Lakhasly

Online English Summarizer tool, free and accurate!

Summarize result (58%)

تعريف علم الأخلاق وصلاته بعلوم أخرى وأهدافه
فإذا حاولنا تعريف علم الأخلاق، ولكن المسألة ليست بهذه البساطة لأن كلمة "خلق" وحدها تحتمل معنيين الخلق الحسن والخلق القبيح، ولذا فإننا ننتقل من تعريف الخلق لغويًا إلى تعريف علم الأخلاق وموضوع دراسته. ويمكن تعريف علم الأخلاق من حيث البحث عن المبادئ وترتيبها واستنباطها والكشف عن أهميتها للحياة الأخلاقية، مع بيان الواجبات التي يلتزم بها الإنسان . ومن التعريفات لهذا العلم ما يتجه به نحو سلوك الإنسان بالنظر إلى مثل أعلى حتى يمكن وضع قواعد عامة للسلوك والأفعال تعين على "فعل الخير والابتعاد عن الشر" . ومن هذا التعريف نرى أننا في حاجة إلى إيضاح كثير من الموضوعات في المجال الأخلاقي. إن أول مسألة تواجهنا في دراسة الأخلاق هي معرفة الفرق بين الإرادة الخلقية والإرادة الطبيعية، ومنها ما يخضع للقوانين والمبادئ والقواعد "إن الحياة الإنسانية الصحيحة لا تبدأ إلا من حيث تنتهي الحياة الحيوانية الصرفة" . كما يواجهنا أيضًا النظر في القيم أو المبادئ الخلقية أو المثل العليا. أي على وجه الإجمال، نحن في دراستنا للأخلاق نقف وجهًا لوجه أمام الإنسان الذي يخوض تجربة الحياة الابتدائية بكل ما فيها من خير وشر، ونحاول أن نتعرف على مدى قدرته على اجتياز هذا الطريق أو ذاك. فقد غرس الله تعالى فينا بصائر أخلاقية فطرية، والذي ظهر من دراسة علماء النفس في بحوثهم في سيكولوجية الشعوب أن الأحكام التقديرية التي يطالب بها الدين. كذلك كشفت الدراسات الأنثروبولوجية الحديثة أن تاريخ الحضارة البشرية مليء بالشرائع الأخلاقية وأنها تتقارب تقاربًا شديدًا ، وحتى إذا افترضنا وجود اختلافات بينها فإنه ليس هناك ما يمنع ظهور أخلاقية مطلقة ، وهذا يعني أن الأساس الأخلاقي في البشرية فطري، وأن للقيم وجودها الذاتي حيث تفرض نفسها على الوجدان البشري بطريقة أولية حدسية "أما عجز بعض الأشخاص عن إدراك القيم أو التمييز بينها إنما هو "العمى الخلقي" الذي قد يرجع إلى انعدام النضج أو نقص التربية لديهم" . وإذا عدنا إلى استعراض التعريف الذي بدأنا به كلامنا، فإننا نجد أنفسنا في حاجة إلى بيان الآتي:
1- صفة علم الأخلاق كعلم معياري وليس علمًا وضعيًا. 2- التعريف بالقيم أو المبادئ الأخلاقية. 1) علم الأخلاق علم معياري:
اتضح لنا من التعريفات الآنفة لعلم الأخلاق أن النظرة التقليدية له تعده علمًا معياريًا أي يدرس ما ينبغي أن يكون عليه السلوك الإنساني فيضع بذلك قوانين الأفعال الإنسانية ومثلها أو المبادئ العليا لها، وكان هذا هو الاتجاه التقليدي "المعتمد بين جمهرة الأخلاقيين فهم هذا العلم وتحديد منهجه. ولكن مدرسة من علماء الاجتماع في فرنسا قد اتجهت بالأخلاق في نهاية القرن الغابر ومطلع القرن الراهن اتجاهًا اجتماعيًا صورت فيه علم الأخلاق فرعًا من علم الاجتماع موضوعًا ومنهجًا . وقد ذهب أتباع هذه المدرسة إلى اعتبار علم الأخلاق علمًا وضعيًا فهدموا بذلك التصور التقليدي له . وأطلقا عليه اسم "علم العادات" إشارة إلى أن الأخلاق هي دراسة موضوعية تجريبية لقوانين العادات الخلقية عند الإنسان. ولكن علم الأخلاق- حتى كعلم عادات - لا يمكن أن يتجرد عن المبادئ والقيم المعنوية التي لا تخضع للتجربة. ومن الثابت تاريخيًا أن من المحاولات التي عرضت المبادئ الخلقية للاهتزاز كانت بواسطة السوفسطائيين القدماء في بلاد اليونان حيث إنهم في نظريتهم في المعرفة قد اتخذوا من الفرد مقياسًا للأشياء فأصبحت الحقائق وليدة الإحساسات والانطباعات الذاتية الفردية فشككوا في وجود الحقيقة الموضوعية الثابتة. كما امتدت نظريتهم الابستمولوجية أي في المعرفة إلى مجال الأخلاق "فكان الفرد مقياس الخير والشر" . وتتفق النظرية السقراطية مع ما ذهب إليه الفلاسفة التقليديون حيث وضعوا الأخلاق ضمن علومهم المعيارية كما أوضحنا - فأصبح موضوع الأخلاق عندهم هو قيمة الخير ، وبهذا التوضيح يظهر الفرق الأساسي بين النظرية الفلسفية التقليدية للأخلاق وبين النظرية الوضعية أو الوصفية أو التقريرية - التي تبناها بعض علماء الاجتماع - حيث أصبحت الأخلاق عندهم هي مجرد "القواعد السلوكية التي تسلم بها فيعة من الناس في حقبة من حقب التاريخ" . فنزعوا عن القيم الأخلاقية فكرة الثبات والدوام التي عرفناها عند مثل سقراط. وربما نشأت المشكلة في ميدان البحث الأخلاقي أن الأخلاق ترفض دافع البحث عن اللذة لذاتها كسلوك أخلاقي، لأن الشعور الخلقي يظهر أن ابتغاء اللذة لابد أن يفضي إلى حالة أليمة من التشتت الروحي والضياع النفسي، أي أن مسايرة الطبيعة من حيث نشدان اللذة وتجنب الألم لا تحقق لدى الإنسان مكارم الأخلاق التي يستمدها من معرفته للقيم والمبادئ الأخلاقية والمثل العليا. وفي نظرة إفيلية عامة لآراء فلاسفة الأخلاق رأينا سقراط قد خلع على الأخلاق طابعًا عقليًا لأنه عد الفضيلة علم والرذيلة جهل، وكذلك اتجه كانط في العصر الحديث إلى اعتبار الأوامر المطلقة في الأخلاق بمنزلة البديهيات في الرياضة إلي الطبيعة. ومن واقع هذه النظريات وغيرها التي تضع الأخلاق في صورة مبادئ وقوانين أخلاقية بصورة معيارية تعمل على تحديد القواعد كالحال في المنطق، فإن الأخلاق في هذه الحالة تصبح تشريعًا وتضطلع بمهمة التكليف والإلزام لا بمهمة العلم أو المعرفة . وفي تحريفنا للمبادئ نستطع أن نقول أنا سواء كانت خاصة بالعلوم أم بالأخلاق فهي القضايا الأولية "التي تعد نقطة بدء ضرورية لكل بحث كمبادئ علم الهندسة، وكمبدأ الواجب المطلق في الأخلاق . وأصبحت المكانة التي تتمتع بها هدفًا للهجوم، وذلك نتيجة للملاحظات "التي تقررها فلسفة العلوم بما يتعلق بالتحولات الحديثة في العلوم الرياضية والطبيعية وفي العلوم الأخلاقية والسياسية أيضًا" . ومن الخطورة بمكان إنزال القيم أو المبادئ الأخلاقية من محط نصها واستهدافها لتأثير النظريات النسبية التي سادت في القرن التاسع عشر، حيث امتدت فكرة الحقائق النسبية إلى ميدان الأخلاق وغلت في القول ونسبيتها، وسوت بين العادات الأخلاقية المتغيرة في كل قطر وفي كل أمة وفي كل عصر، وبين القاعدة الأخلاقية الثابتة . نخلص من كل ذلك إلى أن كلمة القيم أو المبادئ تشير إلى معاني الضرورة والكلية والثبات والإطلاق، ولهذا فإننا نحذر من النظر إلى المبادئ الأخلاقية بمفهوم العصر الحاضر في الغرب المتسم بطابع النسبية والمرونة، لأننا إذا أخضعنا القيم الأخلاقية إلى قوانين التغير والنسبية فلن نلبث أن نصيب الحقيقة في الصميم (وبالتالي فإنه لن يلبث أن يؤدي إلى بلبلة الرأي العام الأخلاقي) . ينبغي تحرير الفعل الأخلاقي من التقيد بالزمان أو المكان، لأن لا يكون أخلاقًا على الحقيقة إلا إذا تخلص من الرغبة أو الهوى، والإلزام في القانون الأخلاقي ينبع من ذاته، يقول كاريل "يجب على الإنسان أن يفرض على نفسه قاعدة داخلية حتى يستطيع أن يحتفظ بتوازنه العقلي والعضوي. إن أي دولة قادرة على فرض القانون على الشعب بالقوة، ولكن الإلزام الأخلاقي يختلفن عن الحتمية في القانون الوضعي، فهذا الإلزام ينطوي على المسئولية الأخلاقية لأن الأفعال تصدر عنه ككائنات أخلاقية تملك الحرية وهي وثيقة الصلة بالأخلاق . وينبغي أن يدرك كل فرد ضرورة فعل الخير وتجنب فعل الشر وأن يرغم نفسه على اتباع هذا المنهاج ببذل جهد إرادي، فالإلزام هو المحور الذي تدور حوله المشكلة الأخلاقية؛ وهكذا فإننا نجد أنفسنا أمام علاقات واضحة محددة تتناول المبادئ الأخلاقية في إطلاقها وثباتها وعموميتها كهدف أسمى يسعى الإنسان لتحقيقه. ودعائم الإلزام التي تشكل عنصر الضرورة للفعل الأخلاقي، ولكننا سرعان ما نصطدم بالمشكلة الأخلاقية، وتتضح أبعاد هذه المشكلة في الإلحاح المستمر الذي يواجه الإنسان في نشاطه الدائم للاختيار بين هذا الفعل أو ذاك، واضطراره لأن يفرض على نفسه قاعدة معينة للسلوك فيختار الأحسن من بين أوجه التصرف العديدة وأن يتخلص من أنانيته وحقده . فإنه مما لا شك فيه "أن النظر في سلوك الإنسان ينتقل بنا إلى مشاكل جديدة تدخل في نطاق دراستنا من حيث التزامه الخلقي ومسئوليته عن أفعاله التي ترتكز على ركنين أساسيين هما: العقل وحرية الاختيار . إن النظام الأخلاقي يوجهنا - كما يقول دوركايم - نحو السيطرة على النفس بالذات ويعلمنا كيف نسلك على غير ماتريد دوافعنا الباطنة، ولذا فإن كل فعل أخلاقي يتضمن مقاومة نبديها لميل معين - وكبتًا لشهوة ما - وتقييمًا لنزوع خاص . أضفت إلى ذلك أن الإنسان هو الكائن الأخلاقي الذي أعده الله سبحانه لقابلية الارتفاع إلى درجات الكمال بمقتضى روحه التي تمده لبلوغ الغاية المطلوبة وهو يشعر في أعماقه بهذا الصراع الدائم بين روحه المهيأة وبين أخلاط عناصر جزئه الأرضي أي جسده المعرض للسقوط . إن الدور الذي تقوم به الأخلاق هو تجريد هذا العنصر الروحي فترتقي به فوق المستوى الطبيعي ، وهو ما يسميه بارتملي المبدأ الأسى أو القانون الملزم لنا. فهو بمثابة القانون الملزم الذي يناجي العقل "هوالمبدأ الأسمى وفوق الإنساني" . ويذهب بارتملي إلى أننا نشعر في أعماق نفوسنا بصدى هذا القانون ونعجز عن تغييره رغم وحي منافعنا وعمليات شهواتنا. فإن الإرادة على عكس هذا القانون "هي نحن. ومن الصراع الناشب بينها يجد الإنسان أنه يحمل في نفسه ما يشبه القانون أو المحكمة تملك الحق في إصدار الحكم بالإدانة أو البراءة حاسب أنواع سلوكه، إن الأخلاق إذن لصيقة بالإرادة، أي صعودًا إلى المستوى الإنساني الراقي، أو هبوطًا إلى المستوى الحيواني. وكأنه يضعنا بهذا التعريف أمام مرآة نفسنا لكي ننظر فيها ثم نعدل اتجاه إرادتنا لنتحرى فعل الخير ونتجنب فعل الشر. وهذا هو هدفنا من دراسة علم الأخلاق. قلنا في البداية إن الخلق في اللغة: هو الحجية والطب والعادة ولكن كلمة "خُلُق" وحدها لا تعطي معنى الأخلاق الحسنة؛ فكيف نكتسب الأخلاق الحسنة ونتخلص من الأخلاق السيئة؟
