Lakhasly

Online English Summarizer tool, free and accurate!

Summarize result (55%)

ثانياً: الدولة والمجتمع المدني: علاقات التكامل: لاشك أن فهم العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني على أنها علاقة تعارض وصراع، هو فهم يشوبه الكثير من القصور ويتضح ذلك من درس طبيعة النشأة التاريخية لكل من المجتمع المدني والدولة، وكيف أن هذه النشأة قد حددت لكل منهما وظائف وأدوار محددة، لقد تأسس مفهوم الدول - الأمة في المجتمعات الحديثة على مجموعة من الأفكار التي تناوئ فكرة التحكم والسيطرة على مقدرات المجتمع دون إرادة هذا المجتمع. ومن ثم فقد كان الولوج إلى الدولة الحديثة مفعما بالنظر في الدولة على أنها تجسد الإرادة العامة للأمة، أو هي الوجه العيني المجسد الروح المجتمع لتنظيم الحياة العامة وضبط التوثرات بين الأفراد والإنابة عنهم في تنفيذ العقاب. لقد كانت هذه هي جوهر الأفكار التي قام عليها التعاقد الإجتماعي في الدولة الحديثة. ولم يكن لهذا التعاقد أن يظهر إلى الوجود إلا في إطار ديمقراطي وما كانت الثورات - والحروب أحيانا التي خاضتها الشعوب الحرة إلا أحد أدوات السعي نحو وضع صيغة التعاقد الاجتماعي هذه موضع التنفيذ العملي من خلال إقامة الدولة الديمقراطية التي لا تحتكر سلطة استخدام القصر إلا من أجل الصالح العام، الضمان الأكثر فعالية من ذلك هو استقلال أجهزة الدولة في علاقتها بالفنات الاجتماعية المختلفة، الذي يؤدي - من الناحية النظرية - وظائف مدى هامة الأولى: هي تكوين حائط منيع من التنظيمات الاجتماعية التي : تحول دون أن تتحول الدولة إلى الطغيان، على تحقيق الصالح العام الذي يُساهم هو نفسه في بلورته وتحديد معالمه وعلاقات الافراد متم سات و سیان سلم التفاعل ولقد كانت فكرة المجتمع المدني ذاتها عندما ظهرت في كتابات هيجل، كانت تفهم لا على أنها أداه للمقاومة، بل أداه لتحقيق النظام والإلتزام بالمسئولية العامة. لقد وسع هيجل" من مفهوم المجتمع المدني ليشمل على العلاقات المنظمة التي يقيمها الأفراد في حياتهم، والسوق أنها العلاقات الحرة التي تعبر بالأساس عن الهوية الفردية، ولكن هذه المصالح لا يمكن أن تتحقق إلا عبر معاك عملية تبادل اجتماعي، ومن ثم فقد أكد على أهمية وجود مؤسسات وسيطة هي عماد المجتمع المدني، واتخذ دوركايم" موقفا أقرب إلى ذلك في تأسيسه لنظرية تقسيم العمل. إن تقسيم العمل هو مبدأ أخلاقي يتم العمل به في حال تطور المجتمع من صور التنظيم الآلية إلى صور التنظيم العضوية، فلا يُمكن في المجتمع الصناعي الحديث أن يتعايش الأفراد دون شكل من أشكال تقسيم العمل. ولكن تقسيم العمل يعمل على تباعد الأفراد الذين كانت تجمعهم روابط تضامنية قوية في المجتمع القديم، وتقف هذه الروابط التي تعد روابط مدنية في منتصف الطريق بين الأفراد والجماعات وبين الدولة. فهي تساعد الأفراد من ناحية على تجميع أنفسهم فلا يتحولون إلى غوغاء في النظام الديمقراطي الليبرالي، وهي في اتجاهها إلى أعلى تمنع الدولة من أن تتحول إلى طاغية. فالدولة النظام السياسي العلماني) هي أداه المجتمع في تحقيق النظام العام في المجتمع الذي يتقلص فيه دور السلطة الدينية. ولكن الأفراد يحتاجون في المجتمع الجديد إلى صور من التجمعات التي تخلق روحاً جمعية داخل المجتمع وتمكن الأفراد من أن يتفاعلوا وأن يُشكلوا روابط جمعية تعيد إنتاج الإتفاق الاجتماعي عبر ما تمارسه من طقوس وعلاقات وتجمعات (۱۰). وهذا هو ما أطلقت عليه الدراسات المعاصرة مفهوم المجال العام public sphere ، في مقابل المجال السياسي الذي تتحرك فيه الدولة، والمجال الخاص للأفراد في حياتهم اليومية ولقد أبرزت بحوث الدولة المعاصرة أهمية التكامل بين الدولة والمجتمع. وان التعارض بينهما يشي بمشكلات في نشأة الدولة، وفي نشأة المجتمع المدني وعدم توافقه مع أهداف الدولة من ناحية أخرى. وظهرت في هذا السياق قضايا نظرية هامة تضيف إلى الرصيد الكلاسيكي في دراسة الدولة أبعاداً جديدة:
والدولة التنموية هي دولة منغرسة في المجتمع، تتمتع بدرجة عالية من الشرعية والروح الإندماجية والعلاقات الإيجابية مع القوى الاجتماعية المختلفة، ولذلك فإن الدولة التنموية تلعب دوراً مركزياً في المجتمع من خلال تبني أيديولوجية تنموية تعتبر تحقيق التنمية والتقدم رسالة وهدفاً للدولة. وتتمكن الدولة التنموية من تحقيق هذه الرسالة عبر مركزية دورها وشرعيتها وكفاءتها في العمل وروحها الإندماجية واستقلالها عن القوى المختلفة في المجتمع، فليست كل الدول تمتلك أيديولوجية تنموية، ومن هنا فإن الدولة لا تستطيع أن تقيم علاقة متوازنة مع مجتمعها إلا إذا توفرت لها شروط عديدة. لقد أكدت نظرية الدولة في الثمانينيات من القرن الماضي على مفهوم استقلال الدولة بوصفه مفهوما يفسر كثيراً من الإشكاليات المثارة حول علاقة الدولة بالطبقة؛ ولقد فهم الإستقلال هنا بوصفه موقفا للدولة في المجتمع الرأسمالي الذي تقود فيه الطبقة البرجوازية عمليات التطور الاقتصادي (۱۲). أما في الدولة التنموية فإن الإستقلال يجب أن يكون ايجابياً وفاعلا ولا يتحقق ذلك إلا بقوة الدولة. ونخب سياسية منجزة وحيادية ومستقلة، ويبتعد عن علاقات الجاهلية، وتحقيق درجة عالية من التماسك القائم على العلاقات المهنية والعلاقات الإندماجية. هنا لا تكون الدولة مستقلة عن المجتمع بقدر ما هي مرتبطة به من خلال شبكة علاقات تمكن النخب السياسية من أن تناقش الأهداف والسياسات، وأن تقيم علاقات بناءة مع رجال الأعمال وقوى المجتمع المدني، ثمة تطوير هنا لمفهوم استقلالية الدولة، فإذا كانت الدولة يجب أن تستقل بإرادتها عن القوى الاجتماعية المختلفة لتحقيق التوازن بينها، فهى العين اليقظة التي ترعى المصلحة العامة وتعمل على تحقيقها. ولذلك فإن علاقاتها وما ترسيه من قيم ومبادئ، وما تقوم به من تشارك أو تعاون أو تشبيك، لا يُقلل من استقلاليتها بقدر ما يُضفي على هذه الإستقلالية طابعاً جديداً لا يُحول الدولة إلى دولة رخوة هشة، ولكنه يحولها إلى دولة تنموية قوية. وفي هذا الإطار تعمل الدولة والمجتمع المدني كتنظيمات متوازنة في إطار قانوني واحد، بحيث لا تعمل الدولة على فرض أطر ضابطة تمليها من أعلى. وفي المقابل تتخلى الدولة عن بعض وظائفها الضابطة ودخولها إلى السلطات المحلية والروابط المحلية التي تكون على دراية أكبر بالمشكلات وإمكانية حلولها. تلك السياسات التي تقوم الدولة ذاتها بتحديد أهدافها العامة. وفضلا عن ذلك تعمل الدولة على تشجيع تنظيم المصالح في تنظيمات، وفي هذا النموذج تعمل تنظيمات المجتمع المدني دوراً وسيطاً بين الإقتصاد وبين التنظيمات الرسمية للدولة. ولا يُمكن لهذه العلاقة الثلاثية بين التنظيمات الرسمية للدولة والإقتصاد والمجتمع المدني أن تؤتي ثمارها إلا بواسطة توافر شرطين هامين الإندماجية والتفاوض deliberation بحيث تضمن الدولة استمرار روح الإندماجية والتفاوض، شريطة ألا تتحول الإندماجية إلى خدمة مصالح شخصية ضيقة، فسوف تختل العلاقة بين الدولة والمجتمع. فالفعل السياسي والتفاعل السياسي يجب أن يتأسسا على عملية جدلية من تبادل الآراء المبنية على التفكير العقلاني والتدبر والتفاوض من أجل حل المواقف
يكاد التحليل السابق أن يضعنا أمام نموذج مثالي للعلاقة بين الدولة والمجتمع المدني، فماذا عسى أن تكون العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني في واقع بعض المجتمعات في العالم ومن بينها المجتمع العربي ؟ بمعنى آخر وما هي الكوابح التي يُمكن أن تعوق قيام دولة تنموية أو ديمقراطية ترابطية في كثير من هذه البلدان ؟
ثالثاً : مشكلات في العلاقة بين المجتمع المدنى والدولة:
إلى أى مدى يمكن أن تنتظم العلاقة بين المجتمع المدني والدولة ؟ وهل هذه العلاقة المتكاملة المثالية يمكن تحقيقها في الواقع ؟ الحقيقة أن الواقع يختلف دائما عن المثال؛ وان المجتمعات تختلف قرباً أو بعداً عنه في ضوء مستوى الشرعية الذي تتمتع به، ومن ثم مستوى احتواء الدولة لسكانها، ودرجة وضوح أهداف النخبة السياسية ومن ثم وعى الدولة والقوى الفاعلة معها المجتمع المدني والقطاع الخاص بأهمية تحديد معالم واضحة للصالح العام الذي يتجاوز المصالح الخاصة لهذه القوى أو لأطراف فيها، ومستوى وعى النخبة بأهمية التفاوض والمداولة والتدبر في صناعة القرار وتنظيمها للعلاقة بين قوى المجتمع المختلفة. ونحن بحاجة إلى دراسات مقارنة عميقة بين الدول المختلفة (خاصة الدول العربية لكي تتوصل إلى بيانات موضوعية يُمكن من خلالها أن نتعرف على مدى قرب الدول من أو بعدها عن المنظومة المتكاملة بين الدولة والمجتمع المدني. ومع ذلك فبإمكاننا أن نطرح - على المستوى النظري - بعض المشكلات التي نفترض أنها يمكن أن تمنع أو تكبح قيام مثل هذه العلاقة. وترتبط بعض هذه المشكلات بتكوين الدولة، ويرتبط بعضها الآخر بتكوين المجتمع المدني. وفي ضوء هذا السياق يمكننا الإشارة إلى المشكلات التالية :
- تضخم أجهزة الدولة :
