Lakhasly

Online English Summarizer tool, free and accurate!

Summarize result (50%)

منهج الشك عند الغزالي صبحي ريان الباطنية والصوفية. فهو عرض موجز لتجربته في ميدان البحث والنقد المعرفي. ومما يقوي هذه الدعوى هو مؤلفات الغزالي في فترة الكلام وقبل وصوله الى الصوفية التي تتناول معظمها نقد الافكار الرائجة في تلك الفترة مثل افكار الفلاسفة والباطنية وغيرها. ونلاحظ ان الغزالي يحدد منذ البداية ان هدف بحثه هو الوصول للمعرفة اليقينية, وهذا اضطره الى مراجعة المذاهب الفكرية ونقدها. واثبات الدعوى التي تعتبر الشك منهجا تفكيريا واسلوبا في التفكير النقدي يهدف الى تنقية المعرفة من الشوائب والاغاليط وكشف حقائق الاشياء. كما انه تفكير نقدي لمعطيات تعتبر صحيحة ضمنيا في الوعي الاجتماعي والمعرفي, وليس الى مضمونها. هذا الادعاء بان الشك منهج بحث يتعارض مع كثير من الباحثين ومن بينهم. Osman Bakar الذي يقول: ان الروح العامة لكتاب "المنقذ من الضلال" لا تؤيد الفكرة القائلة بان الغزالي يدافع عن منهجه الشكي كاداة للبحث عن الحقيقة. نحن نعتقد بقوة بان الصوفية لعبت دورا حاسما في وصول الغزالي الى ازمته المعرفية, 1) وقد وصفها "كبحر عميق غرق فيه الأكثرون وما نجا منه الا الاقلون, وكل فريق يزعم انه الناجي. 4) حيث وجد ان الانتماء الفكري لمذهب معين ينتج عن التقليد وليس نتيجة للبحث والدراسة " حتى انحلت عني رابطة التقليد, وانكسرت علي العقائد الموروثة, وصبيان المسلمين لا نشوء لهم الا على الاسلام". (5) وعند توصله الى هذه النتيجة اخذ يبحث عن حقيقة الفطرة الاصلية(6) التي تشكل الاساس لبداية البحث عن الحقيقة. وتكتسب هذه العقائد الموروثة عن الاباء والمعلمين بواسطة التقليد المنافية للتفكير المستقل والبحث الهادف الى الوصول الى الحقيقة. ولاتكن في صورة اعمى تقلد قائدا يرشدك الى طريق وحواليك ألف مثل قائدك ينادون عليك بانه اهلكك واضلك عن سواء السبيل, فلا خلاص الا في الاستقلال". 7) هذه دعوة واضحة للبحث عن الحقيقة بصورة ذاتية ومستقلة, وعدم اتباع مذهب معين باعتباره يملك الحقيقة ويوفرها لاتباعه.
فان غلب عليه التعصب لمعتقده ولم يبق في نفسه متسع لغيره صار ذلك قيدا له وحجابا اذ ليس من شرط المريد الانتماء الى مذهب معين اصلا". وتكمن اهمية هذا التقييم في كشف ارائه ضد التقليد بكونها احدى العوامل المهمة في تطوره الفكري. ويلاحظ استعماله لضمير المتكلم في وصف تجربته الذاتيه, انما ليؤسس بحثا معرفيا بناءا وحقيقيا. هذا البحث هو نتيجة لحبه للحقيقة, يقرر الغزالي بان اهمية الفكرة تنبع من الفكرة ذاتها, وان المهمة الملقاة على عاتق المذاهب ورجالها هي البحث عن الحقيقة, بمعنى انهم لا يعتبرون بذواتهم معيارا للحقيقة. "وهكذا تصبح انجازات الوعي والمعرفة الانسانيتين مقبولة بحد ذاتها, انه يرفع ممارسة اظهار اهمية الفكرة بحد ذاتها فوق كل العوارض العقائدية والمذهبية ليحولها بالتالي الى مستوى المبدأ النظري". 10) وهذا يعتبر تحطيما للاطر التقليدية في الوعي, واشتغالا في المادة الموضوعية التي تعطي مساحة من حرية التفكير المستقل غير متعلقة بعوامل اخرى. وهكذا لا يبقى للتقليد اي معنى لوجود الحاجة الدائمة للاجتهاد واستقلالية الاحكام. باعتبارها الحالة او الصورة الاولى التي خلق عليها الانسان, لكنه لا يستطيع الوصول الى الفطرة لان التراث المذهبي والعقائدي يشكل حاجزا وحجابا تفصل بينه وبين الفطرة. وهنا يضع الغزالي معيارا صارما لقبول الشىء المعلوم.
ولم يحصل لي منه الا التعجب من كيفية قدرته عليه, فلا". ومن الجدير ذكره ان مثال "قلب العصا الى ثعبان" هو بمثابة برهان حسي ظاهر, الشك بالحواس والعقل ويبدأ بحثه في عالم الحس بكونه المرحلة المعرفية الاولى "فأقبلت بجد بليغ أتأمل في المحسوسات والضروريات, وانظر هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها". 13) ويصف الغزالي شكه بالحواس قائلا: من أين الثقة بالمحسوسات, وأقواها حاسة البصر, وهي تنظر الى الظل فتراه واقفا غير متحرك, وتحكم بنفي الحركة؟ ثم بالتجربة والمشاهدة بعد ساعة تعرف انه متحرك وانه لم يتحرك دفعة واحدة بغتة, هذا وامثاله يحكم فيها حاكم الحس باحكامه ويكذبه حاكم العقل ويخونه تكذيبا لا سبيل الى مدافعته, فقلت: قد بطلت الثقة بالمحسوسات ايضا فلعله لا ثقة الا بالعقليات التي هي من الاوليات. 14)
ويحاول اثبات هذه الفرضية بواسطة امثله من عالم الحس التي يحكم بها العقل بخطأ الحواس. بعد اختبار معطيات الحس والتشكيك بها, ينتقل الغزالي لاختبار معطيات العقل الذي يعتبر مرحلة معرفية اكثر تطورا من الحواس وحاكما عليها وبامكانه التميز بين الصح والخطأ بالنسبة للاشياء المتعلقة بالحواس. ولكن الاشكالية التي تواجه الغزالي في بحثه هي "فلعل وراء ادراك العقل حاكما اخر, اذا تجلى, كما تجلى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه. وعدم تجلي ذلك الادراك لا يدل على استحالته. فتوقفت النفس في جواب ذلك قليلا وأيدت أشكالها بالمنام, وقالت: أما تراك تعتقد في النوم امورا وتتخيل أحوالا وتعتقد لها ثباتا واستقرارا, ولا تشك في تلك الحالة فيها ثم تستيقظ فتعلم انه لم يكن لجميع متخيلاتك ومعتقداتك أصل وطائل؟ فبم تأمن أن يكون جميع ما تعتقده في يقظتك بحس او عقل هو حق بالاضافة الى حالتك >التي انت فيها< لكن يمكن ان تطرأ عليك حالة تكون نسبتها الى يقظتك كنسبة يقظتك الى منامك وتكون يقظتك نوما بالاضافه اليها فاذا وردت تلك الحالة تيقنت ان جميع ما توهمت بعقلك خيالات لاحاصل لها". 15)