فلا يكفي في الدراسة الأخلاقية البحث العلمي في الحياة الخلقية وقوانينها، ولكن يجب أن نهدف إلى الإقناع بأنه في إمكاننا بواسطة الجهد الدائب أن نرتفع بأخلاقنا إلى المستويات الحسنة وأن نتخلص من الأخلاق السيئة، وهذا ما تنبه إليه علماء الإسلام حيث هدفوا إلى التخلق بالأخلاق الفاضلة بالتكلف والمران. منهم الإمام ابن القيم الذي رأى أن يكون الخلق بالنفس يتم على مراحل ويأتي بالتكيف والتمرن، كالتحلم والتشجع والتكرم وسائر الأخلاق، فإذا تكلفه الإنسان واستدعاه صار سجية وطبعًا مستندًا في ذلك إلى حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - "ومن يتصبر يصبره الله" . ويقول الراغب الأصفهاني: "الإنسان مفطور في أصل الخلقة على أن يصلح أفعاله وأخلاقه وعلى أن يفسدها، وتصبح الدراسة الأخلاقية مساعدة على بذل الجهد الأخلاقي المطلوب، إذا اقتنعنا بعد البحث والدراسة أن في إمكان الإنسان التخلص من أخلاقه الرديئة واكتساب الأخلاق الحسنة، فالعلم لابد أن يقودنا إلى العمل وإلا فلا فائدة فيه إذ الاكتفاء بالعلم دون العمل مضيعة للوقت والجهد. الهدف إذن من علم الأخلاق - كما يحدده ابن مسكويه "421هـ" أن نحصل لأنفسنا خلقًا تصدر به عنا الأفعال كلها جميلة، وتكون مع ذلك سهلة علينا لا كلفة ولا مشقة ويكون ذلك بصناعة وعلى ترتيب تعليمي . ويشير ابن مسكويه في عبارته إلى رياضة النفس وتقويمها بالتهذيب والصقل حتى تصير الأخلاق ملكه. ويقول زميلنا الفاضل الدكتور عبد اللطيف العبد "إنه لابد من إعادة بناء شخصية الإنسان المسلم على أساس من القيم الأخلاقية الرفيعة، لا على أساس المنهج المادي وحده، ولتحقيق ذلك لابد من معرفتنا بأنفسنا والوقوف على المعركة الدائرة فيها بين الإرادة والغرائز. مهما تعددت النظريات الأخلاقية وتباينت الفلسفات التي تعالج المشكلات الأخلاقية فإنها تتفق على موضوع واحد تتخذ منه أساسًا لأبحاثها وهو الإنسان بعامة والإرادة الإنسانية بخاصة إذ أن الأخلاق تدور على ماهية الإنسان فهي تعد بالبحث في عواطفه وغرائزه وانفعالاته وميوله وحاجات أساسية يتفق فيها مع الحيوان، ولا يعنينا في الدراسة الأخلاقية كما قلنا العلوم والمعارف، ولهذا قلنا إن هذه الإرادة هي مركز الدائرة في المعظم- إن لم يكن كافة مذاهب المفكرين الأخلاقيين والفلاسفة، لأن علم الأخلاق يتناول دراسة أفعال الناس بالقياس إلى مثل أعلى . فلا الروح ولا الجسم يمكن أن يفحص كل منهما على حدة - إذ يتكون الإنسان من جميع وجوه نشاطه الفعلية والمحتملة، والواقع أن كل عصر وكل مجتمع إدنا يضعان تحت "مفهوم الإنسان" إنسان "هذا العصر" أو هذا المجتمع لا "الإنسان المطلق" أو الإنسان بصفة عامة. فإن من الحق أيضًا كما يقول "دوركايم "إن الرجل الأوربي في أيامنا هذه ما يزال يعتقد أن الإنسان هو على وجه التحديد "إنسان هذا المجتمع الغرب المسيحي" . وهذه النظرة تفسر لنا اختلاف الفلاسفة وعلماء الأخلاق في معالجتهم للمسائل الأخلاقية، على أن الاكتفاء بوصف الإنسان بأنه كائن ناطق روحي شاعر بذاته ، قد يصلح في مجال دراسة علم النفس الذي يعنى بدراسة الإنسان من الناحية النفسية أو العقلية، ولكنه لا يعطينا المدلول الرئيسي في مجال الأخلاق؛ وتظهر المسئولية الأخلاقية بوضوح إذا نظرنا إلى ركنيها الرئيسيين وهما كما بينا من قبل - العقل وحرية الاختيار ، وما دام الأمر كذلك فإن البحث في مجال الأخلاق له صلة وثيقة بالتربية. صلة الأخلاق بالتربية:
وتظهر الوظيفة الأولى للمربي في العمل على تفتيح ذهن الحدث أو الشاب للقيم الخلقية . وتظهر التربية وللإنسانية الكاملة إذا نظرنا إلى احتياجات وللإنسان المتعددة ومواهبه المتنوعة وأحطنا بقواه وملكاته جميعها لكي نتعهدها بالتنمية والتقوية. والتربية الأدبية التي تتعهد اللسان وتقومه وتصلح بيانه، والتربية الاجتماعية وهدفها تنمية روح الإيثار والغيرة ضد الأنانية والتعريف بالنظم والقوانين السائدة بالمجتمع، وهناك أيضًا التربية الإنسانية لتوسيع الأفق والتنبيه إلى الأخوة العالمية. والتربية الدينية للتسامي بالروح إلى الأفق الأعلى بإطلاق. وتأتي التربية الخلقية للتوجيه المستمر للعمل على سنن الاستقامة حتى تتكون العادات الصالحة والأخلاق الحميدة الراسخة . ومن المعلوم أن التربية الخلقية هي السياج التي تحيط بألوان التربية جميعًا، فمن واجب الفنان مراعاة قانون الحشمة واللياقة والمحافظة على ستر الحياء والعفاف، وهكذا ينبغي أن نخضع سائر ألوان التربية في وسائلها وأساليبها وبواعثها لقواعد الآداب وأن نقيس ذلك كله بمقاييس الفضيلة . وتحتاج التربية الخلقية إلى أنواع من التعب والصبر وطول المرانة لتكوين الملكة الخلقية حتى يصبح السلوك الأخلاقي عملًا انبعاثيًا محببًا إلى القلب. أما الكسالى الضعفاء فلا تتكون لديهم الملكات، كذلك لا ينبغي أن نغفل بيان الصلة الوثيقة بين الأخلاق والدين كمصدر رئيسي لقدسية القوانين الأخلاقية ودافع قوي للإنسان إلى الأعمال الخيرة. صلة الأخلاق بالدين:
هناك تعريفات مختلفة للدين بوجه عام، وصت أعمال عبودية تتعلق بالله" أو أنه نظام اجتماعي لطائفة من الناس يؤلف بينها إقامة شعائر موقوتة، وتعبد ببعض الصلوات وإيمان بأمر نحو الكمال الذاتي المطلق وإيمان باتصال الإنسان بقوة روحانية أسمى هي الله الواحد، وإلى الخلق باعتباره قوة النزوع إلى فعل الخير وضبط النفس عن الهوى، كان القانون الأخلاقي الكامل هو الذي يرسم طريق المعاملة الإلهية كما يرسم طريق المعاملة الإنسانية. بل مصدر حكم وتشريع في الوقت نفسه، كان القانون الديني الكامل هو الذي لا يقف عند وصفه الحقائق العليا النظرية وإغراء النفس بحبها وتقديسها، بل يمتد إلى وجوه النشاط المختلفة في الحياة العملية فيضع لها المنهاج السوي الذي يجب أن يسير عليه الفرد والجماعة. وهكذا يصل القانون الديني إذا استكمل عناصره إلى بسط جناحيه على علم الأخلاق كله، بل على سائر القوانين المنظمة لعلاقات الأفراد والشعوب بحيث يجعلها جزءً متممًا لحقيقته ويصبغ كل قواعدها بصبغته القدسية . والعقيدة باعتبارها المصدر الرئيسي للإحساس بقدسية القوانين الأخلاقية هي أكبر دافع يدفع الإنسان إلى الأعمال الإيجابية الخيرة وأقوى رادع يكفه عن اتباع الهوى . ذلك لأن القانون لا يكفي وحده لضبط السلوك الإنساني. ويذهب الفيلسوف الألماني فيخته إلى أن الأخلاق من غير دين عبث، وبالمثل يضع غاندي الدين ومكارم الأخلاق في مرتبة واحدة لا يقبلان الانفصال، بل يرى أن الدين يغذي الأخلاق وينميها وينعشها كما أن الماء يغذي الزرع وينميه. فخرج منها بنتيجة مهمة أعلنها في قوله "بدون الدين لا يمكن أن تكون هناك أخلاق وبدون أخلاق لا يمكن أن يكون هناك قانون" . ودور الدين في تربية الأفراد لا يقل شأنًا عنه في تربية الجماعات والأمم، فلا تغني العلوم والثقافات عن التربية والتهذيب الديني لأن العلم سلاح ذو حدين، ولابد له من رقيب أخلاقي عند استخدامه لكي يوجه إلى خير الإنسانية - لا لدمارها ونشر الشر والفساد في ربوع الأرض، وليس أدل على ذلك من الأقوال التي نسوقها لبعض أقطاب العلم والزعماء وقواد الحرب في العالم الغربي نفسه. يقول روبرت ميلكيان العالم الطبيعي الأمريكي "إن أهم أمر في الحياة هو الإيمان بحقيقة المعنويات وقيمة الأخلاق. ولقد كان زوال هذا الإيمان سببًا للحرب العامة وإذا لم نجتهد الآن لاكتسابه أو لتقويته فلن يبقى للعلم قيمة، إذ لن يستطيعوا المثابرة على البقاء بماديتها "وأنها لا يمكن أن تنجو إذا سرى الروح الديني في جميع مسامها. أن أهم عوامل الانتصار في الحرب هو العامل الأخلاقي موقنًا بأن الجيش إذا سار على غير مرضاة الله سار على غير هدى، وحث جنوده بالانتصار على أنفاسهم قبل العدو. وهو نفس الهدف الذي رمى إليه المارشال بيتان عقب توقيعه الهدنة إثر هزيمة فرنسا في الحرب العالمية الثانية من النداء الذي وجهه إلى أمته قال فيه: "إنني أدعوكم أول كل شيء إلى نهوض أخلاقي" . إن العقيدة الدينية إذن تجعل للأخلاق فعالية وإيجابية مؤثرة، وهذا هو السبب في أن الأخلاق الدينية أقوى من الأخلاق المدنية إلى حد يستحيل معه المقارنة، ولذلك لا يتحمس الإنسان في الخضوع لقواعد السلوك القائم على المنطق، إلا إذا نظر إلى قوانين الحياة على أنها أوامر منزلة من الذات الإلهية . وخير دليل يبرهن على هذا الرأي ما يسجله لنا التاريخ الإسلامي من عجائب الانقياد والطاعة للأوامر الإلهية التي كان المسلمون يصدعون بها حال التبليغ بها، ومنها ما حدث عند نزول النهي عن الخمر "فعن أي بريدة عن أبيه قال - بينما نحن قعود على شراب لنا ونحن نشرب الخمر حلًا، يتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذات قرابة فما منهم امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل فاعتجرت به تصديقًا وإيمانًا بما أنزل الله من كتاب، وما أحوجنا إذا أردنا استعادة أمجادنا من جديد إلى الانقياد لأوامر شرع الله تعالى كما فعلت أجيال المسلمين من قبل إبان ازدهار حضارتنا الإسلامية، لا سيما إذا علمنا - كما بينا توًا - أن الأخلاق هي الركن المكين للحضارات والأمم. عندئذ تأتي مناسبة طرح الصلة بين الأخلاق والحضارة، على أن نهب العالم والحياة معنى حقيقيًا". ويرى أن طابع الحضارة أخلاقي في أساسه، فهناك إذن ارتباط بين الحضارة ونظرتنا إلى الكون وإلى الحياة، فإن المعتقدات - لا الإنجازات التكنولوجية - هي القوة الدافعة للحضارة . ومرد اهتمامه بالمعنى والغرض يرجع إلى أنه بافتقاد النظرة الكونية، ويرى أن مأساة الإنسان المعاصر هي تضاؤل الحرية والقدرة على التفكير وأن بداية كل حياة روحية ذات قيمة هي الإيمان بالشجاع بالحق والقول به صراحة مقترحًا تخصيص ثلاث دقائق كل مساء للنظر في السماء المرصعة بما لا نهاية له من النجوم تمهيدًا لإصلاح الأحوال التي نعيش فيها اليوم. وعلى أية حال فإنه عبر عن فطرته في حاجة الإنسان الماسة إلى التفكر في أوقات متقاربة - كما ينبغي للمسلم أن يفعل "لا ثلاث دقائق فحسب كل مساء" ليتحرر من آلية الحياة الاجتماعية ويراجع نفسه ويجد نشاطه الذهني ليظل متيقظًا ومدركًا لمعنى الحياة والنشأة والغاية، 2- هز الناس في هذا العصر ودفعهم إلى التفكير الأولى في حقيقة الإنسان ومكانته في العالم، لأن الكمال الروحي والأخلاقي للفرد هو الغاية القصوى من الحضارة . منطلقًا بها انطلاقة مادية هائلة أثرت على السواد الأعظم من الكتل البشرية في القرن العشرين، في فقدان السمو فوق المادية وتمكن المادية المبتذلة لدى الإنسان الغير المرتبط بوازع يزعه "والذي يتخذ من عالم أحاسيسه المادية مقياسها لكل شيء، ولكن لم تصل إلى حد التطور العقيم غير القويم الذي انتهى إليه العالم الغربي، معللًا ذلك بأن دروع المقاومة للعالم الإسلامي تمثلت في الاستمساك بالفضيلة والأخلاق الحميدة بالرغم من مظاهر التدهور. فقد أخذت الأزمات بخناقها . أنه دين يدعو للفضيلة والأخلاق الحميدة بينما يعرف من خبراته السابقة عن مجتمعات الغرب أن الغربي يرى التحلي بالفضيلة والالتزام الخلقي، وسنمضي في بحثنا في الفصل التالي لعرض مذاهب الأخلاق عند بعض فلاسفة اليونان وبيان أوجه القصور فيها.


