Lakhasly

Online English Summarizer tool, free and accurate!

Summarize result (20%)

التشبيه والإبانة:
بل يحافظ كل طرف على حدوده وتمايزه، ويُقرّبه إلى الأفهام، مما يُيَسِّر وصوله إلى ذهن المتلقي. وقال العلوي اليمني[تـ705هـ]: «وهذهِ هي فائدةُ التشبيهِ الكبرى، بقوله هذا، ينسِب إلى الإبانة جانباً كبيراً من بلاغة التشبيه وتأثيره، وتحذف فضوله، وتصوره في نفس المتلقي أبين تصوير وأوضحه، قاصدين بذلك أن كل هذه الأنواع البلاغية إنما هي طرائق خاصة في التعبير تُكسب المعاني فضلَ إيضاحٍ و بيان( ). ولا تُحَدِّث نَفْسك بالبقاءِ فيها، فإن الغريب لا علاقة له في بلاد الغربة، وغير ذلك مما يجري مجراه، إلا أن المبالغة كانت أظهر لأنها المرادة. منها: مادة طرفي التشبيه، ومنها :إفراد طرفي التشبيه وتركيبهما ، ومنها: ذكر وجه الشبه وحذفه، الإبانـة بين الوسيـلة والغايـة في التشبيه:
كالتأثير والتمكين أو غير ذلك. فذلك سعي مبالغٌ فيه نحو البيان والإيضاح، ومعياراً نقدياً تقاس به جودة الأشعار ورداءتها. ويبدو أن مردّ هذه النظرة إلى التشبيه هو الفهم الخاص لهذه الثُّلة من البلاغيين والنقاد للبلاغة العربية التي رأوا أنها قرينة البيان الإيضاح، على نحو ما تصوره لنا بعض تعريفات البلاغة، بأسهلِ ما يكون من العباراتِ»( ) وقول بِشر ابن المعْتَمِر [ت210 ﻫ]: «البلاغةُ التقريبُ من المعنى البعيدِ، وصَوابُ الإشارةِ، وتحسينَ اللفظ( ). لأنه شبه الأعلى بالأدنى، كوقعِ السَّحابِ بالطِّرافِ الممَدَّدِ( )
جرعُهُ متواترٌ
فالأولُ في العقل أوضحُ من الثاني، وكلما كان التشبيه أوضح كان أحسن، وكلما كان مشاهداً محسوساً كان أفضل، فلا يكتفي بكون التشبيه واضحاً بل مشاهداً ومحسوساً ومألوفاً أيضاً. شعراء عصره قوله( ):
ـدُ –إذا ما اعتبرتَ – ضِدُّ الوعيدِ
صَدْغُهُ ضِدُّ خَدِّهِ مثلما الوعـ
وقوله( ):
وله غرَّةٌ كلونِ وِصالٍ
وبالانتقال إلى ابن وكيع التنيسي [ت393ﻫ] يُلحظ ما عهدناه عند هذا الفريق من نفور من التشبيه البعيد، فقد قدّم قول أبي تمام( ):
كنتَ الربيعَ وكانتِ الوردا
وكلامه أرجح، إلا أن جمال قول المتنبي جاء موشَّىً بلمسات خفية، ومعان تخييلية لا تظهر في قول أبي تمام، ويرى أن أحسنَه أوضحُه، وهو رديءٌ، فالعسكري يستهجن تشبيه ما يُعرف بالعيان بما يُنال بالفكر، والنهج المقصود في الوصف عند العرب القدماء إنما هو تشبيه «الجواد بالبحر والمطر، والفائت بالحُلم، ثم تشبيه اللئيم بالكلب. وسحبان في البلاغة، وقُس في الخطابة، وبناء على ذلك تقاس جودة التشبيه عند العسكري بمثل هذه التشبيهات التقليدية التي يتم الانتقال فيها من الخفي إلى الظاهر، إذ إن وظيفة التشبيه عنده وفائدته «إنما هي تقريبُ المشبّه من فهم السامع، ويرى أن الأصل في حسن التشبيه «أن يُمثَّلَ الغائبُ الخفيُّ الذي لا يُعتاد بالظاهرِ المحسوس المعتاد، وبيان المراد»( ) ويؤكد ابن سنان هذا الأمر عندما يردُّ جمال تشبيه امرئ القيس( ):
والحشفِ البالي أكثرُ من مشاهدة قلوب الطير رطباً و يابساً»( ) وكذلك استجاد تشبيه النابغة للنعمان بن المنذر بقوله( ):
ويذهب عبد القاهر الجرجاني [ت471ﻫ] إلى ما ذهب إليه غيره، فذهب إلى أن المعنوي المجرد يمكن أن يَذِيع وينتشر، وفي ضوء هذا الفهم توقف عبد القاهر إزاء قول الشاعر( ):
سُنَنٌ لاح بَينهنَّ ابتداعُ
ذلك أنه لما شَاعَ وتُعورفَ وشُهِرَ وَصْفُ السُّـنَّةِ ونحوها بالبياض والإشراق، والبدعةِ بخلاف ذلك، وعلى هذا الأساس يظل المبدأ العام ثابتاً لا يهتز، وإخراجه ما لا تقع عليه الحاسة بما تقع عليه . وذلك بُعد عن الصواب، والتشبيه الذي يجب أن يسلكه. ومحتِدِه الأصلي،