هنا يفترض الغزالي وجود طور ما بعد العقل الذي يمكنه ان يحكم على معطيات العقل بكونه مرحلة معرفية اكثر تطورا من العقل. وقد يصل الانسان الى هذه الحالة تلقائيا بعد الموت, ولكن يمكن الوصول اليه ايضا في حالة الكشف والالهام الصوفية التي تتطلب جهدا فكريا كبيرا او تفكيرا مجردا الذي من شأنه ان يقلل من وظيفة الحواس لمستواها الادنى. ويظهر هنا تأسيس المعرفة على ثلاثة مراحل – الحواس, العقل وطور ما بعد العقل- ويبدو ان الفارق بين الحواس والعقل شبيها للفارق بين العقل وطور ما بعد العقل, لكن هذه المراحل ليست منفصلة انما هنالك علاقات تبادل وتكامل فيما بينها. ويعرف الانسان الوجود ويحكم عليه من خلال الحواس والعقل, بالمقابل عندما يمر الانسان بتجربة الحلم يكون واثقا بالاشياء التي يراها في حلمه بدون ان يشك بها وقت الحلم. لكن يتغير حكم الانسان عند رجوعه الى الواقع. اذا نحن امام حالات مختلفة, وكل منها صحيحة باطار الزمن الموجودة به وكل حالة لها الاحكام الخاصة بها.
وعندما نجرب هذه الحالة نتيقن ان الاشياء التي نكتسبها بواسطة العقل خيالات غير صحيحة. في حالة النوم لا يعرف الانسان انه في حالة حلم, ويتضح له ذلك فقط عند اليقظة, يشكل هذا الادعاء اشكالية صعبة بالنسبة الى القضايا الحسية والعقلية معا, وهو يشكك بجميع مصادر المعرفة الانسانية بحيث يجعل امكانية تحقيق اليقين غاية في الصعوبة بل مستحيلة المنال. يصل الغزالي الى حالة صعبة جدا, فهو شك في المستويين المعرفي والوجودي معا لانه بحث في هل وكيف يمكننا معرفة الواقع؟ وما هو الموجود في الواقع؟ ويدخل الغزالي الى أزمة عميقة بسبب الشك بالحواس والعقل, وتعتبر هذه الحالة أوج المسار الشكي والموصوفة بمرض عضال والتي كان لها تأثيرا على كيانه ووجوده ويمكن اعتبار هذه الحالة بالشك الوجودي. لانه لا يمكن ايجاد أجوبة لهذه الشكوك الا بواسطة البراهين التي تقوم على العلوم الاوليه, فمن ظن ان الكشف موقوف على الادلة المحررة فقد ضيق رحمة الله الواسعة"(17). بالرغم من اهمية النور الالهي الا ان الغزالي لم يسهب في شرحه وتفصيله, لكننا يمكن ان نستنتج ان هذا النور لا يتعارض مع العقل بالرغم من انه ليس عقليا, ومن ناحية اخرى لا يمكن اعتباره لا عقليا لانه يوصل الى الحقيقة في القضايا العقلية ويقوي يقينية البدهيات العقلية. فهي أوليه بمعنى انها موجودة, لكن يصعب برهنتها لانها لا تخضع لمنطق البدهيات. " والمقصود من هذه الحكايات أن يعمل كمال الجد في الطلب حتى ينتهي الى طلب مالا يطلب. وهو يرى بالنور الالهي ذلك اليقين اللامنطقي الذي يمكن ان يؤسس عليه البدهيات العقليه. دور الشك في نظرية المعرفة عند الغزالي نلاحظ ان مهمة الشك الاساسية عند الغزالي هو الوصول الى الحقيقة كما هي, فهو أداة او منهج معرفي يهدف الى تنقية (غربلة) المعرفة الانسانية من أخطائها وجهالاتها, وليس منهجا لكشف عجز المعرفة والتشكيك بمجمل ابداعاتها وانجازاتها. لذلك يكون الشك موجها نحو المنهج وليس للمعرفة ذاتها. فمن لم يشك لم ينظر, ومن لم ينظر لم يبصر, لا يكتفي الغزالي بتحديد دور الشك كمنهج يوصل الى الحقيقة, بالاضافة الى ربطه بين الشك والوصول الى الحق, يؤكد الغزالي على منهجية كشف الحقيقة التي تبدأ بالشك وتنتهي بالوصول الى الحق. نستنتج ان الشك يعني عملية التفكير, لان النظر يعني الدراسة العميقة التي تعتمد على العقل, وهذا يعني ان كل دراسة عقلية او تجريبة تهدف الى الوصول الى الحقيقة, فالشك منهج يسعى الى تأسيس المعرفة على اسس يقينية, يتم الوصول اليها بواسطة التفكير النقدي الذي يعنى بمراجعة المعطيات المعرفية وتمحيصها من الاخطاء. الحس والعقل – وهي عملية مراجعة نقديه وتقييم جديد لهذه المصادر. يحاول الغزالي من خلال هذا المنهج النقدي تطهير الموروث المعرفي المكتسب بواسطة تقليد الاباء والاساتذة من الاخطاء والضلالات. فهو لا يسعى الى الغائه او نفيه, انما فحصه واختباره باليات التفكير الصحيح, هذا المنهج النقدي يمكنه كشف المعارف الباطله والتي اصبحت جزءا من الموروث الحضاري للامة, وتنتقل من جيل الى اخر كمعارف صحيحة ومقبولة, وفي بعض الاحيان قد تعتبر "مقدسة" خارج دائرة التفكير المسموح بها. ثم ينتقل الغزالي الى نقد الحس والعقل كمصادر للمعرفة, وهما اكثر يقينا من التقليد. والتشكيك في هذه المعارف لا يعني سوى اعادة التفكير بها من جديد وتأسيسها على قواعد يقينية وصحيحة, وليس الهدف مجرد التشكيك لذاته وكشف عجز الحس والعقل. ونلحظ ان مستوى الوعي الراقي الذي وصل اليه الغزالي هو اعادة التفكير في التفكير والذي يعني وعي الوعي او تحويل مادة التفكير الى صورة تفكير او اداة تفكير, ومعنى الشك بالمعارف الحسية والعقلية والتي تمثل كل موجود في العالم, وتأسيس كل شىء على التفكير. فهو يشك في كل شيء, الا شيئا واحدا لا يمكنه الشك به وهو الشك بانه يشك, اي انه لا يستطيع الشك بانه يفكر, وهذا هو وعي الوعي. اذا يقوم الغزالي بعملية الغاء للعالم كله بواسطة الشك المنهجي, فهو يلغي المضمون المعرفي ويبقى مع طريقة التفكير, وهنا لا يمكن الحديث عن "تطابق" لان التفكير هو( شىء) اي حقيقة صوريه. ووجود اداة التفكير لا يعني بالضرورة تطابقها مع المضمون المعرفي الموجود. يحصر الغزالي نفسه داخل دائرة التفكير, بمعنى انها تفرض نفسها على الوعي من داخل الوعي وليس من خارجه وهي ليست من الانا المفكرة. فهو يجد مثلا فكرة الله داخل الوعي, لكن هذه الفكرة لم تكن نتيجة للتفكير, وانما وجودها كان ضروريا ومفروضا على الوعي من داخله. فهو يشك بكل موجود لاعتقاده بوجود شيء هو البداية, ويحاول الغاء كل شىء موجود للوصول الى نقطة البداية, لان هذه الموجودات تشكل حاجزا لكشفها. وسبب هذا السعي الدؤوب الى البداية لانها تشكل الاساس اليقيني لكل الموجودات. فالوصول اليها يعني الوصول الى اليقين وهو مرتبط بالوعي الذاتي, لذلك يمكن الانتهاء اليه وليس الابتداء منه. وهو بذلك يزيل كل التراكمات العقائدية, وهو يسعى للوصول الى هذه البداية لكونها الحقيقة اليقينية الوحيدة التي يمكن ان يؤسس عليها يقينية الموجودات الاخرى. 13) الغزالي, المنقذ من الضلال, ص84. ص84. 15) الغزالي, 16) الغزالي, المنقذ من الضلال, ص86. 18) الغزالي, المنقذ من الضلال, ص88