Original text

تعريف علم الأخلاق وصلاته بعلوم أخرى وأهدافه
إن أول ما ينبغي البدء به في دراسة علم من العلوم هو التعريف به وبموضوعه، فإذا حاولنا تعريف علم الأخلاق، فإنه من المسلم به أن نقدم المعنى اللغوي لأن الخلق في اللغة هو: "السجية والطب والعادة"، ولكن المسألة ليست بهذه البساطة لأن كلمة "خلق" وحدها تحتمل معنيين الخلق الحسن والخلق القبيح، ولذا فإننا ننتقل من تعريف الخلق لغويًا إلى تعريف علم الأخلاق وموضوع دراسته.
ويمكن تعريف علم الأخلاق من حيث البحث عن المبادئ وترتيبها واستنباطها والكشف عن أهميتها للحياة الأخلاقية، مع بيان الواجبات التي يلتزم بها الإنسان .
ومن التعريفات لهذا العلم ما يتجه به نحو سلوك الإنسان بالنظر إلى مثل أعلى حتى يمكن وضع قواعد عامة للسلوك والأفعال تعين على "فعل الخير والابتعاد عن الشر" .
ويعتبر علم الأخلاق- أو الفلسفة الخلقية - عادة من العلوم المعيارية - أي لا تقتصر على دراسة ما هو كائن، أو الأوضاع الراهنة ولكن بما ينبغي أن تكون عليه ولذا فإن مهمته هي "وضع الشروط التي يجب توافرها في الإرادة الإنسانية وفي الأفعال الإنسانية لكي تصبح موضوعًا لأحكامنا الأخلاقية عليها" .
ومن هذا التعريف نرى أننا في حاجة إلى إيضاح كثير من الموضوعات في المجال الأخلاقي.
إن أول مسألة تواجهنا في دراسة الأخلاق هي معرفة الفرق بين الإرادة الخلقية والإرادة الطبيعية، فإن أفعال الإنسان وسلوكه منها ما هو صادر عن دوافع طبيعية غريزية بحتة شأنه فيها شأن الحيوان، ومنها ما يخضع للقوانين والمبادئ والقواعد "إن الحياة الإنسانية الصحيحة لا تبدأ إلا من حيث تنتهي الحياة الحيوانية الصرفة" .
كما يواجهنا أيضًا النظر في القيم أو المبادئ الخلقية أو المثل العليا.
أي على وجه الإجمال، نحن في دراستنا للأخلاق نقف وجهًا لوجه أمام الإنسان الذي يخوض تجربة الحياة الابتدائية بكل ما فيها من خير وشر، ونحاول أن نتعرف على مدى قدرته على اجتياز هذا الطريق أو ذاك.
وهنا نجد قدرًا كبيرًا من الاتفاق على أن المبادئ الخلقية والمثل العليا قد حازت في تاريخ الإنسانية الطويل على قدر ثابت من التأييد. فقد غرس الله تعالى فينا بصائر أخلاقية فطرية، إذ مهما بلغت درجة الانحراف والفساد اللذين قد نسقط فيهما وفيما عدا حالات استثنائية خاصة بضلال الضمير، فإننا نعترف ونحب ونقدر الفضيلة في ذاتها وفي غيرها حتى إن أعوزتنا الشجاعة للارتفاع إلى مستواها .
والذي ظهر من دراسة علماء النفس في بحوثهم في سيكولوجية الشعوب أن الأحكام التقديرية التي يطالب بها الدين. كما ظهرت في العرف والتقاليد الاجتماعية .
كذلك كشفت الدراسات الأنثروبولوجية الحديثة أن تاريخ الحضارة البشرية مليء بالشرائع الأخلاقية وأنها تتقارب تقاربًا شديدًا ، وحتى إذا افترضنا وجود اختلافات بينها فإنه ليس هناك ما يمنع ظهور أخلاقية مطلقة ، وهذا يعني أن الأساس الأخلاقي في البشرية فطري، وأن للقيم وجودها الذاتي حيث تفرض نفسها على الوجدان البشري بطريقة أولية حدسية "أما عجز بعض الأشخاص عن إدراك القيم أو التمييز بينها إنما هو "العمى الخلقي" الذي قد يرجع إلى انعدام النضج أو نقص التربية لديهم" .
وإذا عدنا إلى استعراض التعريف الذي بدأنا به كلامنا، فإننا نجد أنفسنا في حاجة إلى بيان الآتي:
1- صفة علم الأخلاق كعلم معياري وليس علمًا وضعيًا.
2- التعريف بالقيم أو المبادئ الأخلاقية.
3- الإلزام الخلقي.