Original text

التشبيه والإبانة:
يُنظر إلى التشبيه على أنه علاقةٌ إبداعيةٌ تقوم على المقارنة والربط بين طرفين يشتركان في صفةٍ أو حالةٍ أو مجموعةٍ من الصفات والأحوال ،و قد تستند هذه العلاقة إلى مشابهةٍ حسيةٍ ظاهرة ،أو مشابهةٍ عقلية مؤوّلة .
وتقوى هذه العلاقة التشابهية وتضعُف تبعاً لقوة الشّبه، لكنْ دون انصهارٍ أو اتحادٍ أو ادّعاءٍ، كما يحصل في طرفي الاستعارة ،حيث يتحد فيها الطرف الأول بالآخر ويُدَّعى أنه هو ، بل يحافظ كل طرف على حدوده وتمايزه، اللهم إلا في التشبيه البليغ الذي عدّه بعض البلاغيين نوعاً من أنواع الاستعارة.
والتشبيه عُدُولٌ عن النمط العادي في إيصال دلالة المعنى، بهدف تقرير المعنى،وتمكينه في ذهن المتلقي، أو إيضاحهِ وإبانته، أو إدهاشِ السامع وتَعجِيبِه والتأثير فيه، لذلك يقول البلاغيون عنه: إنه بابٌ يتفاضلُ فيه الشعراءُ، وتظهرُ فيه بلاغَةُ البُلغاء ( ).
والإبانةُ وظيفة أساسية يؤديها التشبيه في أثناء عملية التواصل اللغوي، إذ يُعدُّ أحد أهم الوسائل التي تُعين على شرح المعنى، وبسطه، وإبانته ، فهو يُزيل الغموض الذي يعتريه،ويُقرّبه إلى الأفهام، مما يُيَسِّر وصوله إلى ذهن المتلقي. يقول أبو هلال العسكري[تـ 395هـ]: «والتشبيهُ يَزيدُ المعنى وُضوحاً، ويُكسِبُه تأكيداً، ولهذا أَطبقَ جميعُ المتكلمينَ من العربِ والعَجَمِِ عليه، ولم يستغنِ أحَدٌ منهم عنه»( )، وقال العلوي اليمني[تـ705هـ]: «وهذهِ هي فائدةُ التشبيهِ الكبرى، فإنه يُخرِجُ المبْهَمَ إلى الإيضاحِ ،والملتَبِسَ إلى البيانِ ، ويكسوهُ حُلّةَ الظهورِ بعدَ خَفائهِ، والبروزِ بعد استتارِهِ»( ). وقال المعلم الهندي عبد الحميد الفراهي[تـ 1322هـ]:«اعلم أنَّ الباعثَ الأوَّلَ على التشبيهِ، هو حِرصُ الناطِقِ على إظهَارِ ضميرِهِ، واستعمالِ قوةِ النُّطقِ بِقوةٍ، حتى يجعلَ السَّامعَ كأنه قد رَأى وجرّبَ فتأثَّرَ به ، فالناطقُ إنما يؤدي المعنى بأثْرِهِ بما يزيدُهُ وضَاحَةً وأَثَراً»( ).
و الفراهيُّ، بقوله هذا، ينسِب إلى الإبانة جانباً كبيراً من بلاغة التشبيه وتأثيره، ذلك أن الإبانة تعني الشرح والتوضيح، أو التعبيرَ عن المعنى بطريقة تقرِّبُ بعيده، وتحذف فضوله، وتصوره في نفس المتلقي أبين تصوير وأوضحه، فيكون تأثير التشبيه لذلك ظاهراً بيِّناً.