وتتدرج هذه النظم السياسية في درجة تفوق الدولة في علاقتها بالقوى الاجتماعية المختلفة. ففي الوقت الذي يحتفظ فيه النظام الليبرالي الحر بدرجة من التوازن بين الدولة والقوى الاجتماعية الطبقات والحركات الإجتماعية وتنظيمات المجتمع المدني)، ولقد قدم هذان النموذجان دليلا على الطريقة التي يمكن أن تتضخم بها أجهزة الدولة لتجعل المجتمع مشدوداً إلى أعلى بشكل دائم لا يتحرك فيه ساكن إلا بأذن من مشيئة الإدارة المركزية. هنا ينحصر دور المجتمع المدني إلى أدنى درجة، ولقد أكد بعض منظري الدولة في العالم الثالث على فكرة مفادها أن معظم هذه الدول قد تأسست في أحضان القوى الإستعمارية. وبعد ذهاب هذه القوى احتفظت الدول بنفس أجهزتها الإستعمارية ووسعت من أدواتها، فهذه العلاقات تجعل الأساس الاقتصادي الذي تقوم عليه الدولة موجوداً في دول المركز، وتترك البنية الداخلية في حالة من التخلف وبين الإثنين تقف الدولة التابعة في حالة تضخم تستمده من علاقاتها العميقة مع دول المركز، يعمل على كل القوى الاجتماعية، وتشتيت جهودها كما يجعل صوت الدولة وأجهزتها هو الصوت الأعلى، بل أن صوت الدولة القوي قد يخترق تنظيمات المجتمع المدني نفسه. وأحسب أن هذا الظرف يُشتت قوى المجتمع المدني، - الدولة والحياد بين الطبقات والقوى الاجتماعية :
وهنا تبرز أمامنا مشكلة أخرى للعلاقة بين الدولة والمجتمع، وهو علاقة الدولة بالطبقات الاجتماعية. ففى النظم الإشتراكية تنحاز الدولة انحيازاً كاملا للطبقات العاملة، وتعمل الصدق على من التشريعات التى توسع من قاعدة هذه الطبقة، ولقد واجهت الدول الإشتراكية مشكلات وصعوبات جمة في تحقيق هذا الهدف، في الوقت الذي حدث فيه هذا فشلت الدولة في أن تمنع ظهور فئات متميزة، ويتمتعون بمزايا سياسية واقتصادية مختلفة. أما في المجتمعات المجتمعات الرأسمالية فقد انقسم الرأى بين اتجاهين : اتجاه يرى أن الدولة في المجتمع الرأسمالي متحيزة بالضرورة، الدولة مستقلة أو الإشتراكية الإجتماعية، وتحقيقها انتصارات سياسية في ويتلخص هذا الرأي في القول بأن للدولة في المجتمع الرأسمالي وظائف تنحصر في حفظ الأمن العام، وصيانة الحرمات الإجتماعية والسياسية، وتحقيق العدالة والمساواة ولا تستطيع الدولة أن تحقق مصالحها وهى في وضع التحيز لطبقة بعينها، ولذلك فإنها يجب أن تسعى إلى أن تكون مستقلة عن الطبقات الاجتماعية. ويحقق لها هذا الإستقلال مطلبين هامين
أهمية استقلال الدولة عن الصفات الاجتماعية
المطلب الأول: عدم سيطرة فئة معينة على قرارات الدولة، ولذلك فإن الدولة لا تستطيع أن تحقق سيادتها المطلقة وقوتها المطلقة وهي ضرورة لإقامة المجتمع في حالة التحيز والإلتباس. وتعمل على أن تكفل لهم القدرة على استبقاء حياتهم وفتح آفاق أمام حل مشكلاتهم. ظل محير الدولة يزدهر في دولة تظهر تحيز ال والسؤال الآن: هل يمكن للمجتمع المدني أن واضحا لأحد الطبقات على حساب الأخرى ؟ أو لأحد القطاعات على حساب القطاعات الأخرى ؟ ولنا أن نسأل أيضاً: إذا كان موقف الإستقلال يمنح فرصاً متكافئة للجميع، يتحول هدف المجتمع المدني في هذا الظرف من حالة التدبر العقلاني والتفاوض من أجل الصالح العام، يتحول إلى أحد أدوات تلطيف العنف والتطرف، هذا إذا لم يُسهم فيه أصلا ( أفكر في هذا السياق في بعض التنظيمات ذات الميول المتطرفة والتي تتخذ من العنف وسيلة لتحقيق بعض أهدافها وهي تحتمي بمظلة المجتمع المدني). طور "هابرماس" مفهوم المجال العام ليُشير إلى الفضاء العام الذي يصنعه الأفراد العاديون عبر لقاءاهم وتنظيماتهم المستقلة، الذي يُمكن أن يُطلق عليه أيضاً الفضاء المدني أو المجال العام، في المشاركة في مناقشة الأمور العامة بشكل مستقل عن سلطة الدولة. ويمتد هذا الفضاء العام من جلسات النقاش الخاصة في المقاهي والصالونات والندوات إلى المناقشات الأكثر تنظيماً داخل المؤسسات المدنية وجماعات المصالح والحركات الإجتماعية المنظمة. وتساهم المفاوضات والمناقشات داخل المجال العام في إثراء العملية الديمقراطية، فرغم الإستقلال الذي يتمتع به المجال العام، وهو يُتيح الفرصة لتأطير عمليات للحوار البناء في مقابل سلطات الدولة من ناحية والقطاع الخاص الذي يقوم على التبادل الحر من ناحية أخرى. بل يعبر عن عمليات التباين الكبرى الذي حدثت في المجتمع الرأسمالي على اثر فصل الكنسية عن الحكومة، ويتطلب المجال العام شروطاً من أهمها أنه يتأسس على مفاهيم واضحة للمساواة، وإدراك واعي بأن الهدف من النقاش والتفاوض هو تحقيق الصالح العام وأن هذا النقاش ينطلق أصلا من اهتمام شخصي بهذا الصالح العام، وعدم احتكار هذا الميدان من قبل شلة أو قلة أو جماعة، فهو مفتوح لكل الاتجاهات والتيارات ويتأسيس النقاش داخله على مبدأ عقلاني رشيد يقوم على الاختيار الحر والتفاوض الحر، وأخيراً فإن المجال العام يتأسس على فعل اتصالي، فهو لا ينغلق على نفسه ولكنه يفتح قنوات اتصالية مع القوى والإتجاهات داخل المجالات الأخرى. ويُعد المجال العام بذلك فضاء الحرية الحقيقي في المجتمع. على أسس من المشاركة والتسامح والعمومية، التي تتجاوز كل ما هو خاص إلى ما هو عام، بما في ذلك تجاوز لغة الحوار لدى كل فئة إلى لغة سياقية عامة، وتجاوز الاقتصار على فئة معينة أو أعضاء في تنظيمات معينة، فهو ذو حدود مفتوحة للمشاركة الجماعية، بمعنى أن الحوار والنقاش داخل المجال العام ليس سلبيا، ولا يستهدف المعارضة من أجل المعارضة على العكس من ذلك أنه يدفع إلى الأمام بالحوار البناء الإيجابي من أجل الصالح العام. فالمجالات الحوارية الجدلية البناءة تتجمع في النهاية في مجال عام حواري وجدلي مفتوح وحر من أجل إعلاء المصلحة العامة
ويمنحها الفرصة لكي تعارض وتجادل من أجل الصالح العام في إطار من النقاش العقلاني البناء والأصل في كل ذلك هو الإدراك الواعي المفهوم "الصالح العام" Public Good؛ والسعي نحو التوافق اللحظي مع المواقف المتغيرة أو ضغوط السياسة؛ حيث تعجز النخب السياسية والمدنية عن التوصل إلى اتفاق عام حول المبادئ العامة للمجتمع من ناحية وأسس الحوار والتفاوض من ناحية أخرى. وفي مثل هذا الظرف سوف تسعى كل جماعة إلى أخذ المجتمع أخذ عزيز مقتدر، وأن تفهم الفضاء العام على أنه فضاؤها فحسب. ويتحول المجتمع إلى جزر متفرقة كل يعمل على هواه ووفق ما يرى من مصالح خاصة، ويزداد هنا التباعد الاجتماعي ويفقد المجتمع أحد أهم أسس النظام الاجتماعي العام. ضعف فاعلية النخب المدنية :
ومؤسساتها وعدم فاعلية أدائها أو وظائفها، يمكن أن ينطبق على المجتمع المدني أيضاً. وتبدو العلاقة بينهما وكأنها علاقة تبادلية؛ والعكس صحيح. ومجالها العام، وقوة المجتمع المدني من فاعلية أداء الدولة وحرصها على مشاركة كل القوى والتيارات السياسية
والاجتماعية في عملية صناعة السياسات العامة وتنفيذها. ومن هذه المقدمة يمكن أن نخلص إلى القول بأن مشكلات تأسيس الدولة الوطنية. لابد وأن تنعكس على مشكلات تأسيس المجتمع المدني. وتحيزها الظاهر لفئات دون أخرى في مراحل تاريخية محددة، وإثقال كاهله بمشكلات عديدة. ومن الأمثلة التي يمكن طرحها بشأن نشأة وتكوين المجتمع المدني في علاقته بالدولة، السؤال الخاص بموقف النخب السياسية المشكلة لهذا المجتمع وطموحاتها السياسية والاجتماعية، وطبيعة الاستقلال الذي يحققه المجتمع المدني في مقابل الدولة، فنجد من ناحية أن النخب السياسية، قد اتخذت طابعاً خاصاً، وهى التي ناضلت من أجل تخليصه من تاريخ مظلم. ومن ثم فقد منحت لنفسها حقوقاً مطلقة في إدارة المجتمع وتوجيه أجهزة الدولة، ولقد تشكلت النخب المدنية حول هذه النخبة وفي كنف حكمها، مثلها في ذلك مثل النخب السياسية حاملة السلطة. ومن ثم فقد اكتسبت النخب المدنية نفس الخصائص. واعتبرت أن مشروعها وأفكارها ليست محل نقاش، وربما يُفسر لنا هذا الرأى ما نراه من مشكلات أشارت إليها بعض الدراسات التي
وتزداد هذه المشكلة تعقيداً عندما نجد أن معظم النخب المدنية قد تشكلت في أحضان الطبقة الوسطى. أن هذه النخب تميل إلى الإنشطار والإنشقاق، وهي تخب غير متجانسة ومفككة مثلها مثل الطبقة التي أفرزتها. فالمجال السياسي - بحكم تكوينه التاريخي - قد لا يُحقق درجة الإستقلال المطلوبة؛ وكذلك المجال الاجتماعي الذي تعمل فيه المنظمات التطوعية قد لا يرغب كلية في الإستقلال. ويتدخل في شئونه بحيث يبث رجاله ونساءه عبر المجال المدني، ومن ناحية أخرى، نجد أن بعض أعضاء التنظيمات المدنية لا يرفعون شعار الإستقلال عن الدولة بقدر ما يهرولون نحو الدولة في أول إشارة. فالمجتمع المدني هنا هو وسيلة - لا للتداول والتدبر والنقاش والمشاركة في عمليات التفاوض والمداولة من أجل الصالح العام - بل للولوج إلى عالم السياسة. و لا تحاول المنظمات الأكثر استقلالاً عن الدولة أن تجعل من هذا الإستقلال وسيلة لمناقشة الصالح العام، بقدر ما هو وسيلة لتجاوز الدولة بالدفاع عن أجندات عولمية جاهزة يُصاحبها إغداق في التمويل الذي يمنح بدوره للنخب المدنية تميزاً اجتماعياً وسياسيا . خاتمة
و"القيم العامة"،


