Lakhasly

Online English Summarizer tool, free and accurate!

Summarize result (Using the clustering technique)

أثر تدابير مكافحة الإرهاب على حقوق الإنسان في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
نيل هيكس2021-12-01 26 دقائق
مشهد عام خلال إحدى جلسات مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة بجينيف،
مشهد عام خلال إحدى جلسات مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة بجينيف،
حمل هذا المقال كبي دي إف
الإشارة المرجعية: هيكس،
تركز هذه الورقة على الطريقة التي تواصل فيها هذه القوى السلبية إفراز أثر مدمر على حالة حقوق الإنسان في بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
كما تسلط الورقة الضوء على الطريقة التي تسهم فيها الأولوية التي مُنحت لضرورة تعزيز التدابير الأمنية في سبيل مكافحة الإرهاب،
وبطرق كان لها آثار بالغة الضرر تتخطى الاتجاهات الخمسة التي أوردناها أعلاه،
باعتبارها عاملًا رئيسيًا يسهم في أزمة حقوق الإنسان المستشرية والمتفاقمة التي يستحكم أمرها في المنطقة،
مساواة المدافعين عن حقوق الإنسان ومضاهاتهم بالإرهابيين
وتُعدّ الفكرة التي تقول إنه يمكن تجريد شخص أو منظمة من حماية الحقوق الواجبة له أو لها بوسمه بكل بساطة بأنه إرهابي إحدى أفدح الآثار التي خلّفتها السياسات العالمية لمكافحة الإرهاب على مدى السنوات العشرين الماضية.
عسكرة الصراعات الأهلية المتصاعدة وإضفاء الطابع الأمني عليها
اضطلعت سياسات مكافحة الإرهاب بدور جلي في تفاقم العديد من الصراعات في مختلف أنحاء المنطقة على مدى العقدين المنصرمين.
فكان العراق ساحة المعركة الإقليمية الأصلية في الحرب العالمية التي شنّتها إدارة رئيس الولايات المتحدة جورج دبليو بوش على الإرهاب بعد الحادي عشر من سبتمبر.
وبينما جرى تحقيق الهدف الأصلي أو إسقاط الحكم الدكتاتوري الذي تزعمه صدام حسين بيسر وسهولة نسبية،
وأرست جذورها في مناطق غير خاضعة للحكم امتدت من العراق إلى ليبيا ومنطقة الساحل.
[3] وانطوى الاتجاه الثاني على نزعة متنامية لاندلاع الصراعات في الدول التي تحكمها حكومات مركزية ضعيفة أو تفتقر إلى هذه الحكومات،
مع ما واكب ذلك من أدوار فاعلة أدتها دول الخليج الغنية،
ناهيك عن مشاركة روسيا واستمرار وجود الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين إلى حد ما.
وهي أساليب تضرب أصولها في النظرية التي ترى أن توجيه قوة عسكرية ساحقة يُفترض أن يردع الإرهابيين عن التفكير مرة أخرى في شن هجمات على الولايات المتحدة وحلفائها في المستقبل.
ثم ظهور فروع لجماعة الدولة الإسلامية في فلسطين ومصر وسائر أنحاء المغرب العربي.
كما أتاحت مكافحة الإرهاب الذريعة التي يسرت للقوى الإقليمية والدولية التدخل عسكريًا في الصراعات الدائرة في سوريا واليمن وليبيا،
جرى تسويغ الدعم العسكري والدبلوماسي الروسي لحكومة الأسد في دمشق على أنه وسيلة لمنع الجماعات الإرهابية من الإمساك بزمام السيطرة على الأراضي التي تسيطر جماعات المعارضة عليها.
مما أغرق ليبيا في أتون حرب أهلية حرّكتها مطامع القوى الإقليمية ولا تزال متواصلة منذ سبع سنوات أو تزيد.
ضعف الضغط الذي تمارسه الدول على نظيراتها من أجل صون حقوق الإنسان
[10] عاجزين عن التغلب على روسيا من خلال توظيف الذريعة نفسها لإعاقة العمل الجماعي المعني بحماية المدنيين السوريين في مجلس الأمن بالأمم المتحدة.
وهو ما يمكن تفسيره بأن الولايات المتحدة تقاسمت درجة من المصلحة المشتركة مع الرياض بالرغبة في لجم انتشار النفوذ الإيراني من خلال الدعم الذي تقدمه طهران للحوثيين.
[11] وهو ما سوّغ خوض صراع عسكري دون إيلاء أدنى اعتبار للقانون الدولي أو المحلي.
وأصبح ادعاء المشاركة في الكفاح ضد الإرهاب وإبداء الرغبة في التحالف مع المساعي العالمية التي تتزعمها الولايات المتحدة وحلفاؤها في سبيل مكافحة الإرهاب،
ستارًا واقيًا من الانتقادات الموجهة إلى الدول في شتى أنحاء المنطقة بسبب ما ترتكبه من انتهاكات لحقوق الإنسان.
وبات عدد غير قليل من الحكومات الغربية يميل إلى احتضان حكومات استبدادية تبدي الاستعداد للحديث عن محاربة الإرهاب في المنطقة.
بما تشمله من استهداف الصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان وغيرهم من المنتقدين الذين لا يسلكون مسلك العنف بوصفهم إرهابيين،
كما اعتمد هؤلاء في مفاوضاتهم مع الحكومات الغربية مواقفًا شددوا فيها على المساهمة المفترض أنهم يقدمونها في سبيل حماية الأمن الدولي من خلال صد الهجمات الإرهابية في أقاليمهم.
ويمكن ملاحظة الأولوية المتدنـية التي تحظى بها حماية حقوق الإنسان ضمن الاستراتيجيات العالمية التي تُعنى بمحاربة الإرهاب في نشأة الإجراءات البيروقراطية التي تطبقها الأمم المتحدة في نيويورك في ميدان حقوق الإنسان.
[14] كيف أن هيكلية مكافحة الإرهاب التي صُممت في نيويورك منذ الحادي عشر من سبتمبر تصدّق على «استخدام تدابير قانونية استثنائية» من جانب الدول وتؤكدها،
ويؤكد الإحجام عن منح الأولوية لحقوق الإنسان ضمن منظومة الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب أن مبالغ ضخمة رُصدت لركائز أخرى من استراتيجية الأمم المتحدة العالمية لمكافحة الإرهاب[15] غير الركيزة الرابعة،
بغية إعفائها من الالتزامات المترتبة على الامتثال للالتزامات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان.
وأصبح من الثابت أن الإشارات الواردة إلى حقوق الإنسان في استراتيجية الأمم المتحدة العالمية لمكافحة الإرهاب وفي القرارات الصادرة عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لا أثر يُذكر لها على ممارسات الدول،
مما قوض حقوق الإنسان وحط من قدرها على المستويين الإقليمي والعالمي.
استشراء القوانين الاستثنائية التي تقوض أركان القانون الدولي
[16] والتي اشترطت على الدول سن التشريعات الرامية لمكافحة الإرهاب ورفع تقاريرها إلى لجنة الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب بشأن الخطوات المتخذة لتنفيذ تدابير مكافحة الإرهاب.
[19] وفي إضعاف ضمانات من قبيل القيود الموضوعة على طول فترة الاحتجاز المسموح بها دون توجيه تهمة وعلى الإمكانية المتاحة للموقوفين للحصول على التمثيل القانوني.
فيسّر غياب هذه الضمانات التعذيب والاختفاء القسري والاحتجاز التعسفي وغيره من حالات الخرق الجسيمة من خلال إحاطة إجراءات الدول بستار من السرية.
كما زاد تعرُّضهم للاتهام بالإرهاب بسبب التحقيق في الانتهاكات التي يرتكبها مسئولو الدول باسم مكافحة الإرهاب أو فضحها.
وكان لدى الدول في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بالفعل إطار للعمل الجماعي ضد الإرهاب في صورة الاتفاقية العربية لقمع الإرهاب عندما اعتُمد قرار مجلس الأمن 1373 في عام 2001.
والذي هدد بتجريم الأنشطة غير العنيفة التي يمكن تصنيفها على أنها «تعرّض سلامة المجتمع وأمنه للخطر»،
الأثر السلبي الذي أفرزه النموذج الأمريكي
يُتوقع أنه لا بد أن سياسة الولايات المتحدة خلفت آثارًا غير متناسبة على الطريقة التي نشأت فيها سياسة مكافحة على الصعيد العالمي،
وقد ذهب الرئيس جورج دبليو بوش إلى حد أعلن فيه «استراتيجية تطلعية للحريات في الشرق الأوسط»[22] وجعل من تعزيز الديمقراطية في هذه المنطقة أحد المقومات المحورية للطريقة التي كانت إدارته ستتوخاها في حماية أمريكا من الإرهابيين.
وقد أثار هذا الخلط بين حقوق الإنسان والسياسة الأمنية التي انتهجتها الولايات المتحدة الإشكاليات على مستويات عدة،
ولكن المسألة الجوهرية تكمن في التناقض بين استراتيجية أمنية استخفت استخفافًا صارخًا بالمبادئ الأساسية للقانون الدولي لحقوق الإنسان بتغاضيها،
