما تعلمه ونقله عن الغرب!! والغريب في الأمر أننا لا نزال نقيم هذا العالم العربي "المتفرنج" أو القادم من "بلاد الخواجات" تقييمات متضاربة؛ فمرة نقدره ونقيم خبرته وعلمه وجهده كما نقدرها للخبير الأجنبي الأمريكي أو الأوربي، ومرة ننظر إلى أصل جنسيته العربية فلا نقدره حق قدره وننظر إليه نظرة دونية وكم من قصص نسمعها كل يوم عن علماء عرب اكتسبوا جنسيات أجنبية وجاءوا إلى بلاد عربية غنية كخبراء أجانب فواجهتهم معاملة سيئة لا لشيء إلا لأن جنسيتهم الأصلية عربية !! فهل هناك أكثر من هذا إشارة ودلالة على أننا قد أصبنا " بعقدة الخواجة" التي أصبحت أكثر أمراضنا ضراوة وعنفا.إن فقداننا لهذه العقول العربية المهاجرة، وعدم تقديرها حينما تفكر في العودة إلينا في الوقت الذي تتنافس على استمالتها واجتذابها الدول الصناعية الكبرى ظاهرة تستحق الدراسة المتعمقة الواعية من قبل الاقتصاديين وعلماء الاجتماع وعلماء النفس
٢ - الأسباب الفكرية للتخلف العلمي
إننا إذا ما أردنا أن نلخص أسباب تخلفنا العلمي والتكنولوجي بعدما حللناها في الفقرات السابقة، وأن نرصدها من زاوية أكثر عمقا من خلال التحليل الفلسفي فعلينا أن نربط بين تلك الأسباب الجزئية السابق الإشارة إليها وبين الإطار الفكري الذي نمت فيه حينما اصطدم العرب في مطلع عصر نهضتهم الحديثة
بالتقدم الغربي.إن هذا الإطار الفكري يتمثل في موقف التلفيقيين العرب من مشكلة "الأصالة والمعاصرة"، حيث وقفوا موقفا وسطا بين الاتجاه السلفي الذي رفض الأخذ بمنجزات الحضارة التقنية الغربية بدعوى الاستقلال والحفاظ على الهوية العربية الإسلامية، وبين الاتجاه التقدمي أو العلماني الداعي إلى الأخذ بكل المنجزات العلمية والتكنولوجية بحجة أن دخول الحياة المعاصرة والمشاركة في العصر لا تكون إلا من باب العلم والتكنولوجيا الغريبين، وكان الموقف الثالث المترتب على هذين الموقفين المتطرفين" هو موقف هؤلاء التلفيقيين الذين حاولوا الجمع بين الموقفين السابقين على أساس أنه يمكن الحفاظ على هويتنا واستقلالنا الحضاري والفكري وفى نفس الوقت الأخذ بكل منتجات العلم والتكنولوجيا المعاصرين، أي أنهم جمعوا بين الموقفين المتطرفين من وجهة نظرهم كما يجمع المرء بين واحد وواحد فيكون الناتج رقما جديدا هو الإثنين فهل أحدث هذا الجمع بين الموقفين "المتطرفين" النتيجة المرجوة؟! بمعنى هل استطعنا بعد ما انتصر هذا الرأي التلفيقي في معظم البلدان العربية أن نعبر هوة التناقض المزعوم بين "الأصالة" و "المعاصرة"؟ وبعبارة أخرى هل نجحنا في تجاوز العداء المزعوم بين دعاة السلفية ودعاة المعاصرة؟ وهل نجحنا في تحويل تقدم "الآخر" أي الغرب إلى تقدم للانا أي تقدم للعرب؟!
إن الحقيقة الواضحة للعيان أن هذا الصراع بين تلك المواقف الثلاثة السابقة في الفكر العربي المعاصر وما نجم عنه من سيادة للموقف الثالث وهو الموقف التوفيقي نتيجة الترويج له بحجة أنه الموقف الوسط والإسلام دين الوسط وأنه الحل الضروري لمواجهة التقدم الغربي بالأخذ عنه دون أن نفقد ذاتنا وأصالتنا، الحقيقة أن هذا الصراع الذي انتهى إلى انتصار الموقف التوفيقي قد خلق اضطرابا قويا في العقلية العربية، فبدلا من أن تحل المشكلة ونتقدم عن طريق تجاوز الصراع بين الانغلاق بقصد الحفاظ على الهوية وبين التغريب والاستلاب والتبعية المطلقة، تعمقت المشكلة أكثر وأكثر، حيث أن ما حدث نتيجة سيادة هذا الموقف التوفيقي التلفيقي، هو أن العرب اقتصر دورهم ليدخلوا عصر العلم والتكنولوجيا على استيرادهما دون أن يحرصوا على المشاركة في إنتاجهما، ومن ثم فقد أدت هذه التكنولوجيا المتطورة التي استجلبت من الغرب إلى مزيد من الاضطراب في الذهنية العربية العامة وخصوصا في أوساط الفئات الوسطى. أما هذا الاضطراب فقد تجلى بنشوء نمط جديد من الشخصية الإنسانية تتحدد ملامحه الأساسية في أنه هجين و "الهجانة" هنا تقوم على غياب وحدة الشخصية المعنية أي على العجز عن امتلاك تلك التكنولوجيا بعمق وعن وضعها في سياق اجتماعي وسيكولوجي
متماسك".إن الشخصية العربية المعاصرة التي تعاني من هذا الاضطراب تفسخت ما بين الانبهار باقتناء هذه الأدوات والأجهزة التكنولوجية المتطورة، إن هذا التفسخ إنما يرجع في الواقع إلى أن استيراد هذه التكنولوجيا قد تم بعيدا عما كان ينبغي أن يوازيه على الصعيد الاجتماعي والسياسي والتنظيمي والنفسي من تقدم يمكن هؤلاء الأفراد من
امتلاك ناصية هذه الأجهزة التكنولوجية المتقدمة.إن تحول المجتمعات العربية إلى مجتمعات استهلاكية مستوردة قد أدى إلى خلل واضطراب عميق في الشخصية الفردية للإنسان العربي وكذلك في الشخصية العامة لتلك المجتمعات، إنه اضطراب يلخصه التناقض بين الإعجاب الشديد بهذه المنتجات والأجهزة التي يقتنيها الفرد دون معرفة الأسرار التفصيلية لإنتاجها وتشغيلها وكيفية صيانتها، وبين الرغبة الملحة في ضرورة إدراك كوامن هذه الثورة التكنولوجية المعاصرة واللحاق بها رغم العجز الذي يواجهه المرء حينما يحاول ذلك في ظل الإمكانيات المحدودة وعدم سماح الدول المنتجة للآخرين بامتلاك أسرار الإنتاج المتفوق لهذه
المنتجات التكنولوجية المتطورة.إن هذا الاضطراب على المستوى الشخصي وعلى المستوى العام يعبر عنه د. محي الدين صابر وهو أحد المتخصصين العرب في هذا الموضوع حينما يتحدث عما يسمى لدى البعض بضرورة الدخول في عملية اللحاق بالركب الحضاري فيقول: "إن هذا الأمر غير وارد على إطلاقه لأنه ليس من الممكن أن ينتظرنا القوم حتى تلحق بهم ليسيروا معنا ولأن التقدم يخلق التقدم وهو يسير بوتيرة متسارعة فسيظل التقدم أكثر سرعة وأوسع خطى من السرعة التي يمكن أن يحققها الساعون للمجد ولو جدوا فإن بين القوم المتقدمين وبين الشعوب النامية قرنين من الفوارق الحضارية، وهذان القرنان بالمقاييس المعاصرة هما قرون وقرون. وقد يقال أننا سوف نبدأ من حيث انتهوا ولذلك فإننا لن تبدأ من الصفر، وسوف تفيد من التجارب القائمة وهذا صحيح. ولكن هذه البداية مهما كانت من الصفر أو من النهاية فإن لها شروطا موضوعية وقدرة ذاتية لابد من استنباتها وامتلاكها. نحن نستطيع أن نمتلك جسد التقدم نشتريه بالمال، ولكننا لا نملك روحه، لا نستطيع أن ننتجه وأن نكرره وعلينا أن نشتريه في كل مرة، فنشتري أحدث السيارات ونغيرها كل عام وندفع ثمنها. ولكنا لا تستطيع أن تصنع واحدة منها مهما كان مستواها وهكذا".لقد عبرت هذه الكلمات البسيطة المعنى عميقة المغزى عن مقدار ما يعانيه الإنسان العربي من قلق فكري واضطراب نفسي ومعاناة إزاء استيراد التكنولوجيا المعاصرة وعدم قدرته على متابعتها وامتلاكها
وإذا ما تركنا التنظير الفكري وانتقلنا إلى استكشاف واقع العلوم والتكنولوجيا في الوطن العربي من خلال المسح التجريبي والدراسة العلمية الموضوعية لوجدنا أن نتائج الدراسات التجريبية الموضوعية تؤكد نفس ما ذهب إليه المنظرون. وهذا ما أظهرته خلاصة التقرير العام الذي أعدته اللجنة التي شكلها المؤتمر العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم لوضع استراتيجية لتطوير العلوم والتقانة في الوطن العربي، حيث خلصت اللجنة في دراستها للواقع العلمي والتكنولوجي في الوطن العربي إلى نتائج أهمها:
وأن إقامة أهم المشاريع الإنمائية تعتمد على التقانات المستوردة وتتم إلى حد كبير بمعزل عن منظومات العلوم والتقانة العربية الأمر الذي يفقد هذه الأخيرة عناصر أساسية ضرورية لتقدمها. وأن البيئة المحيطة الاقتصادية منها والاجتماعية مازالت منخفضة المستوى علميا وتقانيا واقتصاديا وبالتالي فهي غير قادرة على التفاعل الشديد مع العلوم والتقانة. كما أن ارتباط أنشطة العلم والتقانة العربية بالحاجات الاقتصادية
الفعلية ولا سيما بالصناعة ضعيفا وما يزال".والناظر في هذه النتائج التي رصدها هذا التقرير الهام عن واقع العلوم والتكنولوجيا في الوطن العربي، يتأكد له ما سبق أن أشرنا إليه عن أن العقلية العربية المعاصرة ما تزال بعيدة عن امتلاك ناصية العلوم والتكنولوجيا، وأنها لا تزال تكتفى باستيرادهما، حيث أن معظم المؤسسات العربية سواء المؤسسات الخاصة أو التابعة للدول لا تزال تأبى الاستفادة مما هو موجود فعلا من خبرات تكنولوجية وعلمية في الوطن العربي مفضله عليه الاستعانة بالخبرات الأجنبية مما يقلل من فرص التقدم والتطور لهذه الخبرات العربية ويعدم ثقتها في نفسها وفي إمكانية أن يستفيد منها الوطن العربي في الحاضر وفي المستقبل وعلى كل حال، فإن إدراكنا للأسباب الحقيقية للتخلف العلمي والتكنولوجي الراهن، وإدراكنا لمدى ما نعيشه من تناقضات تتراوح بين الإحساس بالاغتراب أمام المنتجات التكنولوجية الحديثة، وبين الشعور بالإحباط إزاء إمكانية امتلاكها يعني أننا نعي المشكلات الأساسية التي يلزم علينا مواجهتها. إن مواجهة هذه المشكلات لن يكون إلا بالإصرار على امتلاك وتوفير كل الشروط الموضوعية اللازمة لهذه المواجهة سواء كانت فكرية أو اقتصادية أوسياسية أو اجتماعية في نفس الوقت. الخ، وليس في الأمر ما يدير العجب، إذ إن المواجهة التي ننشدها تقتضى تضافر هذه الشروط اللازمة للتطور مجتمعة، فماذا يمكن أن يفيد توفير المناخ الفكري الملائم لتبني هذه القضية - وقد حدث هذا فعلا في الكثير من الدراسات والمقالات والكتب في السنوات العشرين الأخيرة - دون أن يكون لدى المسئولين السياسيين رغبة حقيقية في تبني هذه القضية؟! وماذا يجدي تبني المسئولون السياسيون لهذه القضية إذا لم تتوافر لهم الإمكانيات المادية (أقصد الأموال اللازمة لتوفير الرعاية الكاملة المتكاملة للمشروعات البحثية والعلماء القائمين عليها فضلا