Original text

ثانياً: الدولة والمجتمع المدني: علاقات التكامل: لاشك أن فهم العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني على أنها علاقة تعارض وصراع، هو فهم يشوبه الكثير من القصور ويتضح ذلك من درس طبيعة النشأة التاريخية لكل من المجتمع المدني والدولة، وكيف أن هذه النشأة قد حددت لكل منهما وظائف وأدوار محددة، بحيث يتحقق للمجتمع في النهاية قدراً من التوازن والإستمرار.
لقد تأسس مفهوم الدول - الأمة في المجتمعات الحديثة على مجموعة من الأفكار التي تناوئ فكرة التحكم والسيطرة على مقدرات المجتمع دون إرادة هذا المجتمع. ذلك هو الأصل في كل صور الحكم الأحادية التي تقوم على الرأي الواحد والفكرة الواحدة، أو المصلحة الواحدة من أمثال أنماط الحكم الدكتاتورية والثيوقراطية، وحكومات الطغيان بكل صورها. ومن ثم فقد كان الولوج إلى الدولة الحديثة مفعما بالنظر في الدولة على أنها تجسد الإرادة العامة للأمة، أو هي الوجه العيني المجسد الروح المجتمع لتنظيم الحياة العامة وضبط التوثرات بين الأفراد والإنابة عنهم في تنفيذ العقاب. لقد كانت هذه هي جوهر الأفكار التي قام عليها التعاقد الإجتماعي في الدولة الحديثة. ولم يكن لهذا التعاقد أن يظهر إلى الوجود إلا في إطار ديمقراطي وما كانت الثورات - والحروب أحيانا التي خاضتها الشعوب الحرة إلا أحد أدوات السعي نحو وضع صيغة التعاقد الاجتماعي هذه موضع التنفيذ العملي من خلال إقامة الدولة الديمقراطية التي لا تحتكر سلطة استخدام القصر إلا من أجل الصالح العام، ومن أجل تجسيد الإرادة العامة للأمة.
استقلال الدولة عن الصالة ولكن ما الضمان الذي يحقق استمرارية لهذه الروح المثالية في إدارة شئون المجتمع : لا شك أن وجود سلطات مختلفة مستقلة هي أحد هذه الضمانات، كما أن . الضمان الأكثر فعالية من ذلك هو استقلال أجهزة الدولة في علاقتها بالفنات الاجتماعية المختلفة، وفي ضمان الحقوق وحمايتها ) ولكن يبدو أن الضمان الأكبر ٢ من ذلك كله كان فكرة المجتمع المدني، الذي يؤدي - من الناحية النظرية - وظائف مدى هامة الأولى: هي تكوين حائط منيع من التنظيمات الاجتماعية التي : تحول دون أن تتحول الدولة إلى الطغيان، والثانية هي ضبط الديمقراطية بحيث لا تتحول - عبر سوء استخدامها - إلى فوضى والثانية: مساعدة الدولة عبر الحوار والنقاش والجدل الحر البناء والتدبر العقلي والتفاوض والممارسة ، على تحقيق الصالح العام الذي يُساهم هو نفسه في بلورته وتحديد معالمه وعلاقات الافراد متم سات و سیان سلم التفاعل ولقد كانت فكرة المجتمع المدني ذاتها عندما ظهرت في كتابات هيجل، وغيره من الرواد، كانت تفهم لا على أنها أداه للمقاومة، بل أداه لتحقيق النظام والإلتزام بالمسئولية العامة. لقد وسع هيجل" من مفهوم المجتمع المدني ليشمل على العلاقات المنظمة التي يقيمها الأفراد في حياتهم، والتي تظهر داخل الأسرة، وداخل . المؤسسات الحكومية، والإتحادات النقابية، والسوق أنها العلاقات الحرة التي تعبر بالأساس عن الهوية الفردية، فتكسبها قدراً من الإرادة الحرة، التي تجعلها قادرة على الفعل والمباداة. ثمة مجال لتحقيق الإرادة الحرة للأفراد، وإتاحة الفرصة. لهم للبحث عن مصالحهم الشخصية. ولكن هذه المصالح لا يمكن أن تتحقق إلا عبر معاك عملية تبادل اجتماعي، ومن هنا فإن سعى الفرد لتحقيق مصالحه يتطلب تجارة مع الآخرين، ويتطلب اعتراف بالآخرين والحفاظ على حقوقهم، وهكذا يفعل أونتك الآخرون إذا كان لهم أن يسعوا إلى تحقيق مصالحهم. لقد أوضح "هيجل" بجلاء في هنا عملية تبادل اجتماعى كتابه " فلسفة الحق"، أن كل شخص محدد بهوية معينة يرتبط بالضرورة بأشخاص آخرين بحيث يحقق كل طرف ذاته ويجد رضا عنها عبر الآخرين. وحذر من أن تتحول عملية تحقيق المصالح إلى فوضى، ومن ثم فقد أكد على أهمية وجود مؤسسات وسيطة هي عماد المجتمع المدني، وهي الباعثة على نسق للمبادئ الأخلاقية فيه. وتحتل مؤسسة الأسرة، والرابطة، أو الإتحاد أو النقابة مكان الصدارة في هذا الصدد. فعبرها يتعلم الفرد المبادئ الأخلاقية الأساسية للإرتباط بالآخرين والمحافظة على حقوقهم كما يُحافظ على حقوقه (1) .
واتخذ دوركايم" موقفا أقرب إلى ذلك في تأسيسه لنظرية تقسيم العمل. إن تقسيم العمل هو مبدأ أخلاقي يتم العمل به في حال تطور المجتمع من صور التنظيم الآلية إلى صور التنظيم العضوية، فلا يُمكن في المجتمع الصناعي الحديث أن يتعايش الأفراد دون شكل من أشكال تقسيم العمل. ولكن تقسيم العمل يعمل على تباعد الأفراد الذين كانت تجمعهم روابط تضامنية قوية في المجتمع القديم، ومن هنا فإن المجتمع الجديد لابد وأن يطور روابط مهنية تطوعية. وتقف هذه الروابط التي تعد روابط مدنية في منتصف الطريق بين الأفراد والجماعات وبين الدولة. فهي تساعد الأفراد من ناحية على تجميع أنفسهم فلا يتحولون إلى غوغاء في النظام الديمقراطي الليبرالي، وهي في اتجاهها إلى أعلى تمنع الدولة من أن تتحول إلى طاغية. فالدولة النظام السياسي العلماني) هي أداه المجتمع في تحقيق النظام العام في المجتمع الذي يتقلص فيه دور السلطة الدينية. ولكن الأفراد يحتاجون في المجتمع الجديد إلى صور من التجمعات التي تخلق روحاً جمعية داخل المجتمع وتمكن الأفراد من أن يتفاعلوا وأن يُشكلوا روابط جمعية تعيد إنتاج الإتفاق الاجتماعي عبر ما تمارسه من طقوس وعلاقات وتجمعات (۱۰). وهذا هو ما أطلقت عليه الدراسات المعاصرة مفهوم المجال العام public sphere ، الذي يُشكل مجالاً للتفاوض والتدبر والتبادل، في مقابل المجال السياسي الذي تتحرك فيه الدولة، والمجال الخاص للأفراد في حياتهم اليومية ولقد أبرزت بحوث الدولة المعاصرة أهمية التكامل بين الدولة والمجتمع. وان التعارض بينهما يشي بمشكلات في نشأة الدولة، ومن ثم عدم كفاءتها في إدارة المجتمع من ناحية، وفي نشأة المجتمع المدني وعدم توافقه مع أهداف الدولة من ناحية أخرى. ثمة فرق بين ما نقصده هنا بالتعارض وبين المعارضة، التي هي الاختلاف في الرأى. فتلك الأخيرة تعد أحد شروط الديمقراطية أما التعارض فهو شيء آخر. وظهرت في هذا السياق قضايا نظرية هامة تضيف إلى الرصيد الكلاسيكي في دراسة الدولة أبعاداً جديدة:
١ - الدولة التنموية
1- من أول هذه القضايا ما يرتبط بمفهوم الدولة التنموية developmental state، وهو مفهوم ارتبط بدراسة دور الدولة في التجارب الاقتصادية الناجحة في جنوب شرق آسيا. والدولة التنموية هي دولة منغرسة في المجتمع، تتمتع بدرجة عالية من الشرعية والروح الإندماجية والعلاقات الإيجابية مع القوى الاجتماعية المختلفة، مع القدرة على الاحتفاظ بدرجة من الاستقلال. ويُمكنها ذلك من قيادة المجتمع في إطار من العقلانية والرشد نحو تحقيق نهضة اقتصادية، ولذلك فإن الدولة التنموية تلعب دوراً مركزياً في المجتمع من خلال تبني أيديولوجية تنموية تعتبر تحقيق التنمية والتقدم رسالة وهدفاً للدولة. وتتمكن الدولة التنموية من تحقيق هذه الرسالة عبر مركزية دورها وشرعيتها وكفاءتها في العمل وروحها الإندماجية واستقلالها عن القوى المختلفة في المجتمع، بحيث تكون قادرة على تنفيذ سياساتها وبرامجها بدرجة عالية من الكفاءة (١١).
