Lakhasly

مع أن الجهود الّتي بذلها النّحاة لضبط التّراكيب اللّغوية بخاصةٍ، وتقعيد العربية بعامّةٍ، كبيرة وجليلة، إلا أن بعضها حمّال لمعنيين أو أكثر حتى مع توافر سياق جُملي، وهذا مما يفضي إلى تعدد في المعاني النحويّة، بل إلى مشترك نحوي؛ إذ يقع تحت التركيب الواحد معنيان نحويان أو أكثر، وليست هذه الدراسة بمختصّة في بحث هذه الظاهرة على وجه العموم، أعني أنّها لن تأتي عليها في تجلّياتها الصّوتيّة والصّرفيّة والمعجميّة والأسلوبيّة، بل تقتصر على مضمار المشترك النحوي، ولمّا كانت هذه الاشتراكات المحتملة تشتمل على غير وجه نحوي، تولّدت لدى الباحثة رغبة في استكناهها، والوقوف عند بواعثها، من خلال الخوض في غمار أحد هذه المستويات، ألا وهو المشترك النّحوي، ولأجل تحقيق هذه الغاية، اتخذت الباحثة تفسير" البحر المحيط" لأبي حيّان الأندلسي مضمارًا للدراسة استشرافًا، وتفسيرًا، وتحليلًا؛ فهو تفسير لغويّ يعدّ من أهمّ التفاسير الّتي تناولت النصّ القرآنيّ تناولًا لغويًّا عميقًا ينأى عن التأويل وليّ عنق النصّ، وقد كان للمعنى منزلة رفيعة في تفسير أبي حيان بعامةٍ، ووقوفه على المشترك النحويّ على وجه الخصوص؛ إذ كان المعنى الموجّه في قبول المعاني مجتمعةً تحت التركيب الواحد، أو في ردّ ما يظن وهمًا أنه مشترك نحويّ، أو في ترجيح معنى دون آخر في سياق النصّ الشّريف، ومن أمثلة ذلك عندما بحث تعلّق الضمير في" منه" من قوله تعالى: (ﭻ
ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) [البقرة:60]، فقد وضّح أبو حيّان أنّ هذا التّركيب لو كان في غير كلام الله لأمكن أن يعود الضّمير إلى الضّرب، وهو المصدر المفهوم من الكلام الّذي قبله، وأن تكون "من" سببيّة، أي: فانفجرت بسبب الضّرب، ولكن لا يجوز أن يرتكب مثل هذا في كلام الله عزّ وجلّ، لأنّه لا ينبغي أن يحمل إلّا على أحسن الوجوه في التّركيب وفي المعنى؛ فخصوصيّة التّنزيل العزيز جعلت أبا حيّان يردّ ما يندرج ضمن ظاهرة التّعدّد النّحويّ، في كتاب الله، على الرّغم من قبولها في الشّعر والأدب على وجه عامّ.
وتأسّست الدراسة على مقدّمة وتمهيد، الغرض منهما تجلية ظاهرة المشترك النحوي في العربيّة، ثمّ تعريفها في القرآن الكريم، على خمسة فصول متعاقبة، يتناول الأوّل منها موضوع المشترك النّحويّ الآتي من خفاء العلامة الإعرابيّة، ثمّ الفصل الثاني وفيه تأتي الباحثة على ظاهرة المشترك النحوي الآتي من مرونة الجملة العربية والمفاصل الصوتية، أمّا الثّالث فكان لذلك الاشتراك الآتي من الحذف والإضافة، في حين خُصِّصَ الفصل الرابع لدراسة المشترك النّحويّ الآتي من التعلّق وتعدّد العوامل، والفصل الخامس كان من نصيب المشترك النّحوي الآتي من حروف المعاني، وأعقبت الفصول كلّها بخاتمة، قامت من خلالها الباحثة بتلخيص أهمّ ما توصّلت إليه في دراستها.
مشكلة الدّراسة
تنهض هذه الدّراسة لمحاولة استشراف أثر ظاهرة المشترك النّحوي في تعدد المعاني أوّلًا، وتعيين بواعثها ثانيًا، وتطبيق ذلك في تفسير البحر المحيط ثالثًا، وأثر هذه الظّاهرة في تعًدّد المعاني، وتخلق دلالات متجاورة رابعًا، وموقف أبي حيّان منها خامسًا.
أسئلة الدراسة
• ما أجلى البواعث المفضية إلى ظاهرة المشترك النحويّ عامّة؟
• ما موقف أبي حيّان في تفسيره "البحر المحيط" منها؟
• ما منزلة المعنى في معالجة هذه الظاهرة عند أبي حيّان؟
• ما معايير القبول والردّ والتّرجيح لهذه الظاهرة عند أبي حيان؟
مصطلحات الدراسة
الدلالة، تعدد الأوجه النحوية، تعدّد المعنى، البحر المحيط، المشترك النحوي، المشترك اللّغويّ، المشترك المعجمي، القبول، الردّ، التّرجيح، القرينة.