Original text

منهج الشك عند الغزالي
صبحي ريان
المقدمة


يعرض الغزالي قضية الشك في "المنقذ من الضلال" ويعتبر هذا الكتاب سيرة فكرية يصف المؤلف به تطور فكره ومنهجه في البحث عن الحقيقة, ويتناول افكار المذاهب المختلفة ذات الحضور في المجتمع الاسلامي في تلك الفترة كالفلاسفة, المتكلمين, الباطنية والصوفية. فهو عرض موجز لتجربته في ميدان البحث والنقد المعرفي.
وليس صدفة ان يعرض الغزالي في هذا الكتاب قضية الشك الا لكونه منهجا للتفكير واسلوبا للبحث يمكن بواسطته الوصول الى الحقيقة. ومما يقوي هذه الدعوى هو مؤلفات الغزالي في فترة الكلام وقبل وصوله الى الصوفية التي تتناول معظمها نقد الافكار الرائجة في تلك الفترة مثل افكار الفلاسفة والباطنية وغيرها. فالشك لم يكن حالة طارئة في حياته, انما رافق مسيرته الفكرية منذ شبابه حتى وصوله الى اليقين. ونلاحظ ان الغزالي يحدد منذ البداية ان هدف بحثه هو الوصول للمعرفة اليقينية, وهذا اضطره الى مراجعة المذاهب الفكرية ونقدها.
في هذا المقال احاول تحليل نظرية الشك عند الغزالي, واثبات الدعوى التي تعتبر الشك منهجا تفكيريا واسلوبا في التفكير النقدي يهدف الى تنقية المعرفة من الشوائب والاغاليط وكشف حقائق الاشياء. واعتقد ان الشك عند الغزالي هو مراجعة مصادر المعرفة ونقدها من جديد, كما انه تفكير نقدي لمعطيات تعتبر صحيحة ضمنيا في الوعي الاجتماعي والمعرفي, او مسلمات في دائرة اللامفكر به. فالشك هو منهج تفكيري موجه الى صورة التفكير, وليس الى مضمونها. بل هو عملية ارجاع المضمون الى الصورة.
هذا الادعاء بان الشك منهج بحث يتعارض مع كثير من الباحثين ومن بينهم. Osman Bakar الذي يقول: ان الروح العامة لكتاب "المنقذ من الضلال" لا تؤيد الفكرة القائلة بان الغزالي يدافع عن منهجه الشكي كاداة للبحث عن الحقيقة.... نحن نعتقد بقوة بان الصوفية لعبت دورا حاسما في وصول الغزالي الى ازمته المعرفية, التي تدعي بطور ما بعد العقل وتنتقد العقل. والشك لم ينتهي بواسطة فعالية العقل, انما نتيجة للنور الالهي.(1)
احاول ان اثبت عكس الادعاء السابق, وتقديم تحليلا جديدا يساهم في فهم قضية الشك عند الغزالي. وهذا يتطلب النظر الى قضية الشك في مستويين مختلفين: جدلي ومعرفي.
الشك الجدلي
لاحظ الغزالي في جيل مبكر تعدد المذاهب الفكرية واختلافها(2) في بيئته الثقافية والفكرية. وقد وصفها "كبحر عميق غرق فيه الأكثرون وما نجا منه الا الاقلون, وكل فريق يزعم انه الناجي...".(3) هذه الاختلافات دفعت الغزالي الى دراسة وبحث المذاهب الفكرية المختلفة للاطلاع على اسرارها, كي يميز بين محق ومبطل.(4) حيث وجد ان الانتماء الفكري لمذهب معين ينتج عن التقليد وليس نتيجة للبحث والدراسة " حتى انحلت عني رابطة التقليد, وانكسرت علي العقائد الموروثة, على قرب عهد سن الصبا, اذ رأيت صبيان النصارى لا يكون لهم نشوء الا على التنصر, وصبيان اليهود لانشوء لهم الا على التهود, وصبيان المسلمين لا نشوء لهم الا على الاسلام". (5) وعند توصله الى هذه النتيجة اخذ يبحث عن حقيقة الفطرة الاصلية(6) التي تشكل الاساس لبداية البحث عن الحقيقة.
وتكتسب هذه العقائد الموروثة عن الاباء والمعلمين بواسطة التقليد المنافية للتفكير المستقل والبحث الهادف الى الوصول الى الحقيقة. لذلك نراه يوصي احد تلاميذه "جانب الالتفاف الى المذاهب, ولاتكن في صورة اعمى تقلد قائدا يرشدك الى طريق وحواليك ألف مثل قائدك ينادون عليك بانه اهلكك واضلك عن سواء السبيل, وستعلم في عاقبة امرك ظلم قائدك. فلا خلاص الا في الاستقلال".(7) هذه دعوة واضحة للبحث عن الحقيقة بصورة ذاتية ومستقلة, وعدم اتباع مذهب معين باعتباره يملك الحقيقة ويوفرها لاتباعه. لكن الغزالي يؤكد هنا على اهمية المنهج في التفكير الصحيح وتهافت اساليب التلقي والنقل.