ويبدو أن هذا الأمر هو الذي جعل البلاغيين المتأخرين من أتباع السكاكي[ت636هـ] يضعون التشبيه والاستعارة والكناية والمجاز في قسم واحدٍ مستقلٍ من أقسام البلاغة، هو علم البيان، قاصدين بذلك أن كل هذه الأنواع البلاغية إنما هي طرائق خاصة في التعبير تُكسب المعاني فضلَ إيضاحٍ و بيان( ).
وإفادة التشبيه للإبانة تكون أوضحَ في التشبيه الظاهر الأداة منها في المضمر، فإنك إذا قلت: الزرافةُ حيوانٌ ضخمٌ كالجَمَل، تكون قد أوضحت أمره ،وبيّنتَ وصفه، وكشفت ذلك كشفاً لا غاية بعده ولا مزيد عليه.
ومن ذلك أيضاً قوله :«كنْ في الدنيا كأنكَ غريبٌ أو عابرُ سبيلٍ» ).يقول النَّوَوِيّ في شرح هذا الحديث : « لا تَركَنْ إلى الدُّنيا ،ولا تتَّخِذها وطنًا، ولا تُحَدِّث نَفْسك بالبقاءِ فيها، ولا تتعلَّق منها بمَا لا يتَعلَّق به الغَرِيب في غير وَطَنه»( ) . فإن الغريب لا علاقة له في بلاد الغربة، وابن السبيل لا لبث له إلا مقدار العبور وقطع المسافة، فهذا المعنى قد أظهره التشبيه نهاية الإظهار، وأوضح حاله كما تراه.
أما التشبيه المضمر الأداة - وإنْ كان يؤدي دوراً إبانياً - فدورُه الإبَانيُّ ثانوي إذا قيس بالتشبيه الظاهر الأداة. ومثال ذلك قولنا: زيد أسد ،فإن الغرض من هذا التشبيه أن يُتَبيَّنَ حالُ زيد في اتصافه بشهامة النفس، وقوة البطش، وجراءة الإقدام، وغير ذلك مما يجري مجراه، ولم نجد شيئاً ندلُّ به عليه سوى أن جعلناه شبيهاً بالأسد، حيث كانت هذه الصفات مختصة به، فصار ما قصدناه من هذا القول أكشفَ وأبينَ وأبلغَ مما لو قلنا: زيد شهم، شجاع، قوي، وأشباه ذلك، لما قد عُرِف وعُهد من اجتماع هذه الصفات في المشبه به – أعني الأسد – وأما زيد فليس معروفاً بها وإن كانت موجودةً فيه( ). فاجتمع بذلك أمران: الإبانة والمبالغة، إلا أن المبالغة كانت أظهر لأنها المرادة.
وتختلف درجات الإبانة في التشبيه تبعاً لعدة أمور، منها: مادة طرفي التشبيه،فالإبانة في التشبيه الحسي غير الإبانة في التشبيه المعنوي،ومنها :إفراد طرفي التشبيه وتركيبهما ،فالإبانة في التشبيه المفرد غير الإبانة في التشبيه المركب ،ومنها: ذكر أداة التشبيه وحذفها،ومنها: ذكر وجه الشبه وحذفه،إلى غير ذلك من الأمور التي تؤثر في درجة البيان التشبيهي.