عن تقديم الضمانات للمؤسسات التي تقوم بالمشروعات الإنمائية التي تتطلب خبرات تكنولوجية ويلزم أن تستعين بهذه الخبرات المحلية؟!
لابد إذن من المواجهة الشاملة لكل أسباب تخلفنا في ميدان إنتاج العلم وتطبيقاته التكنولوجية دفعة واحدة وعلى كل المستويات وباستراتيجية عربية واحدة موحدة. وهنا نصل إلى السؤال الهام عن كيفية هذه المواجهة لأسباب التخلف العلمي والتكنولوجي؟ ومن ثم نكون قد اقتربنا من السؤال الأكثر أهمية،عن كيفية العودة إلى المشاركة الفعلية والفاعلة في صناعة العلم والتكنولوجيا في العصر الحاضر ؟!
د - طريق المواجهة الشاملة لأسباب التخلف العلمي والتكنولوجي
إن ما أثير فيما سبق يؤكد لنا حقيقة هامة إذا لم ندركها فقدنا الطريق وعجزنا عن تحقيق الهدف، هدف الامتلاك الفعلي للعلم والتكنولوجيا. وهذه الحقيقة هي: أن مسألة تبني العلوم والتكنولوجيا بصورتهما الغربية من قبل المجتمع العربي في العصر الحاضر دون أن تحدث تحولات فكرية واقتصادية وسياسية واجتماعية موازية أمر يسبب الكثير من الاضطراب والإحباط للعقلية العربية ويشعرها بالعجز الدائم أمام إمكانية التقدم واللحاق بالركب الحضاري المعاصر.إن إدراكنا لهذه الحقيقة والوعي بها يعني - إذا ما رافق هذا الوعي الرغبة الصادقة في الفعل والقدرة على التنفيذ - إمكانية التغلب على كافة المشكلات التي عبرت عنها وكذلك المشكلات المترتبة عليها. ولكن كيف تتوافر لدينا امكانية التغلب على تلك المشكلات ؟!
أولا: إن هذه الإمكانية تتولد عبر مقولة يطرحها .د. طيب تيزيني مؤداها ضرورة تسييس عملية تبني إدخال التكنولوجيا إلى المجتمع العربي". وهذه المقولة تعني ضرورة وضع التكنولوجيا في سياق الاحتياجات الداخلية للمجتمع العربي بحيث تنبثق هذه التكنولوجيا وتعبر عن قوانين تطور هذا المجتمع بحيث يقوده الموقف إلى إحداث تطابق نسبي بين البنى الاجتماعية الاقتصادية والسياسية من طرف، وما يترتب عليها من وضعيات فكرية وأخلاقية وعلمية
وسلوكية من طرف آخر".إن ما تطرحه هذه المقولة هو ببساطة ضرورة الا تنفصل عملية إدخال التكنولوجيا إلى العالم العربي عن السياسة التي نتبناها البلدان العربية، بمعنى أن تتوحد سياسات الدولة العربية إزاء هذه القضية، بشرط أن تكون هذه السياسة متكاملة أي تتكامل فيها العناصر المشار إليها أنفا، من تمهيد الطريق لنقل هذه التكنولوجيا لدى الإنسان العربي العادي، إلى توفير كافة الإمكانات المطلوبة للعلماء المتخصصين حتى تنمو القدرة الذاتية للعالم العربي فلا يتوقف إبداعه عند حد فهم التكنولوجيا الغربية واستيعابها، بل يتجاوز ذلك إلى المنافسة والتفوق من واقع إدراكه لمشكلات بيئته التي تتطلب تكنولوجيا من نوع معين، وتلبيته
ثانيا: ومن جانب آخر فإن ما ينبغي التأكيد عليه هو أن التكنولوجيا في أي مجتمع لا تنفصل عن الدراسات العلمية النظرية القائمة فيه وعن القدرات التنبؤية والإبداعية التي يمتلكها علماؤه. ومن ثم فإن من الخطأ أن نتصور أن نجاحنا في استنبات التكنولوجيا المعاصرة وامتلاكها بالمعنى العميق الذي أشرنا إليه فيما سبق يعني أننا حققنا التقدم المنشود، فالتقدم المنشود ينبغي أن يقوم على تطوير العلم النظري نفسه وتشجيع المتخصصين فيه وتوفير كافة الموارد والإمكانيات المادية والمعملية وكافة الأجهزة التي تحقق لهم الاستقرار والإبداع ومواصلة الكشوف النظرية، ويأتي بعد ذلك الاهتمام بمجالات تطبيق هذه البحوث النظرية لهؤلاء العلماء سواء قاموا هم بتطبيقها أو قام غيرهم بذلك. إن أكبر خطأ نرتكبه في عالمنا العربي المعاصر هو أن تركز على دراسة التكنولوجيا وتطبيقاتها ونواتجها دون أن يتواكب مع ذلك أو يسبقه التركيز على التقدم العلمي على المستوى النظري.ونواتجها التكنولوجية بصورة جيدة.وتجدر الإشارة هنا إلى أن انتشار ظاهرة تأسيس المعاهد التكنولوجية أو ما يسمى أحيانا بمعاهد التقنية العليا والتقنية هي الكلمة العربية المقابلة للتكنولوجيا والاهتمام بها على حساب الكليات العلمية التقليدية والأكاديميات البحثية المتخصصة بعد مؤشرا إلى أننا نسير في الاتجاه الخطأ، واعتقد أن تطوير الكليات العلمية ومراكز البحث العلمي المعنية قد يكون أكثر فائدة وأعظم تأثيرا على المدى البعيد، إذ ما فائدة أن تربي فني ماهر قادر على استخدام جهاز الحاسب الآلي دون أن يعرف أي شيء عن النظرية التي بني على أساسها أو عن كيفية تركيب هذا الجهاز وكيفية إصلاحه وما فائدة أن تربي فني ماهر في ميكانيكا السيارات أو الطائرات دون أن يكون لدينا من يعرف النظريات العلمية التي بنيت على أساسها هذه المخترعات إن الفنيين والتقنيين لهم أهميتهم ولا أحد يشكك في ذلك، فضلا عن استطاعته اكتشاف مثيلاتها والمزيد منها وقت الضرورة وفي مراحل لاحقة إذا توافرت له الإمكانيات البحثية والمادية الضرورية لذلك.ولعل من المناسب هنا أن نعرف التمييز الدقيق بين العلم والتكنولوجيا والعلاقة بينهما قديما وحديثا حتى تتضح أمامنا الصورة كاملة.إن أبسط ما ينبغي أن نعرفه في هذا المجال هو أن العلم معرفة نظرية والتكنولوجيا ما هي إلا تطبيق لهذه المعرفة النظرية في مجال العمل البشري".وأن التكنولوجيا ليست اكتشافا حديثا كما يظن البعض بل إنها باعتبارها تمثل المهارة التقنية للإنسان في العمل اليدوي والابتكاري العملي قديمة قدم الإنسان، إنسان الشرق القديم، لأن التكنولوجيا تعني الاختراع المترتب على الحاجة العملية والحاجات العملية جعلت الإنسان يبتكر كل ما يساعده على حياته تحت اي ظروف بيئية يعيش فيها باستمرار، فالحاجة إذن - كما يقول المثل العربي هي أم الاختراع". وبالتالي كانت التكنولوجيا في الزمن القديم وإلى وقت
قريب دافعة للعلم وسابقة عليه، ولكن الأمر تغير في العصر الحالي وأصبحت التكنولوجيا في معظم الأحيان تابعة للعلم وتالية له.إن نقطة الانطلاق في التطور الإنساني المعاصر تكمن منذ مطلع العصر الحديث في أوربا في استخدام العلم للأغراض التكنولوجية بحيث لا تترك الكشوف التكنولوجية لبراعة الصانع الشخصية أو تدريبه الفعال وإنما تعتمد على نظرية علمية مؤكدة. ولعل الأمر الذي يسبب الاضطراب الحالي في العلاقة بين العلم والتكنولوجيا والتضارب في ترتيب أولوية أحدهما على الآخر هو أن المسافة الزمنية بين ظهور البحث العلمي واكتشاف تطبيقاته العلمية التكنولوجية قد قلت إلى حد كبير في عصرنا الحالي. وخلاصة ما أود أن أؤكده هنا هو أن العلم أصبح في عصرنا الحالي هو الأساس المؤكد لكل تحول تكنولوجي، وأن ما يقوم به الصانع المخترع أصبح يقوم به الآن عالم
متخصص.ومن هنا وجب أن ندرك أن العلم والتكنولوجيا الآن قد أصبحا حليفين وشهدا تداخلا واضحا زالت معه الحواجز الزمنية التي كانت تفصل بينهما حتى القرن الماضي، ومن ثم فإن علينا أن ندرك أيضا خطورة ما ينادي به البعض من أننا نحتاج للتطبيقات التكنولوجية وللماهرين فيها فقط؛ فالمهارة التكنولوجية لا تنفصل عن العلم النظري في عالم اليوم، كما أنهما أصبحا من اختصاص العلماء المؤهلين تأهيلا عاليا في الكليات العلمية ذات الإمكانيات البحثية
المتطورة.ولعل من المناسب هنا كذلك أن ننبه إلى خطورة ما تروج له بعض الدوائر الدعائية الغربية والصهيونية، حول إمكانية التكامل بين القدرات العربية البشرية والمادية وبين العبقرية العلمية الصهيونية المدعمة بالتكنولوجيا
الأمريكية المتقدمة لخلق حضارة عربية جديدة.إن هذه الدعوة بما تطرحه من معادلة خطيرة سبق أن ترددت وطرحها بعض السياسيين في الوطن العربي، وبعض المفكرين المتغربين والتلفيقيين الذين
تأثروا بهذه الدعايات الغربية الصهيونية
أما المعادلة التي تروج لها هذه الدعوة فهي:
قدرات عربية نفطية مالية وبشرية + عبقرية يهودية صهيونية + تكنولوجيا أمريكية - حضارة عربية من طراز جديد.إنها معادلة خطيرة يتصور البعض خطأ أنها يمكن أن تحل مشكلة العلاقة بين "التخلف العربي" و "التقدم الغربي" في عصرنا الحالي. والواقع أنها معادلة تكرس هذا التخلف وتحول الإنسان العربي إلى ممول أو عامل لخدمة الهيمنة الغربية التي تعد إسرائيل أداتها ورأس حربتها في المنطقة العربية.إن مكمن الخطأ في الترويج لهذه المعادلة من قبل السياسيين أو المفكرين العرب، هو العجز عن إدراك أن التخلف العربي مسألة لا يمكن تداركها مطلقا عن طريق الاعتماد على الغير،