[23] وذلك في الوقت نفسه الذي ادعت فيه حملها للواء الريادة في ميدان حقوق الإنسان والحرية الديمقراطية.
يبدو هذا الأمر كما لو كان مقدمة للحقائق البديلة التي لا تستند إلى الواقع لدى إدارة ترامب.
من قبيل غزو العراق ومركز الاحتجاز في غوانتانامو والسجون السرية و«حالات التسليم الاستثنائي»[24] التي طالت المحتجزين لكي يجري استجوابهم وتعذيبهم في دول عربية قمعية كمصر أو سوريا أو الأردن؛
قد أكدت كلها لجمهور تساوره الشكوك في الأصل أن ما كانت الولايات المتحدة تسميه تعزيز حقوق الإنسان كان في واقع الحال محاولة خبيثة لإضفاء بريق جذاب على تعزيز مصالحها القومية.
فقد وُصم أولئك الذين كانوا يسعون بصورة مستقلة إلى ترسيخ قيم مشابهة في المنطقة بأنهم أدوات وظفتها سياسات أمريكية أعمّ،
شعر حلفاء الولايات المتحدة الاستبداديون في السنوات التي أعقبت الحادي من عشر من سبتمبر مباشرة بضغط كبير لدفع عجلة الإصلاح السياسي.
فقد وضح الرئيس بوش في بياناته العامة أن إدارته كانت تنظر إلى «أعداء الإصلاح» كما لو كانوا «حلفاء للإرهاب».
أبدى زعماء مثل الرئيس المصري حسني مبارك والعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني[27] تأييدهم لإعلان الإسكندرية بشأن الإصلاح في المنطقة العربية،
عن الوفاء بالمطالب الشعبية بإقامة حكومات متجاوبة مع رعاياها وتخضع لمساءلتهم وتلبي الاحتياجات الأساسية لشعوبها ولا تركن إلى قوانين الطوارئ وقوى الأمن الوحشية لكي يتسنى لها البقاء في سدة الحكم.
الذي كان يتوخى الحذر من الإفراط في التزاماته تجاه المنطقة مثلما فعل سلفه،
بحيث يمكّن الولايات المتحدة من معالجة شواغلها الاستراتيجية التي تحتل مرتبة الأولوية بشأن القضاء على التهديدات الإرهابية.
لم تكن ثمة استجابة استراتيجية مستدامة من جانب الولايات المتحدة لدعم الثورات المناهضة للاستبداد والتي انطلقت شرارتها من اليمن حتى تونس.
تمكنت قوى الاستبداد التي وقفت في وجه الثورات من زحزحة التقدم نحو الحكم الديمقراطي الذي يتجاوب مع رعاياه عن مساره في بلد بعد الآخر.
ولكنها اتبعت سياسة إدارة أوباما في منح الأولوية للتعاون الذي يكتسي طابعًا أمنيًا في مجال مكافحة الإرهاب مع حلفائها الإقليميين.
واستمرت أوضاع حقوق الإنسان في المنطقة في التدهور بعدما تنصلت الولايات المتحدة من دورها التقليدي بصفتها مناصرة لحقوق الإنسان وتعزيز الديمقراطية.
والأوجه المتنامية من انعدام المساواة على الصعيد العالمي والتي أبرزتها جائحة كورونا وظاهرة تغير المناخ اللتان تؤثران تأثيرًا غير متناسب على حياة الناس في البلدان الأقل تقدمًا.
حتى لو كان ذلك يعني التعاون مع الحكومات الإقليمية الضالعة في انتهاكات جسيمة تمس حقوق الإنسان في بلدانها وفي الصراعات الإقليمية في بلدان كاليمن وليبيا اللتين غدتا مسرحًا للمعارك في صراعات بالوكالة بين القوى الإقليمية وداعميها الدوليين.
آثار التدابير العالمية لمكافحة الإرهاب في شتى أرجاء منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
اتخذ الرئيس عبد الفتاح السيسي وأنصاره التهديد الذي يشكله الإرهاب وسيلة لتقويض مصداقية الحكومة المدنية المُنتخبة بطريقة ديمقراطية،
وقادتها حركة الإخوان المسلمين بدعم من الرئيس محمد مرسي.
والاحتجاز القسري وإنفاذ عقوبة الإعدام عقب محاكمات تفتقر إلى العدالة،
وأتاحت مكافحة الإرهاب جانبًا كبيرًا من الأسباب المنطقية التي ساندت الاعتداء الشامل على الحقوق والحريات.
فردعت صدها من جانب مؤسسات الدولة التي كان يُتوقع منها مساندة سيادة القانون والمبادئ الدستورية،
وتدل حالة مصر على قوة رواية مكافحة الإرهاب في إخفاء حتى أعتى وجوه الاستخفاف الفج بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان وتجاهلها السافر.
[33] فالأمر لا يقتصر على أن الحكام المستبدين وجدوا في الإرهاب التبرير المسوغ لوجودهم وأساليبهم غير المقبولة،
تقدم سوريا شاهدًا يفوق غيره في فظاعته على رواية مكافحة الإرهاب التي توظَّف في سبيل إعاقة المساعي الرامية لحماية المدنيين من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
بل إنها منعت وصول المساعدات الإنسانية إلى المدنيين البائسين الذين رزحوا تحت عمليات القصف التي استهدفت المدن الواقعة غرب سوريا ودمرتها بشكل ممنهج،
أصرت روسيا على أن حلًا مقترحًا وُضع على جدول أعمال مجلس الأمن في شهر أكتوبر عام 2016،
وكانت الغاية المتوخاة منه حماية السكان المدنيين في حلب من عمليات القصف الجوي،
[35] ورغم أن الممثل الخاص للأمم المتحدة ستافان دي ميستورا أطلع المجلس على أن «وجود ما يقرب من 1,
000 مقاتل من جبهة النصرة كان يُستخدم كما لو كان ذريعة لقصف 275,
[36] فلم يملك المجلس القدرة على وضع حد للقصف وإنهائه بغية وقف قتل المدنيين.
وبينما وُجهت الدعوات من المجتمع المدني وبعض الحكومات إلى الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة للإحجام عن استخدام سلطاتهم في حق النقض في حالات الفظائع الجماعية،
وثمة طائفة قليلة من أمثلة أوضح على الشلل الذي أصاب أسرة المجتمع الدولي في مواجهة المجازر التي تدور رحاها في سوريا،
من الاحتجاج بالسبب المتمثل في مكافحة الإرهاب من أجل إضفاء طابع شرعي على سلوك تنتفي الصفة القانونية عنه بالمثل في سياق سعيها لتحقيق مصالحها الوطنية.
في تونس يمكن معاينة شاهد مغاير يبين الطريقة التي توظف بها مكافحة الإرهاب لتعطيل حقوق الإنسان والديمقراطية وتقويضها في المنطقة.
تحديات على صعيد الوفاء بالتوقعات العالية التي حملها السكان الذين تحرروا من عقود من الدكتاتورية إبان عهد زين العابدين بن علي.
وحتى في الوقت الذي دأب فيه القادة الغربيون على كيل الثناء والمديح لتونس على ما شكلته من قصة نجاح ديمقراطية،
والدين الخارجي واقتصاد جرت هيكلته لإدامة التبعية لم تعالَج معالجة كافية بعدُ،
مستغلًا في ذلك حالة الاستياء بين صفوف الشعب من برلمان بدا في ظاهره مشلولًا ومن الفساد المستشري بين بعض النخب السياسية.
ويجد ما يعزز هذا الافتراض المتشائم في الدعم والتشجيع الذي تلقاه الرئيس سعيد من قوى الاستبداد الكبرى في المنطقة،
[38] فنفور السعودية والإمارات العربية المتحدة وازورارها عن التطلعات الديمقراطية التي تحملها الشعوب في شتى أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا،
فقد عملت هاتان الدولتان على مستوى إقليمي على تقويض الحكومة التي انتُخبت بطريقة ديمقراطية في مصر،
ما أفضى إلى تحويل الاضطرابات السياسية لحروب طال أمدها وشهدت مشاركة دولية واسعة النطاق.
فلم تتمكن قوى الأمن التابعة للدولة من قمع الحوادث الإرهابية داخل تونس والتي هزت البلاد على مدى السنوات التي أعقبت الثورة فحسب،
بل إنها ظهرت على الساحة كذلك في مظهر شريك أساسي للولايات المتحدة وغيرها من الحكومات الغربية في جهود مكافحة الإرهاب على امتداد شمال إفريقيا ومنطقة الساحل.
فالدول في شتى أنحاء هذه المنطقة غارقة في الصراعات وتواجه أنظمة استبدادية قمعية للغاية انبعثت من جديد،
تواصلت على مدى عقود وغدت جزءً من إجماع عالمي مترسخ وعميق الجذور على الطريقة التي ينبغي مكافحة الإرهاب من خلالها،
عملت القيود التي توصف بأنها تدابير تُتخذ لمكافحة الإرهاب على تقويض آليات المساءلة على المستويين الوطني والدولي وتدمير المنظمات والمؤسسات التي تُعنى بحماية حقوق الإنسان وصونها في أوساط مجتمعاتها،
قال أنطوني بلينكين في خطابه السياسي الرئيسي الذي ألقاه عقب تعينيه وزيرًا للخارجية الأمريكية: «إن دعم ديمقراطيتنا أمر تحتمه السياسة الخارجية.