الإبانـة بين الوسيـلة والغايـة في التشبيه:
ليس إيضاح المعنى وتبيينه إلا وظيفة من وظائف التشبيه المتعددة التي يمكن أن تُقصد بذاتها أو يُراد غيرها، كالتأثير والتمكين أو غير ذلك. ولكن أن ينظر إلى الإبانة على أنها محور التشبيه، ومعيارُ جودته، وحدّ بلاغته، فذلك سعي مبالغٌ فيه نحو البيان والإيضاح، ومطلبٌ يُراد منه تحويلُ الإبانة من وسيلةٍ يستعين بها المتكلم لشرح أفكاره، وتوضيح مراده، إلى غايةٍ تُقصدُ لذاتها، ويُطالبُ المتكلمُ بتحقيقها، بصرف النظر عن غايته سواء أكان يريد الإبانة أم غيرَها.
وقد لوحظت هذه النظرة إلى التشبيه عند عدد من البلاغيين والنقاد العرب القدماء، الذين جعلوا وضوح التشبيه مجلى البلاغة ومقياس البراعة، وأخذوا يقيسون جودة التشبيه بوضوحه، وقُربه من الواقع، فما يفترض به أن يكون وسيلة أصبح غاية، وأصبح وضوح التشبيه مطلباً أساسياً، ومعياراً نقدياً تقاس به جودة الأشعار ورداءتها.
ويبدو أن مردّ هذه النظرة إلى التشبيه هو الفهم الخاص لهذه الثُّلة من البلاغيين والنقاد للبلاغة العربية التي رأوا أنها قرينة البيان الإيضاح، على نحو ما تصوره لنا بعض تعريفات البلاغة، نحو قول جعفر بن يحيى البرمكي [تـ187هـ]: «البلاغةُ أن يكونَ الاسمُ يُحيط بمعناكَ، ويُجْلي عن مغزاكَ، وتُخرجه من الشِّركةِ، ولا تستعينُ عليه بطول الفكرة.» ( )، وقول أحدهم: «البلاغةُ إيضاحُ المُلتَبِساتِ وكشْفُ عُوَارِ الجهالاتِ، بأسهلِ ما يكون من العباراتِ»( ) وقول بِشر ابن المعْتَمِر [ت210 ﻫ]: «البلاغةُ التقريبُ من المعنى البعيدِ، والتَّباعدُ عن خَسيسِ الكلامِ، والدلالةُ بالقليلِ على الكثيرِ»( )، وقول بعضهم: «البلاغةُ الفهمُ والإفهامُ، وكَشفُ المعاني بالكلامِ ، ومعرفةُ الإعرابِ، والاتساعُ في اللفظِ، والسَّدادُ في النظمِ، والمعرفةُ بالقصدِ، والبيانُ في الأداءِ، وصَوابُ الإشارةِ، وإيضاحُ الدِّلالةِ»( ) كذلك البلاغة عند أبي هلال العسكري تعني إيضاحَ المعنى، وتحسينَ اللفظ( ). إلى غير ذلك من الأقوال التي تربط البلاغة بالوضوح والإبانة .
ومهما يكن من أمرٍ، ولعلةٍ ما، فقد فضَّل فريق من أهل العلم وضوحَ التشبيه، وقربهَ من الواقع، وجعلوا ذلك مقياساً لجودته ، وحدّاً لبلاغته.
إلا أن هذا الفهمَ المبالغَ فيه لوظيفة التشبيه فرضَ أمراً يُعتقد أنه ترك أثراً سلبياً في النقد العربي القديم، وهو ضرورةُ الانتقال بالصورة التشبيهية من الأدنى إلى الأعلى، ومن الأغمض إلى الأوضح، ومن الناقص إلى الزائد، وهكذا، لـ «أن الشرحَ والتوضيح يهدفان إلى الإبانة، والإبانةُ تتم عندما نقرن المعنى الذي نريد شرحَهُ وتوضيحه بمعانٍ أخرى أكثر وضوحاً منه. ومن هنا ينبغي أن تتحرك النقلة الدلالية في الصورة في طريقٍ صاعدٍ من الأدنى إلى الأعلى، فيصبح المشبه به أكثر تمكناً في الصفة المقصودة من المشبه، والمستعار منه أبين من المستعار له»( ) لذلك حدّد نَقَدَةُ الشعر اتجاهاً واحداً للتشبيه، ينتقل فيه المتكلم من المجرد إلى المحسوس ،أو من الغامض إلى الواضح، فإن شاء المتكلم أن يُغيّر في مسار التشبيه عيب ذلك عليه ،وانتُقد لأجله.
ومن أوائل النقاد العرب الذين يلحظ عندهم هذا الأمر ابن قتيبة [ت276ﻫ] الذي توقف عند تشبيه ابن أحمر( ):
مُعصَفْرَاتٌ على أرسانِ قصّارِ( )
كأنَ نِيرانَهم من فَوقِ حِصنِهم


