Lakhasly

Online English Summarizer tool, free and accurate!

Summarize result (76%)

التاسعة والنصف مساء في عيادتي وقد فرغت من معايناتي
وأستعد للرحيل. قضيت معهم مساء عاديًا، أفحصهم وأصف لهم الدواء، في مجتمع أعرف تماما أنه لن يستجيب. وتسمي نفسها سماسم في وسط معارفها، ترتدي ثوبًا ملوّنًا فوق قميصها الأخضر اللون، وذهبا حقيقيًا منقوشا بفن، ومتكدسا حول معصميها الممتلئين، سوى نشاز يضايق الشم، لم تكن المرة الأولى التي تزورني فيها سماسم، لكنها المرة الأولى التي تأتي فيها بهدية، الصنع، لا أدري كيف حصلت عليها، وكانت في ذلك الوقت ترفا لا تجده إلا عند الأثرياء. لقد كانت سماسم مصيبة أخرى من المصائب التي جرتها العيادة، وتسعى للزواج مني بصبر، وأشاعت في الحي أمر تلك الخطبة، لدرجة أن أحد إخوتها - وكان نشالًا محترفًا، يدخل السجن ويخرج بلا توقف قد زارني في أحد الأيام بلا مرض، وذلك الوشم على شكل ذبابة، المنحوت في ذراعه العارية، وطالبني أن أطرق الباب رسميًا بدلا من اللعب بعواطف بنات الناس، وأضاف وهو يخبط على طاولتي، بأنه يعرف الأطباء ومن هم على شاكلتهم من حاملي الألقاب جيدًا، ويعرف حيلهم في استدراج النساء الساذجات إلى شباكهم، وتركهن بعد ذلك بلا وازع من ضمير. حاولتُ إخباره أنني لا أعرف شيئًا عن أخته أكثر من كونها مريضة تتعالج عندي، لكنه لم يفهم، أو أراد ألا يفهم، وهو يصيح بصوت سمعه المرضى الجالسون في الصالة: نحن ننتظر قدومك برفقة أهلك. لا تتأخر . ثم أعقب كلامه بإشارة تهديدية من إصبعه
بعد ذلك طالبت تلك السماسم المهووسة في أول فرصة رأيتها فيها، وأن تبتعد عن طريقي، ولا تدعني أتصرف بحمق، لكنها ابتعدت نحو شهر لم تأت فيه، والابتسامة التي تسع الوجه كله، آخ . آخ . وفي دفتر عز الدين يوجد اسمها، إنها إحدى معضلات مهنة الطب، أن تقبل بمعاينة نصاب وتدري تماما أنه نصاب، أو ترفض معاينة نصاب، ويموت في ذلك اليوم بالذات من مرض حقيقي، يعمل محصلا للنقود في إحدى حافلات النقل العام، ويتردد على المستشفى باستمرار، وتتم معاينته بدقة وعمل الأشعة والتحاليل المخبرية له ولا يعثر الأطباء على شيء، ولدرجة أنه كان في الأشهر الأخيرة، ويحيونه بمعرفة، ويسألونه عن أخبار العمل، ومباريات كرة القدم، وآخر فلم هندي عرضته السينما، ويتجاوزونه إلى مرضى آخرين، إلى أن مات يوما بانفجار في الزائدة الدودية، وقد مر أمامه سرب من الأطباء لم يلتفت إليه أحد منهم. أرقدت سهلة - سماسم - على طاولة الكشف القديمة التي هزها
لا ثمة حقنة ستؤخذ أو دواء سيكتب بالرغم من تلويها وصراخها، والمريضة جلست في مواجهتي، فتأخذ منها واحدة بطعم الفستق، وتضعها أمامي، وتتحدث عن العوالم الشاعرية، تقول ذلك، لكن عينيها لا توافقانها. - أرجوك يا سهلة. اسمها المسجل على شهادة ميلادها، إمعانا في إبعادها، ولا تبتعد أذكرها بصعلكة أخيها وتهديده، أنا ولية أمر نفسي حسب الشرع، ألست مطلقة؟ وأنهض معلنا أن وقت زيارتها قد انتهى وعليها أن تخرج، لأن عددًا من المرضى ما زالوا ينتظرون في الخارج، وتنهض بعد تردد، تاركة علبة الحلوى في مكانها وترفض بشدة أخذها . مضت إلى الباب تمشي بتكسر مجنون، يساهم في تكسر مشيتها أكثر. أخرج إلى الطريق لأمضي إلى مروري الروتيني في المستشفى، لكن العربة لم تكن موجودة. سُرقت عربة والدي التي تستخدمها العائلة كلها، ولا نملك غيرها وأكاد أجن. كيف سُرِقت من أمام باب يدخل منه الناس ويخرجون بلا توقف؟ وكيف أن عز الدين لم يلحظ ذلك أو لم يسمع صوت محركها حين دار؟ هل يكون شقيق الطائشة سماسم قد أرسلها شركا يشغلني به مدة من الوقت وسرق العربة؟ لكنه - حسب علمي - نشال محترف للجيوب يصطادها في الحافلات وحافلات النقل العام، كنا نتلفت في الظلام أنا وعز الدين، وعدد من العابرين سمعوا بالخبر وتجمهروا، كل يدلي بإفادة مختلفة، أو يسأل أسئلة بلا معنى، وفي تلك اللحظة تقدم منّا شاب طويل، ويشبه طلاب المدارس الثانوية أو الجامعات، يوم هنا ؟
هل رأيتها ؟
قلنا أنا وعز الدين في صوت واحد. - نعم. رأيتها منذ ساعتين في الشارع العام المؤدي إلى البحر، وكانت مزينة بالورد، وتحمل عروسين في زفة. - هل أنت متأكد أنها هي؟
- كل التأكيد. قال، أن تتقدم عربة العائلة زفة في حي غريب، ولا نعرف من تزوج ومن زُفٌ في ذلك اليوم؟ وكيف تسرق عربة لتنفضح في زفة ؟ ومن سرقها ليستخدمها ذلك الاستخدام غير المألوف؟