الباحث عن الحقيقة يجب ان يكون مستقلا وغير منتمي لمذهب معين " وانما يرتفع حجاب التقليد بان يترك التعصب للمذاهب .... فان غلب عليه التعصب لمعتقده ولم يبق في نفسه متسع لغيره صار ذلك قيدا له وحجابا اذ ليس من شرط المريد الانتماء الى مذهب معين اصلا". (8)
معرفة الحقيقة بواسطة المذهب تقوي عند المقلد ميول التعصب وتصعب عليه رؤية الحقيقة او التميز بين الحق والباطل, فهو لا يستطيع رؤية الحق خارج الاطار الفكري الذي ينتمي اليه, وهو ينفي امكانية وجود الحقيقة في مكان اخر ويعتقد بوجود الحقيقة فقط في اطاره.
يصف الغزالي في كتابه "المنقذ من الضلال" تجربته الشخصية في البحث عن الحقيقة, والذي يعتبر مراجعة ذاتية وتقييما لتطوره الفكري. وتكمن اهمية هذا التقييم في كشف ارائه ضد التقليد بكونها احدى العوامل المهمة في تطوره الفكري. ويلاحظ استعماله لضمير المتكلم في وصف تجربته الذاتيه, وبالرغم من ان مسار كشف الحقيقة الموصوف كان فرديا, الا انه يستطيع كل انسان ان يجرب هذا المسار.
S.R. Shafaq يقول بان الهدف الاساسي عند الغزالي, لم يكن تعبيرا عن الشك او البحث عن اصول الدين, انما ليؤسس بحثا معرفيا بناءا وحقيقيا. هذا البحث هو نتيجة لحبه للحقيقة, وكان متعطشا للتعلم وهدفه الحقيقي كان الوصول الى الحق.(9)
يقرر الغزالي بان اهمية الفكرة تنبع من الفكرة ذاتها, فالحقيقة تبقى حقيقة بغض النظر من هوية قائلها. وان المهمة الملقاة على عاتق المذاهب ورجالها هي البحث عن الحقيقة, بمعنى انهم لا يعتبرون بذواتهم معيارا للحقيقة. "وهكذا تصبح انجازات الوعي والمعرفة الانسانيتين مقبولة بحد ذاتها, مما يؤدي بدوره الى صياغة المبدأ الدقيق في التعامل الفكري مع الحقائق من خلال تغييب الثقل التاريخي والعقائدي لها... انه يرفع ممارسة اظهار اهمية الفكرة بحد ذاتها فوق كل العوارض العقائدية والمذهبية ليحولها بالتالي الى مستوى المبدأ النظري".(10) وهذا يعتبر تحطيما للاطر التقليدية في الوعي, واشتغالا في المادة الموضوعية التي تعطي مساحة من حرية التفكير المستقل غير متعلقة بعوامل اخرى.

ان رفض الغزالي للتقليد وتأكيده على التفكير المستقل يتضح من خلال تأييده لمبدأ الاجتهاد وقد عمل على تأسيس الفقة على قواعد المنطق وتطوير فكرة الاحتمال الظني كي تكون النظرية مرتبطة بتطور الحياة الدائم, وهكذا لا يبقى للتقليد اي معنى لوجود الحاجة الدائمة للاجتهاد واستقلالية الاحكام.
يعرض الغزالي فكرة الفطرة الاصلية التي تسبق كل المذاهب والاديان الانسانية, باعتبارها الحالة او الصورة الاولى التي خلق عليها الانسان, ويهدف هذا الرجوع الى البداية الى بحث حقائق الاشياء كما هي. لكنه لا يستطيع الوصول الى الفطرة لان التراث المذهبي والعقائدي يشكل حاجزا وحجابا تفصل بينه وبين الفطرة. لذلك كان نقده لاسلوب التقليد بكونه حاجبا عن رؤية الحقيقة كما هي.
يعتقد الغزالي بان الوصول الى حقائق الاشياء تتطلب معرفة ما هو العلم الحقيقي؟ فظهر له ان العلم اليقيني هو الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافا لا يبقى معه ريب ولا يقارنه امكان الغلط والوهم ولا يتسع القلب لتقدير ذلك(11). وهذا يعني ان الغزالي يشك بكل علم غير يقيني, واليقين هو المعيار لحقائق الاشياء, ويكون العلم حقيقيا فقط عندما يكون يقينيا قطعا ويثبت امام كل ادعاء شكوكي, وهنا يضع الغزالي معيارا صارما لقبول الشىء المعلوم. بحيث لا يترك مجالا للشك او الاحتمال لامكانية وقوع الخطا, بل يستلزم امانا كاملا من الخطا.