وعابه عليه، لأنه شبه الأعلى بالأدنى، وكان ينبغي على الشاعر أن يقول: كأن المعصفراتِ نيرانٌ، لأن النار أشدُّ تمكناً في صِفاتها اللونية في الملابس المُعصْفَرة.
وذهب قدامة بن جعفر [ت337ﻫ] أيضاً إلى استحسان التشبيه القريب، فأحسَنُ التشبيه عنده المفرطُ في القُرب،حتى يكاد أحد الطرفين يتّحدُ بالآخر،إذ قال:«فأحسنُ التشبيهِ هو ما وقَعَ بين الشيئين اشتراكُهما في الصفات أكثر من انفرادهما فيها،حتى يدني بهما إلى حالِ الاتحاد»( ) لذلك استجاد قول يزيد بن عوف العليمي واصفاً جَرْعَ رَجُلٍ قِرى اللبن( ):
كوقعِ السَّحابِ بالطِّرافِ الممَدَّدِ( )
فغَبَّ دِخالاً، جرعُهُ متواترٌ


لمّا وَجَد الشبه قريباً بين صوت الجَرعِ الناجم عن اصطكاك اللبن بجدار الحَلْق وصوت المطر الحادث عن وقع الماء على الجِلد. وهو كما يُلحظ تشبيهٌ محسوس قريب.
ولم يخرج الرُّمَّاني [ت386ﻫ] أيضاً عن هذا المذهب، فقد اشترط في التشبيه والاستعارة أن يُخرجا الأغمض إلى الأوضح، فذهب – فيما يرويه عنه ابن رشيق القيرواني – إلى أن التشبيه ضربان: تشبيه حسن، وتشبيه قبيح؛ «فالتشبيهُ الحسنُ هو الذي يُخرج الأغمضَ إلى الأوضحِ ، فُيفيد بياناً، والتشبيهُ القبيحُ ما كان على خلافِ ذلك. قال: وشَرْحُ ذلك أنّ ما تقعُ عليه الحاسةُ أوضحُ في الجملة مما لا تقع عليه الحاسة، والمشُاهَدُ أوضحُ من الغائب، فالأولُ في العقل أوضحُ من الثاني، والثالث أوضح من الرابع، وما يُدركه الإنسان في نفسه أوضحُ مما يعرف من غيره، والقريب أوضح من البعيد في الجملة، وما قد أُلِف أوضح مما لم يُؤلَف»( ). فغاية التشبيه عند الرماني هي الإيضاح والبيان، وكلما كان التشبيه أوضح كان أحسن، وكلما كان مشاهداً محسوساً كان أفضل، فلا يكتفي بكون التشبيه واضحاً بل مشاهداً ومحسوساً ومألوفاً أيضاً. واستناداً إلى هذه الرؤية عاب على بعض
شعراء عصره قوله( ):
ـدُ –إذا ما اعتبرتَ – ضِدُّ الوعيدِ
صَدْغُهُ ضِدُّ خَدِّهِ مثلما الوعـ


وقوله( ):
فَوقَها طُرَّةٌ كلونِ صُدُودِ
وله غرَّةٌ كلونِ وِصالٍ


من قِبلِ أنه شبّه الأوضح بالأغمض، وما تقع عليه الحاسة بما لا تقع عليه.
وبالانتقال إلى ابن وكيع التنيسي [ت393ﻫ] يُلحظ ما عهدناه عند هذا الفريق من نفور من التشبيه البعيد، ورغبة بالتشبيه القريب، فقد قدّم قول أبي تمام( ):
إذا ذُكرتْ أيّامُهُ زمنُ الوردِ
ومِنْ زَمَنٍ ألبستنيهِ كأنهُ