في حي النور قريبًا من العيادة على بعد عدة شوارع، يوجد مركز صغير للشرطة به عسكريان في كل وردية، أو المشاجرات البسيطة التي تحدث أحيانًا بين الجيران بسبب أمور تافهة، وصلنا إلى المركز أنا وعز الدين نتصبب عرقا، وكان بداخله في تلك الساعة من الليل، شرطيان، أحدهما شاب في مقتبل العمر، والآخر يبدو قديمًا وعلى وشك التقاعد وتدل ملامحه وتلك الخطوط الرأسية الموشومة على خديه - نوعًا من الزينة التقليدية على أنه من أهل الشمال الذين كانوا أول من طرق العسكرية وتوظف بها في البلاد. واستخدامها في زفة عرس، فتولى العسكري القديم القضية، سجل البلاغ على دفتره الذي كان من ورق أصفر وبلا غلاف، وخطر ببالي أن أتهم المحتال (إدريس) علي ، والنشال شقيق المجنونة سماسم، ولا أملك دليلا على أحد. قلت: لا أعرف. -تفضلا معي لو سمحتما. لم يسألني حتى إن كانت العربة مسجلة باسمي أو باسم شخص آخر، ولا عن لونها وماركتها وأرقام تسجيلها، ولا سأل عز الدين، إن كان قد سمع شيئًا أم لا؟ كما كان يفترض في تلك الحالات، كان ظهره منحنيا إلى الأمام قليلا وهو يمشي، وجرابه المدلى من الخصر، بسبب تمزق الخيوط. وقد خطر لي أن أسأله عن سلاحه الذي ربما يحتاج إليه في مهمته، ويطلب من زميله البقاء بالقسم حتى يعود، وكان يصيح:
هل تفهم ؟
لم تكن بالمركز سيارة مخصصة لتنقل العسكريين، ولا حتى دراجة نارية تستخدم في المهام العاجلة، عبرت أمامنا بالتوقف، وركبنا كلنا ، وقد كان صاحب (الكارو) واسمه جبران قد زارني مرة في العيادة يشكو من ألم ركبتيه بارعًا في تخطي الحفر والشوارع الموحلة، والدخول إلى أزقة ملتوية، يطل على أرض خلاء، وممتلئة بالناس وبقايا الأكل، وثمة مُغن لم أره من قبل، يرتدي القميص الأبيض القصير والصديري، يعزف على آلة العود، ويردد أغنية محلية اسمها (الشحم واللحم) كنتُ قد سمعتها من قبل تردد في العديد من الأعراس بالرغم من رداءة كلماتها ولحنها، نزلتُ من عربة (الكارو) مسرعًا قبل الشرطي، لم يفقد منها شيء، مسجلها العتيق ما زال يعمل، وولاعتها تعمل أيضًا، وكساء الجلد الذي كسوت به مقاعدها موجود في مكانه، ولا جديد سوى عدة كيلومترات أضيفت إلى عداد السرعة الذي أحتفظ في ذهني بقراءته دائمًا. وجيء بالعريس ونفر من أهله من وسط الساحة، اتضح منه ما حدث. كان العريس قد تعرَّف منذ فترة وجيزة في سوق الحي، فكان هو صاحب قلم زينب نفسه، وقد عرف إدريس بأمر العرس المقرر إقامته في ذلك اليوم، بعد تلقيه دعوة لحضوره من العريس، وتشرف العروسين، بدلًا من حشرهما في حافلة ممتلئة بالمدعوين، بسبب عدم الإمكانات، وسلمه مبلغ الإيجار كاملا، ووصف له البيت، وجاءهم بالعربة في أول المساء، لكنه لم يحضر. -نحن مستأجرون ولسنا لصوصًا جنابك، ولم نكن نعرف أنها عربة الدكتور، العربات تتشابه جنابك. كان أحد أقارب العريس يتحدث بهدوء واثق، وقد ترك عدد من المدعوين بمن فيهم نساء وأطفال ساحة الغناء، وتجمعوا حول العربة، بعضهم يجلس عليها ، وبعضهم ينقر على زجاجها، وما كانت هيئته تغري بإطلاق تلك الكلمة الفخمة عليه، لكنها كما يبدو كانت المحرك الوحيد لرفع المعنويات في مهنة شاقة تؤدى بلا عدة ولا عتاد، سمعت الشرطي يسأل. -صمغ ؟
ولا بد أنه يفكر في تلك الزفة المسروقة التي ابتهج فيها ساعتين، وحتما ستكون حديث الناس في حي النور وأحياء أخرى مشابهة، أيامًا طويلة بعد ذلك. - نعم صمغ . في اللحظات التالية كان عدد من المتطوعين قد اقتحموا بيت العرس والبيوت المجاورة له، أو خارج المدينة، كما هي العادة في تلك الأحياء الشعبية، وجاء أحدهم بعد دقائق من الانتظار، بعلبة صغيرة صفراء مفتوحة، وضعه على الصمغ المتجلط، ودهن موضع الشريط المنفلت على كتفه، ثم وضع العلبة في جيبه من دون أن يطالبه أحد بردها . كدت أضحك برغم تلك الظروف كلها، وألمح عز الدين يقف واجما كأنه اعتاد على تلك الحياة في حي يضج حياة. - اسمع. كان الشرطي يخاطب العريس الذي كان ما يزال يتلفت باستمرار، ولا تستقر عيناه على جهة معينة، يلتفون حوله بملامح متحفزة:
- سيكون الدكتور كريمًا جدًا بعد أن استرد عربته، ولن يقاضيكم، لكنني لست كريما. أكمل زواجك وشهر عسلك، وتعال لمقابلتي في مركز الشرطة بعد ذلك لنتحدث قليلا عن استلام المال المسروق. انتهى. بالطبع صادر رأيي في تلك المعضلة من دون أن يستشيرني، أو إفساد فرحة لأحد، وقد استرددت عربة العائلة سليمة بلا نقص، وأيضًا مغسولة ومزينة بالورد، لكن بالطبع لم تحل معضلة إدريس حتى الآن، وأسمع الشرطي يخاطبني:
وسنقبض عليه في أقرب وقت. لا بد أنها كانت عروسه يدخل بها إلى وسط الساحة الممتلئة،