Original text


  • الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية


إن أسباب تخلفنا المعاصر بالطبع لا تنفصل عن الأسباب السابقة لأن الماضي موصول بالحاضر. وقد شغل المفكرون العرب كثيرا بالكتابة عن هذه الأسباب وتحليلها، وقد دارت تحليلاتهم حول الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أدت إلى هذا التخلف العلمي، وميزوا في إطار ذلك بين عوامل خارجية فعلت فعلها المدير سلفا من قبل دول الاستعمار الغربية وعوامل داخلية ساعدت على ترسيخ هذا التخلف الذي يتصورون أنه فرض


علينا فرضا.


أما العامل الخارجي الذي يركزون عليه فهو الاستعمار الغربي للبلدان العربية. إن هذا الاستعمار رغم ما صاحبه من دعاية إعلامية مكثفة حول أنه جاء لتحديث وتمدين البلدان العربية وإدخالها في زمرة الدول العلمية المتحضرة إلا أن الواقع الذي حدث يكذب ذلك، حيث أدى هذا الاستعمار برغم ما أحدثه من تحديث جزئي لبعض المرافق والهيئات والأفراد الذي استهدف في المقام الأول خدمة المستعمر نفسه إلى تمزيق البلاد العربية والإسلامية وإضعاف مقدراتها الذاتية، وربط هذه المقدرات وتلك الإمكانيات بعجلة التقدم الغربي الخدمة أهدافه التوسعية الاحتكارية. وقد بدا هذا واضحا بعد ما حصلت هذه الدول على استقلالها، فقد حصلت على الاستقلال السياسي نسبيا لكنها لم تحصل مطلقا على الاستقلال الاقتصادي فضلا عما غرسه الاستعمار الغربي من قيم وعادات غربية في المجتمعات العربية مما سهل التبعية العربية العربي هو غربي، ورسخ في الذهنية العربية مسألة التفوق الغربي الذي لا يمكن


اللحاق به أو التفوق عليه.


ادى كل ذلك إلى بقاء الدول العربية على حالها التي تركها عليها الاستعمار في معظم المناطق حيث ظل تضارب المصالح بين الدول والشعوب العربية هو الأمر السائد - رغم محاولات الوحدة التي وجدت على السطح وسرعان مازالت وذلك لأن مصالح معظم هذه الدول ظلت مرتبطة وتابعة للدول التي استعمرتها من قبل بشكل أو بآخر. ومن ثم فقد دمرت البنية الاقتصادية المستقلة لهذه الدول سواء البنية الخاصة بكل دولة على حدة أو البنية التي يمكن أن تتوحد وتتكامل بينها جميعا. وباختصار، فقد ترك المستعمرون الدول العربية والإسلامية في حالة يصعب فيها أن تتغلب عوامل الوحدة والتكامل الاقتصادي والسياسي والعلمي... الخ على عوامل التفكك والانهيار والتبعية.