2- الاستقلالية المتجذرة
يعني ذلك أن ثمة شروطاً لتجدر دور الدولة في المجتمع. فليست كل الدول تمتلك أيديولوجية تنموية، أو تعتبر التنمية رسالة لها، وأن هي اعتبرتها رسالة فقد لا تتوافر لها الشرعية أو الكفاءة. ومن هنا فإن الدولة لا تستطيع أن تقيم علاقة متوازنة مع مجتمعها إلا إذا توفرت لها شروط عديدة. ولقد أفاضت نظريات الدولة المعاصرة في تحديد هذه الصفات. ومن المفهومات النظرية الهامة التي ظهرت لتفسير هذا الوضع، مفهوم الإستقلالية المتجذرة Embedded Autonomy. لقد أكدت نظرية الدولة في الثمانينيات من القرن الماضي على مفهوم استقلال الدولة بوصفه مفهوما يفسر كثيراً من الإشكاليات المثارة حول علاقة الدولة بالطبقة؛ ولقد فهم الإستقلال هنا بوصفه موقفا للدولة في المجتمع الرأسمالي الذي تقود فيه الطبقة البرجوازية عمليات التطور الاقتصادي (۱۲). إن الإستقلال هنا يبدو حياديا، أما في الدولة التنموية فإن الإستقلال يجب أن يكون ايجابياً وفاعلا ولا يتحقق ذلك إلا بقوة الدولة. لا تستطيع الدولة الرخوة أن تحقق مثل هذا الإستقلال، بل له شروط من أهمها الكفاءة في الإنجاز، وتملك جهاز بيروقراطي قوى وفعال، ونخب سياسية منجزة وحيادية ومستقلة، ونظام لتعبئة القوى البشرية يقوم على الجدارة والإمتياز، والمهنية، ويبتعد عن علاقات الجاهلية، وتحقيق درجة عالية من التماسك القائم على العلاقات المهنية والعلاقات الإندماجية. هنا لا تكون الدولة مستقلة عن المجتمع بقدر ما هي مرتبطة به من خلال شبكة علاقات تمكن النخب السياسية من أن تناقش الأهداف والسياسات، وأن تقيم علاقات بناءة مع رجال الأعمال وقوى المجتمع المدني، وأن تحدد الأدوار المركزية واللامركزية بشكل دقيق وفعال (۱۳). ثمة تطوير هنا لمفهوم استقلالية الدولة، فإذا كانت الدولة يجب أن تستقل بإرادتها عن القوى الاجتماعية المختلفة لتحقيق التوازن بينها، ولنشر قيم العدل والمساواة، فإنها لا يجب أن تغفل دورها كقوة تنموية. فهى العين اليقظة التي ترعى المصلحة العامة وتعمل على تحقيقها. ولذلك فإن علاقاتها وما ترسيه من قيم ومبادئ، وما تقوم به من تشارك أو تعاون أو تشبيك، لا يُقلل من استقلاليتها بقدر ما يُضفي على هذه الإستقلالية طابعاً جديداً لا يُحول الدولة إلى دولة رخوة هشة، ولكنه يحولها إلى دولة تنموية قوية.
الديموقراطية الاتحادية :
ومن ناحية ثالثة فقد أدى فشل الدولة في إدارة التنمية أحيانا، أو فرضها السلطات تنظيمية عليا فيها قدر من التسلط والإنحياز، أدى هذا النقد إلى ظهور مفهوم الديمقراطية الإتحادية أو الترابطية Associational Democracy . وفي هذا الإطار تعمل الدولة والمجتمع المدني كتنظيمات متوازنة في إطار قانوني واحد، بحيث لا تعمل الدولة على فرض أطر ضابطة تمليها من أعلى. وفي المقابل تتخلى الدولة عن بعض وظائفها الضابطة ودخولها إلى السلطات المحلية والروابط المحلية التي تكون على دراية أكبر بالمشكلات وإمكانية حلولها. ولا يعني ذلك غياب الدولة كلية، بل أن وظائفها تتغير بحيث تلعب دورا أكبر في اختيار شركانها وفي إعطائهم الفرص لكي يُشاركوا في صياغة السياسات العامة، تلك السياسات التي تقوم الدولة ذاتها بتحديد أهدافها العامة. وفضلا عن ذلك تعمل الدولة على تشجيع تنظيم المصالح في تنظيمات، وأن تضع ضوابط للإنجاز، وأن تشجع الإفصاح وتداول المعلومات والممارسات الجيدة، وأن تعطي لنفسها الحق في التدخل في حالة فشل عمليات الضبط الذاتي. وفي هذا النموذج تعمل تنظيمات المجتمع المدني دوراً وسيطاً بين الإقتصاد وبين التنظيمات الرسمية للدولة. ولا يُمكن لهذه العلاقة الثلاثية بين التنظيمات الرسمية للدولة والإقتصاد والمجتمع المدني أن تؤتي ثمارها إلا بواسطة توافر شرطين هامين الإندماجية والتفاوض deliberation بحيث تضمن الدولة استمرار روح الإندماجية والتفاوض، شريطة ألا تتحول الإندماجية إلى خدمة مصالح شخصية ضيقة، أو إلى تسلط من أعلى، أو Corporatism ميل أوليجارشي نخبوي تسلطي ولا يتحول التفاوض إلى مساومة. ولو حدث أن تحولت الإندماجية إلى خدمة مصالح ضيقة وسمحت بصور من عدم المساواة أو التسلط أو تحولت التفاوضية إلى مساومة، فسوف تختل العلاقة بين الدولة والمجتمع. فالفعل السياسي والتفاعل السياسي يجب أن يتأسسا على عملية جدلية من تبادل الآراء المبنية على التفكير العقلاني والتدبر والتفاوض من أجل حل المواقف
المشكلة دون أن يدعو شخص إلى فرض رأيه على الآخرين (١٤).
يكاد التحليل السابق أن يضعنا أمام نموذج مثالي للعلاقة بين الدولة والمجتمع المدني، فماذا عسى أن تكون العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني في واقع بعض المجتمعات في العالم ومن بينها المجتمع العربي ؟ بمعنى آخر وما هي الكوابح التي يُمكن أن تعوق قيام دولة تنموية أو ديمقراطية ترابطية في كثير من هذه البلدان ؟
ثالثاً : مشكلات في العلاقة بين المجتمع المدنى والدولة:
إلى أى مدى يمكن أن تنتظم العلاقة بين المجتمع المدني والدولة ؟ وهل هذه العلاقة المتكاملة المثالية يمكن تحقيقها في الواقع ؟ الحقيقة أن الواقع يختلف دائما عن المثال؛ وان المجتمعات تختلف قرباً أو بعداً عنه في ضوء مستوى الشرعية الذي تتمتع به، ومن ثم مستوى احتواء الدولة لسكانها، ودرجة وضوح أهداف النخبة السياسية ومن ثم وعى الدولة والقوى الفاعلة معها المجتمع المدني والقطاع الخاص بأهمية تحديد معالم واضحة للصالح العام الذي يتجاوز المصالح الخاصة لهذه القوى أو لأطراف فيها، ومستوى الكفاءة في أداء هذه النخبة، ومستوى كفاءة القرارات التي تصدر عنها، ونوعية السياسات التي تتبناها، ودرجة التنافسية التي تسمح بها، ودرجة الإستقلالية التي تحققها في إدارتها، ومستوى وعى النخبة بأهمية التفاوض والمداولة والتدبر في صناعة القرار وتنظيمها للعلاقة بين قوى المجتمع المختلفة. ونحن بحاجة إلى دراسات مقارنة عميقة بين الدول المختلفة (خاصة الدول العربية لكي تتوصل إلى بيانات موضوعية يُمكن من خلالها أن نتعرف على مدى قرب الدول من أو بعدها عن المنظومة المتكاملة بين الدولة والمجتمع المدني.
ومع ذلك فبإمكاننا أن نطرح - على المستوى النظري - بعض المشكلات التي نفترض أنها يمكن أن تمنع أو تكبح قيام مثل هذه العلاقة. ولا تطرح هذه المشكلات من وحى الخيال، وإنما من خلال إشارات نظرية وأمبريقية. وترتبط بعض هذه المشكلات بتكوين الدولة، ويرتبط بعضها الآخر بتكوين المجتمع المدني.
وفي ضوء هذا السياق يمكننا الإشارة إلى المشكلات التالية :