Original text

التاسعة والنصف مساء في عيادتي وقد فرغت من معايناتي


وأستعد للرحيل.


كان قد زارني مرضى معتادون في ذلك اليوم، قضيت معهم مساء عاديًا، أفحصهم وأصف لهم الدواء، وأنصح الذين يشتكون من مرض السكر، وارتفاع ضغط الدم، وانتفاخ المصران الغليظ، بتغيير عاداتهم الغذائية، وممارسة الرياضة بانتظام، في مجتمع أعرف تماما أنه لن يستجيب. وجاءتني امرأة مطلقة في نحو الثلاثين، كان اسمها الرسمي سهلة، وتسمي نفسها سماسم في وسط معارفها، ترتدي ثوبًا ملوّنًا فوق قميصها الأخضر اللون، وذهبا حقيقيًا منقوشا بفن، ومتكدسا حول معصميها الممتلئين، وتضع واحدًا من العطور الزيتية التي لا أعرف لماذا يستخدمها الناس، ولا كانت رائحتها في نظري، سوى نشاز يضايق الشم، لم تكن المرة الأولى التي تزورني فيها سماسم، بل في الواقع كانت المرة العشرين أو الثلاثين منذ افتتحت عيادتي، لكنها المرة الأولى التي تأتي فيها بهدية، وكانت علبة من حلوى الماكنتوش) الإنجليزية


الصنع، لا أدري كيف حصلت عليها، وكانت في ذلك الوقت ترفا لا تجده إلا عند الأثرياء.