وبالطبع فإن هذا العامل الخارجي لم يكن هو العامل الحاسم في التخلف العربي المعاصر إذ كان يمكن لعناصر المقاومة الداخلية لو توافر لأعضائها الدافعية و الإيجابية أن تفعل فعلها في الحفاظ على الهوية العلمية والثقافية وتنصر عوامل التقدم على عوامل التخلف والضعف لولا أن تضافر مع هذا العامل الخارجي التخريبي عوامل داخلية كثيرة لم يتداركها المجتمع العربي المعاصر


بعد.


إن أبرز هذه العوامل الداخلية التي ساهمت في ترسيخ التخلف العلمي ذلك الاستبداد السياسي الذي يعاني منه الإنسان العربي المعاصر، إذ إن البحث العلمي يتطلب مناخا سياسيا مواتيا، أساسه الإحساس بالحرية ونيل الحقوق والشعور بالأمن الاجتماعي والأمان النفسي، كما أن غياب التقدير الاجتماعي والاقتصادي للعالم بعد عاملا هاما من عوامل إحباطه وعدم قدرته على
الإبداع. إن نظرة بسيطة إلى المجتمعات العربية المعاصرة تؤكد أن المناخ السياسي والاجتماعي والتقدير الأدبي والمادي للعالم لا يزالان بعيدين عن توفير البيئة الملائمة للإبداع العلمي والتفوق التقني، فبالإضافة إلى غياب التقدير الاجتماعي للعلماء وللبحث العلمي من قبل المجتمع ككل، نجد أن حكومات الدول العربية لا تزال بعيدة عن إدراك الأهمية القصوى للبحث العلمي وتقدير المشتغلين به، ففي الوقت الذي تنفق فيه الدول الكبرى ما بين ٢ و ٤% من إجمال ناتجها القومي على عمليات توظيف البحث العلمي من أجل التنمية، نجد اتفاق دولنا لا يتعدى ٠.٣% على ضخامة الدخول القومية في الدول الكبرى وضالتها في الدول النامية. وعلى ذلك فإن مجموع إنفاق الدول النامية - ومنها دولنا العربية بالطبع لا يمثل أكثر من %١٫٦% من مجموع إنفاق دول العالم على عمليات البحث العلمي وتوظيفه في تطوير التنمية".


وقد يسأل سائل هنا كيف ذلك ونحن نلمح هذا الكم الكبير من الجامعات في مصر والوطن العربي والتي يتخرج منها مئات الآلاف من المتخصصين العلميين في كل عام، فضلا عن الآلاف التي تعمل في مراكز البحث العلمي


المنتشرة في أرجاء بلاد عربية كثيرة؟!


ولعل خير من يجيب عن هذا التساؤل هو أنطوان زحلان الذي يعد من أبرز من تخصصوا في دراسة السياسة العلمية والتكنولوجية في الوطن العربي، فهو يقرر رغم إدراكه لوجود نحو ۳۰۰ وحدة للبحوث العلمية والإنماء في الوطن العربي، ورغم معرفته بوجود عشرات الجامعات العربية والزيادة المطردة في عددها باستمرار - أنه من المشكوك فيه إزاء هذا المستوى من الدعم المالي - الذي قدر متوسطه بتقدير متوسط الإنفاق المالي على هذه الجامعات وتلك المراكز، أن يكون في الإمكان التحدث عن بحث علمي أصيل، إذ لا يمكن لأحد أن ينجح في الاشتراك في نشاط علمي على هذه الأسس إلا إذا كان من ذوي القدرة الكبيرة على الإبداع والمثابرة".
إن ما سبق يشير إلى جانب واحد فقط من الجوانب التي يمكن النظر من خلالها إلى الأسباب الداخلية للتخلف العلمي والتكنولوجي الذي يعاني منه الإنسان العربي أما الجانب الآخر فيتمثل في النظر فيما خلقته السياسات الحكومية العربية التي تصورت إمكانية التغلب على مشكلة التخلف العلمي والتكنولوجي عن طريق استيرادها من الغرب عبر قناتين؛ أولاهما اللجوء إلى الاستشارات العلمية الغربية للمساعدة في إقامة المشروعات الإنمائية زراعية كانت أم صناعية وثانيهما إرسال طلابها من المتفوقين في بعثات خارجية للجامعات الغربية. "


فماذا كانت نتيجة هذه السياسات؟


لقد كان أمل الحكومات العربية أن تحقق من خلالها تقدما تكنولوجيا سريعا على أساس أن هاتين القناتين سيولدان احتكاكا مباشرا بين العلميين الغربيين والعلميين العرب، ومن شأن هذا الاحتكاك أن يكسب العلماء العرب الخبرة اللازمة لتحقيق التقدم المنشود. لكن الحقيقة أن الرياح أتت بما لا تشتهي السفن حيث أدت هذه السياسة - رغم ضرورتها الموضوعية وبعد مرور عدة عقود على إتباعها إلى تكريس التخلف وترسيخ أسبابه في البيئة المحلية العربية


ففيما يتعلق باستقدام الخبراء والشركات الأجنبية لتقديم الاستشارات والقيام ببعض المشروعات لصالح المؤسسات العربية حكومية كانت أو تابعة للقطاع الخاص، فقد أدى ذلك إلى هدر الكثير من الأموال العربية التي كان يمكن استثمارها بطريقة أفضل، فقد قدرت دراسة حديثة حجم الخدمات الاستشارية التي قدمتها المكاتب والشركات الأجنبية في الدول العربية بحوالي ٣٣ مليار دولار امريكي في عام واحد هو عام ۱۹۷۹م. وأشارت نفس الدراسة إلى أن المنطقة العربية تمثل أهم سوق أجنبية للمكاتب الاستشارية في الولايات المتحدة الأمريكية، إذ تشمل ٣٥ بالمائة من صادرات الخدمات الاستشارية في مجال الإنشاءات وأعمال الهندسة المدنية، كما تحتل المنطقة العربية مرتبة متقدمة بالنسبة للخدمات الاستشارية اليابانية حيث توجه إليها نحو ثلث الصادرات
اليابانية من الخدمات الاستشارية الهندسية.
وبالطبع فتلك البيانات تمثل نموذجا لبعض القطاعات التي تستجلب لها الاستشارات الأجنبية. وقد نقدر فداحة الأمر وضخامة الأموال التي تنفق على تلك الاستشارات إذا ما عرفنا أن حجمها يزداد عاما بعد عام نتيجة للاعتماد المتزايد عليها من قبل كل الدول العربية خاصة الغنية منها في معظم قطاعات


الإنتاج والنقل والمواصلات، بل في المدارس والجامعات.


وفي هذا الصدد أجدني مدفوعا إلى القول بأن هدر الأموال العربية في جلب هذه الاستشارات غالبا مالا تؤدى المطلوب منها تماما، فالمقاييس التي بني عليها هذه الاستشارات إنما هي معايير لا تصلح إلا للتطبيق على البلدان التي


أنجبتها!


