Lakhasly

Online English Summarizer tool, free and accurate!

Summarize result (68%)

العقلانية -بمعنى التفسير العقلاني لكل شيء في الوجود، أو تمرير كل شيء في الوجود من قناة العقل لإثباته أو نفيه أو تحديد خصائصه- مذهب قديم في البشرية، ولقد ظلت الاتجاهات الفلسفية الإغريقية -التي تمثل العقلانية قسما بارزا منها- تسيطر على الفكر الأوروبي، فلم يعد العقل هو المرجع في قضايا الوجود إنما صار هو الوحي -كما تقدمه الكنيسة- وانحصرت مهمة العقل في خدمة ذلك الوحي في صورته الكنسية تلك ومحاولة تقديمه في ثوب "معقول"!
يقول الدكتور محمد البهي في كتابه "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي": "كان الدين أو النص طوال القرون الوسطى سائدا في توجيه الإنسان في سلوكه وتنظيم جماعته، "الكثلكة" وكانت الكثلكة تعبر عن "البابوية" والبابوية نظام كنسي ركز "السلطة العليا" باسم الله في يد البابا، وسوى في الاعتبار بين نص الكتاب المقدس وأفهام الكنيسة الكاثوليكية"[1]. فلم يكن "الفكر الديني" من حيث المبدأ، إنما كان الخلل كامنا في ذلك الفكر الذي قدمته الكنيسة باسم الدين، ومزج ذلك كله بعضه إلى بعض وتقديمه باسم الوحي. لم تكن هي في ذاتها بريئة من الخلل ولا سليمة من العيوب، ولا كانت في صورتها التي قدمها فلاسفة الإغريق القدامى زادا صالحا لحياة إنسانية مستقيمة راشدة، على الرغم من كل ما احتوته من إبداع فكري في بعض جوانبها. وإنما ظل الفكر الأوروبي في الحقيقية يتنقل من جاهلية إلى جاهلية حتى عصره الحاضر. فمن الجاهلية الإغريقية والرومانية، إلى جاهلية الدين الكنسي المحرف في العصور الوسطى، إلى جاهلية عصر الأحياء، إلى جاهلية عصر "التنوير" إلى جاهلية الفلسفة الوضعية، إنما يهمنا فقط أن نتابع خط العقلانية في ذلك الفكر، كانت العقلانية الإغريقية لونا من عبادة العقل وتأليهه، كما كانت في الوقت نفسه لونا من تحويل الوجود كله إلى "قضايا" تجريدية مهما يكن من صفائها وتبلورها فهي بلا شك شيء مختلف عن الوجود ذاته، بمقدار ما يختلف "القانون" الذي يفسر الحركة عن الحركة ذاتها، وبمقدار ما تختلف البلورة عن السائل الذي نتجت عنه. قضايا تعالج معالجة كاملة في الذهن بصرف النظر عن وجودها الواقعي! وبصرف النظر عن كون وجودها الواقعي يقبل ذلك التفسير العقلاني في الواقع أو لا يقبله، وكان أشد ما يبدو فيه هذا الانحراف معالجة تلك الفلسفة "لقضية"الألوهية و"قضية" الكون المادي وما بينهما من علاقة، فأول انحراف هو محاولة إقحام العقل فيما ليس من شأنه أن يلم به فضلا عن أن يحيط بكنهه في قضية الذات الإلهيةز فمن باب احترام العقل لذاته ومعرفته لطبيعته وحدود مقدرته، ما كان لهذا العقل أن يقتحم ميدانا ليس بطبيعته مؤهلا لاقتحامه، ولا قدرة له على الخوض فيه. إن المحدود لا يتسنى له أن يحيط بغير المحدود، والفاني لا قدرة له على الإحاطة بحقيقة الأزل والأبد حيث لا بداية ولا نهاية ولا حدود، وأن يدرك أنه يمكن أن يوجد على هذه الصورة. وهي التي نقول إن احترام العقل لذاته ومعرفته لطبيعته وحدود مقدرته هي التي توجب عليه أن يتجنب الخوض فيها؛ لأنه لن يصل فيها إلى شيء له اعتبار. وليس معنى هذا أن "الدين" كله أمر خارج عن نطاق العقل، إنما يدخل العقل إلى هذا الميدان من بابه الذي هو مؤهل بطبيعته أن يدخل منه، لا من الباب الذي لا يقدر على فتحه، والذي يضل فيه لو اقتحمه بغير أداته، يدخل من باب إدراك آثار القدرة الإلهية والاستدلال من هذه الآثار على وجود الله ومعرفة صفاته التي يتفرد بها دون الخلق، ولكن لا يدخل من باب "الكنه" الذي لا يقدر عليه ولا يصل إلى نتيجة فيه[1]. فظل يدور في القفل ويدور دون أن يصل إلى فتحه، فهل تظل تقول إن هذا المفتاح صالح لكل شيء، ولا بد أن تفتح به جميع الأبواب، ولو بقيت الدهور تدير المفتاح في القفل فلا يفتح لك الباب؟! أم تتواضع أمام الأمر الواقع وتقر بأن هذا المفتاح لا يصلح لذلك الباب، ليس العيب في القفل ولا في المفتاح! إنما العيب في أنك أنت تحاول أن تقتحم به بابا لا يقدر على اقتحامه!وحين أصرت الفلسفة اليونانية -ومن تبعها بعد من فلاسفة النصارى وفلاسفة المسلمين- أن يقتحموا باب الكنه بمفتاح العقل، فقد وصلوا جميعا إلى ذلك التخبط الذي يملأ كتب الفلسفة كلها من أول التاريخ إلى آخر التاريخ!
يصف إلهه -بعقله- على هذه الصورة:
يقول "العقاد" في كتاب "حقائق الإسلام وأباطيل خصومه":
"ومذهب أرسطو في الإله إنه كائن أزلي أبدي مطلق الكمال لا أول له ولا آخر ولا عمل له ولا إرادة. وقد كانت الإرادة اختيارا بين أمرين، والله قد اجتمع عنده الأصلح والأفضل من كل كمال فلا حاجة به إلى الاختيار بين صالح وغير
وليس مما يناسب الإله في رأي أرسطو أن يبتدي العمل في زمان؛ لأنه أبدي سرمدي ولا يطرأ عليه طارئ يدعوه إلى العمل، وكل ما يناسب كماله فهو السعادة بنعمة بقائه التي لا بغية وراءها ولا نعمة فوقها ولا دونها، "فالإله الكامل المطلق الكمال لا يعنيه أن يخلق العالم أو يخلق مادته الأولى وهي "الهيولى". قابلة للوجود يخرجها من القوة إلى الفعل شوقها إلى الوجود الذي يفيض عليها من قبل الإله، فيدفعها هذا الشوق إلى الوجود، ثم يدفعها النقص إلى الكمال المستطاع في حدودها، فتتحرك بما فيها من الشوق والقابلية، ولا يقل عنها إنها من خلقة الله إلا أن تكون الخلقة على هذا الاعتبار"[1]. ويعلق العقاد -بصدق- على هذا التصور فيقول:
أو كمال مطلق يوشك أن يكون هو والعدم المطلق على حد سواء . والانحراف الثاني هو تحويل الموضوع كله إلى قضايا فلسفية ذهنية بحتة، إن موضوع الألوهية ليس موضوعا فلسفيا بالصورة التي تتناوله بها الفلسفة، الفرق بين الفلسفة والعقيدة أن الفلسفة تخاطب الذهن وحده، تبدأ من هناك وتنتهي هناك . أما العقيدة فتخاطب الكيان الإنساني كله: عقله وجسمه وروحه وكل شيء فيه. إنها لا تسكن كما تسكن الفكرة في الذهن، ولا تتحرك حول نفسها في الفراغ كما تتحرك الفكرة في الذهن إن تحركت، إنما هي دائما تدفع الإنسان إلى "سلوك" معين ينبثق منها ويتناسق معها. وإلى "حركة" معينة وجدانية وسلوكية وفكرية في عالم الواقع. ومن ثم لم تكن الفلسفة قط من وسائل الهداية للبشرية! إن غاية ما يمكن أن تصل إليه هو نوع من المتعة العقلية عند هواة هذا اللون من المتعة، والقليلون الذين يجدون فيها المتعة العقلية ينتهي بهم الأمر إلى هذا المتاع الذاتي ولا زيادة. أو إن تحركوا فلا تزيد حركتهم على محاولة إحداث هذه المتعة عند مجموعة قليلة حولهم. إنها لا تهدف إلى إحداث "سلوك" معين في واقع حياة الناس، ونظرة سريعة إلى واقع المجتمع الإغريقي الذي عاش فيه أولئك الفلاسفة والمفكرون الكبار تبين هذه الحقيقة بوضوح، فما كانت هناك صلة على الإطلاق بين "أفكار" هؤلاء الفلاسفة و"واقع" الناس. هؤلاء يتكلمون في "الحكمة" وفي السلوك الإنساني "كما ينبغي أن يكون" والمجتمع غارق في كل أنواع الفسق والرذيلة والفساد والظلم, لا يعني نفسه بشيء مما يملأ "أذهان" أولئك المفكرين. أما العقيدة فلها شأن آخر. ولكن لا من أجل المتعة العقلية كما تصنع الفلسفة، أو أقل إنها تركز خطابها مع الوجدان -وإن كانت قط لا تهمل مخاطبة العقل- لأن الوجدان هو الأداة المثلى لتحويل قيم العقيدة ومبادئها إلى سلوك عملي؛ فهو الأقدر على تلقيالشحنة العقيدية، وهو الأقدر على ترجمتها في صورة واقعية حية؛ لأن من طبيعته أن ينفعل بما يتلقى ويشع من هذا الانفعال في داخل النفس يقينا اعتقاديا من جهة، وتوجها متحركا يتناسق مع هذا اليقين من جهة أخرى. ولذلك كانت العقيدة الحية دائما هي التي تنشئ الأمم وتحكم السلوك البشري، وكانت دائما هي سبيل الهداية للبشرية. ويحدث ولا شك تفلت من المقتضيات السلوكية للعقيدة في صورة معاص وانحرافات، ولكن يظل الأمر في أسوأ حالاته مختلفا عن الشأن مع الفلسفة، فمع العقيدة هناك ارتباط قوي في أصله يمكن أن يطرأ عليه الضعف, ومع الفلسفة لا يوجد ارتباط على الإطلاق. وليس معنى ذلك أنه محرم على الفلسفة -أو الفكر- أن يتناوله. ولكنه حين يتناوله على النحو الذي تناولته به الفلسفة الإغريقية العقلانية، وتبعها فيه فلاسفة النصارى فيما يعرف "باللاهوت" وفلاسفة المسلمين فيما يسمى "الفلسفة الإسلامية" أيك التناول الذهني التجريدي الخالص، يكون قد انحرف به عن طريقه الأصيل, وحوله إلى "كلام" و"أفكار" لا تنشئ سلوكا واقعيا، وعدم الرجوع فيها إلى المصدر اليقيني الأوحد وهو الوحي الرباني، فهو تخبط الفلاسفة فيما بينهم وتعارض ما يقوله كل واحد منهم مع ما يقوله الآخر. فما دام "العقل" هو المحكم في هذه القضية, فعقل من؟! إن العقل المطلق أو العقل المثالي تجريد لا وجود له في عالم الواقع! إنما الموجود في الواقع هو عقل هذا المفكر وذاك المفكر.