على قول المتنبي( ):
كنتَ الربيعَ وكانتِ الوردا
لو كنتُ عصراً مُنْبِتاً زهراً


من أجل وضوح تشبيه الأول وبُعد الثاني، إذا قال: «فتشبيه أبي تمام أوضح، وكلامه أرجح، وهو للسبق أولى بما قال»( ).
إن إلقاءَ نظرة عَجلى على البيتين يُظهر أنهما ينطويان على جمال ظاهر، إلا أن جمال قول المتنبي جاء موشَّىً بلمسات خفية، ومعان تخييلية لا تظهر في قول أبي تمام، فالمتنبي يشبِّه ممدوحه بالدهر الذي يضم كل الفصول، ثم إنه يخصص هذا الممدوح بالربيع الذي يُنبت الزهر، فقَرَنَه بأفضل وقتٍ وأجمل فصلٍ، ثم إنه جعل أخلاقه أفضل أنواع الزهر وأطيبها ريحاً، وهو الورد. فانتقل من معنى إلى معنى على هيئة متقنة رائعة، يُحلِّق فيها ذهن المتلقي، ليتخيل كل تلك الصور التي رسمها المتنبي بوصفه.
أما أبو تمام فقد شبه زمان ممدوحه بزمان الورد كناية عن رغد العيش وصفائه، وهو تشبيه واضح لا يحتوي على عناصر تخييلية كما احتوى عليها تشبيه المتنبي، ولأن الوضوح مسيطر على فكر قسم كبير من أهل العلم ،البلاغيين والنقاد، فقد قدّم ابن وكيع قول أبي تمام على قول المتنبي دون مراعاة للمزايا الجمالية التي اشتمل عليها قول المتنبي.
وبالوقوف عند أبي هلال العسكري [ت395ﻫ] لاستجلاء رأيه وتبيُّن موقفه من التشبيه يُلحظ أنه سار على نهج سلفه، وظلّ يردد ما ذهب إليه السابقون وقال: «وينبغي أن تعرف أنّ أجود الوصف ما يستوعب أكثر معاني الموصوف، حتى كأنه يُصورُ الموصوفَ لك فتراه نصب عينيك»( ) فالعسكري يتحدث عن الوصف والتشبيه، ويرى أن أحسنَه أوضحُه، فكلما كان الوصف أشدّ ظهوراً وأكثر وضوحاً كان أجودَ وأحسنَ، حتى كأن العين تراه، وقال في مكان آخر: «وقد جاء في أشعارِ المُحدثينَ تشبيهُ ما يَرَى العيانُ بما يُنال بالفكر، وهو رديءٌ، وإن كان بعضُ الناس يستحسنه لما فيه من اللطافة والدقة، وهو مثل قول الشاعر( ):
يُعوِّضُهُ صَفوحٌ من مَلُولِ
وكنتُ أعزَّ عزاً من قَنُوعٍ


بهِ فقرٌ إلى فَهْمٍ جليلِ»( )
فصِرتُ أذلَّ من معنى دقيقٍ


فالعسكري يستهجن تشبيه ما يُعرف بالعيان بما يُنال بالفكر، أو تشبيه ما تقع عليه الحاسة بما لا تقع عليه. ثم إنه يُعلن صراحةً أن الطريق المسلوك، والنهج المقصود في الوصف عند العرب القدماء إنما هو تشبيه «الجواد بالبحر والمطر، والشجاع بالأسد، والحَسَن بالشمس والقمر، والشهم الماضي بالسيف، والعالي الرتبة بالنجم، والحليم الرزين بالجبل، والحيي بالبكر، والفائت بالحُلم، ثم تشبيه اللئيم بالكلب... وحاتم في السخاء، والأحنف في الحِلم، وسحبان في البلاغة، وقُس في الخطابة، ولُقمان في الحكمة..»( ). وبناء على ذلك تقاس جودة التشبيه عند العسكري بمثل هذه التشبيهات التقليدية التي يتم الانتقال فيها من الخفي إلى الظاهر، ومن المستور إلى المكشوف، ومن الصغير إلى الكبير.
وكذلك ذهب ابن رشيق القيرواني [ت463ﻫ] على نحو ما ذهب الرمّاني إلى أن التشبيه والاستعارة جميعاً يخرجان الأغمض إلى الأوضح ويقربان البعيد. إذ إن وظيفة التشبيه عنده وفائدته «إنما هي تقريبُ المشبّه من فهم السامع، وإيضاحُه له»( ).
ويتابع ابن سنان الخفاجي [ت466ﻫ] الفكرة نفسها ،ويرى أن الأصل في حسن التشبيه «أن يُمثَّلَ الغائبُ الخفيُّ الذي لا يُعتاد بالظاهرِ المحسوس المعتاد، فيكون حُسْن هذا لأجل إيضاح المعنى ،وبيان المراد»( ) ويؤكد ابن سنان هذا الأمر عندما يردُّ جمال تشبيه امرئ القيس( ):
لدى وكرها العُنّابُ والحَشَفُ البالي
كأن قُلوبَ الطيرِ رَطْباً ويَابِساً