إن ما أقوله هنا ليس غريبا وإن بدا كذلك لأول وهلة فتجارب الأمم الأخرى قد أثبتت عدم جدوى الاعتماد المتزايد على مثل هذه الاستشارات الأجنبية، ولنا في التجربة اليابانية خير مثال؛ فاستراتيجية البحث العلمي والتكنولوجي اليابانية كما يروي ذلك اثنان من خبرائها - تقوم على التقليل من الاعتماد على التكنولوجيين الأجانب نظرا لأنهم غالبا ما ينظرون إلى التكنولوجيا المتاحة لهم على أنها الأكثر تفوقا وبناء على ذلك فإنهم يحضرونها في صفقات إجمالية إلى بلدان تختلف اختلافا كبيرا عن بلدانهم دون إخضاعها للتعديلات الضرورية، مما يؤدي إلى أن تفشل هناك في أداء مهمتها بنجاح، إذ أن لكل بلد أو موقع أوضاعا جغرافية ومناخية وموارد وأسعارا نسبية مختلفة ... الخ
والحقيقة أن نظرة واحدة إلى المدن العربية الحديثة التي بنيت باستشارات أجنبية توضح ما أعنيه تماما وما أشار إليه خبراء اليابان فيما سبق، إذ سنجد في قلب الصحراء أبنية زجاجية وعمارات شاهقة، وأنماط أثاث لا تتلاءم مطلقا مع البيئة الصحراوية، ولا تتلاءم مع طبيعة سكانها ورغباتهم ومتطلباتهم.
إن انعدام التناسق الجمالي في هذه الأبنية وغياب الطابع المحلي فيها، فضلا عن عدم ملاءمتها للبيئة وظروف الطقس، كلها مسائل لابد أن تلفت انتباه المختصين لأن استمرارها يعني فقدان الهوية المعمارية العربية الإسلامية الأصيلة.
إن ذلك مجرد جانب واحد من جوانب كثيرة يجب أن تثير انتباه أنصار استمرار استيراد التكنولوجيا الغربية وتقليدها عبر استيراد مستشاريها دون مراعاة لسلبيات هذا الاتجاه التي أهمها ضياع الأموال وفقدان الهوية إن الأجدر بنا في هذا المجال أن تخصص الجزء الأكبر من الأموال التي تنفق على هذه الاستشارات الأجنبية للإنفاق على المؤسسات العلمية ومراكز البحث العلمي العربية لتتمكن من تطوير ذاتها وتحديث قدراتها لخدمة الاقتصاد
العربي مما سيؤدي شيئا فشيئا إلى تقليص الاعتماد على الشركات والمستشارين الأجانب في كل المجالات، ثم إلى التخلي عنهم نهائيا.
أما فيما يتعلق بمسألة البعثات الخارجية فإنني أعتقد أنه قد أن أوان تقييم نتائجها بموضوعية، إذ أنه على الرغم من أهميتها في الوقت الحالي، خاصة أن معظم الدول العربية لا تزال تعاني من النقص الشديد في الخبرات العلمية القادرة على العطاء العلمي والتكنولوجي، إلا أنها ذات جوانب سلبية عديدة ينبغي النظر إليها بعين الاعتبار ودراستها دراسة متأنية.
ومن هذه الجوانب ما يرتبط بما قلناه فيما سبق، فعدم الاهتمام بتوفير وسائل البحث العلمي من الأجهزة والمعدات المتطورة، والخدمات المكتبية والكوادر الفنية المساعدة ... الخ، يؤدي إلى هجرة أعداد كبيرة من العلماء العرب الذين نرسلهم إلى الخارج ليتعلموا ولينقلوا إلينا ما تعلموه، فإذا بهم يستقرون في الخارج ويعملون بالدول والمراكز البحثية التي تعلموا فيها، وذلك لإحساسهم بأن ما تعلموه لن يجدوا السبيل إلى تطبيقه والاستفادة منه في بلدانهم، فضلا عن الإهمال وعدم التقدير الذى يتوقعون أنهم سيلاقونه إذا عادوا إلى أوطانهم!
ويكفي أن أشير هنا حتى ندرك مدى ما نخسره من كفاءات علمية مدربة وواعدة نتيجة لذلك إلى أنه منذ بداية الستينات وحتى منتصف السبعينات فقدت البلدان النامية قرابة الأربعمائة ألف متخصص رحلوا إلى الدول الصناعية الكبرى الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وبريطانيا)". وهذا الرقم لا يشير إلى كل الحقيقة لأنه أغفل بعض البلدان الصناعية التي تستقطب عددا كبيرا من هؤلاء العلماء المهاجرين مثل أستراليا وفرنسا. وقد أشار تقرير صدر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية إلى أن العقول المهاجرة من دول العالم الثالث إلى البلدان الثلاثة الكبرى المستفيدة من هجرة هذه العقول - أمريكا وكندا وبريطانيا في الفترة بين عامي ۱۹۷۱ - ۱۹۹۲ م تمثل خسارة للدول النامية تساوي إثنين وأربعين مليارا من الدولارات. وبالطبع فإن فقدن البلدان النامية لهؤلاء العلماء المهاجرين وخبراتهم العلمية يؤدي في النهاية إلى زيادة الفجوة التي تفصل هذه البلدان عن الدول الصناعية الكبرى اتساعا وعمقا، وبالتالي تؤدي إلى زيادة تخلفها وتعوق مجالات التنمية فيها. كما أن أخطر ما في هذا الأمر أنه يؤثر بالسلب على العلماء المقيمين في أوطانهم ويزعزع معنوياتهم، ولا شك أن أكثر ما يؤثر في نفسية العالم العربي الذي قضى عمره في خدمة وطنه بكل جدية وإخلاص واجتهاد أن يجد أن حكومته تقدر الخبرة الأجنبية التي اكتسبها ذلك العالم الذي هاجر وترك الوطن أكثر من تقديرها له!


وكلنا يعلم أن الانبهار لا يزال يصيبنا حينما نسمع عن نجاح عالم مصري أو عربي في الخارج، ونرد ذلك لا إلى عبقرية العقلية العربية وقدرتها على الإبداع إذا ما توافرت لها الإمكانيات، بل إلى ما تعلمه ونقله عن الغرب!! والغريب في الأمر أننا لا نزال نقيم هذا العالم العربي "المتفرنج" أو القادم من "بلاد الخواجات" تقييمات متضاربة؛ فمرة نقدره ونقيم خبرته وعلمه وجهده كما نقدرها للخبير الأجنبي الأمريكي أو الأوربي، ومرة ننظر إلى أصل جنسيته العربية فلا نقدره حق قدره وننظر إليه نظرة دونية وكم من قصص نسمعها كل يوم عن علماء عرب اكتسبوا جنسيات أجنبية وجاءوا إلى بلاد عربية غنية كخبراء أجانب فواجهتهم معاملة سيئة لا لشيء إلا لأن جنسيتهم الأصلية عربية !! فهل هناك أكثر من هذا إشارة ودلالة على أننا قد أصبنا " بعقدة الخواجة" التي أصبحت أكثر أمراضنا ضراوة وعنفا.إن فقداننا لهذه العقول العربية المهاجرة، وعدم تقديرها حينما تفكر في العودة إلينا في الوقت الذي تتنافس على استمالتها واجتذابها الدول الصناعية الكبرى ظاهرة تستحق الدراسة المتعمقة الواعية من قبل الاقتصاديين وعلماء الاجتماع وعلماء النفس
٢ - الأسباب الفكرية للتخلف العلمي
إننا إذا ما أردنا أن نلخص أسباب تخلفنا العلمي والتكنولوجي بعدما حللناها في الفقرات السابقة، وأن نرصدها من زاوية أكثر عمقا من خلال التحليل الفلسفي فعلينا أن نربط بين تلك الأسباب الجزئية السابق الإشارة إليها وبين الإطار الفكري الذي نمت فيه حينما اصطدم العرب في مطلع عصر نهضتهم الحديثة
بالتقدم الغربي.
إن هذا الإطار الفكري يتمثل في موقف التلفيقيين العرب من مشكلة "الأصالة والمعاصرة"، حيث وقفوا موقفا وسطا بين الاتجاه السلفي الذي رفض الأخذ بمنجزات الحضارة التقنية الغربية بدعوى الاستقلال والحفاظ على الهوية العربية الإسلامية، وبين الاتجاه التقدمي أو العلماني الداعي إلى الأخذ بكل المنجزات العلمية والتكنولوجية بحجة أن دخول الحياة المعاصرة والمشاركة في العصر لا تكون إلا من باب العلم والتكنولوجيا الغريبين، وكان الموقف الثالث المترتب على هذين الموقفين المتطرفين" هو موقف هؤلاء التلفيقيين الذين حاولوا الجمع بين الموقفين السابقين على أساس أنه يمكن الحفاظ على هويتنا واستقلالنا الحضاري والفكري وفى نفس الوقت الأخذ بكل منتجات العلم والتكنولوجيا المعاصرين، أي أنهم جمعوا بين الموقفين المتطرفين من وجهة نظرهم كما يجمع المرء بين واحد وواحد فيكون الناتج رقما جديدا هو الإثنين فهل أحدث هذا الجمع بين الموقفين "المتطرفين" النتيجة المرجوة؟! بمعنى هل استطعنا بعد ما انتصر هذا الرأي التلفيقي في معظم البلدان العربية أن نعبر هوة التناقض المزعوم بين "الأصالة" و "المعاصرة"؟ وبعبارة أخرى هل نجحنا في تجاوز العداء المزعوم بين دعاة السلفية ودعاة المعاصرة؟ وهل نجحنا في تحويل تقدم "الآخر" أي الغرب إلى تقدم للانا أي تقدم للعرب؟!
إن الحقيقة الواضحة للعيان أن هذا الصراع بين تلك المواقف الثلاثة السابقة في الفكر العربي المعاصر وما نجم عنه من سيادة للموقف الثالث وهو الموقف التوفيقي نتيجة الترويج له بحجة أنه الموقف الوسط والإسلام دين الوسط وأنه الحل الضروري لمواجهة التقدم الغربي بالأخذ عنه دون أن نفقد ذاتنا وأصالتنا، الحقيقة أن هذا الصراع الذي انتهى إلى انتصار الموقف التوفيقي قد خلق اضطرابا قويا في العقلية العربية، فبدلا من أن تحل المشكلة ونتقدم عن طريق تجاوز الصراع بين الانغلاق بقصد الحفاظ على الهوية وبين التغريب والاستلاب والتبعية المطلقة، تعمقت المشكلة أكثر وأكثر، حيث أن ما حدث نتيجة سيادة هذا الموقف التوفيقي التلفيقي، هو أن العرب اقتصر دورهم ليدخلوا عصر العلم والتكنولوجيا على استيرادهما دون أن يحرصوا على المشاركة في إنتاجهما، ومن ثم فقد أدت هذه التكنولوجيا المتطورة التي استجلبت من الغرب إلى مزيد من الاضطراب في الذهنية العربية العامة وخصوصا في أوساط الفئات الوسطى. أما هذا الاضطراب فقد تجلى بنشوء نمط جديد من الشخصية الإنسانية تتحدد ملامحه الأساسية في أنه هجين و "الهجانة" هنا تقوم على غياب وحدة الشخصية المعنية أي على العجز عن امتلاك تلك التكنولوجيا بعمق وعن وضعها في سياق اجتماعي وسيكولوجي


متماسك".