Original text

أثر تدابير مكافحة الإرهاب على حقوق الإنسان في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
نيل هيكس2021-12-01 26 دقائق
مشهد عام خلال إحدى جلسات مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة بجينيف، سويسرا، 24 فبراير، 2020. رويترز، دينيس باليبوز. مشهد عام خلال إحدى جلسات مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة بجينيف، سويسرا، 24 فبراير، 2020. رويترز، دينيس باليبوز.
حمل هذا المقال كبي دي إف


الإشارة المرجعية: هيكس، نيل (2021). رؤى: أثر تدابير مكافحة الإرهاب على حقوق الإنسان في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. رواق عربي، 26 (3)، 45-55. https://doi.org/10.53833/HVJG7276


في 2005، قدمتُ في مؤتمر ورقة[1] تطرقتُ فيها إلى الأثر الذي خلّفته التدابير التي اعتمدتها الحكومات لمكافحة الإرهاب في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر على الولايات المتحدة، على حقوق الإنسان في البلدان في شتى أنحاء العالم. وافترضت هذه الورقة أن العديد من الحكومات، الديمقراطية منها وغير الديمقراطية على السواء، انتهزت الحرب على الإرهاب لكي تدير ظهرها إلى المعايير الدولية لحقوق الإنسان باسم ما كانت تأمله من تعزيز الأمن وإرساء دعائمه في مواجهة التهديد الذي يشكّله الإرهاب. وبعد مرور ستة عشر عامًا على تلك الورقة، وعقب عشرين عامًا من هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، لا تزال التطورات السلبية التي قوّضت حقوق الإنسان تسود العالم بأسره. وتتمثل في مساواة المدافعين عن حقوق الإنسان ومضاهاتهم بالإرهابيين، وزيادة العسكرة التي أفضت إلى تصاعد الصراعات الأهلية وما يصاحبها من ارتفاع وتيرة الانتهاكات، وحالة الضعف التي نالت الضغط الذي تمارسه الدول على نظيراتها باعتباره آلية لضمان حقوق الإنسان وصونها، واستشراء القوانين الاستثنائية التي تقوض أواصر القانون الدولي، لا سيما تلك التي تُعزى إلى التعريف الغامض والفضفاض لمصطلح الإرهاب، وأخيرًا التأثير العالمي السلبي الذي أفرزه النموذج الذي وضعته سياسة الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب على صعيدها المحلي وعلى سياستها الخارجية.


تركز هذه الورقة على الطريقة التي تواصل فيها هذه القوى السلبية إفراز أثر مدمر على حالة حقوق الإنسان في بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. كما تسلط الورقة الضوء على الطريقة التي تسهم فيها الأولوية التي مُنحت لضرورة تعزيز التدابير الأمنية في سبيل مكافحة الإرهاب، وبطرق كان لها آثار بالغة الضرر تتخطى الاتجاهات الخمسة التي أوردناها أعلاه، في تنوع أوضاع حقوق الإنسان وسياساتها في بلدان بعينها في المنطقة، وهي تونس وسوريا ومصر. وتشير هذه الاتجاهات والأمثلة القُطرية، مجتمعة، إلى تدابير عالمية لم تفتأ الدول تعتمدها في سبيل مكافحة الإرهاب منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر، باعتبارها عاملًا رئيسيًا يسهم في أزمة حقوق الإنسان المستشرية والمتفاقمة التي يستحكم أمرها في المنطقة، وتستفحل فيها في هذه الآونة.


مساواة المدافعين عن حقوق الإنسان ومضاهاتهم بالإرهابيين
اعتمدت الحكومات في شتى أرجاء المنطقة، ربما باستثناء تونس في أعقاب ثورة يناير عام 2011، ممارسات شائعة بأن تشير لمنتقديها، الذين لا ينتهجون العنف، بمن فيهم المدافعون عن حقوق الإنسان، بوصفهم إرهابيين.[2] ففي نظر هذه الحكومات، يتيح توظيف مصطلح «إرهابي» طائفة واسعة من الممارسات القمعية التي يفرض القانون الدولي حظرًا واضحًا عليها. ومن جملة هذه الممارسات فرض القيود على الحريات الأساسية في التجمع وتكوين الجمعيات والتعبير عن الرأي، وهي ممارسات حولت المدافعين عن حقوق الإنسان إلى أشخاص معرضين للخطر. فأولئك الذين يمتثلون للشروط المرهقة بشأن التسجيل ومزاولة عملهم يضحون باستقلالهم، ويتعرض من يسعى منهم للتهرب من تلك الشروط لمخاطر العقوبات القاسية، بما فيها الاحتجاز التعسفي، والملاحقة الجنائية، وفترات السجن المطولة، ومصادرة الأصول والمنع من السفر، فضلًا عن وسمهم بوسم الإرهابيين. كما يجري استهداف المدافعين عن حقوق الإنسان وقتلهم. واضطُرت أعداد متزايدة من النشطاء الذين يواجهون هذه التهديدات إلى الحياة في المنفى. وقد صُممت هذه التدابير بهدف تكميم أفواه المنتقدين، وتقويض عمل من يسعون إلى النهوض بحقوق الإنسان، وإخضاع الحكومات للمساءلة عن سياساتها وممارساتها. وتُعدّ الفكرة التي تقول إنه يمكن تجريد شخص أو منظمة من حماية الحقوق الواجبة له أو لها بوسمه بكل بساطة بأنه إرهابي إحدى أفدح الآثار التي خلّفتها السياسات العالمية لمكافحة الإرهاب على مدى السنوات العشرين الماضية.


عسكرة الصراعات الأهلية المتصاعدة وإضفاء الطابع الأمني عليها
اضطلعت سياسات مكافحة الإرهاب بدور جلي في تفاقم العديد من الصراعات في مختلف أنحاء المنطقة على مدى العقدين المنصرمين. فكان العراق ساحة المعركة الإقليمية الأصلية في الحرب العالمية التي شنّتها إدارة رئيس الولايات المتحدة جورج دبليو بوش على الإرهاب بعد الحادي عشر من سبتمبر. وبينما جرى تحقيق الهدف الأصلي أو إسقاط الحكم الدكتاتوري الذي تزعمه صدام حسين بيسر وسهولة نسبية، فقد أطلّ تهديد الإرهاب، الذي نشأ داخل العراق ونبع منه، برأسه واستشرى خلال السنوات التي تلت إزاحة صدام من الحكم. وأمسى اتجاهان محددان، برزا في العراق في وقت مبكر، يَسِمان العقد الثاني من مسيرة الكفاح التي يخوضها العالم ضد الإرهاب. وتمثل الاتجاه الأول في صعود ما يسمى الدولة الإسلامية، أو داعش، وهي منظمة لم يسمع أحد بها في عام 2001، وأرست جذورها في مناطق غير خاضعة للحكم امتدت من العراق إلى ليبيا ومنطقة الساحل.[3] وانطوى الاتجاه الثاني على نزعة متنامية لاندلاع الصراعات في الدول التي تحكمها حكومات مركزية ضعيفة أو تفتقر إلى هذه الحكومات، حيث باتت تلك الدول مسرحًا للصراع بين القوى الإقليمية،[4] خاصةً إيران والسعودية وتركيا، مع ما واكب ذلك من أدوار فاعلة أدتها دول الخليج الغنية، كالإمارات العربية المتحدة وقطر، في هذا الصراع، ناهيك عن مشاركة روسيا واستمرار وجود الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين إلى حد ما.