  • تضخم أجهزة الدولة :
    شهد المشروع الحداثي الغربي ثلاث صور من تشكيلات الدولة: الدولة التي ارتبطت بالثورة البرجوازية والتي تمخض عنها النظام الديمقراطي الليبرالي؛ والدولة التي ارتبطت بالثورات التي انخرط فيها العمال والفلاحون والتي تمخض قضي.
    عنها النظام الإشتراكي في الإتحاد السوفيتي السابق)؛ والدولة التي ارتبطت بطموحات ايديولوجية للنخب السياسية والتي تمخض عنها النظام الفضي والنازي (١٥). وتتدرج هذه النظم السياسية في درجة تفوق الدولة في علاقتها بالقوى الاجتماعية المختلفة. ففي الوقت الذي يحتفظ فيه النظام الليبرالي الحر بدرجة من التوازن بين الدولة والقوى الاجتماعية الطبقات والحركات الإجتماعية وتنظيمات المجتمع المدني)، تطغى أجهزة الدولة على بقية أجزاء المجتمع الأخرى في النظاميين الشمولي، والفاشي التسلطي على اختلاف بينهما في درجة تنظيم الشمولية والتسلطية. ولقد قدم هذان النموذجان دليلا على الطريقة التي يمكن أن تتضخم بها أجهزة الدولة لتجعل المجتمع مشدوداً إلى أعلى بشكل دائم لا يتحرك فيه ساكن إلا بأذن من مشيئة الإدارة المركزية. هنا ينحصر دور المجتمع المدني إلى أدنى درجة، ويُصيب الشلل القوى الاجتماعية المختلفة.
    ولقد أكد بعض منظري الدولة في العالم الثالث على فكرة مفادها أن معظم هذه الدول قد تأسست في أحضان القوى الإستعمارية. وبعد ذهاب هذه القوى احتفظت الدول بنفس أجهزتها الإستعمارية ووسعت من أدواتها، فصارت هذه الأجهزة أكثر تضخما من المجتمع. ونقد ساعدت علاقات التبعية على دعم هذا التضخم وتعضيده. فهذه العلاقات تجعل الأساس الاقتصادي الذي تقوم عليه الدولة موجوداً في دول المركز، وتترك البنية الداخلية في حالة من التخلف وبين الإثنين تقف الدولة التابعة في حالة تضخم تستمده من علاقاتها العميقة مع دول المركز، وهو تضخم يمكنها من ضبط البنية الداخلية وتسهيل العلاقات التجارية غير المتكافئة بين المركز والأطراف (١٦). ولسنا هنا بصدد عرض فكرة تضخم أجهزة الدولة في العالم الثالث ولكن تشير إليها على اعتبار أن مزيداً من التضخم في إدارة شئون الدولة - بما فيه التضخم الأمني - إدارة العلاقات بين القوى المختلفة، يعمل على كل القوى الاجتماعية، وتشتيت جهودها كما يجعل صوت الدولة وأجهزتها هو الصوت الأعلى، بل أن صوت الدولة القوي قد يخترق تنظيمات المجتمع المدني نفسه. وأحسب أن هذا الظرف يُشتت قوى المجتمع المدني، ويُفرق أهله، ويجعله مشتت فاقدا للقدرة على التنظيم والتدبر والتفاوض. ومن هنا يأتي صوته إما ضعيفاً واهنا، وأما عالياً صاخباً، وأما منافقاً مهرولا تجاه الدولة لإستملاكها.