إن الشخصية العربية المعاصرة التي تعاني من هذا الاضطراب تفسخت ما بين الانبهار باقتناء هذه الأدوات والأجهزة التكنولوجية المتطورة، وبين عدم قدرتها على امتلاكها واستخدامها الاستخدام الأمثل الذي يعني معرفة كوامنها وكيفية التعامل معها باقتدار وتمكن. إن هذا التفسخ إنما يرجع في الواقع إلى أن استيراد هذه التكنولوجيا قد تم بعيدا عما كان ينبغي أن يوازيه على الصعيد الاجتماعي والسياسي والتنظيمي والنفسي من تقدم يمكن هؤلاء الأفراد من
امتلاك ناصية هذه الأجهزة التكنولوجية المتقدمة.
إن تحول المجتمعات العربية إلى مجتمعات استهلاكية مستوردة قد أدى إلى خلل واضطراب عميق في الشخصية الفردية للإنسان العربي وكذلك في الشخصية العامة لتلك المجتمعات، إنه اضطراب يلخصه التناقض بين الإعجاب الشديد بهذه المنتجات والأجهزة التي يقتنيها الفرد دون معرفة الأسرار التفصيلية لإنتاجها وتشغيلها وكيفية صيانتها، وبين الرغبة الملحة في ضرورة إدراك كوامن هذه الثورة التكنولوجية المعاصرة واللحاق بها رغم العجز الذي يواجهه المرء حينما يحاول ذلك في ظل الإمكانيات المحدودة وعدم سماح الدول المنتجة للآخرين بامتلاك أسرار الإنتاج المتفوق لهذه
المنتجات التكنولوجية المتطورة.
إن هذا الاضطراب على المستوى الشخصي وعلى المستوى العام يعبر عنه د. محي الدين صابر وهو أحد المتخصصين العرب في هذا الموضوع حينما يتحدث عما يسمى لدى البعض بضرورة الدخول في عملية اللحاق بالركب الحضاري فيقول: "إن هذا الأمر غير وارد على إطلاقه لأنه ليس من الممكن أن ينتظرنا القوم حتى تلحق بهم ليسيروا معنا ولأن التقدم يخلق التقدم وهو يسير بوتيرة متسارعة فسيظل التقدم أكثر سرعة وأوسع خطى من السرعة التي يمكن أن يحققها الساعون للمجد ولو جدوا فإن بين القوم المتقدمين وبين الشعوب النامية قرنين من الفوارق الحضارية، وهذان القرنان بالمقاييس المعاصرة هما قرون وقرون. وقد يقال أننا سوف نبدأ من حيث انتهوا ولذلك فإننا لن تبدأ من الصفر، وسوف تفيد من التجارب القائمة وهذا صحيح. ولكن هذه البداية مهما كانت من الصفر أو من النهاية فإن لها شروطا موضوعية وقدرة ذاتية لابد من استنباتها وامتلاكها. نحن نستطيع أن نمتلك جسد التقدم نشتريه بالمال، ولكننا لا نملك روحه، لا نستطيع أن ننتجه وأن نكرره وعلينا أن نشتريه في كل مرة، فنشتري أحدث السيارات ونغيرها كل عام وندفع ثمنها. ولكنا لا تستطيع أن تصنع واحدة منها مهما كان مستواها وهكذا".
لقد عبرت هذه الكلمات البسيطة المعنى عميقة المغزى عن مقدار ما يعانيه الإنسان العربي من قلق فكري واضطراب نفسي ومعاناة إزاء استيراد التكنولوجيا المعاصرة وعدم قدرته على متابعتها وامتلاكها
وإذا ما تركنا التنظير الفكري وانتقلنا إلى استكشاف واقع العلوم والتكنولوجيا في الوطن العربي من خلال المسح التجريبي والدراسة العلمية الموضوعية لوجدنا أن نتائج الدراسات التجريبية الموضوعية تؤكد نفس ما ذهب إليه المنظرون. وهذا ما أظهرته خلاصة التقرير العام الذي أعدته اللجنة التي شكلها المؤتمر العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم لوضع استراتيجية لتطوير العلوم والتقانة في الوطن العربي، حيث خلصت اللجنة في دراستها للواقع العلمي والتكنولوجي في الوطن العربي إلى نتائج أهمها:
"إن البلدان العربية لم تضع منذ البدء سياسات علمية وثقافية واضحة وشاملة وأن الموارد التي تخصصها هذه البلدان لأنشطة العلوم والتقانة لا تزال محدودة نسبيا من حيث الكم مستوى الإنفاق ومن حيث النوع (مستوى التأهيل والتنظيم، وأن أنشطة العلم والتقانة العربية نشأت وتوسعت تحت ضغط الطلب الاجتماعي والمحاكاة السطحية لأنشطة العلم والتقانة في البلدان المتقدمة ولكنها لم تتطور مع تطورات هذه الأخيرة. وأن إقامة أهم المشاريع الإنمائية تعتمد على التقانات المستوردة وتتم إلى حد كبير بمعزل عن منظومات العلوم والتقانة العربية الأمر الذي يفقد هذه الأخيرة عناصر أساسية ضرورية لتقدمها. وأن البيئة المحيطة الاقتصادية منها والاجتماعية مازالت منخفضة المستوى علميا وتقانيا واقتصاديا وبالتالي فهي غير قادرة على التفاعل الشديد مع العلوم والتقانة. كما أن ارتباط أنشطة العلم والتقانة العربية بالحاجات الاقتصادية


الفعلية ولا سيما بالصناعة ضعيفا وما يزال".


والناظر في هذه النتائج التي رصدها هذا التقرير الهام عن واقع العلوم والتكنولوجيا في الوطن العربي، يتأكد له ما سبق أن أشرنا إليه عن أن العقلية العربية المعاصرة ما تزال بعيدة عن امتلاك ناصية العلوم والتكنولوجيا، وأنها لا تزال تكتفى باستيرادهما، حيث أن معظم المؤسسات العربية سواء المؤسسات الخاصة أو التابعة للدول لا تزال تأبى الاستفادة مما هو موجود فعلا من خبرات تكنولوجية وعلمية في الوطن العربي مفضله عليه الاستعانة بالخبرات الأجنبية مما يقلل من فرص التقدم والتطور لهذه الخبرات العربية ويعدم ثقتها في نفسها وفي إمكانية أن يستفيد منها الوطن العربي في الحاضر وفي المستقبل وعلى كل حال، فإن إدراكنا للأسباب الحقيقية للتخلف العلمي والتكنولوجي الراهن، وإدراكنا لمدى ما نعيشه من تناقضات تتراوح بين الإحساس بالاغتراب أمام المنتجات التكنولوجية الحديثة، وبين الشعور بالإحباط إزاء إمكانية امتلاكها يعني أننا نعي المشكلات الأساسية التي يلزم علينا مواجهتها. إن مواجهة هذه المشكلات لن يكون إلا بالإصرار على امتلاك وتوفير كل الشروط الموضوعية اللازمة لهذه المواجهة سواء كانت فكرية أو اقتصادية أوسياسية أو اجتماعية في نفس الوقت.وقد يتعجب البعض من مزجنا الآن بين الشروط والإمكانيات الفكرية وبين الشروط والإمكانيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية... الخ، وليس في الأمر ما يدير العجب، إذ إن المواجهة التي ننشدها تقتضى تضافر هذه الشروط اللازمة للتطور مجتمعة، فماذا يمكن أن يفيد توفير المناخ الفكري الملائم لتبني هذه القضية - وقد حدث هذا فعلا في الكثير من الدراسات والمقالات والكتب في السنوات العشرين الأخيرة - دون أن يكون لدى المسئولين السياسيين رغبة حقيقية في تبني هذه القضية؟! وماذا يجدي تبني المسئولون السياسيون لهذه القضية إذا لم تتوافر لهم الإمكانيات المادية (أقصد الأموال اللازمة لتوفير الرعاية الكاملة المتكاملة للمشروعات البحثية والعلماء القائمين عليها فضلا


عن تقديم الضمانات للمؤسسات التي تقوم بالمشروعات الإنمائية التي تتطلب خبرات تكنولوجية ويلزم أن تستعين بهذه الخبرات المحلية؟!