إلى ما فيه من إيضاحٍ وبيان، ويقول: «وهذا من التشبيهِ المقصودِ به إيضاح الشيء لأن مشاهدةَ العُنَّابِ، والحشفِ البالي أكثرُ من مشاهدة قلوب الطير رطباً و يابساً»( ) وكذلك استجاد تشبيه النابغة للنعمان بن المنذر بقوله( ):
وإنْ خلتُ أنّ المنتأى عنكَ واسعُ
فإنكَ كالليل الذي هو مُدْركي


لجودة تعبيره ،وحسن إبانته عن مقصوده «لأنّ علمَ الناس بأن الليل لا بدّ من إدراكه له أظهرُ من علمهم بأن النعمان لابد من إدراكه له»( ).
فغاية التشبيه عند ابن سنان هي إيضاح المعنى وبيانه كما لوحظ، وما ينطبق على التشبيه ينطبق على الاستعارة عنده، ذلك أن الاستعارة – فيما يرى – توضِّح المعنى وتبينه أكثر مما تفعل العبارات الحقيقية.
ويذهب عبد القاهر الجرجاني [ت471ﻫ] إلى ما ذهب إليه غيره، ويوافق على المبدأ العام الذي أصّله سلفه، وهو عدم جواز الانتقال بالتشبيه من الحسي إلى المعنوي لأنه يُخلُّ بعملية الإبانة.
ولكنه رأى أن ذلك المبدأ يمكن أن يُوسّع ويصبح أكثر رحابة ومرونة، فذهب إلى أن المعنوي المجرد يمكن أن يَذِيع وينتشر، ويتعارفه الناس جميعاً، فيصبح لقوة معرفته وشهرته في مرتبة الحسي سواء بسواء، ومن ثم يمكن للشاعر أن يُشبِّهَ به دون أن يخلَّ بالمبدأ العام للتشبيه، وفي ضوء هذا الفهم توقف عبد القاهر إزاء قول الشاعر( ):
سُنَنٌ لاح بَينهنَّ ابتداعُ
وكأنَّ النجومَ بين دُجاها


وقال: إن الشاعر شبه الحسي بالمعنوي لإدراكه أن المعنويَّ قد صار متمكِّناً في الوضوحِ كالحسي، ذلك أنه لما شَاعَ وتُعورفَ وشُهِرَ وَصْفُ السُّـنَّةِ ونحوها بالبياض والإشراق، والبدعةِ بخلاف ذلك، تخيّلَ الشاعر أن السُّنَن كلَّها جنس من الأجناس التي لها إشراقٌ ونورٌ وابيضاضٌ في العين، وأن البدعةَ نوعٌ من الأنواعِ التي لها فضلُ اختصاصٍ بسواد اللون ، فصار تشبيههُ النجومَ بين الدجى بالسُّنن بين الابتداع، على قياس تشبيههم النجوم في الظلام ببياض الشيب في سواد الشباب ( ).
وعلى هذا الأساس يظل المبدأ العام ثابتاً لا يهتز، ويظل الأصل في التشبيه مرتبطاً بالتوضيح والإبانة.
ولعلّ الغلو ظاهرٌ في الأقوال السابقة، إذ تحولت الإبانة إلى غاية بدلاً من أن تكون وسيلة، وجعل أصحاب هذه الأقوال يقيسون جودة التشبيه استناداً إلى وضوحه وقربه من الواقع، وإخراجه ما لا تقع عليه الحاسة بما تقع عليه . وذلك بُعد عن الصواب، وتقييد لحرية الشاعر، وتناسٍ لمشاعره الذاتية التي لا يحق لأحدٍ فرض الطريقة التي يجب أن يُعبِّر بها، والتشبيه الذي يجب أن يسلكه.
إن النظر إلى الإبانة على أنها غاية التشبيه يعقِّد المسألة كثيراً، ويُخرج التشبيه عن مساره الحقيقي، ومحتِدِه الأصلي، ويُخِلُّ بقضية الوظيفة التي يُعتقد أن الحل يكمن فيها. فإذا نُظر إلى الإبانة على أنها وظيفة من وظائف التشبيه، بما يتناسب مع غاية المتكلم ويحقق رغبته تُحلُّ المعضلة وتنتهي المشكلة.
فالتشبيه يؤدي الوظيفة المنوطة به أيّاً كان نوعها، وفق الغاية التي يرغب فيها المتكلم، فقد تكون الغاية شرح أمرٍ ما وإبانته، فيكون عندئذٍ التشبيه حَسَناً إن استطاع القيام بهذا الأمر، ويُحكم عليه بالجودة، وقد تكون غايةُ المتكلم نقلَ تجربةٍ شعورية يعتريها الغموض والإبهام، فيكون حُسْن التشبيه مقروناً بنجاح إيصال شعور المتكلم وما يجول في خاطره إلى المتلقي، أيّا كان نوع التشبيه. وكما يقول الدكتور جابر عصفور: إن التشبيه الأصلي يهدف إلى الإبانة بشرط أن نفهم الإبانة على أنها نوع من الكشف، والتعرف على الجوانب الغامضة من التجربة التي يعانيها الشاعر، وبهذا المعنى لا يصبح التشبيه من قبيل الحلية العارضة التي تزيد الواضح وضوحاً، أو تكسبه فضل بيان، وإنما يصبح التشبيه وسيلة ضرورية، يتوسل بها الشاعر ليبين لنفسه حقيقة التجربة التي يعانيها، ويوضح الجوانب الخفية منها. ومن هذه الزاوية يمكن أن نعيد النظر في فكرة التوضيح القديمة من أصلها، ونكشف عن زيف النتائج التي ترتبت عليها، فليس الأصل في التشبيه الانتقال من الأدنى إلى الأعلى، أو من الواضح إلى الأوضح، أو من الناقص إلى الزائد، أو صواب النقلة من المعنوي إلى الحسي، فذلك سوء فهم لحقيقة التشبيه، فالتشبيهات الأصيلة تبدأ من هذه الانتقالات الشكلية الزائفة، فضلاً عن أن المعنوي الذي تحدث عنه أصحاب هذا الفريق ليس نقيضاً صارخاً للحسي، فمن العسير – إن لم يكن من المستحيل – أن نتخيل معنوياً، مهما كان نوعه، في غيبة من مدركات الحس( ).