ويضرب الغزالي مثالا يشرح من خلاله مستوى الامان المطلق بالعلم اليقيني: "بل الامان من الخطا ينبغي ان يكون مقارنا لليقين مقارنة لو تحدى باظهار بطلانه مثلا من يقلب الحجر ذهبا والعصا ثعبانا لم يورث ذلك شكا وانكارا فاني اذا علمت ان العشرة اكثر من الثلاثة فلو قال لي قائل: لا بل الثلاثة اكبر من العشرة بدليل اني اقلب هذه العصا ثعبانا وقلبها وشاهدت ذلك منه لم اشك بسببه في معرفتي, ولم يحصل لي منه الا التعجب من كيفية قدرته عليه, فاما الشك فيما علمته, فلا".(12) وهكذا لا يمكن لبرهان مهما كان ان يشكك بالعلم اليقيني, ومن الجدير ذكره ان مثال "قلب العصا الى ثعبان" هو بمثابة برهان حسي ظاهر, بالمقابل نجد ان مثال العلم اليقيني – العشرة اكبر من الثلاثة – هو مثال عقلي مجرد. هذا المثال الحسي ليس مجرد مثال الذي بواسطته يمكن الشك بالعملية العقلية, انما هو مثال الاكثر تطرفا الذي يمكن من خلاله نقض العلم اليقيني. بمعنى ان العلم اليقيني الذي يبحث عنه الغزالي هو بمستوى المطلق الذي لا يمكن الشك به ابدا. وفي حالة الامان المطلق يستطيع العلم اليقيني ان يثبت في الاختبار الصعب حتى بوجه الافتراض الميتافيزيقي الخارج عن عالم الحس.


الشك بالحواس والعقل
بعد ان حدد الغزالي معيار العلم الحقيقي, وجد ان علومه التي اكتسبها بالتقليد لا تثبت بهذا المعيار, فذهب لاختبار علومه المكتسبه بواسطة الحس والعقل, ويبدأ بحثه في عالم الحس بكونه المرحلة المعرفية الاولى "فأقبلت بجد بليغ أتأمل في المحسوسات والضروريات, وانظر هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها".(13) ويصف الغزالي شكه بالحواس قائلا: من أين الثقة بالمحسوسات, وأقواها حاسة البصر, وهي تنظر الى الظل فتراه واقفا غير متحرك, وتحكم بنفي الحركة؟ ثم بالتجربة والمشاهدة بعد ساعة تعرف انه متحرك وانه لم يتحرك دفعة واحدة بغتة, بل على التدرج ذرة ذرة حتى لم يكن له حالة وقوف. وتنظر الى الكوكب فتراه صغيرا في مقدار دينار, ثم الادلة الهندسية تدل عاى انه اكبر من الارض في المقدار. هذا وامثاله يحكم فيها حاكم الحس باحكامه ويكذبه حاكم العقل ويخونه تكذيبا لا سبيل الى مدافعته, فقلت: قد بطلت الثقة بالمحسوسات ايضا فلعله لا ثقة الا بالعقليات التي هي من الاوليات.(14)

اذا يفقد الغزالي الثقه بالمحسوسات بعد ان تبين له تضليل الحواس في بعض الحالات. ويحاول اثبات هذه الفرضية بواسطة امثله من عالم الحس التي يحكم بها العقل بخطأ الحواس.
بعد اختبار معطيات الحس والتشكيك بها, ينتقل الغزالي لاختبار معطيات العقل الذي يعتبر مرحلة معرفية اكثر تطورا من الحواس وحاكما عليها وبامكانه التميز بين الصح والخطأ بالنسبة للاشياء المتعلقة بالحواس. ولكن الاشكالية التي تواجه الغزالي في بحثه هي "فلعل وراء ادراك العقل حاكما اخر, اذا تجلى, كذب العقل في حكمه, كما تجلى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه. وعدم تجلي ذلك الادراك لا يدل على استحالته. فتوقفت النفس في جواب ذلك قليلا وأيدت أشكالها بالمنام, وقالت: أما تراك تعتقد في النوم امورا وتتخيل أحوالا وتعتقد لها ثباتا واستقرارا, ولا تشك في تلك الحالة فيها ثم تستيقظ فتعلم انه لم يكن لجميع متخيلاتك ومعتقداتك أصل وطائل؟ فبم تأمن أن يكون جميع ما تعتقده في يقظتك بحس او عقل هو حق بالاضافة الى حالتك >التي انت فيها< لكن يمكن ان تطرأ عليك حالة تكون نسبتها الى يقظتك كنسبة يقظتك الى منامك وتكون يقظتك نوما بالاضافه اليها فاذا وردت تلك الحالة تيقنت ان جميع ما توهمت بعقلك خيالات لاحاصل لها".(15)

هنا يفترض الغزالي وجود طور ما بعد العقل الذي يمكنه ان يحكم على معطيات العقل بكونه مرحلة معرفية اكثر تطورا من العقل. ويمكن تجربة هذا الطور عند تخلص الانسان من الحواس والعالم المادي المحيط به. وقد يصل الانسان الى هذه الحالة تلقائيا بعد الموت, ولكن يمكن الوصول اليه ايضا في حالة الكشف والالهام الصوفية التي تتطلب جهدا فكريا كبيرا او تفكيرا مجردا الذي من شأنه ان يقلل من وظيفة الحواس لمستواها الادنى.
ويظهر هنا تأسيس المعرفة على ثلاثة مراحل – الحواس, العقل وطور ما بعد العقل- ويبدو ان الفارق بين الحواس والعقل شبيها للفارق بين العقل وطور ما بعد العقل, لكن هذه المراحل ليست منفصلة انما هنالك علاقات تبادل وتكامل فيما بينها.
يحاول الغزالي اثبات طور ما بعد العقل بواسطة "ادعاء النوم" الذي يبين عدم يقينبة الوجود. ويعرف الانسان الوجود ويحكم عليه من خلال الحواس والعقل, وهو لا يشك بهذه المعرفة ويعتبرها يقينية. بالمقابل عندما يمر الانسان بتجربة الحلم يكون واثقا بالاشياء التي يراها في حلمه بدون ان يشك بها وقت الحلم. لكن يتغير حكم الانسان عند رجوعه الى الواقع. اذا نحن امام حالات مختلفة, وكل منها صحيحة باطار الزمن الموجودة به وكل حالة لها الاحكام الخاصة بها.

وهنا يتساءل الغزالي لعل الحقيقة الظاهرة في الواقع هي حقيقة فقط بالنسبة لهذا الواقع, لكنها ليست صحيحة بالنسبة الى حالة اخرى التي نسبتها الى الواقع كنسبة الواقع الى النوم, وعندما نجرب هذه الحالة نتيقن ان الاشياء التي نكتسبها بواسطة العقل خيالات غير صحيحة.
في حالة النوم لا يعرف الانسان انه في حالة حلم, ويتضح له ذلك فقط عند اليقظة, كما ان الانسان لا يعرف انه يحلم في الواقع لكن يمكن ان تظهر حالة ما بعد الواقع تثبت ان الواقع كان حلما بالنسبة لها, وهكذا ليس الواقع ضمان لليقين.