أهمية الدراسة
تعدّ ظاهرة المشترك النحويّ في التّنزيل العزيز ذات أهمّيّة بالغة، تناولها المفسّرون واللغويّون في مظانّهم وأعاريبهم، وأبو حيّان الأندلسي واحد من هؤلاء؛ إذ ورد على شذرات من هذه الظاهرة في "البحر المحيط"، وفي هذه الدراسة تنحو الباحثة نحو جملة من المطالب تظهر فيها أهمية الدراسة؛ وذلك نحو:
• تجلية ظاهرة مهمّة في التنزيل العزيز، وهي ظاهرة تعدّد المعاني المتجاورة لا المتنافرة.
• تجلية موقف أبي حيّان منها، وإلماحاته إليها قبولًا ورفضًا وترجيحًا.
• بيان أثر تعالق المستويات اللغويّة وتضافرها في تخليق هذه الظاهرة، كتعالق المستوى النحويّ والصّرفيّ.
أهداف الدّراسة
تهدف هذه الدّراسة إلى:
• الوقوف على ظاهرة المشترك النّحويّ في تفسير " البحر المحيط".
• الوقوف على أثر هذه الظّاهرة في التنزيل العزيز، وعلى بواعثها.
• الوقوف على تعالق المستويات اللغويّة في تركيب الجملة العربيّة، وإسهام ذلك في تخليق ظاهرة المشترك النّحوي.
• بيان أثر القراءات القرآنيّة في تخلّق هذه الظاهرة.
• تبيان موقف أبي حيّان من الظّاهرة، وبواعث التّرجيح عنده، ومنزلة المعنى في معالجاته لهذه الظاهرة.
حدود الدراسة
المحدد الموضوعيّ: أثر ظاهرة المشترك النحويّ في تعدّد المعاني: تفسير" البحر المحيط" أنموذجًا.
المحدد البحثيّ (المبحوث فيه) كتاب تفسير" البحر المحيط" لأبي حيّان.
المحدد المضماريّ: التّنزيل العزيز.
محددات أخرى: ما تحتاج إليه الباحثة من مصادر، ومراجع تجلّي مباحثاتها تلك.
الدرّاسات السابقة
دراسة عبد اللطيف (2008) والتي جاءت بعنوان القضايا النّحويّة في" البحر المحيط" لأبي حيّان الأندلسي في الرّبع الثاني من القرآن الكريم.
هدفت الدّراسة إلى استخراج بعض الآراء النحويّة الّتي تطرّق لها الباحث من خلال تفسير البحر المحيط، ثمّ إلى تحليل هذه الآراء ومقارنتها بنحويّين سابقين لمعرفة إن كانت تتوافق معهم أم لا. وبهذا ترى الباحثة أنّها لا تشترك مع موضوع دراستها الّتي تعنى بالمشترك التركيبيّ وتعدّد المعاني.
دراسة البدر (2010) والتي جاءت بعنوان اختيارات أبي حيّان النّحويّة في البحر المحيط، جمعًا ودراسةً.
تركّز الدّراسة على الاختيارات النحويّة لأبي حيّان، فكان الانتباه فيها إلى مصطلحاته في اختياراته، والأسس الّتي قامت عليها، كما تمّ التّركيز على المنهج الّذي اتّبعه أبو حيّان في هذه الاختيارات وترجيح بعضها على الآخر، ثمّ موقف أبي حيّان من المذاهب النحويّة.
لم تتعامل أو تتطرّق الدّراسة إلى المشترك التّركيبي وما تخلقه هذه الظّاهرة من تعالق دلاليّ وإشكالات دلاليّة في النّصّ القرآنيّ؛ ممّا يجعلها تسير في مسار ينأى عمّا تخوض فيه الباحثة.
دراسة القلاح (2011) والتي جاءت بعنوان آراء أبي حيّان الأندلسي النحويّة بين كتبه التنظيريّة والتطبيقيّة.
تعالج الدّراسة سبع عشرة مسألةً نحويّةً اختلفت فيها آراء أبي حيّان الأندلسي بين كتبه الّتي كان ألّفها في علم النّحو وبين تلك الّتي ذكرها في البحر المحيط، فالدّراسة عبارة عن موازنة بين كتب المؤلّف النحويّة، والاختلاف بينها وبين ما ورد في البحر المحيط، في بعض المسائل؛ ممّا يعني ابتعادها عن مرمى هذه الدراسة، فهي تتنزّل في باب المشترك النحويّ التركيبيّ في المسائل النحويّة في البحر المحيط فقط، ولن نتطرّق إلى كتبه الأخرى.
دراسة عرار (2012) والتي جاءات بعنوان المشترك اللّغوي في القرآن الكريم: الصّرفي، والمعجمي، والنّحوي، والأسلوبي.