لقد كانت سماسم مصيبة أخرى من المصائب التي جرتها العيادة، فقد خطبتني لنفسها منذ شاهدتني أول مرة، وتسعى للزواج مني بصبر، وأشاعت في الحي أمر تلك الخطبة، لدرجة أن أحد إخوتها - وكان نشالًا محترفًا، ومسجلا لدى دوائر الشرطة، يدخل السجن ويخرج بلا توقف قد زارني في أحد الأيام بلا مرض، وأرعبني بصوته الكبير، وذلك الوشم على شكل ذبابة، المنحوت في ذراعه العارية، وطالبني أن أطرق الباب رسميًا بدلا من اللعب بعواطف بنات الناس، وأضاف وهو يخبط على طاولتي، بأنه يعرف الأطباء ومن هم على شاكلتهم من حاملي الألقاب جيدًا، ويعرف حيلهم في استدراج النساء الساذجات إلى شباكهم، وتركهن بعد ذلك بلا وازع من ضمير. حاولتُ إخباره أنني لا أعرف شيئًا عن أخته أكثر من كونها مريضة تتعالج عندي، ولا لعبت بعواطف أحد منذ عرفت معنى العواطف، ولا أفكر في الزواج على الإطلاق وأنا ما أزال في بداية حياتي العملية، لكنه لم يفهم، أو أراد ألا يفهم، خبط على الطاولة مرة أخرى قبل أن ينصرف، وهو يصيح بصوت سمعه المرضى الجالسون في الصالة: نحن ننتظر قدومك برفقة أهلك.. لا تتأخر . ثم أعقب كلامه بإشارة تهديدية من إصبعه


رفعها في وجهي.


بعد ذلك طالبت تلك السماسم المهووسة في أول فرصة رأيتها فيها، أن تكف عن المجيء إلى عيادتي بلا مرض، وأن تبتعد عن طريقي، ولا تدعني أتصرف بحمق، لكنها ابتعدت نحو شهر لم تأت فيه، وتعود في ذلك اليوم بالذات، معطرة بالزيوت الخانقة وتحمل علبة من حلوى الماكنتوش) الغالية.


أصبت بالذعر حين رأيتها تفتح باب الغرفة وتدخل بتلك المشية المعوجة، والابتسامة التي تسع الوجه كله، طلبت منها المغادرة فورًا، لكنّها محت ابتسامتها بسرعة، ووضعت إحدى يديها على خاصرتها اليمنى وأخذت تصيح كممغوص حقيقي: آخ وجع الكلى.. آخ .. آخ . لم يكن ثمة بد من معاينتها حتى لو كانت كاذبة، وفي دفتر عز الدين يوجد اسمها، وأمامه مبلغ العشرة جنيهات الذي دفعته أجرة للكشف بلا تردد. إنها إحدى معضلات مهنة الطب، أن تقبل بمعاينة نصاب وتدري تماما أنه نصاب، أو ترفض معاينة نصاب، ويموت في ذلك اليوم بالذات من مرض حقيقي، وأعرف قصة محمود عموش الذي كان شابا في أواخر العشرينات، يعمل محصلا للنقود في إحدى حافلات النقل العام، ويتردد على المستشفى باستمرار، شاكيا من مغص في بطنه، وتتم معاينته بدقة وعمل الأشعة والتحاليل المخبرية له ولا يعثر الأطباء على شيء، فيوقعون على أوراق خروجه، ولدرجة أنه كان في الأشهر الأخيرة، يذهب مباشرة إلى عنبر المرضى الداخليين، من دون أوراق للدخول، يرقد على أي سرير خال يجده ويتوجع يطالعه الأطباء أثناء المرور، ويحيونه بمعرفة، ويسألونه عن أخبار العمل، ومباريات كرة القدم، وآخر فلم هندي عرضته السينما، ويتجاوزونه إلى مرضى آخرين، إلى أن مات يوما بانفجار في الزائدة الدودية، وقد مر أمامه سرب من الأطباء لم يلتفت إليه أحد منهم.