وقد كشف صعود جماعة الدولة الإسلامية على نحو لم يكن بالحسبان عن الآثار العكسية التي خلفها غزو العراق، والذي استخدمت فيه الولايات المتحدة قوة عسكرية مفرطة، وتكتيكات الصدمة والترويع، وهي أساليب تضرب أصولها في النظرية التي ترى أن توجيه قوة عسكرية ساحقة يُفترض أن يردع الإرهابيين عن التفكير مرة أخرى في شن هجمات على الولايات المتحدة وحلفائها في المستقبل. ولكن ثبت أن الحال كان على النقيض من ذلك. فقد أسفرت القوة العسكرية الطاغية في العراق عن رد فعل اتسم بدرجة مفرطة من العنف، مما أسهم في إقامة خلافة في العراق وسوريا، ثم ظهور فروع لجماعة الدولة الإسلامية في فلسطين ومصر وسائر أنحاء المغرب العربي. وفضلًا عن ذلك، تبنت جماعة الدولة الإسلامية المسئولية عن الهجمات التي ضربت المدن الأوروبية.[5]


كما أتاحت مكافحة الإرهاب الذريعة التي يسرت للقوى الإقليمية والدولية التدخل عسكريًا في الصراعات الدائرة في سوريا واليمن وليبيا،[6] على وجه الخصوص. ولذلك، جرى تسويغ الدعم العسكري والدبلوماسي الروسي لحكومة الأسد في دمشق على أنه وسيلة لمنع الجماعات الإرهابية من الإمساك بزمام السيطرة على الأراضي التي تسيطر جماعات المعارضة عليها. وقد خلّف الصراع في سوريا ما يربو على 500,000 قتيل،[7] وأسفر عن تهجير أكثر من خمسين في المائة من سكانها.[8] وفي اليمن، أسهم تدخل التحالف الذي تقوده السعودية ضد قوات الحوثي، التي توصف بأنها إرهابية، في أكبر كارثة إنسانية في العالم، وترك ما يزيد عن ثمانين في المائة من اليمنيين في حاجة إلى المعونات الغذائية الطارئة.[9] وفي ليبيا، شنت القوى المعارضة للحكومة بقيادة الجنرال خليفة حفتر، والتي تحظى باعتراف دولي، الحرب بدعم من الإمارات العربية المتحدة ومصر والمرتزقة الروس تحت شعار محاربة الإرهاب. بينما في المقابل، حظيت الحكومة المعترف بها دوليًا، بمساندة تركيا، مما أغرق ليبيا في أتون حرب أهلية حرّكتها مطامع القوى الإقليمية ولا تزال متواصلة منذ سبع سنوات أو تزيد.


ضعف الضغط الذي تمارسه الدول على نظيراتها من أجل صون حقوق الإنسان
في الصراعات الواردة أعلاه، أفضت العمليات العسكرية لارتكاب فظائع وانتهاكات مست القانون الدولي على نطاق هائل. ومع ذلك، اتسمت الاستجابة الدولية بانعدام فعاليتها بصورة ملحوظة. وبدا أن الولايات المتحدة وحلفاءها، بعدما فُضح ما لجأوا إليه من سوء استخدام مكافحة الإرهاب باعتباره عاملًا لتبرير غزوهم للعراق،[10] عاجزين عن التغلب على روسيا من خلال توظيف الذريعة نفسها لإعاقة العمل الجماعي المعني بحماية المدنيين السوريين في مجلس الأمن بالأمم المتحدة. وفي اليمن، أعطت إدارة أوباما الضوء الأخضر للتدخل العسكري السعودي، بل إنها دعمت التحالف عسكريًا، وهو ما يمكن تفسيره بأن الولايات المتحدة تقاسمت درجة من المصلحة المشتركة مع الرياض بالرغبة في لجم انتشار النفوذ الإيراني من خلال الدعم الذي تقدمه طهران للحوثيين. فغالبًا ما دار الحديث عن إيران في واشنطن باعتبارها أكبر مصدر للإرهاب في العالم،[11] وهو ما سوّغ خوض صراع عسكري دون إيلاء أدنى اعتبار للقانون الدولي أو المحلي. وفي ليبيا، أخفق المجتمع الدولي في التحدث بصوت واحد؛ فمنحت الحكومات الغربية، ومن بينها فرنسا والولايات المتحدة،[12] الدعم للهجمات العسكرية التي شنها حفتر على الحكومة التي نالت اعتراف الأمم المتحدة، بل إن حفتر نفسه كان موضعًا للثناء بحكم إسهامه في الحرب على الإرهاب.


وأصبح ادعاء المشاركة في الكفاح ضد الإرهاب وإبداء الرغبة في التحالف مع المساعي العالمية التي تتزعمها الولايات المتحدة وحلفاؤها في سبيل مكافحة الإرهاب، يؤمّن، وبدرجة أخف، ستارًا واقيًا من الانتقادات الموجهة إلى الدول في شتى أنحاء المنطقة بسبب ما ترتكبه من انتهاكات لحقوق الإنسان.


وتتسم الأسباب التي تقف وراء هذا الواقع بالتعقيد. ففي أعقاب سلسلة من الهجمات الإرهابية التي طالت مدنًا غربية في أواسط العقد الثاني من هذا القرن على وجه الخصوص، تزايدت الضغوط السياسية المحلية على الزعماء السياسيين لإبراز قدرتهم على مواجهة الإرهاب بحزم. وبات عدد غير قليل من الحكومات الغربية يميل إلى احتضان حكومات استبدادية تبدي الاستعداد للحديث عن محاربة الإرهاب في المنطقة.


وخرج القادة المستبدون في المنطقة، الذين أدركوا هذا الواقع وسلّموا به، برواية تطرح السياسات القمعية التي يفضلونها في قالب تدابير مكافحة الإرهاب، بما تشمله من استهداف الصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان وغيرهم من المنتقدين الذين لا يسلكون مسلك العنف بوصفهم إرهابيين، وبالتالي تعريضهم للاحتجاز والملاحقة أو ما هو أسوأ من ذلك. كما اعتمد هؤلاء في مفاوضاتهم مع الحكومات الغربية مواقفًا شددوا فيها على المساهمة المفترض أنهم يقدمونها في سبيل حماية الأمن الدولي من خلال صد الهجمات الإرهابية في أقاليمهم. وفي المقابل، تتوقع دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من الحكومات الغربية، أو تطالبها، بالكف عن انتقاد الانتهاكات الواقعة على حقوق الإنسان.[13]


ويمكن ملاحظة الأولوية المتدنـية التي تحظى بها حماية حقوق الإنسان ضمن الاستراتيجيات العالمية التي تُعنى بمحاربة الإرهاب في نشأة الإجراءات البيروقراطية التي تطبقها الأمم المتحدة في نيويورك في ميدان حقوق الإنسان. فقد وصفت فيونوالا ني أولاين، مقررة الأمم المتحدة الخاصة المعنية بتعزيز وحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية في سياق مكافحة الإرهاب،[14] كيف أن هيكلية مكافحة الإرهاب التي صُممت في نيويورك منذ الحادي عشر من سبتمبر تصدّق على «استخدام تدابير قانونية استثنائية» من جانب الدول وتؤكدها، في الوقت نفسه الذي تقرر فيه آليات الأمم المتحدة المستندة على حقوق الإنسان، والتي يتخذ معظمها من جنيف مقرًا له، أن تلك التدابير تشكل انتهاكات للقانون الدولي. وتتفوق قوة الهيئات التي تضع الأمن نُصب عينيها على الأمن في نيويورك، والتي أيضا تحظى بدعم قوي من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن وغيرهم من القوى العالمية، على الاحتجاجات التي تفصح الآليات المتعددة الأطراف المعنية بحقوق الإنسان عنها. ويؤكد الإحجام عن منح الأولوية لحقوق الإنسان ضمن منظومة الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب أن مبالغ ضخمة رُصدت لركائز أخرى من استراتيجية الأمم المتحدة العالمية لمكافحة الإرهاب[15] غير الركيزة الرابعة، التي تتحدث عن ضرورة ضمان احترام حقوق الإنسان في سياق مكافحة الإرهاب.


ونجحت الحكومات في شتى أرجاء المنطقة في تهميش الضغط الذي مارسته دول أخرى، من أجل صون حقوق الإنسان، بتركيزها على التهديد الذي يشكله الإرهاب، وضرورة الطرق التي تعتمدها لتحقيق هذا الهدف، بغية إعفائها من الالتزامات المترتبة على الامتثال للالتزامات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان. وأصبح من الثابت أن الإشارات الواردة إلى حقوق الإنسان في استراتيجية الأمم المتحدة العالمية لمكافحة الإرهاب وفي القرارات الصادرة عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لا أثر يُذكر لها على ممارسات الدول، مما قوض حقوق الإنسان وحط من قدرها على المستويين الإقليمي والعالمي.