يشكل هذا الادعاء اشكالية صعبة بالنسبة الى القضايا الحسية والعقلية معا, وهو يشكك بجميع مصادر المعرفة الانسانية بحيث يجعل امكانية تحقيق اليقين غاية في الصعوبة بل مستحيلة المنال. يصل الغزالي الى حالة صعبة جدا, فهو لا يستطيع ايجاد حل للشك الذي يشمل كل الموجودات في هذا العالم, فهو شك في المستويين المعرفي والوجودي معا لانه بحث في هل وكيف يمكننا معرفة الواقع؟ وما هو الموجود في الواقع؟
ويدخل الغزالي الى أزمة عميقة بسبب الشك بالحواس والعقل, ويصف هذه الحالة قائلا: "فأعضل هذا الداء ودام قريبا من شهرين أنا فيها على مذهب السفسطة بحكم الحال لا بحكم النطق والمقال"(16). وتعتبر هذه الحالة أوج المسار الشكي والموصوفة بمرض عضال والتي كان لها تأثيرا على كيانه ووجوده ويمكن اعتبار هذه الحالة بالشك الوجودي.
حاول الغزالي الخروج من هذه الازمة بدون جدوى, لانه لا يمكن ايجاد أجوبة لهذه الشكوك الا بواسطة البراهين التي تقوم على العلوم الاوليه, فهو يحتاج الى مسلمة واحده عاى الاقل للانطلاق الى يقينيات اكبر. لكن هذه العلوم مشكوك بها ايضا, لذا لا يمكنها ان تشكل اساسا للتخلص من الشك.
هذا الوضع يستلزم تدخل عامل خارجي لتأسيس المعرفة الانسانية عليه, لانه العقل الطبيعي لا يكفي لتأمين يقينية المعرفة الانسانية, هنا يكتشف الغزالي "النور الألهي" الذي يخلصه من أزمة الشك "حتى شفى الله تعالى من ذلك المرض وعادت النفس الى الصحة والاعتدال ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقا بها على امن ويقين ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام بل قذف الله تعالى في الصدر وذلك النور هو مفتاح اكثر المعارف, فمن ظن ان الكشف موقوف على الادلة المحررة فقد ضيق رحمة الله الواسعة"(17). بالرغم من اهمية النور الالهي الا ان الغزالي لم يسهب في شرحه وتفصيله, لكننا يمكن ان نستنتج ان هذا النور لا يتعارض مع العقل بالرغم من انه ليس عقليا, ومن ناحية اخرى لا يمكن اعتباره لا عقليا لانه يوصل الى الحقيقة في القضايا العقلية ويقوي يقينية البدهيات العقلية.
يشرح الغزالي صعوبة البحث في البدهيات العقلية, فهي أوليه بمعنى انها موجودة, لكن يصعب برهنتها لانها لا تخضع لمنطق البدهيات. بمعنى ان هذه البدهيات لا نستطيع البرهنة على صحتها او خطأها. ومع ذلك يحاول الغزالي ان يتجاوز الحدود العقليه للبدهيات للتأكد من يقينيتها المجردة. " والمقصود من هذه الحكايات أن يعمل كمال الجد في الطلب حتى ينتهي الى طلب مالا يطلب. فان الاوليات ليست مطلوبة, فانها حاضرة والحاضر اذا طلب فقد واختفى. ومن طلب ما لا يطلب, فلا يتهم بالتقصيرفي طلب ما يطلب".(18) وهذا يعني تأسيس العلم اليقيني عاى اساس صلب لا يمكن الشك به. وهو يرى بالنور الالهي ذلك اليقين اللامنطقي الذي يمكن ان يؤسس عليه البدهيات العقليه. وبهذا يلجأ الغزالي الى منطق يختلف عن المنطق العقلي من حيث المستوى, فهو يحتاج الى منطق فوق المنطق العقلي.


دور الشك في نظرية المعرفة عند الغزالي
نلاحظ ان مهمة الشك الاساسية عند الغزالي هو الوصول الى الحقيقة كما هي, فهو أداة او منهج معرفي يهدف الى تنقية (غربلة) المعرفة الانسانية من أخطائها وجهالاتها, وليس منهجا لكشف عجز المعرفة والتشكيك بمجمل ابداعاتها وانجازاتها. فالشك اداة تكشف الاخطاء المعرفية التي يكتسبها الانسان من مصادر غير موثوقة, والسعي الى تأسيس المعرفة على اسس يقينية. لذلك يكون الشك موجها نحو المنهج وليس للمعرفة ذاتها.
ويوضح الغزالي وظيفة الشك قائلا: "اذ الشكوك هي الموصلة الى الحق, فمن لم يشك لم ينظر, ومن لم ينظر لم يبصر, ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال"(19). لا يكتفي الغزالي بتحديد دور الشك كمنهج يوصل الى الحقيقة, انما يحذر من العواقب السلبية التي تنتج بسبب عدم استخدام هذا المنهج, وهي البقاء في العمى والضلال.
بالاضافة الى ربطه بين الشك والوصول الى الحق, يؤكد الغزالي على منهجية كشف الحقيقة التي تبدأ بالشك وتنتهي بالوصول الى الحق. واذا ما امعنا النظر في ربطه بين الشك والنظر من ناحية وبين النظر والبصر من ناحية اخرى, نستنتج ان الشك يعني عملية التفكير, لان النظر يعني الدراسة العميقة التي تعتمد على العقل, والبصر هو الدراسة المعتمدة على الحس. وهذا يعني ان كل دراسة عقلية او تجريبة تهدف الى الوصول الى الحقيقة, يجب ان تعتمد على منهج الشك الذي يميز الحق من الباطل او الصحيح من الخطأ.
فالشك منهج يسعى الى تأسيس المعرفة على اسس يقينية, يتم الوصول اليها بواسطة التفكير النقدي الذي يعنى بمراجعة المعطيات المعرفية وتمحيصها من الاخطاء. فالغزالي يقوم بعملية تفكير من جديد في مصادر المعرفة – التقليد, الحس والعقل – وهي عملية مراجعة نقديه وتقييم جديد لهذه المصادر.
يحاول الغزالي من خلال هذا المنهج النقدي تطهير الموروث المعرفي المكتسب بواسطة تقليد الاباء والاساتذة من الاخطاء والضلالات. فهو لا يسعى الى الغائه او نفيه, انما فحصه واختباره باليات التفكير الصحيح, حيث يتم قبول المعرفة الصحيحة ورفض المعرفة المكتسبة بواسطة التقليد والتلقي بدون نقد واختبار.