أرقدت سهلة - سماسم - على طاولة الكشف القديمة التي هزها


إدريس وقال: إنها بلا حيل، وتحتاج إلى استبدالها.


لم يكن ثمة شيء إيجابي بالطبع، لا ثمة حقنة ستؤخذ أو دواء سيكتب بالرغم من تلويها وصراخها، والمريضة جلست في مواجهتي، تمضغ العلكة بفن، وتنفخها و(تطرقعها)، وتفتح علبة الحلوى الإنجليزية، فتأخذ منها واحدة بطعم الفستق، وتضعها أمامي، وتتحدث عن العوالم الشاعرية، وأغاني الأعراس، وعدد الرجال الذين طرقوا بابها بعد أن تحررت من زوجها القديم، وكان فيهم مهندسون معماريون وضباط جيش ومحامون، وعدد بمهن براقة أخرى، لكنها لا تفكر في أحد.. تقول ذلك، لكن عينيها لا توافقانها.



  • أرجوك يا سهلة.


أخاطبها باسمها الحقيقي، اسمها المسجل على شهادة ميلادها، وقسيمة زواجها وطلاقها، وعلى دفتر عز الدين، إمعانا في إبعادها، ولا تبتعد أذكرها بصعلكة أخيها وتهديده، وتقول: لا تهتم.. أنا ولية أمر نفسي حسب الشرع، ألست مطلقة؟ وأنهض معلنا أن وقت زيارتها قد انتهى وعليها أن تخرج، لأن عددًا من المرضى ما زالوا ينتظرون في الخارج، وتنهض بعد تردد، تاركة علبة الحلوى في مكانها وترفض بشدة أخذها .. وأفكر أن تلك الحلوى ستسعد عيال عز الدين بلا شك، وأراهم دائمًا يتصارعون من أجل حلوى (الكرميل) الرخيصة.. مضت إلى الباب تمشي بتكسر مجنون، وكان صندلها أسود اللون وذا كعب عال، يساهم في تكسر مشيتها أكثر.


التاسعة والنصف مساء، أخرج إلى الطريق لأمضي إلى مروري الروتيني في المستشفى، لكن العربة لم تكن موجودة. سُرقت عربة والدي التي تستخدمها العائلة كلها، ولا نملك غيرها وأكاد أجن. كيف سُرِقت من أمام باب يدخل منه الناس ويخرجون بلا توقف؟ وكيف أن عز الدين لم يلحظ ذلك أو لم يسمع صوت محركها حين دار؟ هل يكون شقيق الطائشة سماسم قد أرسلها شركا يشغلني به مدة من الوقت وسرق العربة؟ لكنه - حسب علمي - نشال محترف للجيوب يصطادها في الحافلات وحافلات النقل العام، وفي طوابير السينما والاستاد الرياضي والسوق، ولا يعرف حتى كيف يقود عربة. كنا نتلفت في الظلام أنا وعز الدين، وعدد من العابرين سمعوا بالخبر وتجمهروا، كل يدلي بإفادة مختلفة، أو يسأل أسئلة بلا معنى، وفي تلك اللحظة تقدم منّا شاب طويل، يحمل على كتفه حقيبة صغيرة، ويشبه طلاب المدارس الثانوية أو الجامعات، سأل:



  • هل تبحثون عن العربة (الكورولا) البيضاء التي تقف كل


يوم هنا ؟


نعم.. هل رأيتها ؟


قلنا أنا وعز الدين في صوت واحد.




  • نعم.. رأيتها منذ ساعتين في الشارع العام المؤدي إلى البحر، وكانت مزينة بالورد، وتحمل عروسين في زفة.




  • هل أنت متأكد أنها هي؟




  • كل التأكيد.