لابد إذن من المواجهة الشاملة لكل أسباب تخلفنا في ميدان إنتاج العلم وتطبيقاته التكنولوجية دفعة واحدة وعلى كل المستويات وباستراتيجية عربية واحدة موحدة. وهنا نصل إلى السؤال الهام عن كيفية هذه المواجهة لأسباب التخلف العلمي والتكنولوجي؟ ومن ثم نكون قد اقتربنا من السؤال الأكثر أهمية، وهو


عن كيفية العودة إلى المشاركة الفعلية والفاعلة في صناعة العلم والتكنولوجيا في العصر الحاضر ؟!


د - طريق المواجهة الشاملة لأسباب التخلف العلمي والتكنولوجي


إن ما أثير فيما سبق يؤكد لنا حقيقة هامة إذا لم ندركها فقدنا الطريق وعجزنا عن تحقيق الهدف، هدف الامتلاك الفعلي للعلم والتكنولوجيا. وهذه الحقيقة هي: أن مسألة تبني العلوم والتكنولوجيا بصورتهما الغربية من قبل المجتمع العربي في العصر الحاضر دون أن تحدث تحولات فكرية واقتصادية وسياسية واجتماعية موازية أمر يسبب الكثير من الاضطراب والإحباط للعقلية العربية ويشعرها بالعجز الدائم أمام إمكانية التقدم واللحاق بالركب الحضاري المعاصر.
إن إدراكنا لهذه الحقيقة والوعي بها يعني - إذا ما رافق هذا الوعي الرغبة الصادقة في الفعل والقدرة على التنفيذ - إمكانية التغلب على كافة المشكلات التي عبرت عنها وكذلك المشكلات المترتبة عليها. ولكن كيف تتوافر لدينا امكانية التغلب على تلك المشكلات ؟!
أولا: إن هذه الإمكانية تتولد عبر مقولة يطرحها .د. طيب تيزيني مؤداها ضرورة تسييس عملية تبني إدخال التكنولوجيا إلى المجتمع العربي". وهذه المقولة تعني ضرورة وضع التكنولوجيا في سياق الاحتياجات الداخلية للمجتمع العربي بحيث تنبثق هذه التكنولوجيا وتعبر عن قوانين تطور هذا المجتمع بحيث يقوده الموقف إلى إحداث تطابق نسبي بين البنى الاجتماعية الاقتصادية والسياسية من طرف، وما يترتب عليها من وضعيات فكرية وأخلاقية وعلمية
وسلوكية من طرف آخر".
إن ما تطرحه هذه المقولة هو ببساطة ضرورة الا تنفصل عملية إدخال التكنولوجيا إلى العالم العربي عن السياسة التي نتبناها البلدان العربية، بمعنى أن تتوحد سياسات الدولة العربية إزاء هذه القضية، بشرط أن تكون هذه السياسة متكاملة أي تتكامل فيها العناصر المشار إليها أنفا، من تمهيد الطريق لنقل هذه التكنولوجيا لدى الإنسان العربي العادي، بتثقيفه وتأهيله لتقبلها والتعامل معها بشكل طبيعي، إلى توفير كافة الإمكانات المطلوبة للعلماء المتخصصين حتى تنمو القدرة الذاتية للعالم العربي فلا يتوقف إبداعه عند حد فهم التكنولوجيا الغربية واستيعابها، بل يتجاوز ذلك إلى المنافسة والتفوق من واقع إدراكه لمشكلات بيئته التي تتطلب تكنولوجيا من نوع معين، وتلبيته
احتياجات هذه البيئة بحلول جديدة تتوافق معها.
ثانيا: ومن جانب آخر فإن ما ينبغي التأكيد عليه هو أن التكنولوجيا في أي مجتمع لا تنفصل عن الدراسات العلمية النظرية القائمة فيه وعن القدرات التنبؤية والإبداعية التي يمتلكها علماؤه. ومن ثم فإن من الخطأ أن نتصور أن نجاحنا في استنبات التكنولوجيا المعاصرة وامتلاكها بالمعنى العميق الذي أشرنا إليه فيما سبق يعني أننا حققنا التقدم المنشود، فالتقدم المنشود ينبغي أن يقوم على تطوير العلم النظري نفسه وتشجيع المتخصصين فيه وتوفير كافة الموارد والإمكانيات المادية والمعملية وكافة الأجهزة التي تحقق لهم الاستقرار والإبداع ومواصلة الكشوف النظرية، ويأتي بعد ذلك الاهتمام بمجالات تطبيق هذه البحوث النظرية لهؤلاء العلماء سواء قاموا هم بتطبيقها أو قام غيرهم بذلك. إن أكبر خطأ نرتكبه في عالمنا العربي المعاصر هو أن تركز على دراسة التكنولوجيا وتطبيقاتها ونواتجها دون أن يتواكب مع ذلك أو يسبقه التركيز على التقدم العلمي على المستوى النظري. وأعتقد أن سببا رئيسيا من أسباب تخلفنا عن الركب الحضاري في الميدان التكنولوجي هو أننا نكتفي في معظم الأحيان باستيراد التكنولوجيا ونحاول استيعاب تطبيقاتها المختلفة دون الاهتمام بمعرفة ما وراء هذه التكنولوجيا وبالطبع فإن غياب المعرفة بالنظرية العلمية يجعل من الصعب جدا على أي دارس أو باحث أو ممارس أن يفهم تطبيقاتها
ونواتجها التكنولوجية بصورة جيدة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن انتشار ظاهرة تأسيس المعاهد التكنولوجية أو ما يسمى أحيانا بمعاهد التقنية العليا والتقنية هي الكلمة العربية المقابلة للتكنولوجيا والاهتمام بها على حساب الكليات العلمية التقليدية والأكاديميات البحثية المتخصصة بعد مؤشرا إلى أننا نسير في الاتجاه الخطأ، واعتقد أن تطوير الكليات العلمية ومراكز البحث العلمي المعنية قد يكون أكثر فائدة وأعظم تأثيرا على المدى البعيد، إذ ما فائدة أن تربي فني ماهر قادر على استخدام جهاز الحاسب الآلي دون أن يعرف أي شيء عن النظرية التي بني على أساسها أو عن كيفية تركيب هذا الجهاز وكيفية إصلاحه وما فائدة أن تربي فني ماهر في ميكانيكا السيارات أو الطائرات دون أن يكون لدينا من يعرف النظريات العلمية التي بنيت على أساسها هذه المخترعات إن الفنيين والتقنيين لهم أهميتهم ولا أحد يشكك في ذلك، لكن هذه الأهمية لا ينبغي أن تطغى على تكوين الكادر العلمي المؤهل تأهيلا علميا نظريا كافيا بحيث يستطيع هذا الكادر أن يطور هذه المخترعات ويحسن من أدائها، فضلا عن استطاعته اكتشاف مثيلاتها والمزيد منها وقت الضرورة وفي مراحل لاحقة إذا توافرت له الإمكانيات البحثية والمادية الضرورية لذلك.
ولعل من المناسب هنا أن نعرف التمييز الدقيق بين العلم والتكنولوجيا والعلاقة بينهما قديما وحديثا حتى تتضح أمامنا الصورة كاملة.
إن أبسط ما ينبغي أن نعرفه في هذا المجال هو أن العلم معرفة نظرية والتكنولوجيا ما هي إلا تطبيق لهذه المعرفة النظرية في مجال العمل البشري".
وأن التكنولوجيا ليست اكتشافا حديثا كما يظن البعض بل إنها باعتبارها تمثل المهارة التقنية للإنسان في العمل اليدوي والابتكاري العملي قديمة قدم الإنسان، إنسان الشرق القديم، لأن التكنولوجيا تعني الاختراع المترتب على الحاجة العملية والحاجات العملية جعلت الإنسان يبتكر كل ما يساعده على حياته تحت اي ظروف بيئية يعيش فيها باستمرار، فالحاجة إذن - كما يقول المثل العربي هي أم الاختراع". وبالتالي كانت التكنولوجيا في الزمن القديم وإلى وقت
قريب دافعة للعلم وسابقة عليه، ولكن الأمر تغير في العصر الحالي وأصبحت التكنولوجيا في معظم الأحيان تابعة للعلم وتالية له.
إن نقطة الانطلاق في التطور الإنساني المعاصر تكمن منذ مطلع العصر الحديث في أوربا في استخدام العلم للأغراض التكنولوجية بحيث لا تترك الكشوف التكنولوجية لبراعة الصانع الشخصية أو تدريبه الفعال وإنما تعتمد على نظرية علمية مؤكدة. ولعل الأمر الذي يسبب الاضطراب الحالي في العلاقة بين العلم والتكنولوجيا والتضارب في ترتيب أولوية أحدهما على الآخر هو أن المسافة الزمنية بين ظهور البحث العلمي واكتشاف تطبيقاته العلمية التكنولوجية قد قلت إلى حد كبير في عصرنا الحالي. وخلاصة ما أود أن أؤكده هنا هو أن العلم أصبح في عصرنا الحالي هو الأساس المؤكد لكل تحول تكنولوجي، وأن ما يقوم به الصانع المخترع أصبح يقوم به الآن عالم
متخصص.
ومن هنا وجب أن ندرك أن العلم والتكنولوجيا الآن قد أصبحا حليفين وشهدا تداخلا واضحا زالت معه الحواجز الزمنية التي كانت تفصل بينهما حتى القرن الماضي، ومن ثم فإن علينا أن ندرك أيضا خطورة ما ينادي به البعض من أننا نحتاج للتطبيقات التكنولوجية وللماهرين فيها فقط؛ فالمهارة التكنولوجية لا تنفصل عن العلم النظري في عالم اليوم، كما أنهما أصبحا من اختصاص العلماء المؤهلين تأهيلا عاليا في الكليات العلمية ذات الإمكانيات البحثية
المتطورة.
ولعل من المناسب هنا كذلك أن ننبه إلى خطورة ما تروج له بعض الدوائر الدعائية الغربية والصهيونية، حول إمكانية التكامل بين القدرات العربية البشرية والمادية وبين العبقرية العلمية الصهيونية المدعمة بالتكنولوجيا
الأمريكية المتقدمة لخلق حضارة عربية جديدة.
إن هذه الدعوة بما تطرحه من معادلة خطيرة سبق أن ترددت وطرحها بعض السياسيين في الوطن العربي، وبعض المفكرين المتغربين والتلفيقيين الذين
تأثروا بهذه الدعايات الغربية الصهيونية
أما المعادلة التي تروج لها هذه الدعوة فهي:
قدرات عربية نفطية مالية وبشرية + عبقرية يهودية صهيونية + تكنولوجيا أمريكية - حضارة عربية من طراز جديد.
إنها معادلة خطيرة يتصور البعض خطأ أنها يمكن أن تحل مشكلة العلاقة بين "التخلف العربي" و "التقدم الغربي" في عصرنا الحالي. والواقع أنها معادلة تكرس هذا التخلف وتحول الإنسان العربي إلى ممول أو عامل لخدمة الهيمنة الغربية التي تعد إسرائيل أداتها ورأس حربتها في المنطقة العربية.
إن مكمن الخطأ في الترويج لهذه المعادلة من قبل السياسيين أو المفكرين العرب، هو العجز عن إدراك أن التخلف العربي مسألة لا يمكن تداركها مطلقا عن طريق الاعتماد على الغير، لأن الاعتماد على الغير سواء كان على أمريكا أو على أوربا أو على حليفتهما وصنيعتهما إسرائيل سيرسخ فينا التبعية ويزيد من تخلفنا، فضلا عن أنه سيزيد من اتساع الفارق بين العلم والتكنولوجيا العربيين، وبين نظيرهما في العالم الغربي وإسرائيل
إن التبعية لا يمكن أن تولد تحررا، وأن استمرار الاستيراد لا يمكن أن يشجع أو يولد إنتاجا مبدعا في أي مجال من المجالات!! فما بالنا بمجال العلم والتكنولوجيا !!.
إن الطريق الذي نراه ضروريا للتخلص من التبعية الاستيرادية وبالتالي من التخلف العلمي والتكنولوجي، إنما يكون في وضع خطة مستقلة للتطور العلمي والتكنولوجي نعتمد فيها على القدرات العربية إلى أقصى حد ممكن. ويمكن الاستفادة في هذا المجال بخبرات بلاد استطاعت فعلا تحقيق التقدم عن طريق
تطوير القدرات الذاتية واستنفار كل إمكانياتها. وأمامنا في هذا المجال نموذجان هما اليابان والصين؛ فلقد استطاعت اليابان - في مجتمع كان وربما لا يزال من المجتمعات ذات الثقافة السابقة على الثقافة العلمية كمجتمعاتنا العربية - أن تكثف جهودها من أجل تحقيق هدفها في النمو الاقتصادي السريع، فاختارت أن تسخر العلم الصناعي والتكنولوجيا في مجال الصناعات الإلكترونية التي تكمن فيها أوفر فرص النجاح في ظل ظروف اليابان المحلية السائدة وهي كثافة السكان وقلة الموارد.
أما النموذج الصيني فقد أزال الجوانب غير العلمية القديمة في الثقافة الصينية وركز على نشر الثقافة العلمية، مما جعل العلم ينمو بسرعة وأدى ذلك التركيز على خلق ثقافة علمية جماهيرية اعتمد فيه الصينيون على الذات محاولين حل المشكلات التي تخص الصين وحدها، أدى ذلك إلى خلق تكنولوجيا صينية مستقلة تركز على صنع منتجات رخيصة الثمن تتضافر فيها تقنيات إنتاج
متناسقة تجمع بين التقليدي والحديث.
وبالطبع فإننا لا نهدف من وراء الدعوة إلى الاستفادة من هنين النموذجين أن تركز على محاكاة أحدهما أو محاكاة الآخر، وبما أردنا أن نؤكد على أن تحديد الهدف بدقة ومعرفة طريق تحقيق هذا الهدف بالاعتماد على الذات ودون تقليد لأحد كان وراء هذا التقدم الهائل الذي حققته اليابان وتفوقت فيه على أمريكا وعلى كل الدول الأوربية، بل وبدأت تهددها في عقر دارها. وكذلك الحال بالنسبة للنموذج الصيني الذي ينمو ويتقدم باطراد ملحوظ ويحقق التقدم والتفوق الذي سيكفل للعملاق الصيني في النهاية أن يخرج من "قمقمه" ويهدد الغرب.