استشراء القوانين الاستثنائية التي تقوض أركان القانون الدولي
هجمات الحادي عشر من سبتمبر يسرت انتشار التشريعات المعنية بمكافحة الإرهاب في جميع أنحاء العالم، وذلك بتشجيع من الشروط التي ساقتها قرارات مجلس الأمن،[16] والتي اشترطت على الدول سن التشريعات الرامية لمكافحة الإرهاب ورفع تقاريرها إلى لجنة الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب بشأن الخطوات المتخذة لتنفيذ تدابير مكافحة الإرهاب.


فمنذ البداية، أتاح غياب تعريف متفق عليه للإرهاب في القانون الدولي فسحة واسعة من الحرية للدول لتتبنى تشريعات تنفي الصفة القانونية عن طائفة كبيرة من الأنشطة، الأمر الذي أفضى لفرض قيود على الكثير من الحقوق والحريات الأساسية. وحسب الوصف الذي تسوقه ني أولاين، «يترك إطار ما بعد الحادي عشر من سبتمبر هامشًا فضفاضًا وسلطة تقديرية واسعة للدول في تحديد ما يشكل “إرهابًا” على المستوى المحلي، ويفرض بذلك عددًا ضئيلًا من القيود الفعلية على التعريفات التي تختارها الدول بنفسها أو استجاباتها التنظيمية الوطنية».[17]


وفسرت الدول في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بلا استثناء تقريبًا، الدعوة إلى تنفيذ تدابير جماعية قوية لمكافحة الإرهاب، على النحو الذي يدعو إليه القرار 1373 الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة،[18] بأنه إثبات لصحة التشريعات القمعية التي كانت قائمة لديها من قبل. وأفضى التشجيع الدولي على اتخاذ تدابير أقوى، تترافق مع التراخي في ضمان الالتزام بمعايير حقوق الإنسان في القوانين والممارسات التي تُعتمد باسم مكافحة الإرهاب، إلى توسيع نطاق القيود المفروضة على الحريات الأساسية، لا سيما حرية تكوين الجمعيات،[19] وفي إضعاف ضمانات من قبيل القيود الموضوعة على طول فترة الاحتجاز المسموح بها دون توجيه تهمة وعلى الإمكانية المتاحة للموقوفين للحصول على التمثيل القانوني. فيسّر غياب هذه الضمانات التعذيب والاختفاء القسري والاحتجاز التعسفي وغيره من حالات الخرق الجسيمة من خلال إحاطة إجراءات الدول بستار من السرية. وفي الوقت نفسه، ألفى الصحفيون ومنظمات المجتمع المدني، الساعين لإخضاع المسئولين للمحاسبة عن الانتهاكات الواقعة على القوانين المحلية والمعايير الدولية، أنفسهم وقد حُرموا من القدرة على الوصول إلى المعلومات، كما زاد تعرُّضهم للاتهام بالإرهاب بسبب التحقيق في الانتهاكات التي يرتكبها مسئولو الدول باسم مكافحة الإرهاب أو فضحها.[20]


وكان لدى الدول في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بالفعل إطار للعمل الجماعي ضد الإرهاب في صورة الاتفاقية العربية لقمع الإرهاب عندما اعتُمد قرار مجلس الأمن 1373 في عام 2001. وقد انتقدت منظمة العفو الدولية ومنظمات المجتمع المدني المحلية هذه الاتفاقية بسبب التعريف الفضفاض الذي تضعه للإرهاب، والذي هدد بتجريم الأنشطة غير العنيفة التي يمكن تصنيفها على أنها «تعرّض سلامة المجتمع وأمنه للخطر»،[21] أو تهدد النظام العام، أو ما شابه ذلك من مصطلحات جامعة تضم كل شيء.


الأثر السلبي الذي أفرزه النموذج الأمريكي
كانت الحرب العالمية على الإرهاب، والتي استُهلت في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر، مشروعًا أمريكيًا. كما ركزت هذه الحرب على منطقة الشرق الأوسط بعمومها. ولذلك، يُتوقع أنه لا بد أن سياسة الولايات المتحدة خلفت آثارًا غير متناسبة على الطريقة التي نشأت فيها سياسة مكافحة على الصعيد العالمي، لا سيما في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، على مدى العقدين الماضيين. فمن سوء حظ حقوق الإنسان في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، أن قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية ومناهضة الاستبداد مرتبطة بالاستراتيجية التي وضعتها حكومة الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب. وقد ذهب الرئيس جورج دبليو بوش إلى حد أعلن فيه «استراتيجية تطلعية للحريات في الشرق الأوسط»[22] وجعل من تعزيز الديمقراطية في هذه المنطقة أحد المقومات المحورية للطريقة التي كانت إدارته ستتوخاها في حماية أمريكا من الإرهابيين.


وقد أثار هذا الخلط بين حقوق الإنسان والسياسة الأمنية التي انتهجتها الولايات المتحدة الإشكاليات على مستويات عدة، ولكن المسألة الجوهرية تكمن في التناقض بين استراتيجية أمنية استخفت استخفافًا صارخًا بالمبادئ الأساسية للقانون الدولي لحقوق الإنسان بتغاضيها، مثلًا، عن تعذيب الإرهابيين المشتبه بهم،[23] وذلك في الوقت نفسه الذي ادعت فيه حملها للواء الريادة في ميدان حقوق الإنسان والحرية الديمقراطية. وكان هذا التنافر المعرفي يشوبه النشاز في حينه. فبعد عشرين سنة، يبدو هذا الأمر كما لو كان مقدمة للحقائق البديلة التي لا تستند إلى الواقع لدى إدارة ترامب.


وكان من النتائج التي يمكن التنبؤ بها لهذا النهج، الذي يستعصي على التصديق، أن الولايات المتحدة قوضت مصداقيتها كنصيرة لحقوق الإنسان ومدافعة عنها. فحسب توصيف ويلشمان، كان «التنافر» أو ازدواجية المعايير التي لا تخطئها العين في سياسة حقوق الإنسان التي اتبعتها الولايات المتحدة يشكل عبئًا على استساغة حقوق الإنسان في أوساط الجمهور العربي. فطالما كان تجاهل القانون الدولي في السياسات الأمريكية تجاه الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي مصدرًا لانعدام الثقة في المساعي التي تقودها الولايات المتحدة والغرب على صعيد تعزيز حقوق الإنسان. بالإضافة إلى أن السياسات التي تنفذها الولايات المتحدة في سياق الحرب على الإرهاب، والتي ثبتت عواقبها المأساوية على حقوق الإنسان، من قبيل غزو العراق ومركز الاحتجاز في غوانتانامو والسجون السرية و«حالات التسليم الاستثنائي»[24] التي طالت المحتجزين لكي يجري استجوابهم وتعذيبهم في دول عربية قمعية كمصر أو سوريا أو الأردن؛ قد أكدت كلها لجمهور تساوره الشكوك في الأصل أن ما كانت الولايات المتحدة تسميه تعزيز حقوق الإنسان كان في واقع الحال محاولة خبيثة لإضفاء بريق جذاب على تعزيز مصالحها القومية.


وبينما أمسى خطاب حقوق الإنسان موضع شك بسبب ارتباطه بسياسات الأمريكية السيئة السمعة؛ فقد وُصم أولئك الذين كانوا يسعون بصورة مستقلة إلى ترسيخ قيم مشابهة في المنطقة بأنهم أدوات وظفتها سياسات أمريكية أعمّ، ولم تحظَ بالقبول في أوساط الشعوب.[25] وقد نخلص إلى القول إن السنوات العشرين، التي قضتها الولايات المتحدة في التركيز على مكافحة الإرهاب أو التطرف الذي يصاحبه العنف، قد جاءت على حساب إرساء دعائم مبادرات حقوق الإنسان وتوثيق عراها في المنطقة.


إن أزمة حقوق الإنسان المتفاقمة التي تعصف بالمنطقة في هذه الآونة ترسم معالم سياسات مكافحة الإرهاب التي وجهتها الولايات المتحدة نحو هذه المنطقة. ولذلك، شعر حلفاء الولايات المتحدة الاستبداديون في السنوات التي أعقبت الحادي من عشر من سبتمبر مباشرة بضغط كبير لدفع عجلة الإصلاح السياسي. فقد وضح الرئيس بوش في بياناته العامة أن إدارته كانت تنظر إلى «أعداء الإصلاح» كما لو كانوا «حلفاء للإرهاب».[26] ونتيجةً لذلك، أبدى زعماء مثل الرئيس المصري حسني مبارك والعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني[27] تأييدهم لإعلان الإسكندرية بشأن الإصلاح في المنطقة العربية،[28] وخُففت القيود التي كانت مفروضة على الحريات السياسية، مع ما واكب ذلك من تنامي الأنشطة التي ينفذها المجتمع المدني في ميدان حقوق الإنسان.