قال، ومضى من دون أن يدلي بمعلومات أخرى. وأصاب بالحيرة من تلك المعلومة الخطيرة، أن تتقدم عربة العائلة زفة في حي غريب، ولا نعرف من تزوج ومن زُفٌ في ذلك اليوم؟ وكيف تسرق عربة لتنفضح في زفة ؟ ومن سرقها ليستخدمها ذلك الاستخدام غير المألوف؟


في حي النور قريبًا من العيادة على بعد عدة شوارع، يوجد مركز صغير للشرطة به عسكريان في كل وردية، وقد أنشئ لفض المنازعات القبلية، أو المشاجرات البسيطة التي تحدث أحيانًا بين الجيران بسبب أمور تافهة، وأيضًا لتلقي الشكاوى في حالات السرقة والنهب المسلح المنتشرة في تلك الأحياء البعيدة. وصلنا إلى المركز أنا وعز الدين نتصبب عرقا، وكان بداخله في تلك الساعة من الليل، شرطيان، أحدهما شاب في مقتبل العمر، يشبه في ملامحه قبائل (البجا) المستوطنة في الشرق والتي لا يفضل رجالها عمل الشرطة إلا نادرًا، والآخر يبدو قديمًا وعلى وشك التقاعد وتدل ملامحه وتلك الخطوط الرأسية الموشومة على خديه - نوعًا من الزينة التقليدية على أنه من أهل الشمال الذين كانوا أول من طرق العسكرية وتوظف بها في البلاد. حكيت عن موضوع العربة وسرقتها من أمام باب العيادة، واستخدامها في زفة عرس، كما ذكر أحد الشهود العابرين، فتولى العسكري القديم القضية، سجل البلاغ على دفتره الذي كان من ورق أصفر وبلا غلاف، وسألني إن كنت أتهم أحدا بالذات بتلك السرقة، وخطر ببالي أن أتهم المحتال (إدريس) علي ، والنشال شقيق المجنونة سماسم، لكنني لم أجرؤ ، ولا أملك دليلا على أحد. قلت: لا أعرف... فانشغل الشرطي بقتل شاربه قليلا ثم نهض مرددًا ..


-تفضلا معي لو سمحتما.


لم يسألني حتى إن كانت العربة مسجلة باسمي أو باسم شخص آخر، ولا عن لونها وماركتها وأرقام تسجيلها، ولا سأل عز الدين، إن كان قد سمع شيئًا أم لا؟ كما كان يفترض في تلك الحالات، كان ظهره منحنيا إلى الأمام قليلا وهو يمشي، وجرابه المدلى من الخصر، مفتوحًا وبلا سلاح ، وقد تأرجح أحد أشرطته العسكرية على كتفه اليمنى، بسبب تمزق الخيوط. وقد خطر لي أن أسأله عن سلاحه الذي ربما يحتاج إليه في مهمته، في اللحظة نفسها التي رأيته فيها يلتقط عصا ضخمة من أحد أركان الغرفة، ويطلب من زميله البقاء بالقسم حتى يعود، وكان يصيح:



  • لا تخرج يا تولاب من مكانك حتى لو وقع انقلاب عسكري.. هل تفهم ؟


لم تكن بالمركز سيارة مخصصة لتنقل العسكريين، ولا حتى دراجة نارية تستخدم في المهام العاجلة، وصرخ الشرطي في رجل على عربة (كارو) يقودها حمار - وتحمل عددا من صفائح الماء، عبرت أمامنا بالتوقف، وركبنا كلنا ، وقد كان صاحب (الكارو) واسمه جبران قد زارني مرة في العيادة يشكو من ألم ركبتيه بارعًا في تخطي الحفر والشوارع الموحلة، والدخول إلى أزقة ملتوية، لا تسمح حتى بمرور قطة ، وقادنا مباشرة بعد أن عرف بأمر العربة المسروقة إلى بيت متهالك من الخشب، يطل على أرض خلاء، كانت مضاءة بالفوانيس، وممتلئة بالناس وبقايا الأكل، وثمة مُغن لم أره من قبل، يرتدي القميص الأبيض القصير والصديري، يعزف على آلة العود، ويردد أغنية محلية اسمها (الشحم واللحم) كنتُ قد سمعتها من قبل تردد في العديد من الأعراس بالرغم من رداءة كلماتها ولحنها، وكانت المفاجأة أن العربة بكامل زينتها الموردة هناك. نزلتُ من عربة (الكارو) مسرعًا قبل الشرطي، وأسرعت أتفقد عربتي من الخارج والداخل في قلق، وكانت كما هي، لم يفقد منها شيء، مسجلها العتيق ما زال يعمل، وولاعتها تعمل أيضًا، وكساء الجلد الذي كسوت به مقاعدها موجود في مكانه، ولا جديد سوى عدة كيلومترات أضيفت إلى عداد السرعة الذي أحتفظ في ذهني بقراءته دائمًا. توقف الغناء والرقص بأمر من الشرطي العجوز، وجيء بالعريس ونفر من أهله من وسط الساحة، وخضعوا لاستجواب سريع، اتضح منه ما حدث.