  • الدولة والحياد بين الطبقات والقوى الاجتماعية :
    وهنا تبرز أمامنا مشكلة أخرى للعلاقة بين الدولة والمجتمع، وهو علاقة الدولة بالطبقات الاجتماعية. ولقد دار جدل كبير حول هذا الموضوع في ثراث دراسات الدولة؛ ففى النظم الإشتراكية تنحاز الدولة انحيازاً كاملا للطبقات العاملة، وتعمل الصدق على من التشريعات التى توسع من قاعدة هذه الطبقة، وتحد فى نفس الوقت من الجموح الإستهلاكي للفئات المتميزة، أو التي يمكن أن تحقق بعض التميز. ولقد واجهت الدول الإشتراكية مشكلات وصعوبات جمة في تحقيق هذا الهدف، ومن أهم هذه المشكلات أنها في الوقت الذي فرضت فيه قيودا تمنع حدوث فروق كبيرة بين الطبقات، وهي قيود أدت إلى صور مختلفة من الحرمان لفئات عريضة من الناس، في الوقت الذي حدث فيه هذا فشلت الدولة في أن تمنع ظهور فئات متميزة، خاصة من بين أولئك الذين يحتلون أماكن قيادية في الحزب الواحد، ويتمتعون بمزايا سياسية واقتصادية مختلفة.
    أما في المجتمعات المجتمعات الرأسمالية فقد انقسم الرأى بين اتجاهين : اتجاه يرى أن الدولة في المجتمع الرأسمالي متحيزة بالضرورة، فهى تقف في صف الطبقة مالكه الثروة، تدافع عن مصالحها وتمنحها الفرصة لقيادة الصفوف، وتحقيق مزيد من تكدس الثروة. وقد تغير هذا الرأي تحت وطأه زحف التيارات الإشتراكية الليبرالية معظم الدول الرأسمالية. الدولة مستقلة أو الإشتراكية الإجتماعية، وتحقيقها انتصارات سياسية في ويتلخص هذا الرأي في القول بأن للدولة في المجتمع الرأسمالي وظائف تنحصر في حفظ الأمن العام، وحقوق الملكية، وحرية حركة رأس المال، وصيانة الحرمات الإجتماعية والسياسية، وتحقيق العدالة والمساواة ولا تستطيع الدولة أن تحقق مصالحها وهى في وضع التحيز لطبقة بعينها، ولذلك فإنها يجب أن تسعى إلى أن تكون مستقلة عن الطبقات الاجتماعية. ويحقق لها هذا الإستقلال مطلبين هامين
    لتحقيق وظائفها (۱):
    أهمية استقلال الدولة عن الصفات الاجتماعية
    المطلب الأول: عدم سيطرة فئة معينة على قرارات الدولة، فلا الرأسماليون، ولا العمال، ولا الفئات الوسطى من أصحاب المهن الفنية ومن متوسطي الرأسماليين يحق لهم أن يوجهوا قرارات الدولة لصالحهم، ولا أن يسيطروا على أجهزتها الحاكمة، أو أجهزتها الإدارية والرقابية، أو أجهزتها الأيديولوجية.
    المطلب الثاني: تحقيق القوة اللازمة لتحقيق السيادة على الأرض وعلى البشر. فالتحيز يُحرم الدولة من بعض قوتها لصالح الفئات التي تتحيز لها. فقوة الدولة في "المنح" للفئات التي تتحيز لها يُصاحبها دائماً ضعف في "المنع" بالنسبة للفئات الأخرى. ولذلك فإن الدولة لا تستطيع أن تحقق سيادتها المطلقة وقوتها المطلقة وهي ضرورة لإقامة المجتمع في حالة التحيز والإلتباس. والعكس إذا كانت مستقلة. فالمتحيز ليس قوياً، لأنه يضعف أو يميل أمام من يتحيز له، فيفقد قدراً من قوته.
    وفي ضوء الوعي بهذين المطلبين أكدت المجتمعات الرأسمالية المتقدمة أهمية أن تكون قضية استقلال الدولة وعدم تحيزها قضية محورية في الفكر السياسي. ففى الوقت الذي تحمي فيه حقوق الملكية وحرية حركة رأس المال لتحمي مصالح الطبقة مالكة الثروة، فإنها تحمي حقوق العمال وتضمن لهم مستوى معيشي ملائم وتحمي حقوق الفقراء والمتعطلين، وتعمل على أن تكفل لهم القدرة على استبقاء حياتهم وفتح آفاق أمام حل مشكلاتهم.
    ظل محير الدولة يزدهر في دولة تظهر تحيز ال والسؤال الآن: هل يمكن للمجتمع المدني أن واضحا لأحد الطبقات على حساب الأخرى ؟ أو لأحد القطاعات على حساب القطاعات الأخرى ؟ ولنا أن نسأل أيضاً: إذا كان موقف الإستقلال يمنح فرصاً متكافئة للجميع، فكيف يعمل موقف التحيز ؟ . ومن المتوقع أن يفرز موقف التحيز ضروباً من الامتعاض واليأس والشعور بوطأة الظلم، ووطأة عدم المساواة. ويزداد
    هذا الشعور في ظل وجود فروق شاسعة بين طبقات المجتمع في الحصول على فوائض التنمية والفرص المتحققة منها. وفي مثل هذا الظرف يتضافر الشعور باليأس والامتعاض مع الشعور بالحرمان النسبي ليولد - على المدى البعيد - صورا من التطرف والعنف. يتحول هدف المجتمع المدني في هذا الظرف من حالة التدبر العقلاني والتفاوض من أجل الصالح العام، ومن حالة المشاركة الفعالة في مسيرة المجتمع والتنمية، يتحول إلى أحد أدوات تلطيف العنف والتطرف، هذا إذا لم يُسهم فيه أصلا ( أفكر في هذا السياق في بعض التنظيمات ذات الميول المتطرفة والتي تتخذ من العنف وسيلة لتحقيق بعض أهدافها وهي تحتمي بمظلة المجتمع المدني).

