Lakhasly

ختامًا، أدهشت حياة سمعان على العمود، التي استمرت 37 عامًا، أهل عصره كما أدهشت أهل عصرنا، وقد استخدم أنبياء الله طرقًا عجيبة لنبيههم، كما ورد في ترجمة ثيودورتس، لفت انتباه الناس وإرشادهم إلى الحق. الروح يهبّ كيفما يشاء، والمواهب متنوعة لكنّ الروح واحد، كما ذكر بولس. حتى في عصرنا، ظهرت مواهب روحية كالشفاء والتحدث بلغات، وقد استغربها المؤمنون في البداية ثمّ أيّدتها السلطات الكنسيّة. لم يبقَ من عمود سمعان إلا كتلة صغيرة، لأن المؤمنين أخذوا منه كقطع تذكارية، كما حدث مع شجرة مار شربل. لم يعش سمعان على العمود بقصد مسبق، بل بعد ثلاث سنوات من العزلة في كوخ، صعد إلى مرتفع طلبًا للصلاة والتعبّد، فجاءه الناس، فطلب نحت مربّع ثمّ عمودًا فوقه، ليصل ارتفاعه إلى ١٦ مترًا. عاش بدون سقف، يغطي رأسه بالأسكيم، يتغذّى بقليل من الطعام والصلاة والتعبّد. كلمات القديسة تريزيا تعبّر عن شعار سمعان: الموت للأنا، والحياة للمسيح، ليكون أسيرًا له. وصف الأب ماتّرن قلعة سمعان بأنّها من أعظم الآثار المسيحيّة، ونقش على عمود مار دانيال: "بين السماء والأرض وقف رجل لا يخاف الرياح، واسمه دانيال." هذا ينطبق على سمعان وكلّ عموديّ. ارتفاع سمعان على العمود جذب الناس إليه، كما فعل المسيح، وسلك سمعان سبيل الروح، وصلب جسده على العمود ليحيا المسيح فيه.

الخاتمة
لا عجب أن يدهش أهل عصرنا من عيشة سمعان على
العمود. فقد دهش منها أهل عصره أنفسهم، كما أوضح
ثيودورطس الذي ترجم له، وقد أورد عدّة أمثلة على الطرق
العجيبة التي دعا اللّٰه أنبياءه وأصفياءه إلى سلوكها لكي ينبّهوا
أذهان الناس ويهدوهم سبيل الحقّ. إنّ الروح يهبّ حيث
يشاء (يوحنّا ٨/٣) وكيفما يشاء. والمواهب على أنواع، وأمّا
الروح فواحد كما قال القدّيس بولس (١ قور ٤/١٢) وكلّ
واحد يتلقّى من تجلّيات الروح لأجل الخير العام. وفي أيّامنا
أخذ المواهبيون يتكلّمون بلغات ويُحْبرُون معجزات الشفاء،
فاستغربهم المؤمنون أنفسهم أوّل الأمر ثمّ أيّدتهم أعلى
السلطات الكنسيّة .
لم يبقَ من عمود سمعان في أيّامنا سوى كتلة صغيرة
بيضاويّة الشكل وُضعت فوق القاعدة المربّعة. ذلك بأنّ
المؤمنين عدّوا العمود ذخيرة فاقتطعوا منه كُلُّ على قدر ما
استطاع، ووصل الأمر ببعض الناس إلى أنّهم سحقوا ما
أخذوه وجعلوه في الماء وشربوه. ومثل ذلك حدث لشجرة