كان العريس قد تعرَّف منذ فترة وجيزة في سوق الحي، على شخص اسمه إدريس، وصفه لنا، فكان هو صاحب قلم زينب نفسه، ومجمّع فوضى المرغنية الذي يرتدي زي جنود الصاعقة المرقع وينكش شعره، وقد عرف إدريس بأمر العرس المقرر إقامته في ذلك اليوم، بعد تلقيه دعوة لحضوره من العريس، وعرض أن يؤجر لهم عربة جيدة بسعر رخيص حتى تقود الزفة، وتشرف العروسين، بدلًا من حشرهما في حافلة ممتلئة بالمدعوين، بسبب عدم الإمكانات، ووافق العريس الذي كان يعمل حلاقا بسيطا في سوق حي النور الشعبي على عرضه بلا تردد، وسلمه مبلغ الإيجار كاملا، ووصف له البيت، وجاءهم بالعربة في أول المساء، قائلا إنه سيعود لاستردادها في التاسعة والنصف، لكنه لم يحضر.


-نحن مستأجرون ولسنا لصوصًا جنابك، ولم نكن نعرف أنها عربة الدكتور، العربات تتشابه جنابك.


كان أحد أقارب العريس يتحدث بهدوء واثق، وقد ترك عدد من المدعوين بمن فيهم نساء وأطفال ساحة الغناء، وتجمعوا حول العربة، بعضهم يجلس عليها ، وبعضهم ينقر على زجاجها، ومد أحد الصبية يده وتحسس بها الجراب الخالي المدلى على خصر الشرطي، وقوس أصابعه على هيئة مسدس صوبه للحاضرين وهو يصيح: (هاند أب).


ابتسم الشرطي العجوز، وقد أعجبته كلمة جنابك التي رددها الرجل مرتين بلا شك، وما كانت هيئته تغري بإطلاق تلك الكلمة الفخمة عليه، لكنها كما يبدو كانت المحرك الوحيد لرفع المعنويات في مهنة شاقة تؤدى بلا عدة ولا عتاد، وبراتب شهري أقل كثيرًا من إيراد يومي لمتسول في الطرق.



  • هل عندكم صمغ ؟


سمعت الشرطي يسأل.


-صمغ ؟


ردد العريس الذي كان يبدو قلقًا ومتلهفا لإنهاء تلك المعضلة، وتكملة مراسم زواجه بلا مشاكل إضافية، ولا بد أنه يفكر في تلك الزفة المسروقة التي ابتهج فيها ساعتين، وحتما ستكون حديث الناس في حي النور وأحياء أخرى مشابهة، وربما في المدينة كلها، أيامًا طويلة بعد ذلك.



  • نعم صمغ .. احضروا صمعا لو سمحتم.


في اللحظات التالية كان عدد من المتطوعين قد اقتحموا بيت العرس والبيوت المجاورة له، والتي كانت مفتوحة لإيواء الضيوف القادمين من أحياء أخرى، أو خارج المدينة، كما هي العادة في تلك الأحياء الشعبية، وجاء أحدهم بعد دقائق من الانتظار، بعلبة صغيرة صفراء مفتوحة، داخلها صمغ متجلط، بلل الشرطي إصبعه بلعابه، وضعه على الصمغ المتجلط، ودهن موضع الشريط المنفلت على كتفه، وألصقه، ثم وضع العلبة في جيبه من دون أن يطالبه أحد بردها . كدت أضحك برغم تلك الظروف كلها، لكنني كتمت ضحكتي، وألمح عز الدين يقف واجما كأنه اعتاد على تلك الحياة في حي يضج حياة.



  • اسمع.


كان الشرطي يخاطب العريس الذي كان ما يزال يتلفت باستمرار، ولا تستقر عيناه على جهة معينة، وعدد من الرجال المعممين، يلتفون حوله بملامح متحفزة:



  • سيكون الدكتور كريمًا جدًا بعد أن استرد عربته، ولن يقاضيكم، لكنني لست كريما.. أكمل زواجك وشهر عسلك، وتعال لمقابلتي في مركز الشرطة بعد ذلك لنتحدث قليلا عن استلام المال المسروق.. انتهى.