ورغم أنها كانت موضع ترحيب،[29] عجزت هذه الخطوات المجتزأة، التي اتخذتها على مضض أنظمة استبدادية لم يعاد بناؤها، عن الوفاء بالمطالب الشعبية بإقامة حكومات متجاوبة مع رعاياها وتخضع لمساءلتهم وتلبي الاحتياجات الأساسية لشعوبها ولا تركن إلى قوانين الطوارئ وقوى الأمن الوحشية لكي يتسنى لها البقاء في سدة الحكم. وبحلول نهاية عام 2005، انحرف تركيز الإدارة عن أجندة الحريات، ولكن العناصر التي اكتست طابعًا أمنيًا من أجندة مكافحة الإرهاب، التي كانت تلقى على الدوام إقبالًا أكبر بين الحلفاء الاستبداديين في المنطقة، ظلت توجه السياسة فيها.


فعندما اكتسحت ثورات الربيع العربي الكبرى المنطقة في عام 2011، وضعت إدارة أوباما، الذي كان يتوخى الحذر من الإفراط في التزاماته تجاه المنطقة مثلما فعل سلفه، نهجًا يعتمد التدخل الخفيف، بحيث يمكّن الولايات المتحدة من معالجة شواغلها الاستراتيجية التي تحتل مرتبة الأولوية بشأن القضاء على التهديدات الإرهابية. ولذلك، لم تكن ثمة استجابة استراتيجية مستدامة من جانب الولايات المتحدة لدعم الثورات المناهضة للاستبداد والتي انطلقت شرارتها من اليمن حتى تونس.


وعلى مدار السنوات التالية، تمكنت قوى الاستبداد التي وقفت في وجه الثورات من زحزحة التقدم نحو الحكم الديمقراطي الذي يتجاوب مع رعاياه عن مساره في بلد بعد الآخر. وبرغم ما أظهرته إدارة أوباما من فهم للترابط القائم بين ضعف الحكم والحرمان من الحقوق والحريات الأساسية من جهة، والتحول إلى الراديكالية وانتشار أيديولوجيات الإرهاب من جهة أخرى، إلا أنها أخفقت في المبادرة التي أطلقتها لمكافحة التطرف المصحوب بالعنف، في تضييق الهوة[30] بين الخطاب الإيجابي المتعلق بحقوق الإنسان في الاجتماعات، مقابل السياسات الدولية من جانب الحكومات الإقليمية التي قمعت الحقوق والحريات باسم مكافحة الإرهاب.


وتخلت إدارة ترامب عن الخطاب الإيجابي بشأن ضرورة إصلاح حقوق الإنسان في المنطقة، ولكنها اتبعت سياسة إدارة أوباما في منح الأولوية للتعاون الذي يكتسي طابعًا أمنيًا في مجال مكافحة الإرهاب مع حلفائها الإقليميين. واستمرت أوضاع حقوق الإنسان في المنطقة في التدهور بعدما تنصلت الولايات المتحدة من دورها التقليدي بصفتها مناصرة لحقوق الإنسان وتعزيز الديمقراطية. فكان غيابها محسوسًا لأن الحكومات الديمقراطية الأخرى، لا سيما في أوروبا،[31] تراجع نشاطها على صعيد الدعم الذي تؤمّنه لحقوق الإنسان، دون مساندة الولايات المتحدة وتغطيتها.


ورغم تجديد الالتزام الخطابي الذي تبديه الولايات المتحدة إزاء النهوض بحقوق الإنسان والديمقراطية، فإن إدارة بايدن تواجه التحديات على صعيد إعداد سياسة تتسم بالمصداقية والفعالية، وتستطيع التصدي للنكسات الحادة التي ألمّت بحقوق الإنسان والديمقراطية في المنطقة على مدى العقد المنصرم. فقد قوضت الولايات المتحدة وحلفاؤها الديمقراطيون مصداقيتهم في مجال حقوق الإنسان بسبب تعاونهم المتواصل مع الدول الاستبدادية في المنطقة ودعمهم لها، ووصمة العار التي خلفتها الحرب على العراق، وسياسات الهجرة التي انتهكت حقوق اللاجئين وسببت المعاناة للملايين من المهاجرين، والأوجه المتنامية من انعدام المساواة على الصعيد العالمي والتي أبرزتها جائحة كورونا وظاهرة تغير المناخ اللتان تؤثران تأثيرًا غير متناسب على حياة الناس في البلدان الأقل تقدمًا. ويكمن في أساس ذلك كله منح الأولوية لسياسات مكافحة الإرهاب التي تضع نصب عينيها إبعاد التهديد الذي يشكله الإرهاب، والنأي به عن الولايات المتحدة وحلفائها، حتى لو كان ذلك يعني التعاون مع الحكومات الإقليمية الضالعة في انتهاكات جسيمة تمس حقوق الإنسان في بلدانها وفي الصراعات الإقليمية في بلدان كاليمن وليبيا اللتين غدتا مسرحًا للمعارك في صراعات بالوكالة بين القوى الإقليمية وداعميها الدوليين. ويمكن النظر إلى هذه السياسات، في مجملها، باعتبارها تكشف عن اللامبالاة بحياة الناس في المنطقة، والذين يعيش عشرات الملايين منهم في مناطق تضربها الصراعات، ويعانون من التهجير من ديارهم أو فقدان سبل عيشهم.


هذه المآسي التي تزداد سوءً ليست وصفة للاستقرار الإقليمي، بل أن الجماعات الإرهابية التي لها تظلمات من الولايات المتحدة والحكومات الغربية الأخرى قد تكون من بين المستفيدين من حالة الفوضى المتنامية التي تواجه المنطقة الآن.


آثار التدابير العالمية لمكافحة الإرهاب في شتى أرجاء منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا


مصر


يمكن القول أن مكافحة الإرهاب كانت القابلة القانونية التي ولّدت دكتاتورية السيسي في مصر. فعلى المستوى السياسي، اتخذ الرئيس عبد الفتاح السيسي وأنصاره التهديد الذي يشكله الإرهاب وسيلة لتقويض مصداقية الحكومة المدنية المُنتخبة بطريقة ديمقراطية، وقادتها حركة الإخوان المسلمين بدعم من الرئيس محمد مرسي. ووضع الانقلاب الذي نُفذ في شهر يوليو عام 2013، ووضع حدًا للتجربة الديمقراطية القصيرة التي عاشتها مصر، وأطلق إجراءات القمع الوحشية التي لا تزال مكرّسة حتى الآن، وأسفرت عن مقتل الآلاف من المعارضين السياسيين، وإيداع عشرات الآلاف غيرهم في غياهب السجون، بالإضافة إلى تدمير الحريات الأساسية في التعبير عن الرأي والتجمع وتكوين الجمعيات. ففي ظل حكم السيسي، بلغت الانتهاكات الجسيمة التي طالت حقوق الإنسان، بما فيها الاختفاء القسري، والتعذيب واسع النطاق، والاحتجاز القسري وإنفاذ عقوبة الإعدام عقب محاكمات تفتقر إلى العدالة، مستويات غير مسبوقة.


وأتاحت مكافحة الإرهاب جانبًا كبيرًا من الأسباب المنطقية التي ساندت الاعتداء الشامل على الحقوق والحريات. ومما له مغزاه في هذا المقام أن مكافحة الإرهاب أثبتت فعاليتها في حشد الدعم الشعبي في مصر، فردعت صدها من جانب مؤسسات الدولة التي كان يُتوقع منها مساندة سيادة القانون والمبادئ الدستورية،[32] وفي تأمين قبول الدول الأخرى في المنطقة وما وراءها، ودعمها الكامل لها في بعض الأحيان.


وتدل حالة مصر على قوة رواية مكافحة الإرهاب في إخفاء حتى أعتى وجوه الاستخفاف الفج بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان وتجاهلها السافر.[33] فالأمر لا يقتصر على أن الحكام المستبدين وجدوا في الإرهاب التبرير المسوغ لوجودهم وأساليبهم غير المقبولة، بل أثبت أيضًا أن التهديد الذي يشكله الإرهاب، والخطر المتمثل في الظهور بمظهر من لا يؤيد تلك التدابير الوحشية، يُعدّ نقطة ضعف سياسية لا يستهان بها؛ إلى حد يفقد معه القادة السياسيون الديمقراطيون، الذين يلتزمون على نقيض غيرهم بقيم حقوق الإنسان والديمقراطية، قدرتهم على التحدث بصدق أو التعبير عن انتقادهم عندما يواجهون حكومة استبدادية تنتهك الحقوق باسم مكافحة الإرهاب.