Summarize English and Arabic text online

Summarize text automatically

Summarize English and Arabic text using the statistical algorithm and sorting sentences based on its importance

Download Summary

You can download the summary result with one of any available formats such as PDF,DOCX and TXT

Permanent URL

ٌYou can share the summary link easily, we keep the summary on the website for future reference,except for private summaries.

Other Features

We are working on adding new features to make summarization more easy and accurate


Latest summaries

The English lan...

The English language is considered the second most popular and common language among people, so lear...

تتطلب المهارة ف...

تتطلب المهارة في معاملة الناس قدراً كافياً من الذكاء الاجتماعي والإتزان الانفعالي وضبط النفس فضلاً ع...

3.In addition, ...

3.In addition, from 2014 to 2017, many proposed that MPs may also be relevant carriers of priority p...

الحرية نقيض الإ...

الحرية نقيض الإلزام ولكنها ، كذلك ، قيود باهظة وأمانة صعبة ، تفرضها قوانين الفن ويخضع لها الأديب الح...

Familial Medite...

Familial Mediterranean Fever - American College of Rheumatologyvapor pressure increase the escaping ...

منقول ... رأيت ...

منقول ... رأيت هذه اليافطة فى أحد الشوارع وأنا القارئ فى سيرة الرسول جيداً ولكنى لم أعرف هذا الإسم ف...

إن التلوث من أخ...

إن التلوث من أخطر المشكلات التي نواجهها في عصرنا الحديث دخان يتصاعد من المركبات والمصانع، ومخلفات تر...

Diagnosing and ...

Diagnosing and Resolving Problems Oracle Database includes an advanced fault diagnosability infrast...

Supporting the ...

Supporting the local economy is another dimension of good citizenship. This can be done by working i...

يعمل القياس الف...

يعمل القياس الفرعي للطاقة على إبلاغ المشغلين وشاغلي الأنظمة والمناطق التي تستهلك طاقة أعلى من المتوق...

تتكون كل الأشيا...

تتكون كل الأشياء التي نراها حولنا اليوم من المادة ،وتوجد هذه المادة اماً بشكل سائل أو صلب أو غازي وي...

يحتاج الإنسان ف...

يحتاج الإنسان في أي عصر من العصور، إلى أن يعيش حياته الاجتماعية العامة في وفاق وتألف وتعاون مع الآخر...