  • ضعف المجال العام
    طور "هابرماس" مفهوم المجال العام ليُشير إلى الفضاء العام الذي يصنعه الأفراد العاديون عبر لقاءاهم وتنظيماتهم المستقلة، ليُناقشوا الشأن العام، أو المشاركة في حوار عقلي وتدبري نقدي بناء حول الصالح العام. ولقد تطور هذا الفضاء، الذي يُمكن أن يُطلق عليه أيضاً الفضاء المدني أو المجال العام، تطور هذا الفضاء للنقاش والتفاوض داخل المجتمع البرجوازي، وعبر تطور المشروع الليبرالي لهذا المجتمع. ولقد عبر عن الحاجة إلى مشاركة قوى ناشئة في المجتمع، تكاثرت مع انتشار التعليم وتدفق المعلومات، في المشاركة في مناقشة الأمور العامة بشكل مستقل عن سلطة الدولة. ويمتد هذا الفضاء العام من جلسات النقاش الخاصة في المقاهي والصالونات والندوات إلى المناقشات الأكثر تنظيماً داخل المؤسسات المدنية وجماعات المصالح والحركات الإجتماعية المنظمة. وتساهم المفاوضات والمناقشات داخل المجال العام في إثراء العملية الديمقراطية، وفي إدراك الصالح العام إدراكاً واضحاً، وفي تحديد أفضل السبل لتحقيقه. فرغم الإستقلال الذي يتمتع به المجال العام، إلا أنه جزء لا يتجزأ من بنية المجتمع، وهو يُتيح الفرصة لتأطير عمليات للحوار البناء في مقابل سلطات الدولة من ناحية والقطاع الخاص الذي يقوم على التبادل الحر من ناحية أخرى. وهو بذلك يعبر بجلاء عن عمليات فصل السلطات، بل يعبر عن عمليات التباين الكبرى الذي حدثت في المجتمع الرأسمالي على اثر فصل الكنسية عن الحكومة، والتشكل المؤسس للممارسة الديمقراطية (١٨). ويتطلب المجال العام شروطاً من أهمها أنه يتأسس على مفاهيم واضحة للمساواة، وإدراك واعي بأن الهدف من النقاش والتفاوض هو تحقيق الصالح العام وأن هذا النقاش ينطلق أصلا من اهتمام شخصي بهذا الصالح العام، وعدم احتكار هذا الميدان من قبل شلة أو قلة أو جماعة، فهو مفتوح لكل الاتجاهات والتيارات ويتأسيس النقاش داخله على مبدأ عقلاني رشيد يقوم على الاختيار الحر والتفاوض الحر، وأخيراً فإن المجال العام يتأسس على فعل اتصالي، فهو لا ينغلق على نفسه ولكنه يفتح قنوات اتصالية مع القوى والإتجاهات داخل المجالات الأخرى.
    ويُعد المجال العام بذلك فضاء الحرية الحقيقي في المجتمع. فهو لا يتأسس على أسس طبقية وإنما على أسس خطابية، وبذلك فإنه يفتح الأفق لكل القوى والتيارات للمشاركة في النقاش والحوار حول القضايا العامة، على أسس من المشاركة والتسامح والعمومية، التي تتجاوز كل ما هو خاص إلى ما هو عام، بما في ذلك تجاوز لغة الحوار لدى كل فئة إلى لغة سياقية عامة، وتجاوز الاقتصار على فئة معينة أو أعضاء في تنظيمات معينة، فهو ذو حدود مفتوحة للمشاركة الجماعية، وهو يتسم بالإيجابية، بمعنى أن الحوار والنقاش داخل المجال العام ليس سلبيا، ولا يستهدف المعارضة من أجل المعارضة على العكس من ذلك أنه يدفع إلى الأمام بالحوار البناء الإيجابي من أجل الصالح العام. فالمجالات الحوارية الجدلية البناءة تتجمع في النهاية في مجال عام حواري وجدلي مفتوح وحر من أجل إعلاء المصلحة العامة
    ولا شك أن صحة المجال العام تضمن توازنا بين الدولة والتنظيمات المدنية. فهو يتيح لتلك الأخيرة أن تشارك مشاركة فعالة في عملية تبادل ثقافي وسياسي
    ويمنحها الفرصة لكي تعارض وتجادل من أجل الصالح العام في إطار من النقاش العقلاني البناء والأصل في كل ذلك هو الإدراك الواعي المفهوم "الصالح العام" Public Good؛ ووجود جماعات على قدر من الوعي أو التنظيم اللذين يمكن من خلالهما الدخول في حوار وتفاوض حول الصالح العام؛ ووضع أسس للحوار البناء العقلاني. ويحدث أحيانا - كما في كثير من الدول في العام الثالث - ألا يوجد مفهوم محدد لما هو "صالح" عام" أو "خير عام"، حيث يكتنف الخطاب السياسي قدر كبير من الغموض، والسعي نحو التوافق اللحظي مع المواقف المتغيرة أو ضغوط السياسة؛ حيث تعجز النخب السياسية والمدنية عن التوصل إلى اتفاق عام حول المبادئ العامة للمجتمع من ناحية وأسس الحوار والتفاوض من ناحية أخرى. وفي مثل هذا الظرف سوف تسعى كل جماعة إلى أخذ المجتمع أخذ عزيز مقتدر، وأن تفهم الفضاء العام على أنه فضاؤها فحسب. وإذا ما دخلت في حوار أو تفاوض فمن أجل مصلحة خاصة أو من أجل هدف عملي سريع. هنا يفقد الفعل الإتصالي، ويتحول المجتمع إلى جزر متفرقة كل يعمل على هواه ووفق ما يرى من مصالح خاصة، ويزداد هنا التباعد الاجتماعي ويفقد المجتمع أحد أهم أسس النظام الاجتماعي العام.
    ضعف فاعلية النخب المدنية :
    إن ما ينطبق على الدولة من حيث ضعف نشأتها، ومؤسساتها وعدم فاعلية أدائها أو وظائفها، يمكن أن ينطبق على المجتمع المدني أيضاً. وتبدو العلاقة بينهما وكأنها علاقة تبادلية؛ فالدولة القوية الفعالة ذات الأداء الكفء تنتج مجتمعاً مدنيا فعالا، والعكس صحيح. فقوة الدولة من قوة مجتمعها المدني، ومجالها العام، وقوة المجتمع المدني من فاعلية أداء الدولة وحرصها على مشاركة كل القوى والتيارات السياسية
    والاجتماعية في عملية صناعة السياسات العامة وتنفيذها.
    ومن هذه المقدمة يمكن أن نخلص إلى القول بأن مشكلات تأسيس الدولة الوطنية.
    لابد وأن تنعكس على مشكلات تأسيس المجتمع المدني. فإذا نشأت الدولة الوطنية في معظم المجتمعات النامية في كنف الإستعمار، وإذا ما عانت من تضخم أجهزتها، وتحيزها الظاهر لفئات دون أخرى في مراحل تاريخية محددة، فإنه من المتوقع أن ينعكس ذلك على استقلالية المجتمع المدني، ومن ثم تعثر نشأته، وإثقال كاهله بمشكلات عديدة. ومن الأمثلة التي يمكن طرحها بشأن نشأة وتكوين المجتمع المدني في علاقته بالدولة، السؤال الخاص بموقف النخب السياسية المشكلة لهذا المجتمع وطموحاتها السياسية والاجتماعية، وطبيعة الاستقلال الذي يحققه المجتمع المدني في مقابل الدولة، أو الدولة في مقابل المجتمع المدني.
    فنجد من ناحية أن النخب السياسية، التي تشكلت في كنف الدولة الوطنية في مرحلة الإستعمار وما بعد الإستعمار، قد اتخذت طابعاً خاصاً، فهي التي أنقذت المجتمع من براثن الإستعمار، وهى التي ناضلت من أجل تخليصه من تاريخ مظلم. ومن ثم فقد منحت لنفسها حقوقاً مطلقة في إدارة المجتمع وتوجيه أجهزة الدولة، في إطار من أيديولوجية قومية توحد بين النخب وبين الوطن بحيث يُصبح مشروع النخبة هو مشروع الوطن، وتصبح النخبة هي الوطن ذاته (۲۱). ولقد تشكلت النخب المدنية حول هذه النخبة وفي كنف حكمها، بل يُمكن القول أنها تشكلت في بواكيرها الأولى - فيي كنف الإستعمار، مثلها في ذلك مثل النخب السياسية حاملة السلطة. ومن ثم فقد اكتسبت النخب المدنية نفس الخصائص. فماذا عسى أن يكون المجتمع المدني التي تشكله مثل هذه النخبة ؟ هل يمكن أن يكون هذا المجتمع المدني فضاء للحرية، أم فضاء للإحتكار ؟ فكما احتكرت النخب السياسية العسكرية والاقتصادية والتكنوقراطية أجهزة الدولة، واعتبرت أن مشروعها وأفكارها ليست محل نقاش، احتكرت النخب المدنية أجهزة المجتمع المدني؛ إلى درجة أن تسمى المؤسسات المدنية بأسماء أهلها ومؤسسيها، هذا إذا لم تسم باسم شخص بذاته. وربما يُفسر لنا هذا الرأى ما نراه من مشكلات أشارت إليها بعض الدراسات التي
    أجريت على المجتمع المدني في الوطن العربي (۲۲). وتزداد هذه المشكلة تعقيداً عندما نجد أن معظم النخب المدنية قد تشكلت في أحضان الطبقة الوسطى. صحيح أن إرهاصاتها الأولى قد ارتبطت بالطبقات الرأسمالية التي ظهرت أثناء الفترة الإستعمارية، ولكن ما لبثت أن تحولت إلى الطبقة الوسطى التي اتسعت قاعدتها في مرحلة الإستقلال. فمن المتوقع في هذه الحالة أن تتشبع النخب المدنية بخصائص الطبقة الوسطى، وأن تعكس طموحاتها وأساليبها في العمل. فقد كشفت بعض الدراسات التي أجريت على نخب مدنية في مصر، على سبيل المثال، أن هذه النخب تميل إلى الإنشطار والإنشقاق، وتميل كذلك إلى تكوين جماعات شللية وإيديولوجية مختلفة ومتناحرة، وأن لديها ميول واضحة نحو الأوليجاركية، وهي لا تسمح بدوران سريع للنخب، أي أن لديها ميول احتكارية (۲۳). ويعني هذا أن النخب المدنية لا تمتلك روحاً ديمقراطية، وهي تخب غير متجانسة ومفككة مثلها مثل الطبقة التي أفرزتها.
    ومن الناحية الأخرى نجد أن العلاقة بين تشكيلات المجتمع المدني والدولة غير واضحة الحدود. فالمجال السياسي - بحكم تكوينه التاريخي - قد لا يُحقق درجة الإستقلال المطلوبة؛ وكذلك المجال الاجتماعي الذي تعمل فيه المنظمات التطوعية قد لا يرغب كلية في الإستقلال. ففي ظروف معينة قد لا يسمح المجال السياسي للمجال الاجتماعي أن يستقل استقلالاً كاملاً، بحيث يُسيطر عليه تشريعياً، ويتدخل في شئونه بحيث يبث رجاله ونساءه عبر المجال المدني، بل أن الدولة نفسها قد تقدم على إنشاء تنظيمات تبدو وكأنها تنظيمات مدنية. ومن ناحية أخرى، نجد أن بعض أعضاء التنظيمات المدنية لا يرفعون شعار الإستقلال عن الدولة بقدر ما يهرولون نحو الدولة في أول إشارة. فالمجتمع المدني هنا هو وسيلة - لا للتداول والتدبر والنقاش والمشاركة في عمليات التفاوض والمداولة من أجل الصالح العام - بل للولوج إلى عالم السياسة. و لا تحاول المنظمات الأكثر استقلالاً عن الدولة أن تجعل من هذا الإستقلال وسيلة لمناقشة الصالح العام، بقدر ما هو وسيلة لتجاوز الدولة بالدفاع عن أجندات عولمية جاهزة يُصاحبها إغداق في التمويل الذي يمنح بدوره للنخب المدنية تميزاً اجتماعياً وسياسيا .
    خاتمة
    متى يتخلق في قلب المجتمع العربي مجتمعا مدنيا مشاركا للدولة في بناء المجتمع في إطار نظام ديمقراطي تشاركي وترابطي ؟ هل تؤدي الإحتجاجات والثورات السلمية التي نراها هنا وهناك في بعض البلدان العربية إلى تخليق مجتمع مدني جديد ؟ وهل تؤدي الحركات الإجتماعية الجديدة إلى بلورة روح اندماجية ومزاج جديد للتفاوض والتداول، يتجاوز علاقات الشللية والسيطرة الأوليجاركية ؟ وهل تعمل حركات التدوين والإحتجاج عبر الإنترنت على خلق فضاء جديد للحرية يبلور مجال عام جديد ؟ وهل بمقدور النخب السياسية أن تتخلى عن الإرث الإمبراطوري القديم لتفهم معنى الصالح العام"، و "المجال العام"، و "الإتفاق العام"، و"المصلحة العامة"، و"القيم العامة"، و"الهدف العام" ؟ وهل يمكن للطبقة الوسطى أن تعود قوية متماسكة، وتدرك مهمتها التاريخية في بناء الدولة الحديثة ؟ وهل بمقدور الدولة أن تقلل من تضخم أجهزتها وتسعى نحو الإستقلال والحيادية ؟ وهل هذا كله
    ممكن أم أن الزمن قد ولى ؟؟