(1) علم الأخلاق علم معياري:
اتضح لنا من التعريفات الآنفة لعلم الأخلاق أن النظرة التقليدية له تعده علمًا معياريًا أي يدرس ما ينبغي أن يكون عليه السلوك الإنساني فيضع بذلك قوانين الأفعال الإنسانية ومثلها أو المبادئ العليا لها، وكان هذا هو الاتجاه التقليدي "المعتمد بين جمهرة الأخلاقيين فهم هذا العلم وتحديد منهجه. ولكن مدرسة من علماء الاجتماع في فرنسا قد اتجهت بالأخلاق في نهاية القرن الغابر ومطلع القرن الراهن اتجاهًا اجتماعيًا صورت فيه علم الأخلاق فرعًا من علم الاجتماع موضوعًا ومنهجًا .
وقد ذهب أتباع هذه المدرسة إلى اعتبار علم الأخلاق علمًا وضعيًا فهدموا بذلك التصور التقليدي له .
لقد فصل ليفي بريل وأستاذه دروكايم علم الاجتماع عن الفلسفة، وأطلقا عليه اسم "علم العادات" إشارة إلى أن الأخلاق هي دراسة موضوعية تجريبية لقوانين العادات الخلقية عند الإنسان.
ولكن علم الأخلاق- حتى كعلم عادات - لا يمكن أن يتجرد عن المبادئ والقيم المعنوية التي لا تخضع للتجربة.
إن الطردتى التجربيية لم تحل لنا إطلاقًا هذه المبادئ التي هي في جوهرها معنوية، فإن التجربة لم تخبرنا عن حقيقة الخير أوالشر أو السعادة أو الكرم أو الشجاعة.. إلخ.
ومن الثابت تاريخيًا أن من المحاولات التي عرضت المبادئ الخلقية للاهتزاز كانت بواسطة السوفسطائيين القدماء في بلاد اليونان حيث إنهم في نظريتهم في المعرفة قد اتخذوا من الفرد مقياسًا للأشياء فأصبحت الحقائق وليدة الإحساسات والانطباعات الذاتية الفردية فشككوا في وجود الحقيقة الموضوعية الثابتة. كما امتدت نظريتهم الابستمولوجية أي في المعرفة إلى مجال الأخلاق "فكان الفرد مقياس الخير والشر" .
ووقف في وجههم سقراط بشدة رافضًا قبول نظريتهم في المعرفة والنتائج الأخلاقية لمذهبهم، ورد الحقائق إلى العقل، وأقر بوجود قيم موضوعية مطلقة "لا تختلف باختلاف الزمان والمكان، ولا تتغير بتغير الظروف والأحوال" .
وتتفق النظرية السقراطية مع ما ذهب إليه الفلاسفة التقليديون حيث وضعوا الأخلاق ضمن علومهم المعيارية كما أوضحنا - فأصبح موضوع الأخلاق عندهم هو قيمة الخير ، وبهذا التوضيح يظهر الفرق الأساسي بين النظرية الفلسفية التقليدية للأخلاق وبين النظرية الوضعية أو الوصفية أو التقريرية - التي تبناها بعض علماء الاجتماع - حيث أصبحت الأخلاق عندهم هي مجرد "القواعد السلوكية التي تسلم بها فيعة من الناس في حقبة من حقب التاريخ" . فنزعوا عن القيم الأخلاقية فكرة الثبات والدوام التي عرفناها عند مثل سقراط.
وربما نشأت المشكلة في ميدان البحث الأخلاقي أن الأخلاق ترفض دافع البحث عن اللذة لذاتها كسلوك أخلاقي، لأن الشعور الخلقي يظهر أن ابتغاء اللذة لابد أن يفضي إلى حالة أليمة من التشتت الروحي والضياع النفسي، أي أن مسايرة الطبيعة من حيث نشدان اللذة وتجنب الألم لا تحقق لدى الإنسان مكارم الأخلاق التي يستمدها من معرفته للقيم والمبادئ الأخلاقية والمثل العليا.
وفي نظرة إفيلية عامة لآراء فلاسفة الأخلاق رأينا سقراط قد خلع على الأخلاق طابعًا عقليًا لأنه عد الفضيلة علم والرذيلة جهل، وكذلك اتجه كانط في العصر الحديث إلى اعتبار الأوامر المطلقة في الأخلاق بمنزلة البديهيات في الرياضة إلي الطبيعة.
ومن واقع هذه النظريات وغيرها التي تضع الأخلاق في صورة مبادئ وقوانين أخلاقية بصورة معيارية تعمل على تحديد القواعد كالحال في المنطق، فإن الأخلاق في هذه الحالة تصبح تشريعًا وتضطلع بمهمة التكليف والإلزام لا بمهمة العلم أو المعرفة .
التعريف بالقيم:
وفي تحريفنا للمبادئ نستطع أن نقول أنا سواء كانت خاصة بالعلوم أم بالأخلاق فهي القضايا الأولية "التي تعد نقطة بدء ضرورية لكل بحث كمبادئ علم الهندسة، وكمبدأ الحتمية العام في علم الطبيعة، وكمبدأ الواجب المطلق في الأخلاق .
وكان من الشعارات التي تمسك بها كثير من فلاسفة الأخلاق في القرون الوسطى بأوروبا هو أنه من الضروري ألا توضع المبادئ موضع الشك أو المناقشة.
وكان القديس أوغسطين مثلًا يذهب إلى أن هذه المبادئ حقائق أبدية ترتبط بالوجود الإلهي .
ولكن في العصر الحديث أصاب المبادئ الأخلاقية ما أصاب باقي المبادئ للعلوم الأخرى، وأصبحت المكانة التي تتمتع بها هدفًا للهجوم، وذلك نتيجة للملاحظات "التي تقررها فلسفة العلوم بما يتعلق بالتحولات الحديثة في العلوم الرياضية والطبيعية وفي العلوم الأخلاقية والسياسية أيضًا" .
ومن الخطورة بمكان إنزال القيم أو المبادئ الأخلاقية من محط نصها واستهدافها لتأثير النظريات النسبية التي سادت في القرن التاسع عشر، حيث امتدت فكرة الحقائق النسبية إلى ميدان الأخلاق وغلت في القول ونسبيتها، وسوت بين العادات الأخلاقية المتغيرة في كل قطر وفي كل أمة وفي كل عصر، وبين القاعدة الأخلاقية الثابتة .
نخلص من كل ذلك إلى أن كلمة القيم أو المبادئ تشير إلى معاني الضرورة والكلية والثبات والإطلاق، ولهذا فإننا نحذر من النظر إلى المبادئ الأخلاقية بمفهوم العصر الحاضر في الغرب المتسم بطابع النسبية والمرونة، لأننا إذا أخضعنا القيم الأخلاقية إلى قوانين التغير والنسبية فلن نلبث أن نصيب الحقيقة في الصميم (وبالتالي فإنه لن يلبث أن يؤدي إلى بلبلة الرأي العام الأخلاقي) .
ولتفادي الوقوع في هذا المأزق، ينبغي تحرير الفعل الأخلاقي من التقيد بالزمان أو المكان، لأن لا يكون أخلاقًا على الحقيقة إلا إذا تخلص من الرغبة أو الهوى، وانفصل عن الرغبة في تحقيق منفعة أو رغبة أي التزم بقانون يخالفه منافعه ورغباته.
(3) الإلزام الأخلاقي:
والإلزام في القانون الأخلاقي ينبع من ذاته، أو بعبارة أخرى فإن الأساس في الالتزام صادر عن الإنسان نفسه بمحض إرادته.
يقول كاريل "يجب على الإنسان أن يفرض على نفسه قاعدة داخلية حتى يستطيع أن يحتفظ بتوازنه العقلي والعضوي. إن أي دولة قادرة على فرض القانون على الشعب بالقوة، ولكن لا تستطيع أن تفرض عليه الأخلاق" .
ولكن الإلزام الأخلاقي يختلفن عن الحتمية في القانون الوضعي، فهذا الإلزام ينطوي على المسئولية الأخلاقية لأن الأفعال تصدر عنه ككائنات أخلاقية تملك الحرية وهي وثيقة الصلة بالأخلاق . وينبغي أن يدرك كل فرد ضرورة فعل الخير وتجنب فعل الشر وأن يرغم نفسه على اتباع هذا المنهاج ببذل جهد إرادي، فالإلزام هو المحور الذي تدور حوله المشكلة الأخلاقية؛ لأن زوال فكرة الإلزام تقضي على الحكمة العقلية والعملية التي ينبغي تحقيقها، فإذا انعدم الإلزام انعدمت المسئولية وضاع الأمل في إقامة العدل وعمت الفوضى وساد الاضطراب .
وهكذا فإننا نجد أنفسنا أمام علاقات واضحة محددة تتناول المبادئ الأخلاقية في إطلاقها وثباتها وعموميتها كهدف أسمى يسعى الإنسان لتحقيقه. ودعائم الإلزام التي تشكل عنصر الضرورة للفعل الأخلاقي، مع توافر حرية الإرادة لتأكيد المسئولية حتى يصبح للثواب والعقاب معنى.
ولكننا سرعان ما نصطدم بالمشكلة الأخلاقية، وهي مزدوجة تتمثل في معرفة الخير ثم في طريقة فعله ، وتتضح أبعاد هذه المشكلة في الإلحاح المستمر الذي يواجه الإنسان في نشاطه الدائم للاختيار بين هذا الفعل أو ذاك، واضطراره لأن يفرض على نفسه قاعدة معينة للسلوك فيختار الأحسن من بين أوجه التصرف العديدة وأن يتخلص من أنانيته وحقده .
وما دمنا نعتبر الإنسان هو محور دراستنا، فإنه مما لا شك فيه "أن النظر في سلوك الإنسان ينتقل بنا إلى مشاكل جديدة تدخل في نطاق دراستنا من حيث التزامه الخلقي ومسئوليته عن أفعاله التي ترتكز على ركنين أساسيين هما: العقل وحرية الاختيار .