تناولت الدراسة ظاهرة المشترك النّحويّ في إحدى جزئيّاتها؛ حيث اعتمد الباحث إبراز صور ظاهرة المشترك النحويّ وتجلياتها في القرآن الكريم في تفاسير عدّة، وليس في تفسير محدّد، أمّا دراسة الباحثة فتتناول الظّاهرة في تفسير البحر المحيط، لأبي حيّان، ممّا يجعلها مركّزة بشكل أعمق للظّاهرة في التفسير المختار.
دراسة الطنطاوي (2015) والتي جاءات بعنوان أسس توجيه النّقد الإعرابيّ في تفسير البحر المحيط لأبي حيّان الأندلسيّ..
جاءت الدّراسة لتبيان أسس النّقد الإعرابيّ في تفسير أبي حيّان، وأطروحاته العلميّة أمام معربي القرآن ومفسّريه، وبخاصّة الزمخشري، فعمل الباحث على استحضار الشاهد من القرآن الكريم في مجال ما، فأبرز رأي أبي حيّان فيه، ثمّ قدّم تعليقه، مكتفيًا بمثال واحد لكل موضوع، ثمّ أبرز موقفه من المسألة المعالجة. من هنا يستنتج أنّ الدراسة تعتني بالجانب النّقديّ لبعض المسائل الإعرابيّة الّتي انحصرت في مثال واحد لكلّ مسألة. أمّا دراسة الباحثة فتبتعد عن هذا الجانب؛ إذ تدور في فلك المشترك النحويّ التّركيبي بتجلّياته المختلفة، في تفسير البحر المحيط.
دراسة إقبال وأندر (2017) والتي جاءت بعنوان أبو حيّان الأندلسي ومنهجه في الشواهد النحوية في تفسيره" البحر المحيط" دراسة تحليليّة نحويّة.
تعالج الدّراسة منهج أبي حيّان في الشّواهد النحويّة، في تفسيره" البحر المحيط"، وموقفه من أصول الصناعة من السماع والقياس والإجماع، وكذلك تبيان اتّجاه أبي حيّان النّحوي، فالدّراسة إذًا تأتي بدور واصفة ومركّزة على مؤلّف البحر المحيط، وليس على مضمونه النّحويّ الّذي نحن بصدد معالجته، وهذا يعني أنّها غير متشابهة مع موضوع دراستها.
أصول نظرية النقد النحويّ لدى أبي حيّان: دراسة تطبيقيّة على تفسير البحر المحيط، للدكتور عبد الصبور فخري، المجلة الأكاديمية للأبحاث والنشر العملي، جامعة كابل،2019. (عبد الصبور، 2019)
تناولت الدّراسة المناهج والأصول الّتي اعتمد عليها أبو حيّان في تفسيره، فقام الباحث بوصف ذلك دون التطرّق إلى القضايا النحويّة المتجلّية في الكتاب؛ وهذا يجعلها لا تتشارك مع مضمار هذه الدراسة في جوانب رئيسة.
دراسة المباركي (2020) والتي جاءات بعنوان المشاكلة التّركيبيّة في البحر المحيط لأبي حيّان الأندلسي.
تعنى الدّراسة بتحرير مصطلح المشاكلة الّتي تسهم في العثور على التناسب بين التراكيب النحويّة، وبيان أنواعها وحدودها، ثمّ توضّح مدى التزام أبي حيّان بها، واعتماده عليها في عمليّتي الردّ أو القبول. فالدراسة تهتمّ بالتراكيب المتشابهة داخل النّصّ التي يسمح بها القياس والمعنى. فالدّراسة تثبت للمعرب الصحّة النحويّة أو الدّلاليّة للنّصّ، وفقًا للمعطيات الّتي تنبثق عن عمليّة المشاكلة؛ وبهذا تنحو منحًى آخر عن قبلة دراستنا؛ إذ ينصبّ الاهتمام في الأخيرة إلى ظاهرة المشترك النّحوي، وبواعثها، وعوامل التأثير في تلّقها عند أبي حيان تعيينًا.
صفوة القول: مع تعدّد الدراسات الّتي عالجت كتب أبي حيّان، ومنها تفسيره "البحر المحيط"، لم تعثر الباحثة على كتاب أو دراسة تناولت ظاهرة المشترك التركيبيّ وتعدّد المعاني، في حدود ما أتيح لها.
منهج الدراسة
تتأسّس هذه الدراسة على المنهج الوصفيّ التّحليليّ؛ إذ إنّ الباحثة ستعمد إلى استشراف أثر ظاهرة المشترك النحويّ عامّة، وما أفرزته من تعدّد للمعاني في "البحر المحيط"، ومن ثمّ إلى تحليل ما تمّ استشرافه للوصول إلى مقولات كلّيةّ، والكشف عن ضوابط الاشتراك، وأحكامه، وآثاره، وموقف أبي حيان منه.