سوريا


تقدم سوريا شاهدًا يفوق غيره في فظاعته على رواية مكافحة الإرهاب التي توظَّف في سبيل إعاقة المساعي الرامية لحماية المدنيين من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. ففي هذه الحالة، تمكنت روسيا، بوصفها إحدى الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن بالأمم المتحدة، من عرقلة جهود المجلس من أجل منح التفويض بدعم قوات المعارضة السورية في مواجهة حكومة الرئيس بشار الأسد، بل إنها منعت وصول المساعدات الإنسانية إلى المدنيين البائسين الذين رزحوا تحت عمليات القصف التي استهدفت المدن الواقعة غرب سوريا ودمرتها بشكل ممنهج، كما قُتل سكانها أو أجبروا على الرحيل عنها. وبينما عارضت الحكومات الغربية التكتيكات الإجرامية التي انتهجتها الحكومة السورية وحلفاؤها، فلم يكن في وسعها أن تتجاوز الاعتراضات التي دأبت عليها دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن.[34] فعلى سبيل المثال، أصرت روسيا على أن حلًا مقترحًا وُضع على جدول أعمال مجلس الأمن في شهر أكتوبر عام 2016، وكانت الغاية المتوخاة منه حماية السكان المدنيين في حلب من عمليات القصف الجوي، سوف «يؤمّن التغطية للإرهابيين التابعين لجبهة النصرة».[35] ورغم أن الممثل الخاص للأمم المتحدة ستافان دي ميستورا أطلع المجلس على أن «وجود ما يقرب من 1,000 مقاتل من جبهة النصرة كان يُستخدم كما لو كان ذريعة لقصف 275,000 إنسان»،[36] فلم يملك المجلس القدرة على وضع حد للقصف وإنهائه بغية وقف قتل المدنيين.


وبينما وُجهت الدعوات من المجتمع المدني وبعض الحكومات إلى الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة للإحجام عن استخدام سلطاتهم في حق النقض في حالات الفظائع الجماعية، فلم تثمر هذه النداءات عن أي نتيجة. وثمة طائفة قليلة من أمثلة أوضح على الشلل الذي أصاب أسرة المجتمع الدولي في مواجهة المجازر التي تدور رحاها في سوريا، على القوة التي تكتسيها لغة مكافحة الإرهاب في تجاوز حتى أكثر العناصر الأساسية للقانون الدولي، والمصممة لحماية المدنيين من الاعتداءات التي لا تعرف الرحمة.


ووجدت الولايات المتحدة وحلفاؤها، الذين كانوا قد أيدوا قبل عقد من الزمان غزو العراق، ونفذوه وقتلوا مئات الآلاف من المدنيين بوصفهم مجرد أضرار جانبية، في حملة عسكرية شُنت بناء على أسانيد قانونية مشكوك في صحتها باسم مكافحة الإرهاب، أن السحر انقلب على الساحر. فلو كان في وسع دولة قوية استخدام مكافحة الإرهاب لتوظيف القوة العسكرية على نحو يخالف القانون الدولي، كما يتجلى من حالة سوريا، لا شيء يقدر على وقف دولة قوية أخرى، وهي روسيا في هذه الحالة، من الاحتجاج بالسبب المتمثل في مكافحة الإرهاب من أجل إضفاء طابع شرعي على سلوك تنتفي الصفة القانونية عنه بالمثل في سياق سعيها لتحقيق مصالحها الوطنية.


تونس


في تونس يمكن معاينة شاهد مغاير يبين الطريقة التي توظف بها مكافحة الإرهاب لتعطيل حقوق الإنسان والديمقراطية وتقويضها في المنطقة. فقد واجهت الديمقراطية التونسية، رغم تمكنها من تفادي شكل خطير من أشكال العنف السياسي، أو عودة أنظمة الاستبداد التي كانت قدَر الدول الأخرى التي أسقطت الأنظمة الدكتاتورية في أثناء الربيع العربي، تحديات على صعيد الوفاء بالتوقعات العالية التي حملها السكان الذين تحرروا من عقود من الدكتاتورية إبان عهد زين العابدين بن علي.


وحتى في الوقت الذي دأب فيه القادة الغربيون على كيل الثناء والمديح لتونس على ما شكلته من قصة نجاح ديمقراطية، فهم لم يفعلوا شيئًا يُذكَر لتقديم العون لهذا البلد؛ لكي يتجاوز التحديات البنيوية التي ورثها عن النظام الدكتاتوري الذي كان بن علي على رأسه. فتزايُد أوجه انعدام المساواة، والبطالة المستشرية في أوساط الشباب، وقلة الفرص المتاحة للحصول على عمل، والدين الخارجي واقتصاد جرت هيكلته لإدامة التبعية لم تعالَج معالجة كافية بعدُ،[37] رغم أن هذه المشاكل كانت واضحة وظاهرة منذ عام 2011.


وفي يوم 25 يوليو 2021، أعلن الرئيس قيس سعيد، الذي واجه أزمة اقتصادية لم تنفك تزداد سوءً، وزاد من تفاقمها تفشي جائحة كورونا على نحو كان هو الأسوأ في إفريقيا، تعليق عمل البرلمان والحكم بمقتضى مرسوم، بغية معالجة التهديدات التي تواجه الأمة التونسية، مستغلًا في ذلك حالة الاستياء بين صفوف الشعب من برلمان بدا في ظاهره مشلولًا ومن الفساد المستشري بين بعض النخب السياسية. وقد أثبتت هذه الخطوات، التي وُصفت بأنها انقلاب أو انقلاب ذاتي، مدى هشاشة التجربة الديمقراطية التي خاضتها تونس، وقد تهدد وجودها في المستقبل.


ويجد ما يعزز هذا الافتراض المتشائم في الدعم والتشجيع الذي تلقاه الرئيس سعيد من قوى الاستبداد الكبرى في المنطقة، وهي السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر.[38] فنفور السعودية والإمارات العربية المتحدة وازورارها عن التطلعات الديمقراطية التي تحملها الشعوب في شتى أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والتي تجلت في انطلاق شرارة الثورات في عام 2011، لا تخفى على أحد وواضحة أيما وضوح. فقد عملت هاتان الدولتان على مستوى إقليمي على تقويض الحكومة التي انتُخبت بطريقة ديمقراطية في مصر، وتدخلتا عسكريًا لتأجيج التناحر والخصومات مع القوى الإقليمية، وهي إيران وتركيا وقطر، ما أفضى إلى تحويل الاضطرابات السياسية لحروب طال أمدها وشهدت مشاركة دولية واسعة النطاق.


في المقابل، تقاعست الحكومات الديمقراطية عن اتخاذ خطوات عملية تفضي لتعزيز إمكانية نجاح تجارب الانتقال الديمقراطي في البلدان التي خرجت من رحى الصراعات أو تخلصت من ربقة الأنظمة الدكتاتورية. فحتى في تونس، التي جرى الاحتفاء بالتقدم الذي أحرزته الديمقراطية فيها بنيل جائزة نوبل، «ألقت محاربة الإرهاب بظلالها على جميع الأولويات الأخرى».[39]


ويُنظر إلى الحرب التي تخوضها تونس في مواجهة الإرهاب على أنها قصة من قصص النجاح. فلم تتمكن قوى الأمن التابعة للدولة من قمع الحوادث الإرهابية داخل تونس والتي هزت البلاد على مدى السنوات التي أعقبت الثورة فحسب، بل إنها ظهرت على الساحة كذلك في مظهر شريك أساسي للولايات المتحدة وغيرها من الحكومات الغربية في جهود مكافحة الإرهاب على امتداد شمال إفريقيا ومنطقة الساحل.[40] ففي غضون فترة لم تتجاوز خمس سنوات، بين عامي 2012 و2017، زادت المساعدات العسكرية التي قدمتها الولايات المتحدة لتونس إلى عشرة أضعاف، من نحو اثني عشر مليون دولار في السنة إلى 119 مليون دولار في السنة.[41]


ويدل المثال التونسي على أن التعاون على صعيد مكافحة الإرهاب يحظى بقيمة أعلى بكثير لدى الأنظمة الديمقراطية الغربية من مساندة العمل على تعزيز الانتقال الديمقراطي وتوطيد أركانه. ويشكل الواقع الذي يشهد على أن الحكومات الغربية لا تزيد عن أن تتشدق بحقوق الإنسان والديمقراطية في أغلب أحوالها خسارة للتطلعات الديمقراطية التي يكنّها الشعب التونسي. والسؤال الذي ينبغي أن يُطرح هو: ألا يُعدّ ذلك مثالًا على التفكير الذي يتسم بقصر نظره وقصر أمده من جانب الأنظمة الديمقراطية الغربية بأن تسمح وبهذا القدر من السهولة بأفول نجم الديمقراطية التونسية من خلال الإهمال واللامبالاة؟


خاتمة
ينبغي النظر إلى الحرب العالمية على الإرهاب، التي أعلنتها الولايات المتحدة بعد الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 وحظيت بدعم كبير من جانب القوى العالمية والإقليمية، ولغايات تخصها في أحيان كثيرة، باعتبارها عاملًا رئيسيًا يسهم في أزمة حقوق الإنسان المستفحلة التي تعصف بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. فالدول في شتى أنحاء هذه المنطقة غارقة في الصراعات وتواجه أنظمة استبدادية قمعية للغاية انبعثت من جديد، أو تتطلع إلى عكس مسار الخطوات الأولى نحو الإصلاح والتحول إلى الديمقراطية.


