Lakhasly

كانَ أَبي يَحْلُمُ بِأَنْ يَكونَ رائدَ فَضاء. كَبُرَ وَأَصْبَحَ مُحاسِبًا، ثُمَ تَزَوَّجَ وَأَنْجَبَني وَصارَ يَحْلُمُ بأَنْ أَكونَ أنا رائدَ فَضاء.اسْمي "رائد" (وَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكونَ غَيْرَ ذَلِكَ)، وَهَذِهِ قِصَّتي...كُنْتُ في العاشِرَةِ مِنْ عُمْري حينَ عُدْتُ إلى مَنْزِلي، ذات يَوْمٍ، لأتَفاجَأَ بِرائِحَةٍ قَوِيَّةٍ مَصْدَرُها المَطْبَخُ. كانَتْ تِلكَ المَرَّةُ الأولى الَّتي لا أَجِدُ فيها أُمّي تَنْتَظِرُنا عِنْدَ عَتَبَةِ الدَّارِ. وَالسَّبَبُ، عَلى ما بَدا لي، كانَ انْشِغالَها في المَطْبَخِ.سَأَلتُها: "ماذا تعدّينَ لَنا يا ماما؟ وَما هذهِ الرَّائحَةُ الجَميلَةُ؟" فقالتْ: "رائد، حَبيبي، كَمْ جَميلٌ أَنَّكَ هُنا! اقْتَرِبْ قَليلًا وَانْظُرْ... إنَّهُ الدَّجاجُ بِالكاري."الكاري، ذو اللَّوْنِ الأصْفَرِ المُميَّزِ وَالرّائِحَةِ القويَّة، خَلْطَةُ البَهارات تِلْكَ غَيَّرتْ حَياتي إلى الأبَدِ. لكنَّني، يومذاك، لَمْ أَكُنْ أعْرِفُ أَنَّها خلطة. ومِنْ أَيْنَ يَأْتي الكاري يا ماما؟غالبًا من الهند يا "رائد".وهل ينبُتُ في الأَرْضِ أم يُستخرج من حَيَوانٍ ما؟
هاهاها… لا هذا ولا ذاك يا حبيبي. إنَّها مجموعَةٌ مِنَ البَهاراتِ المُخْتَلِفَةِ. حَتّى أَنَّ مَقاديرَها تَخْتَلِفُ مِنْ مِنْطَقَةٍ إلى أُخرى، وَمِنْ حانوتٍ إلى آخر.هذا يَعْني أَنَّني أَسْتَطيعُ أن أَصْنَعَ الكاري بِنَفْسي…فجأةً، قاطَعَنا أَبي قائلًا: "ماذا تَفْعَلُ في المَطْبَخِ يا "رائد"؟ هذا لَيْسَ مكانك". ثُمَّ أَمْسَكَني بِيَدي وَأَجْلَسَني إلى طاوِلَةِ المائِدَةِ بانْتِظارِ جُهوزِ الطَّعامِ. وَلكِنَّني بَقيتُ أُفَكِّرُ: "أَنا أَسْتَطيعُ أَنْ أَصْنَعَ الكاري بِنَفْسي".عِنْدَما حَلَّ المَساءُ، وَبَعْدَ أَنْ أَنْهَيْتُ فُروضي المَنْزِلِيَّةَ، اخْتَلَيْتُ بِصَديقي العَزيز "غوغل"، مُكَمِّلًا مَعَهُ البَحْثَ حَيْثُ أنْهَيْتُهُ مَعَ أُمِّي. طبعتُ "مكوِّنات الكاري"، فَأَجابَتْني ويكيبيديا: "معظَمُ دَقيقِ الكاري المُتَوافرِ يَعْتَمِدُ بِشَكْلٍ رَئيسِيٍّ عَلى الكُرْكُم الَّذي يُعْطي صَلْصَة ذاتَ لَوْنٍ أَصْفَرَ، مِنَ المُكَوِّناتِ الأُخْرى هِيَ الكزبرة، الكَمُّون، الحلبة، الخردل، الفلفل الأسود، والملح."سَوْفَ أَفْعَلُها، قُلْتُ في نَفْسي، سَوْفَ أَفْعَلُها بِالتَّأْكيدِ. لَيْسَ عَلَيَّ سِوى انْتِظارِ خُروجِ أَبي مِنَ البَيْتِ للتَّوَجُّهِ إلى المَطْبَخِ. لكِنَّ الأَمْرَ ليس بِهذِهِ السُّهولَةِ. فَحينَ يَكونُ أَبي في عَمَلِهِ، أَكونُ أَنا في المَدْرَسَةِ. وَحَتَّى لَوْ كُنْتُ في البَيْتِ، فَإِنَّ أُمِّي تَكونُ في المَطْبَخِ.سَأَسْتَعينُ بِصَديقي يوتيوب. طبعتُ "طَريقَةَ تَحْضيرِ بَهارات الكاري في المَنْزِلِ". وَجَدْتُ نَفْسي أَمامَ خمسِ دقائقَ مِنَ المَشاهِدِ المُصَوَّرَةِ. عِنْدَما انْتَهَيْتُ مِنْ مُشاهَدَةِ الفيديو، لَمْ أَسْتَطِعْ مَنْعَ نَفْسي مِنَ الانْتِقالِ إلى "خلطةِ بهارات الشَّاورما"، وَمِنْها إلى "السَّبْعِ بهارات" فإلى... إلى أَنْ فاجأَني أَبي وجُنَّ جُنونُه!ما هذا الَّذي تَتَلَهّى بِهِ بَدَلًا مِنْ أَنْ تُراجِعَ دَرْسَ الكيمياء؟ هلْ تَعْتَقِدُ أَنَّ هذِهِ الأُمورَ السَّخيفَةَ سَوْفَ تَجْعَلُكَ رائِدَ فَضاء، أَوْ حَتّى طَبيبًا أو مُهندِسًا؟لَمْ أَكُنْ أُريدُ أَنْ أُصْبِحَ طَبيبًا، وَلا مُهَنْدِسًا، لكنَّني كُنْتُ بِالتَّأْكيدِ مُعْجَبًا بِروّادِ الفَضاءِ... ما العَمَلُ؟ عُدْتُ إلى دَرْسِ الكيمياء. وَنَسيتُ أَمْرَ الكاري، أَوْ ظَنَنْتُ أَنَّني نَسيتُه. لكنَّني، بَعْدَ سَنَواتٍ طَويلَةٍ، وَفيما كُنْتُ أَبْحَثُ عَنِ اخْتِصاصٍ جامِعِيٍّ، أَرْشَدَني صَديقي غوغل – مُعيني في أَوْقاتِ حَيْرَتي- على "الكيمياء الغِذائيَّة"، فَلَمْ أَتَرَدَّدْ لَحْظَةً واحِدَةً في الاخْتِيارِ. وَحينَ سَأَلَني أَبي: "لِماذا اخْتَرْتَ هذا الاخْتصاصَ النَّادِرَ وَالغَريبَ؟" لَمْ أَجِدْ سِوى إِجابَةٍ واحِدَةٍ: "أَنْتَ وَحْدَكَ تَعْرِفُ السَّبَبَ يا أَبي. لَطالَما أَرَدْتَني رائِدًا، وَها أَنا اليَوْمَ أُصْبِحُ رائِدًا بِالفِعْلِ... ولكِن في المَطْبَخِ."