Summarize English and Arabic text online

Summarize text automatically

Summarize English and Arabic text using the statistical algorithm and sorting sentences based on its importance

Download Summary

You can download the summary result with one of any available formats such as PDF,DOCX and TXT

Permanent URL

ٌYou can share the summary link easily, we keep the summary on the website for future reference,except for private summaries.

Other Features

We are working on adding new features to make summarization more easy and accurate


Latest summaries

آملين تحقيق تطل...

آملين تحقيق تطلعاتهم التي يمكن تلخيصها بما يلي: -جإعادة مجدهم الغابر، وإحياء سلطانهم الفارسي المندثر...

Network archite...

Network architects and administrators must be able to show what their networks will look like. They ...

السيد وزير التر...

السيد وزير التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، يجيب عن أسئلة شفوية بمجلس النواب. قدم السيد مح...

حقق المعمل المر...

حقق المعمل المركزي للمناخ الزراعي إنجازات بارزة ومتنوعة. لقد طوّر المعمل نظامًا متكاملًا للتنبؤ بالظ...

رهف طفلة عمرها ...

رهف طفلة عمرها ١٢ سنة من حمص اصيبت بطلق بالرأس وطلقة في الفك وهي تلعب جانب باب البيت ، الاب عامل بسي...

قصة “سأتُعشى ال...

قصة “سأتُعشى الليلة” للكاتبة الفلسطينية سميرة عزام تحمل رؤية إنسانية ووطنية عميقة، حيث تسلط الضوء عل...

اعداد خطة عمل ع...

اعداد خطة عمل عن بعد والتناوب مع رئيس القسم لضمان استمرارية العمل أثناء وباء كوفيد 19، وبالإضافة إلى...

بدينا تخزينتنا ...

بدينا تخزينتنا ولم تفارقني الرغبة بان اكون بين يدي رجلين اثنين أتجرأ على عضويهما المنتصبين يتبادلاني...

خليج العقبة هو ...

خليج العقبة هو الفرع الشرقي للبحر الأحمر المحصور شرق شبه جزيرة سيناء وغرب شبه الجزيرة العربية، وبالإ...

فرضية كفاءة الس...

فرضية كفاءة السوق تعتبر فرضية السوق الكفء او فرضية كفاءة السوق بمثابة الدعامة او العمود الفقري للنظر...

‏@Moamen Azmy -...

‏@Moamen Azmy - مؤمن عزمي:موقع هيلخصلك اي مادة لينك تحويل الفيديو لنص https://notegpt.io/youtube-tra...

انا احبك جداً ت...

انا احبك جداً تناول البحث أهمية الإضاءة الطبيعية كأحد المفاهيم الجوهرية في التصميم المعماري، لما لها...