• ٣٩ -

كانت بالقرب من المكان الذي عاش فيه مار شربل في القرن
التاسع عشر
لم يعش سمعان على عمود عن سابق قصد وتصميم . فقد
ترك كوخه في تل نيشين بعدما قضى فيه ثلاث سنوات وصعد
إلى مرتفع يقال له اليوم قلعة سمعان، ينشد العزلة للصلاة
والتعبّد والتقشّف؛ فسمع به الناس فأقبلوا عليه، فطلب أن
يُنحت له في الصخر مربّع طول أصلاعه متران وارتفاعه ستّ
أذرع أي نحو مترين، ولا يزال ذلك المربّع في مكانه . وظلّ
الناس يأتونه ليسألوه فيجيبهم لأنّ محبّة اللّٰه أُفيضت في قلبه،
ولا محبّة صادقة لله، إلا إذا اقترنت بمحبّة القريب ولا سيما
السادج الضعيف. ونو اقتصر الأمر على الكلام لرتّما لم يفكّر
سمعان أن يرتفع أكثر من ستّ أذرع فوق الأرض، ولكنَّ
أناسًا مدّوا أيديهم ليلمسوا ثيأبه ويتبرّكوا به، فطلب أن يُرفع
عمود فوق المربّع الصخريّ ، وكَرّر طلبه ذلك مرّة ثانية ثمّ
ثالثة حتّى تألّف العمود آخر الأمر من ثلاث أسطوانات إكرامًا
للثالوث الأقدس وبلغ ارتفاعه ١٦ مترًا . عاش سمعان في
على العمود من غير سقف، فكان يغطّي رأسه بالأسكيم
الرهباني ليحميه من البرد والريح والحرّ، وكان قد اعتاد
العيش في العراء في أيّام حداثته وشبابه، لأنه كان راعيًا في
جبال طوروس. ولم ينزل سمعان من على العمود إلا في

• ٤٠ -

الوقت الذي لا بُدَّ منه لرفع الأسطوانة الأولى على المربع تم.www
الثانية فالثالثة. كان سمعان يكثر من الصوم كما ورد في
سيرته، ولا يأكل سوى القليل يأتيه به الذين يزورونه،
كالفول والعدس والخبز والزيت، والبقل والأعشاب البرّيّة.
ومع ذلك الشظف في العيش فقد تجاوز السبعين من العمر.
وكان غذاء سمعان الأوّل الصلاة والتعبّد ووعظ الناس.
في القرن السادس عشر كتبت القدّيسة تريزيا ما يعبّر أحسن
تعبير عن شعار سمعان، ذلك الشعار الذي لم يكتبه لأنّه كان
أمّيًّا فحقّقه بحياته كلّها: «لِيَمُت فيَّ ذاك (الأنا) وليحيَ فيَّ
آخر هو أكبر منّي أنا، وهو عندي خير منّي أنا، لكي أستطيع
أن أخدمه. فليحيَ ويعطني الحياة. وليكن سيّدي ولأكن
أسيرة. إنّ نفسي لا تريد حرّيّة غير هذه الحرّيّة. وكيف يكون
حرًّا مَن كان غريبًا عن العليّ! إنّ الحبّ أقوى من الموت
وقاسٍ مثل جهنّم».
إنّ الأب ماتّرن اليسوعيّ، وهو الذي ألّف كتاب: (مدن
ميّتة في شمال سوريا))، كتب لما زار قلعة سمعان: (إنّنا تجاه
أكبر الآثار المسيحيّة وأفخمها في الشرق، ولرتما في العالم كلّه .
حتّى عندما يتوقّع المرء أن يرى شيئًا عظيمًا، فإنّ الدهش
يستولي عليه حين يرى الخرائب الرائعة لذلك المعبد) .

• ٤١ -

أحد الذين كرَّموا مار دانيال وهو أوّل عموديّ سوريّ بعد
سمعان، نقش في عموده ليخلّد ذكره:
«بين السماء والأرض
وقف رجل لا يخاف الأرياح
التي تهبّ من كلِّ جهة
واسمه دانيال) .
إنّ ما قيل في دانيال يصحّ قوله في أوّل عموديّ، بل في
كلّ عموديّ .
قال السيّد المسيح : ((وأنا إذا رُفِعتُ من الأرض جذبتُ إليّ
الناس أجمعين)) (يوحنّا ٣٢/١٢).
إرتفع سمعان فوق العمود فجذب إليه كثيرًا من الناس.
وقال القدّيس بولس: ((أُسلكوا سبيل الروح ولا تقضوا
شهوة الجسد لأنّ الجسد يشتهي ما يخالف الروح، والروح
يشتهي ما يخالف الجسد . .. إنّ الذين هم خاصّة المسيح قد
صلبوا جسدهم وما فيه من أهواء وشهوات) (غل ١٦/٥،
٢٤).
إنّ سمعان الكبير سلك سبيل الروح وكان من خاصّة
المسيح، فصلب جسده على العمود ٣٧ سنة ليحيا فيه المسيح
ويحيا هو في المسيح .