الإنسان وحياته الأخلاقية:
إن النظام الأخلاقي يوجهنا - كما يقول دوركايم - نحو السيطرة على النفس بالذات ويعلمنا كيف نسلك على غير ماتريد دوافعنا الباطنة، فلا يترك نشاطنا ينساب في مجراه الطبيعي، ولكن يعلمنا كيف نقدم السلوك بمجهود. ولذا فإن كل فعل أخلاقي يتضمن مقاومة نبديها لميل معين - وكبتًا لشهوة ما - وتقييمًا لنزوع خاص .
أضفت إلى ذلك أن الإنسان هو الكائن الأخلاقي الذي أعده الله سبحانه لقابلية الارتفاع إلى درجات الكمال بمقتضى روحه التي تمده لبلوغ الغاية المطلوبة وهو يشعر في أعماقه بهذا الصراع الدائم بين روحه المهيأة وبين أخلاط عناصر جزئه الأرضي أي جسده المعرض للسقوط .
إن الدور الذي تقوم به الأخلاق هو تجريد هذا العنصر الروحي فترتقي به فوق المستوى الطبيعي ، وهو ما يسميه بارتملي المبدأ الأسى أو القانون الملزم لنا.
وتفسير ذلك أن الإنسان يجد في نفسه صوتًا يناجي ضميره فيمدحه إذا ما عمل صالحًا ويلومه إذا ما عمل سيئًا، فهو بمثابة القانون الملزم الذي يناجي العقل "هوالمبدأ الأسمى وفوق الإنساني" .
ويذهب بارتملي إلى أننا نشعر في أعماق نفوسنا بصدى هذا القانون ونعجز عن تغييره رغم وحي منافعنا وعمليات شهواتنا. هذا دليل على أنه أمر مغاير لنا، وهو ما يعنيه بقوله "هو فينا ولكنه ليس إيانا".
وربما يأتي في العبارة التالية للإرادة شارحًا لمقصوده، فإن الإرادة على عكس هذا القانون "هي نحن... نحن، وهي شخصنا. وبقدرتنا المزدوجة على الطاعة والعصيان" .
"فالإرادة تستطيع بما لها من حرية ويطلق عليها من صفات الهبة المعجزة المخيفة" أن تنفذ هذا القانون أو يخالفه. ومن الصراع الناشب بينها يجد الإنسان أنه يحمل في نفسه ما يشبه القانون أو المحكمة تملك الحق في إصدار الحكم بالإدانة أو البراءة حاسب أنواع سلوكه، ورهن قدرتها على تنفيذ الأحكام قاصرة إما على الرضا إن عمل خيرًا وإما باللوم ووخز الضمير إن عمل شرًا .
إن الأخلاق إذن لصيقة بالإرادة، تدور معها إيجابًا وسلبًا، أي صعودًا إلى المستوى الإنساني الراقي، أو هبوطًا إلى المستوى الحيواني.
وتأكيدًا لهذه المكانة، فإن الدكتور دراز قد حدد تعريف الخلق بأنه "قوة راسخة في الإرادة تنزع بها إلى اختيار ما هو خير وصلاح إن كان الخلق حميدًا، أو إلى اختيار ما هو شر وجور إن كان الخلق ذميمًا" .
وكأنه يضعنا بهذا التعريف أمام مرآة نفسنا لكي ننظر فيها ثم نعدل اتجاه إرادتنا لنتحرى فعل الخير ونتجنب فعل الشر.
وهذا هو هدفنا من دراسة علم الأخلاق.
الهدف من دراسة علم الأخلاق:
قلنا في البداية إن الخلق في اللغة: هو الحجية والطب والعادة ولكن كلمة "خُلُق" وحدها لا تعطي معنى الأخلاق الحسنة؛ لأنها تحتمل المعنيين الحسن والقبيح، فكيف نكتسب الأخلاق الحسنة ونتخلص من الأخلاق السيئة؟
إن هذا السؤال في موضعه تمامًا لأننا نعتقد أن ثمرة العلم العمل، فلا يكفي في الدراسة الأخلاقية البحث العلمي في الحياة الخلقية وقوانينها، ولكن يجب أن نهدف إلى الإقناع بأنه في إمكاننا بواسطة الجهد الدائب أن نرتفع بأخلاقنا إلى المستويات الحسنة وأن نتخلص من الأخلاق السيئة، وهذا ما تنبه إليه علماء الإسلام حيث هدفوا إلى التخلق بالأخلاق الفاضلة بالتكلف والمران. منهم الإمام ابن القيم الذي رأى أن يكون الخلق بالنفس يتم على مراحل ويأتي بالتكيف والتمرن، كالتحلم والتشجع والتكرم وسائر الأخلاق، فإذا تكلفه الإنسان واستدعاه صار سجية وطبعًا مستندًا في ذلك إلى حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - "ومن يتصبر يصبره الله" .
ويقول الراغب الأصفهاني: "الإنسان مفطور في أصل الخلقة على أن يصلح أفعاله وأخلاقه وعلى أن يفسدها، وميسر له أن يسلك طريق الخير والشر" .
وتصبح الدراسة الأخلاقية مساعدة على بذل الجهد الأخلاقي المطلوب، إذا اقتنعنا بعد البحث والدراسة أن في إمكان الإنسان التخلص من أخلاقه الرديئة واكتساب الأخلاق الحسنة، فالعلم لابد أن يقودنا إلى العمل وإلا فلا فائدة فيه إذ الاكتفاء بالعلم دون العمل مضيعة للوقت والجهد.
الهدف إذن من علم الأخلاق - كما يحدده ابن مسكويه "421هـ" أن نحصل لأنفسنا خلقًا تصدر به عنا الأفعال كلها جميلة، وتكون مع ذلك سهلة علينا لا كلفة ولا مشقة ويكون ذلك بصناعة وعلى ترتيب تعليمي .
ويشير ابن مسكويه في عبارته إلى رياضة النفس وتقويمها بالتهذيب والصقل حتى تصير الأخلاق ملكه.
ويقول زميلنا الفاضل الدكتور عبد اللطيف العبد "إنه لابد من إعادة بناء شخصية الإنسان المسلم على أساس من القيم الأخلاقية الرفيعة، المستمدة من شريعة الله تعالى. لا على أساس المنهج المادي وحده، هذا المنهج الذي يجعل من الإنسان شخصية هزيلة الروح. وشبحًا بعيدًا عن الإنسانية والرحمة" .
ولتحقيق ذلك لابد من معرفتنا بأنفسنا والوقوف على المعركة الدائرة فيها بين الإرادة والغرائز.
الإنسان بين الغريزة والإرادة:
مهما تعددت النظريات الأخلاقية وتباينت الفلسفات التي تعالج المشكلات الأخلاقية فإنها تتفق على موضوع واحد تتخذ منه أساسًا لأبحاثها وهو الإنسان بعامة والإرادة الإنسانية بخاصة إذ أن الأخلاق تدور على ماهية الإنسان فهي تعد بالبحث في عواطفه وغرائزه وانفعالاته وميوله وحاجات أساسية يتفق فيها مع الحيوان، وهي تمثل الحد الأدنى للإنسان. كما أن هذا الإنسان يتميز عن الحيوان بالعقل والعلم والإرادة. ولا يعنينا في الدراسة الأخلاقية كما قلنا العلوم والمعارف، بل يعنينا في المقام الأول الإرادة الإنسانية. ولهذا قلنا إن هذه الإرادة هي مركز الدائرة في المعظم- إن لم يكن كافة مذاهب المفكرين الأخلاقيين والفلاسفة، لأن علم الأخلاق يتناول دراسة أفعال الناس بالقياس إلى مثل أعلى .
وعندئذ يتضح لنا موضوع هذا العلم بصورة شاملة ولانقصد بالأفعال الفصل بين النشاط الفسيولوجي والنشاط العقلي في الإنسان إلا لمجرد محاولة تبسيط الموضوع الذي نحن بصدده. فالحقيقة أن الجسم والروح هما وجهان لشيء واحد، فلا الروح ولا الجسم يمكن أن يفحص كل منهما على حدة - إذ يتكون الإنسان من جميع وجوه نشاطه الفعلية والمحتملة، ولكننا مع هذا سنظل نتحدث عن الروح باعتبارها شيئا ذاتيًا "فالروح هي جانب أنفسنا المحدد طبيعتنا والذي يميز الإنسان عن جميع الحيوانات الأخرى" .
والواقع أن كل عصر وكل مجتمع إدنا يضعان تحت "مفهوم الإنسان" إنسان "هذا العصر" أو هذا المجتمع لا "الإنسان المطلق" أو الإنسان بصفة عامة. وإذا كان من الحق أن الرجل اليوناني قديمًا لم يكن يحتسب للرجل البربري أي حساب، فإن من الحق أيضًا كما يقول "دوركايم "إن الرجل الأوربي في أيامنا هذه ما يزال يعتقد أن الإنسان هو على وجه التحديد "إنسان هذا المجتمع الغرب المسيحي" . وهذه النظرة تفسر لنا اختلاف الفلاسفة وعلماء الأخلاق في معالجتهم للمسائل الأخلاقية، وتكشف عن النزعة العنصرية أيضًا. على أن الاكتفاء بوصف الإنسان بأنه كائن ناطق روحي شاعر بذاته ، قد يصلح في مجال دراسة علم النفس الذي يعنى بدراسة الإنسان من الناحية النفسية أو العقلية، ولكنه لا يعطينا المدلول الرئيسي في مجال الأخلاق؛ إذ لابد من إثبات الإرادة حتى يمكننا تحليل السلوك الإنساني من حيث حرية الفعل أو العكس. وتظهر المسئولية الأخلاقية بوضوح إذا نظرنا إلى ركنيها الرئيسيين وهما كما بينا من قبل - العقل وحرية الاختيار ، وما دام الأمر كذلك فإن البحث في مجال الأخلاق له صلة وثيقة بالتربية.
صلة الأخلاق بالتربية:
تبين لنا مما تقدم أن العنصر الجوهري في طبيعة الإنسان هو العنصر العقلي أو الروحي، وإذا كان يتشابه مع الحيوان في اشتراكهما في الشهوات واللإحساسات، فإنه يتميز بالعقل . يستطيع بفضله أن يعرف الأشياء كما يستطيع بفضل إرادته تهذيب شهواته بالرياضة والتربية.
وتظهر الوظيفة الأولى للمربي في العمل على تفتيح ذهن الحدث أو الشاب للقيم الخلقية .
والتربية لغويًا: "من ربا يربو إذا زاد ونما. فهي تعهد الشيء ورعايته بالزيادة والتنمية والتقوية والأخذ به في طريق النضج والكمال الذي تؤهله له طبيعته" .
وتظهر التربية وللإنسانية الكاملة إذا نظرنا إلى احتياجات وللإنسان المتعددة ومواهبه المتنوعة وأحطنا بقواه وملكاته جميعها لكي نتعهدها بالتنمية والتقوية.
وتتعدد أنواع التربية تبعًا لقوى الإنسان وملكاته، فمنها التربية البدنية لتنمية الجسم وحفظ الصحة، والتربية الأدبية التي تتعهد اللسان وتقومه وتصلح بيانه، والتربية العقلية لتصحيح تفكيره وأحكامه، والتربية العلمية التي تزوده بالمعلومات النافعة والتربية الذهنية التي تساعده على كسب عيشه، والتربية الفنية التي توقظ شعوره بجمال الكون ودقة تنسيقه وتنظيمه، والتربية الاجتماعية وهدفها تنمية روح الإيثار والغيرة ضد الأنانية والتعريف بالنظم والقوانين السائدة بالمجتمع، وهناك أيضًا التربية الإنسانية لتوسيع الأفق والتنبيه إلى الأخوة العالمية. والتربية الدينية للتسامي بالروح إلى الأفق الأعلى بإطلاق. وتأتي التربية الخلقية للتوجيه المستمر للعمل على سنن الاستقامة حتى تتكون العادات الصالحة والأخلاق الحميدة الراسخة .
ومن المعلوم أن التربية الخلقية هي السياج التي تحيط بألوان التربية جميعًا، فمن واجب الفنان مراعاة قانون الحشمة واللياقة والمحافظة على ستر الحياء والعفاف، وعلى المعلم الإحسان في اختيار مادة تدريبه العقلي واللغوي.. وهكذا ينبغي أن نخضع سائر ألوان التربية في وسائلها وأساليبها وبواعثها لقواعد الآداب وأن نقيس ذلك كله بمقاييس الفضيلة .
وتحتاج التربية الخلقية إلى أنواع من التعب والصبر وطول المرانة لتكوين الملكة الخلقية حتى يصبح السلوك الأخلاقي عملًا انبعاثيًا محببًا إلى القلب. أما الكسالى الضعفاء فلا تتكون لديهم الملكات، بل تموت مواهبهم وتضعف عزائمهم ويحرمون من الاضطلاع بأعباء الحياة والتأثير فيها، بل يعيشون ويموتون في جهالة جهلاء .
كذلك لا ينبغي أن نغفل بيان الصلة الوثيقة بين الأخلاق والدين كمصدر رئيسي لقدسية القوانين الأخلاقية ودافع قوي للإنسان إلى الأعمال الخيرة.
صلة الأخلاق بالدين:
هناك تعريفات مختلفة للدين بوجه عام، منها "أنه حالة خاصة بالشخص مؤلفة من عواطف وعقائد، وصت أعمال عبودية تتعلق بالله" أو أنه نظام اجتماعي لطائفة من الناس يؤلف بينها إقامة شعائر موقوتة، وتعبد ببعض الصلوات وإيمان بأمر نحو الكمال الذاتي المطلق وإيمان باتصال الإنسان بقوة روحانية أسمى هي الله الواحد، أو هو احترام في خشوع لقانون أو عادة أو عاطفة .
وإذا نظرنا إلى الدين باعتباره معرفة الحق الأعلى وتوقيره.
وإلى الخلق باعتباره قوة النزوع إلى فعل الخير وضبط النفس عن الهوى، فإننا أمام فضيلتين أحدهما نظرية والأخرى عملية.
غير أنه لما كانت الفضيلة العملية يمكن أن تتناول حياة الإنسان في نفسه وفي مختلف علائقه مع الخلق ومع الرب، كان القانون الأخلاقي الكامل هو الذي يرسم طريق المعاملة الإلهية كما يرسم طريق المعاملة الإنسانية. وكذلك لما كانت الفكرة الدينية الناضجة هي التي لا تجعل من الألوهية مبدأ تدبير فعال فحسب، بل مصدر حكم وتشريع في الوقت نفسه، كان القانون الديني الكامل هو الذي لا يقف عند وصفه الحقائق العليا النظرية وإغراء النفس بحبها وتقديسها، بل يمتد إلى وجوه النشاط المختلفة في الحياة العملية فيضع لها المنهاج السوي الذي يجب أن يسير عليه الفرد والجماعة. وهكذا يصل القانون الديني إذا استكمل عناصره إلى بسط جناحيه على علم الأخلاق كله، بل على سائر القوانين المنظمة لعلاقات الأفراد والشعوب بحيث يجعلها جزءً متممًا لحقيقته ويصبغ كل قواعدها بصبغته القدسية .
والعقيدة باعتبارها المصدر الرئيسي للإحساس بقدسية القوانين الأخلاقية هي أكبر دافع يدفع الإنسان إلى الأعمال الإيجابية الخيرة وأقوى رادع يكفه عن اتباع الهوى .
وبذلك يظهر تفوق العقيدة الدينية في الحياة الإنسانية إذا قورنت بالقانون، ذلك لأن القانون لا يكفي وحده لضبط السلوك الإنساني. ويذهب الفيلسوف الألماني فيخته إلى أن الأخلاق من غير دين عبث، وبالمثل يضع غاندي الدين ومكارم الأخلاق في مرتبة واحدة لا يقبلان الانفصال، بل يرى أن الدين يغذي الأخلاق وينميها وينعشها كما أن الماء يغذي الزرع وينميه.
ولا نذهب بعيدًا إذا استشهدنا بنتائج التحقيق الذي أجراه القاضي البريطاني ديننج في فضيحة الوزير البريطاني وكريستين كيلر حيث مكث نحو ثلاثة شهور يحقق في هذا القضية قابل خلالها 180 رجلًا وامرأة وعكف يدرس القضية بمنظار الباحث المدقق، فخرج منها بنتيجة مهمة أعلنها في قوله "بدون الدين لا يمكن أن تكون هناك أخلاق وبدون أخلاق لا يمكن أن يكون هناك قانون" .
أما عن مكانة التدين في الفطرة الإنسانية، فإنه من العناد والمكابرة إنكار هذه العاطفة الراسخة في النفس البشرية، إذ أنها أشد عواطف الإنسان لصوقًا بنفسه، وأعظمها تأثيرًا في حياة الأفراد والشعوب "ولقد صحب الدين الإنسانية منذ نشأتها، فهو قرينها وموجهها، وليست تلك العاطفة وهمًا أو خيالًا ولكنها عنصر جوهري في فطرة كل إنسان" .
ودور الدين في تربية الأفراد لا يقل شأنًا عنه في تربية الجماعات والأمم، بل وإقامة الحضارات، فليس مرد الحضارة - كما سنرى في الفقرة التالية - إلى التقدم المادي الذي قد يحجب مؤقتًا مظاهر الضعف والانحطاط الخلقي، بل إن أساس الحضارات كلها هو الإنسان، منه يبدأ التقدم والتشييد والاكتشافات العلمية، فلا تغني العلوم والثقافات عن التربية والتهذيب الديني لأن العلم سلاح ذو حدين، يصلح للبناء والهدم أيضًا، ولابد له من رقيب أخلاقي عند استخدامه لكي يوجه إلى خير الإنسانية - لا لدمارها ونشر الشر والفساد في ربوع الأرض، وهذا الرقيب هو العقيدة والإيمان .
وليس أدل على ذلك من الأقوال التي نسوقها لبعض أقطاب العلم والزعماء وقواد الحرب في العالم الغربي نفسه. يقول روبرت ميلكيان العالم الطبيعي الأمريكي "إن أهم أمر في الحياة هو الإيمان بحقيقة المعنويات وقيمة الأخلاق. ولقد كان زوال هذا الإيمان سببًا للحرب العامة وإذا لم نجتهد الآن لاكتسابه أو لتقويته فلن يبقى للعلم قيمة، بل يصير العلم نكبة على البشرية"، وقد نصح الرئيس الأسبق للولايات المتحدة الأمريكية قومه بضرورة إنقاذ حضارتهم بالمعنويات، إذ لن يستطيعوا المثابرة على البقاء بماديتها "وأنها لا يمكن أن تنجو إذا سرى الروح الديني في جميع مسامها... ذللت هو الأمر الذي يجب أن تتنافس فيه معابدنا، ومنظماتنا السياسية، وأصحاب رءوس أموالنا، وكل فرد خائف من الله محب لبلده" واعتبر المارشال مونتجمري ((أحد القواد الكبار في الحرب العالمية الثانية))، أن أهم عوامل الانتصار في الحرب هو العامل الأخلاقي موقنًا بأن الجيش إذا سار على غير مرضاة الله سار على غير هدى، وحث جنوده بالانتصار على أنفاسهم قبل العدو. وهو نفس الهدف الذي رمى إليه المارشال بيتان عقب توقيعه الهدنة إثر هزيمة فرنسا في الحرب العالمية الثانية من النداء الذي وجهه إلى أمته قال فيه: "إنني أدعوكم أول كل شيء إلى نهوض أخلاقي" .