بالطبع صادر رأيي في تلك المعضلة من دون أن يستشيرني، وما كنتُ أرغب حقيقة في مقاضاة أحد، أو إفساد فرحة لأحد، وقد استرددت عربة العائلة سليمة بلا نقص، وأيضًا مغسولة ومزينة بالورد، لكن بالطبع لم تحل معضلة إدريس حتى الآن، وأسمع الشرطي يخاطبني:



  • هيا إلى القسم لتحرر بلاغًا ضد المدعو إدريس، وسنقبض عليه في أقرب وقت.


كنا نركب العربة مبتعدين، وقد عاد المغني المغمور إلى عزف عوده، وترديد أغنية (الشحم واللحم التي انقطعت عند مجيئنا، رأيت العريس يمسك بيد امرأة مزينة خرجت من أحد البيوت المفتوحة، لا بد أنها كانت عروسه يدخل بها إلى وسط الساحة الممتلئة، وجبران صاحب عربة (الكارو) التي أوصلتنا إلى مكان العرس والسرقة ينحشر وسط الفوضى، بعد أن التقط صحنا به بقايا أكل، غير عابئ بالصبية الذين انتهكوا صفائح الماء على ظهر عربته (الكارو)، أراقوها كلها على الأرض، وقفز بعضهم على ظهر الحمار في شقاوة خطرة، وحين وصلنا إلى قسم الشرطة بعد صراع مرير مع الأزقة والحفر، ومطاردة الكلاب التي تركض خلف العربة، كان عليّ أن أوقظ الشرطي العجوز الجالس بجانبي، فقد نام بعمق في رحلة لم تستغرق سوى دقائق معدودة.



  • عربة مريحة.


كان يردد بصوت خامد وهو ينزل من العربة، بينما زميله الشاب، ذو الكتف الخالية من الأشرطة، يخرج من القسم مسرعًا، يقف متصلبًا أمام الباب، ويرفع يده بتحية عسكرية كادت تضحكني.


Summarize English and Arabic text online

Summarize text automatically

Summarize English and Arabic text using the statistical algorithm and sorting sentences based on its importance

Download Summary

You can download the summary result with one of any available formats such as PDF,DOCX and TXT

Permanent URL

ٌYou can share the summary link easily, we keep the summary on the website for future reference,except for private summaries.

Other Features

We are working on adding new features to make summarization more easy and accurate


Latest summaries

Various methods...

Various methods have been described to chemically synthesize copper nanoparticles. A more modern sy...

يرى كثير من الم...

يرى كثير من المؤرخين أن الوقت قد حان لتناول تاريخ الاستعمار الأوروبي للقارة الأفريقية تناولا شموليا ...

البحوث المستقبل...

البحوث المستقبليه دراسة وتطوير تقنيات جديدة في مجال الروبوتات الجراحية، مثل تحسين الدقة والتحكم وت...

Increased compu...

Increased computing environment complexity increases vulnerability Personal computers connect to net...

انْقِدُوا شَجَر...

انْقِدُوا شَجَرَةَ الْأَرْز رَأَى الْمُهْتَمُونَ أَنَّ بَلَدَنَا الْمَغْرِبَ يُعْتَبَرُ مِنْ بَيْنِ ...

يمكن تمثيل جسم ...

يمكن تمثيل جسم الإنسان بالموصل المعزول فالبشرة الخارجية لجسم الإنسان تمثل عزل الموصل، فهي تمنع انتق...

### الوحدة الأو...

### الوحدة الأولى: مناخ العمل والرضا المهني #### مفهوم مناخ العمل ومفهوم الرضا الوظيفي - **مفهوم من...

الشركات الأمريك...

الشركات الأمريكية التي تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي ملزمة بالحفاظ على تلك السجلات، بما في ذلك البي...

الإسلامي العربي...

الإسلامي العربي إلا بعثت إلى القاهرة والإسكندرية بشيوخها وبطلاب العلم في هذه الحقب التي امتدت من الد...

تاراطإ HTML : ...

تاراطإ HTML : ىرخأ تاحفص بلجل وأ بيولا تاحفص ميسقتل ةقيرط يه تاراطلإا ةحفصلا نمض عقاوملا ةيبلاغف ...

الساحة الفنية ت...

الساحة الفنية تعتبر مكانًا مليئًا بالتنوع والرؤى المختلفة، وهذا يشمل أيضًا الأشرطة الغنائية. دعوني أ...

Cyber Security ...

Cyber Security Essentials Chapter_1 Dr. Sarah Mohamed 1 1.. IntroductionIntroduction to cyberto cybe...