Summarize English and Arabic text online

Summarize text automatically

Summarize English and Arabic text using the statistical algorithm and sorting sentences based on its importance

Download Summary

You can download the summary result with one of any available formats such as PDF,DOCX and TXT

Permanent URL

ٌYou can share the summary link easily, we keep the summary on the website for future reference,except for private summaries.

Other Features

We are working on adding new features to make summarization more easy and accurate


Latest summaries

التشريع الوطني ...

التشريع الوطني انطلاقا من القاعدة الراسخة في الميدان الجنائي وهي قاعدة حرية الإثبات الجنائي، ولهذا ...

يكمن هدف التدري...

يكمن هدف التدريس في تحقيق النموّ في الجانب المعرفيّ، والجانب النفسيّ، والحركي، والوجدانيّ للفرد، وتم...

نشاط : مشاركة ا...

نشاط : مشاركة المرأة في الاحزاب السياسية. اختر أحد الأحزاب السياسية التي ترغب في الانضمام إليها أو ...

in their state ...

in their state of language acquisition. If they use the plural marker and answer “wugs”, which is pr...

ثانياً: الدولة ...

ثانياً: الدولة والمجتمع المدني: علاقات التكامل: لاشك أن فهم العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني على أ...

Caitlin Clark G...

Caitlin Clark Gets New Nickname From Stephen A. Smith Amid WNBA Hype.Numbers don't lie, which is why...

- دعت باكستان ط...

- دعت باكستان طاجيكستان لاستخدام ميناء كراتشي لتجارة الترانزيت حيث اتفق البلدان على تعزيز التعاون، و...

كانت العلاقة بي...

كانت العلاقة بين الإمبراطورية العثمانية وبريطانيا العظمى جيدة في القرن التاسع عشر، ولكن في أوائل الق...

سبق وأن قام وال...

سبق وأن قام والدي المؤرخ المرحوم (عبدالرحمن بن سليمان الرويشد) بتكليف من الأمير المرحوم فهد بن محمد ...

في علم النفس كا...

في علم النفس كان هناك صراع بين التحليل النفسي و العلاج السلوكي، حيث ركز كلاهما على البؤس والصراع، مع...

وأعظم الأسباب ل...

وأعظم الأسباب لذلك وأصلها وأسها هو الإيمان والعمل الصالح، قال تعالى : مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَ...

Showing kindnes...

Showing kindness is a crucial human trait. When someone is facing hardship or difficulty, extending ...