إن العقيدة الدينية إذن تجعل للأخلاق فعالية وإيجابية مؤثرة، إذ أن الفكرة المجردة "لا تصبح عاملًا فعالًا إلا إذا تضمنت عنصرًا دينيًا، وهذا هو السبب في أن الأخلاق الدينية أقوى من الأخلاق المدنية إلى حد يستحيل معه المقارنة، ولذلك لا يتحمس الإنسان في الخضوع لقواعد السلوك القائم على المنطق، إلا إذا نظر إلى قوانين الحياة على أنها أوامر منزلة من الذات الإلهية .
وخير دليل يبرهن على هذا الرأي ما يسجله لنا التاريخ الإسلامي من عجائب الانقياد والطاعة للأوامر الإلهية التي كان المسلمون يصدعون بها حال التبليغ بها، ومنها ما حدث عند نزول النهي عن الخمر "فعن أي بريدة عن أبيه قال - بينما نحن قعود على شراب لنا ونحن نشرب الخمر حلًا، إذ قصت حتى آتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم عليه إذ نزل تحريم الخمر {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90] إلي قوله {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] فجئت إلى أصحابي فقرأتها عليهم إلى قوله {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] قال - وبعض القوم شربته في يده قد شرب بعضها وبقي بعض في الإناء، فقال بالإناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجام، ثم صبوا في باطيتهم فقالوا: "انتهينا ربنا" .
كذلك ضرب النساء المسلمات المثل في التصديق لكتاب الله والإيمان بالتتريل، إذ لما نزلت في سورة النور {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ} [النور: 31]، انقلب رجال الأنصار إلى نسائهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم منها، يتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذات قرابة فما منهم امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل فاعتجرت به تصديقًا وإيمانًا بما أنزل الله من كتاب، فأصبحن وراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأن على رءوسهن الغربان .
وما أحوجنا إذا أردنا استعادة أمجادنا من جديد إلى الانقياد لأوامر شرع الله تعالى كما فعلت أجيال المسلمين من قبل إبان ازدهار حضارتنا الإسلامية، لا سيما إذا علمنا - كما بينا توًا - أن الأخلاق هي الركن المكين للحضارات والأمم.
الأخلاق والحضارة:
عندئذ تأتي مناسبة طرح الصلة بين الأخلاق والحضارة، بادئين بتحليل آراء أحد الفلاسفة الذين تخصصوا في قضية الحضارة وهو ألبرت شفيتزر فيعرف الحضارة بأنها ((بذل الجهود بوصفنا كائنات إنسانية من أجل تكميل النوع الإنساني وتحقيق التقدم.. على أن نهب العالم والحياة معنى حقيقيًا".
ويرى أن طابع الحضارة أخلاقي في أساسه، فهناك إذن ارتباط بين الحضارة ونظرتنا إلى الكون وإلى الحياة، فإن المعتقدات - لا الإنجازات التكنولوجية - هي القوة الدافعة للحضارة .
ومرد اهتمامه بالمعنى والغرض يرجع إلى أنه بافتقاد النظرة الكونية، سيبقى الإنسان سجين رغباته وآماله الموقوتة التي تنقضي بتحقيقها، ويبقى السؤال بلا إجابة، أي: ما معنى حياتي وما الهدف منها؟
إنه يخشى على أبناء حضارته من أثر فقدان المعنى الحقيقي للحياة، ويرى أن مأساة الإنسان المعاصر هي تضاؤل الحرية والقدرة على التفكير وأن بداية كل حياة روحية ذات قيمة هي الإيمان بالشجاع بالحق والقول به صراحة مقترحًا تخصيص ثلاث دقائق كل مساء للنظر في السماء المرصعة بما لا نهاية له من النجوم تمهيدًا لإصلاح الأحوال التي نعيش فيها اليوم.
وربما كان اقتراحه هذا بسبب افتقاده لمعرفة ما نصت عليه العديد من الآيات القرآنية للحث على النظر والتدبر في آيات الله تعالى في السماء والأرض.
وعلى أية حال فإنه عبر عن فطرته في حاجة الإنسان الماسة إلى التفكر في أوقات متقاربة - كما ينبغي للمسلم أن يفعل "لا ثلاث دقائق فحسب كل مساء" ليتحرر من آلية الحياة الاجتماعية ويراجع نفسه ويجد نشاطه الذهني ليظل متيقظًا ومدركًا لمعنى الحياة والنشأة والغاية، وعندئذ يتضح بجلاء ضرورة القيم الخلقية للحياة الإنسانية، فالخير في حفظ الحياة وترقيتها وتقويتها، والشر نحو تحطيمها وتضييق آفاقها .
أما تعليل أزمة الحضارة فيقوم على اعتبار التقدم المادي أكبر بكثير جدًا من لقدمها الروحي، بينما لا يتحدد الطابع الجوهري للحضارة بإنجازاتها المادية، بل باحتفاظ الأفراد بالمثل العليا لكمال الإنسان، وتحسين الأحوال الاجتماعية والسياسية للشعوب وللإنسانية في مجموعها .
ثم يأتي بمقترحاته لإنقاذ الحضارة المعاصرة وتجديدها وهي:
1- تجديد النظر إلى الحياة، وسعي جديد لإيجاد نظرة كونية .
2- هز الناس في هذا العصر ودفعهم إلى التفكير الأولى في حقيقة الإنسان ومكانته في العالم، لأن الكمال الروحي والأخلاقي للفرد هو الغاية القصوى من الحضارة .
ونضيف تحليلًا ثانيًا للدكتور مراد هوفمان الذي تجمدت لديه عناصر المنهج العلمي مع البحث والدراسة والمعايشة الواقعية لكلا الحضارتين الغربية والإسلامية.
إنه يرى أن الغرب انصرف منذ بداية القرن التاسع عشر عن الدين المسيحي واستبدله "بأيديولوجية دينية أخرى" تشكلت من فيورباخ وماركس وداروين ونيتشه وفرويد، منطلقًا بها انطلاقة مادية هائلة أثرت على السواد الأعظم من الكتل البشرية في القرن العشرين، في فقدان السمو فوق المادية وتمكن المادية المبتذلة لدى الإنسان الغير المرتبط بوازع يزعه "والذي يتخذ من عالم أحاسيسه المادية مقياسها لكل شيء، فالمتعة واللذة غاية وجوده، وتعطشه لا يروى لاهثًا خلف تحقيق الجنة الاستهلاكية على الأرض" .
وقد أصبحت هذه الظاهرة - عن طريق العدوى مع التقليد الحرفي – أحد أسباب تدهور العالم الإسلامي، ولكن لم تصل إلى حد التطور العقيم غير القويم الذي انتهى إليه العالم الغربي، معللًا ذلك بأن دروع المقاومة للعالم الإسلامي تمثلت في الاستمساك بالفضيلة والأخلاق الحميدة بالرغم من مظاهر التدهور.
واستخلص الدكتور مراد هوفمان - من دراسته وملاحظاته عن كثب - أن الإسلام "الذي زلزلته الكوارث الدامية والأزمات النامية لم يقض نحبه ولم يقبر، بل على العكس انطلق زاخرًا بالحياة والنشاط أقوى ما تكون الحياة، حتى لقد بدأ البعض في الغرب يعتقد أنه لابد مرة أخرى - أن يحاسب للإسلام حساب وأن يخشى بأسه، أما المجتمعات الصناعية الغربية، فقد أخذت الأزمات بخناقها .
وتتلخص هذه الأزمات في تحول الخصال الحميدة والسلوك الحسن المنضبط إلى قيم جديدة وألفاظ سلوك مستحدثة كالأثرة والسلوك الجمعي الغير المتعقل في مجموعات "شلل" تؤم المراقص، والفوضى الخلقية، وإباحة الإجهاض وجنون الاستهلاك والعداء الأعمى للتراث، أو لكل ما يعد تقليديًا والإباحية الجنسية التي لا تعرف محظورًا أو محرمًا، والمخدرات بأنواعها... إلخ .
ويقرر في النهاية أن الإسلام باعتباره دينًا ونظام حكم مشروعًا معتمدًا "لم يفقد قط وظيفته وهيبته، حتى في تركيا نفسها، اللهم إلا إذا استثنينا الفئة المتشبهة بالغرب الغربية الثقافية واليد واللسان والزي" .
ثم يفخر كمسلم اعتنق الإسلام دينًا بعد اقتناع وفهم، أنه دين يدعو للفضيلة والأخلاق الحميدة بينما يعرف من خبراته السابقة عن مجتمعات الغرب أن الغربي يرى التحلي بالفضيلة والالتزام الخلقي، يراه خطرًا يقربه مما كان سائدًا في العصر الفيكتوري من التزمت الخلقي المصطنع. ثم يبدي رأيه في العبارة التالية وكأنه يخاطب أحد مواطنيه بقوله: "لتقل إذن أن الإسلام في تمسكه بالفضيلة عتيق، ولنا أن نعتز بذلك فنؤكد أن الإسلام فخور بهذا" .