وقد بينت هذه الورقة كيف أن الاتجاهات التي كانت جلية في السنوات الأولى من عمر المساعي التي بذلها العالم في سبيل محاربة الإرهاب، تواصلت على مدى عقود وغدت جزءً من إجماع عالمي مترسخ وعميق الجذور على الطريقة التي ينبغي مكافحة الإرهاب من خلالها، ولكن الدول التي تدعي أنها تتصرف باسم مكافحة الإرهاب تتمتع، في واقع حالها، بهامش واسع من الحرية التي تيسر لها انتهاك حقوق الإنسان وهي في مأمن من العقاب.


فهذه الاتجاهات يسرت وقوع الانتهاكات والمخالفات، وأتاحت التمكين لمقترفيها من خلال تقويض مصداقية المعايير العالمية لحقوق الإنسان. وغدت محاربة الإرهاب تشكل ذريعة تحتكم إليها قوى الإقليم وغيرها من القوى خارجه؛ للمشاركة في التدخلات العسكرية التي أسفرت عن معاناة إنسانية هائلة، وضربت عرض الحائط بالمعايير القانونية الدولية وتجاهلتها تجاهلًا صارخًا. وعلاوةً على ذلك، عملت القيود التي توصف بأنها تدابير تُتخذ لمكافحة الإرهاب على تقويض آليات المساءلة على المستويين الوطني والدولي وتدمير المنظمات والمؤسسات التي تُعنى بحماية حقوق الإنسان وصونها في أوساط مجتمعاتها، ومن بينها منظمات حقوق الإنسان ووسائل الإعلام المستقلة.


ففي مصر، كانت مكافحة الإرهاب القابلة القانونية التي ولّدت حكومة تنتهج قمعًا لم يسبق لها مثيل، وتعمد إلى حرمان أبناء شعبها من حقوق الإنسان الواجبة لهم.[42] وفي سوريا، وظف الحلفاء الدوليون لحكومة بشار الأسد، لا سيما روسيا، مكافحة الإرهاب كما لو كانت ذريعة لحرمان مئات الآلاف من المدنيين الذين يرزحون تحت نير الحصار، ويكتوون بنيران القصف في حلب وغيرها من المدن الواقعة غرب سوريا من المعونات الإنسانية، التي هم في أمسّ الحاجة إليها. وفي تونس، أسهم انشغال الحكومات الغربية بمكافحة الإرهاب وبالتعاون الأمني في تقليص الدعم البنيوي الذي تُعدّ تونس في أشد الحاجة إليه للانتقال من حقبة الاستبداد إلى عهد الديمقراطية. وباتت حماية الحريات الأساسية وحقوق الإنسان وإصلاح قطاع الأمن وبناء سيادة القانون أولويات ثانوية، حتى مع ازدهار إجراءات مكافحة الإرهاب وغيرها من أوجه التعاون الأمني، في مجال منع الهجرة غير الشرعية مثلًا. وقد ترتبت تكلفة باهظة على هذا التجاهل والتهاون، حسبما يتبين في الأزمة السياسية الراهنة التي تعصف بتونس.


وقد أسهمت هذه الأمثلة وغيرها من الأمثلة القطرية، والاتجاهات العامة التي استعرضناها فيما تقدم من هذه الورقة، في تشكيل ما يرقى إلى آلة دائبة تتسم باكتفائها الذاتي لمكافحة الإرهاب، وتستنزف حقوق الإنسان وتستأصل شأفتها في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.


وبعد عشرين سنة، ينبغي أن تدق هذه الحالة المحفوفة بالمخاطر التي وصلت إليها حقوق الإنسان في هذه المنطقة ناقوس الخطر لإيقاظ أسرة المجتمع الدولي، لا سيما الحكومات الغربية التي تدعي اصطفافها إلى جانب حقوق الإنسان والحريات الديمقراطية وتدافع عنها. فالنهج الذي يتسم بإضفاء طابع أمني ضيق عليه في مكافحة الإرهاب «يقوي شوكة القوى القمعية التي يديرها المستبدون»،[43] ما يسهم فيما وصفه أحد المعلقين بأنه «مجمع صناعي استبدادي».[44]


ولن تبلغ الحرب على الإرهاب، كما هي قائمة في هذه الآونة، نهايتها أبدًا لأنه ثمة الكثير من الحكومات القوية وغيرها من الأطراف المعنية المنتفعة من استمرارها. والآثار التي يخلفها هذا الواقع على حقوق الإنسان على المستوى العالمي تبعث على القلق البالغ؛ فالأنظمة الاستبدادية العالمية ومناصروها الذين يحملون رايتها في الصين وروسيا وفي قوى الشرق الأوسط، كالسعودية والإمارات العربية المتحدة، لا يفتر تعاونهم في سبيل تشويه سمعة الأنظمة الديمقراطية وتقويض دعائمها. ويساند الإجماع العالمي الراهن على سياسات مكافحة الإرهاب المساعي التدميرية التي تتوخاها تلك القوى. وفي هذا السياق، قال أنطوني بلينكين في خطابه السياسي الرئيسي الذي ألقاه عقب تعينيه وزيرًا للخارجية الأمريكية: «إن دعم ديمقراطيتنا أمر تحتمه السياسة الخارجية. وبخلاف ذلك، فسوف ننساق وراء خصومنا ومنافسينا، كروسيا والصين، الذين يستغلون كل فرصة لبذر بذور الشك في قوة ديمقراطيتنا ونخدم مصالحهم. وينبغي لنا ألا نجعل مهمتهم أسهل مما هي عليه».[45] ويجب على الولايات المتحدة، لكي تحول دون «تسهيل مهمتهم» وتدمير حقوق الإنسان في الشرق الأوسط وغيره من المناطق، أن تقود توجهًا عالميًا لإعادة تكييف سياسة مكافحة الإرهاب، بحيث تعترف بالحاجة التي لا يُستغنى عنها لاحترام حقوق الإنسان في أي استراتيجية مستدامة وفعالة لمكافحة الإرهاب.


Summarize English and Arabic text online

Summarize text automatically

Summarize English and Arabic text using the statistical algorithm and sorting sentences based on its importance

Download Summary

You can download the summary result with one of any available formats such as PDF,DOCX and TXT

Permanent URL

ٌYou can share the summary link easily, we keep the summary on the website for future reference,except for private summaries.

Other Features

We are working on adding new features to make summarization more easy and accurate


Latest summaries

نحو تنمية مستدي...

نحو تنمية مستديمهة التنمية المستديمة هي التنمية التي تلبي حاجات الحاضر دون المساومة على قدرة الأجيال...

Приступая к изу...

Приступая к изучению этого вопроса, необходимо выделить цель Новой Экономической Политики, которая, ...

Home Technology...

Home Technology Engineering Mechanical Engineering History The laser is an outgrowth of a suggestion...

. بإمكان وسائل ...

. بإمكان وسائل الإعلام أن ينجم عنها نتائج إيجابية أو سلبية. غالباً ما يقال – ونقوله هنا – إنّ وسائل ...

أنواع المقاصد ب...

أنواع المقاصد باعتبار تعلقها بعموم التشريع وخصوصه نتناول في هذا المقال - بمشيئة هللا تعالى - تقسيم ا...

Early in fetal ...

Early in fetal development, primitivegerm cells in the ovaries differentiate into oogonia. These ...

تسمى عملية ترسب...

تسمى عملية ترسب الأملاح والمعادن الذائبة في الماء في الفراغات ومسام الأصداف والعظام بالتمعدن mineral...

Democratic and ...

Democratic and Popular Algerian Republic Ministry of Higher Education and Scientific Research Ahmed ...

❑ معاملةالسطح •...

❑ معاملةالسطح • ترتبط معاملةالسطح بصفةأساسيةباألنماط، حيث أن معاملةالسطح هي الطريقةأو الطرق التي اتب...

Diana Taurasi I...

Diana Taurasi Issues Five-Word Warning to Caitlin Clark Amid WNBA Struggles.Caitlin Clark's WNBA car...

Définitions de ...

Définitions de l’espace Astronomie : Milieu situé au-delà de l'atmosphère terrestre et dans lequel é...

• يمكن أيضاً تص...

• يمكن أيضاً تصنيف المجموعات الفخارية ذات التاريخ المحدد تحت وصف نمطٍ واحد أو صنعت في مكانٍ واحد مثل...