هذا المنهج النقدي يمكنه كشف المعارف الباطله والتي اصبحت جزءا من الموروث الحضاري للامة, وتنتقل من جيل الى اخر كمعارف صحيحة ومقبولة, وفي بعض الاحيان قد تعتبر "مقدسة" خارج دائرة التفكير المسموح بها. وهي بالحقيقة معارف غير صحيحة ويظهر خطأها عند اخضاعها لاليات التفكيرالنقدي.
ثم ينتقل الغزالي الى نقد الحس والعقل كمصادر للمعرفة, وهما اكثر يقينا من التقليد. واذا ما خضعا الى النقد يتبين لنا عدم يقينية المعارف المكتسبة من الحس والعقل. والتشكيك في هذه المعارف لا يعني سوى اعادة التفكير بها من جديد وتأسيسها على قواعد يقينية وصحيحة, وليس الهدف مجرد التشكيك لذاته وكشف عجز الحس والعقل.
ويمكن القول ان استخدام منهج الشك هو دليل واضح على وجود الوعي عند الغزالي لان التفكير يعني الادعاء بوجود الوعي. ونلحظ ان مستوى الوعي الراقي الذي وصل اليه الغزالي هو اعادة التفكير في التفكير والذي يعني وعي الوعي او تحويل مادة التفكير الى صورة تفكير او اداة تفكير, فالغزالي يقوم بعملية تفكير نقدية لمادة معرفية سبق التفكير بها, ويعمل على تحويلها الى منهج للتفكير. وهذه العملية تعتبر ارقى مستويات التفكير والوعي المعرفي, وهي نقيض الاجترار المعرفي الذي يحفظ المضمون ويجمده.

ومعنى الشك بالمعارف الحسية والعقلية والتي تمثل كل موجود في العالم, واثبات عدم يقينية هذه الموجودات هو عمليا الغاء لها وارجاعها الى التفكير, وتأسيس كل شىء على التفكير. فهو يشك في كل شيء, الا شيئا واحدا لا يمكنه الشك به وهو الشك بانه يشك, اي انه لا يستطيع الشك بانه يفكر, وهذا هو وعي الوعي. اذا يقوم الغزالي بعملية الغاء للعالم كله بواسطة الشك المنهجي, ويبقي على التفكير لوحده. فهو يلغي المضمون المعرفي ويبقى مع طريقة التفكير, وهذا يعني انه ليس هنالك وجود سوى للتفكير. وهنا لا يمكن الحديث عن "تطابق" لان التفكير هو( شىء) اي حقيقة صوريه. ووجود اداة التفكير لا يعني بالضرورة تطابقها مع المضمون المعرفي الموجود.

يحصر الغزالي نفسه داخل دائرة التفكير, ويحاول ترتيب افكاره للخروج منها. فاتضح له ان هناك افكار ضرورية (ماهيات) والتي تملك وجودا مستقلا وضروريا داخل الوعي. بمعنى انها تفرض نفسها على الوعي من داخل الوعي وليس من خارجه وهي ليست من الانا المفكرة. فهو يجد مثلا فكرة الله داخل الوعي, لكن هذه الفكرة لم تكن نتيجة للتفكير, وانما وجودها كان ضروريا ومفروضا على الوعي من داخله. وهذا ما عبر عنه الغزالي بالنور الالهي المقذوف في الصدر ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام, بمعنى ان هذه الماهيات اوالافكار لم تنتج عن التفكير العقلي, انما وجودها بالوعي كان فطريا. وهذا ما يفسر محاولة الغزالي الرجوع الى الفطرة الاصلية.

فهو يشك بكل موجود لاعتقاده بوجود شيء هو البداية, ويحاول الغاء كل شىء موجود للوصول الى نقطة البداية, لان هذه الموجودات تشكل حاجزا لكشفها. وسبب هذا السعي الدؤوب الى البداية لانها تشكل الاساس اليقيني لكل الموجودات. فالوصول اليها يعني الوصول الى اليقين وهو مرتبط بالوعي الذاتي, لذلك يمكن الانتهاء اليه وليس الابتداء منه.
لذلك يقوم الغزالي بعملية نقد شاملة وتقييم جديد للعلوم التي اكتسبها عن طريق التقليد او الحس والعقل, وهو بذلك يزيل كل التراكمات العقائدية, الاجتماعية والابستمولوكية التي تغطي الفطرة الانسانية. وهو يسعى للوصول الى هذه البداية لكونها الحقيقة اليقينية الوحيدة التي يمكن ان يؤسس عليها يقينية الموجودات الاخرى.
من الوهلة الاولى يبدو ان هذا الاسلوب متناقضا لان العقل العادي يعرف اننا نبدأ من البداية وليس ننتهي اليها. لكن التفكير النقدي يتعدى "اعتيادية التفكير" باعتباره منهج وليس مجرد مضمون, لذلك نلاحظ ان الغزالي يدرك ضرورة واهمية الانتهاء الى البداية لانه لا يمكن الوصول اليها الا بعد عملية نقد وتقييم لكل الموروث المعرفي التراكمي, وهو حفر بأدوات معرفية في طبقات المعرفة الانسانية حتى يصل الى حقيقة الفطرة الاصلية التي شوهت بسبب التراكمات الكثيرة عبر التاريخ الانساني.


الخاتمة
نلاحظ ان الغزالي يحدد في بداية بحثه الهدف الذي يسعى للوصول اليه وهو تحصيل العلم اليقيني, ويتخذ من الشك المنهجي اداة لتحقيق هذا الهدف. فالشك كان الاداة التي كشفت حقيقة العلوم المكتسبة من المحيط الثقافي والموروث المعرفي, وكشف الغزالي بواسطة الشك عدم يقينية الحس والعقل. كما توصل ايضا الى الاساس اليقيني الذي يبنى عليه يقينيات الموجودات الاخرى. بمعنى ان هذه الموجودات او العلوم المختلفة المكتسبة من التقليد او الحس او العقل تحتاج الى اساس يقيني صلب لانها لا تحمل بذاتها براهين تثبت يقين علومها.
لقد بدأ الغزالي بحثه من النهايه ولم تكن البداية مبدأ بحثه, فهو يلغي ويهدم كل شيء للوصول الى البداية, وهو يعلن عن نجاحه بعد كل هدم يقوم به, وقد عبر عن ذلك مثلا باعلانه "انكسار زجاجة التقليد" حتى يصل الىالانكسار الكبير وهو انكسار العقل الذي لم يتم الا بجهد عظيم. وبعد نجاحه بهذه الانكسارات ينكشف له اليقين هدف البحث ليؤسس عليه صرح المعرفة اليقينية من جديد.