وسنمضي في بحثنا في الفصل التالي لعرض مذاهب الأخلاق عند بعض فلاسفة اليونان وبيان أوجه القصور فيها.


Summarize English and Arabic text online

Summarize text automatically

Summarize English and Arabic text using the statistical algorithm and sorting sentences based on its importance

Download Summary

You can download the summary result with one of any available formats such as PDF,DOCX and TXT

Permanent URL

ٌYou can share the summary link easily, we keep the summary on the website for future reference,except for private summaries.

Other Features

We are working on adding new features to make summarization more easy and accurate


Latest summaries

يحتل قانون العم...

يحتل قانون العمل أهمية بالغة بين التشريعات التي تنظم المجتمع الحديث على كل من الصعيدين الاجتماعي وال...

[الإعداد: خيمة ...

[الإعداد: خيمة في وسط الصحراء، الشمس تنخفض ببطء وتضفي أشعتها الذهبية على الرمال المتلألئة. سعود ومشا...

Almost everyone...

Almost everyone has indulged in gossiping about other people at some time. Gossiping seems to be par...

Employee fatigu...

Employee fatigue can be a result of working for a long period of hours so, we facilitated a website ...

الفصــل الثالــ...

الفصــل الثالـــث قضية التقدم العلمى والتكنولوجى مقدمــــة : يشهد العالم المعاصر تغيراً سري...

راملبحــــث الث...

راملبحــــث الثـــــالث التعليق على القرارات و األحكام القضائية إن كل دعوى ترفع أمام القضاء تمر بمجم...

كتب على العلاقا...

كتب على العلاقات بين مصر والسودان أن تظل متذبذبة، كلما استقرت على حال من الهدوء تجد ما يعكر صفوها، أ...

فوائد التشجير ...

فوائد التشجير 1. يحارب ظاهرة الاحتباس الحراري وتغير المناخ الميزة الأكثر أهمية للتشجير هي أنها تحار...

Method Numerica...

Method Numerical Experiments on Standard NX2 Device with Neon Filling Gas The following bank, tube,...

ظهر اسم هذا الن...

ظهر اسم هذا النحات في مقبرة واحدة فقط وهي المقبرة رقم (29) IGN) 10 (1) ( لوحة (ب) وتؤرخ بالسنة الثال...

تحليل و تصميم ا...

تحليل و تصميم النظام : هي دراسة النظام الحالي ومعرفة مكوناته وعملياته والمشكلات التي يواجها ومن ثم...

فإذا كانت المنظ...

فإذا كانت المنظمة تتعامل مع الموارد البشرية والموارد المالية والموارد الطبيعية والمعلومات أو تتعامل ...