لقد ادى هذا التفكير النقدي الشامل الى مراجعة تقيمية لجميع المعارف التي اعتبرت مقبولة زمنا طويلا, وادى الى زعزعة الثقة بالمفاهيم التي اعتبرت موثوق بها ضمنا. وهذا ادى بدوره الى مراجعة العلوم حسب معاير منطقية تميز الصحيح من الخطأ
الهوامش



  1. Osman Bakar, “The Meaning and Significance of Doubt in AL-Ghazzali’s Philpsophy”, The Islamic Quarterly, 146, {31-44} Park Road, London N.W.8, 1986, PP 38-39.

  2. تميزت تلك الفترة بكثرة الفرق الدينية والمذاهب الفكرية مثل الباطنية, الفلاسفة, الصوفيه والكلام.

  3. الغزالي, المنقذ من الضلال والموصل الى ذي العزة والجلال, تحقيق جميل صليبا وكامل عياد, دار الاندلس, بيروت, ص78.

  4. الغزالي, المنقذ من الضلال, ص80.

  5. الغزالي, المنقذ من الضلال, ص81.

  6. الغزالي, المنقذ من الضلال, ص81.

  7. الغزالي, ميزان العمل, تقديم علي بو ملحم, دار ومكتبة الهلال, بيروت, 1995, ص222.

  8. الغزالي, احياء علوم الدين, ج3, دار الفكر, بيروت, ص 75.

  9. S.R. Shafaq. Some Abiding Teaching of AL-ghazali”, The Muslim World, V.44, 1954, p.44

  10. ميثم الجنابي, الغزالي, ج1, دار المدى للثقافة والنشر, دمشق, 1998, ص40.

  11. الغزالي, المنقذ من الضلال, ص82.

  12. الغزالي, المنقذ من الضلال, ص82.

  13. الغزالي, المنقذ من الضلال, ص84.

  14. الغزالي, المنقذ من الضلال, ص84.

  15. الغزالي, المنقذ من الضلال, ص85.

  16. الغزالي, المنقذ من الضلال, ص86.

  17. الغزالي, المنقذ من الضلال, ص87

  18. الغزالي, المنقذ من الضلال, ص88

  19. الغزالي, ميزان العمل, ص222.
    Abstract


هذا المقال يهدف الى تحليل قضية الشك عند الغزالي وقراءتها بمنظور فلسفي جديد, كما يلقي الضوء على مسار العملية الشكية ومحطاتها المهمة. واحاول البرهنة على ان الشك هو منهج في التفكير النقدي يهدف الى الوصول الى حقيقة الاشياء, وهو اسلوب بحث رافق الغزالي منذ بداية بحثه حتى نهاية حياته, وليس مجرد أزمة عابرة عصفت به في فترة محددة.
حاول الغزالي اعادة التفكير بالموروث المعرفي والعلوم المكتسبة بواسطة التقليد والحس والعقل. فهو يقوم بعملية مراجعة نقدية التي من شأنها ان تكشف الاخطاء في هذه العلوم وتأسيسها على علم يقيني, وهي عملية حفر في طبقات المعرفة المتراكمة, كي يصل الى حقيقة الفطرة الاصلية وهي البداية اليقينية التي يؤسس عليها علومه ومعارفه

يقوم الغزالي بعملية الغاء لكل شيء موجود, الا انه لم يستطع ان يلغي شيئا واحدا وهو التفكير لانه لا يمكنه ان يشك بانه يشك. ويبقى الغزالي مع التفكير لوحده, محاولا ارجاع الثقة بالعلوم العقلية اولا, لكن بدون جدوى. لان شكه طال جميع العلوم الاولية او البدهيات التي يمكن ان تشكل اساسا لعلوم أوسع.
يكتشف الغزالي وجود افكارا ضرورية وثابتة داخل الوعي كفكرة الله مثلا, والتي لم تأتيه من الخارج بواسطة التفكير, وقد عبر عنها بالنور الالهي المقذوف في الصدر. هذه الافكار الضرورية شكلت الاساس اليقيني الذي تبنى عليه يقينيات العلوم والموجودات الاخرى.


Summarize English and Arabic text online

Summarize text automatically

Summarize English and Arabic text using the statistical algorithm and sorting sentences based on its importance

Download Summary

You can download the summary result with one of any available formats such as PDF,DOCX and TXT

Permanent URL

ٌYou can share the summary link easily, we keep the summary on the website for future reference,except for private summaries.

Other Features

We are working on adding new features to make summarization more easy and accurate


Latest summaries

تواصل الدولة ال...

تواصل الدولة التونسية تأمين رحلات العودة الطوعية للأفارقة جنوب الصحراء المتواجدين في بلادنا بصفة غير...

المحافظة على ال...

المحافظة على المحيطات ضرورية وحيوية لكوكبنا وللبشرية جمعاء. المحيطات تغطي أكثر من 70% من سطح الأرض و...

Functionally Gr...

Functionally Graded Materials (FGMs) exhibit a continuous variation of material properties due to t...

A target protei...

A target protein for nalidixic and oxolinic acids in Escherichia coli, the nalA gene product (Pnal),...

Inner Beauty In...

Inner Beauty Inner beauty is considered the essence of an individual's true character. This beauty m...

جريمة خيانة اما...

جريمة خيانة امانة تم فتح محضر في النيابة العامة باختلاس المبلغ النقدي المبين قدرا بالمحضر والمملوك ...

حربيه ووجدانه ۱...

حربيه ووجدانه ۱۲۰۰۰ تكوين الرموز : وجهة نظر عضوية رغم أن ويرنر كتب الكثير من الكتب إلا أنه نشر كتا...

ان وجوب السعي م...

ان وجوب السعي ملحوظ بنحو الطريقية (هذا طريق لإدراك الصلاة) إلى عدم فوات الصلاة وليس بنحو الموضوعية (...

Employment Hist...

Employment History May. 2023 – Till now • Position: Senior Resident Engineer • Khatib Alami (Consult...

حاولنا في الفصل...

حاولنا في الفصل السابق شرح الطريقة التي يمكن بها استخدام الذكريات القديمة والخيالات في الكشف عن الأس...

الهدف الأساسيّ ...

الهدف الأساسيّ من لجوء الخصوم إلى القضاء لا يقتصر على مجرّد حصولهم على حكم لإنهاء الخصومة ضمن مسار م...

Reusing water a...

Reusing water and encouraging others to save helps protect our environment and ensures there’s enoug...