Original text

العقلانية:
العقلانية -بمعنى التفسير العقلاني لكل شيء في الوجود، أو تمرير كل شيء في الوجود من قناة العقل لإثباته أو نفيه أو تحديد خصائصه- مذهب قديم في البشرية، يبرز أشد ما يبرز في الفلسفة الإغريقية القديمة، ويمثله أشد ما يمثله سقراط وأرسطو.
ولقد ظلت الاتجاهات الفلسفية الإغريقية -التي تمثل العقلانية قسما بارزا منها- تسيطر على الفكر الأوروبي، حتى جاءت المسيحية الكنسية فغيرت مجرى ذلك الفكر في انعطافة حادة تكاد تكون مضادة لمجراه الأول الذي استغرق من تاريخ الفكر الأوروبي عدة قرون. فلم يعد العقل هو المرجع في قضايا الوجود إنما صار هو الوحي -كما تقدمه الكنيسة- وانحصرت مهمة العقل في خدمة ذلك الوحي في صورته الكنسية تلك ومحاولة تقديمه في ثوب "معقول"!
يقول الدكتور محمد البهي في كتابه "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي": "كان الدين أو النص طوال القرون الوسطى سائدا في توجيه الإنسان في سلوكه وتنظيم جماعته، وفي فهمه للطبيعة، وكان يقصد بالدين "المسيحية" وكان يراد من المسيحية، "الكثلكة" وكانت الكثلكة تعبر عن "البابوية" والبابوية نظام كنسي ركز "السلطة العليا" باسم الله في يد البابا، وقصر حق تفسير "الكتاب المقدس" على البابا وأعضاء مجلسه من الطبقة الروحية الكبرى، وسوى في الاعتبار بين نص الكتاب المقدس وأفهام الكنيسة الكاثوليكية"[1].
وقد نشأت عن ذلك في الحياة الأوروبية والفكر الأوروبي مجموعة من الاختلالات عرضنا لبعضها في الفصول السابقة, وقد نعرض لها أو لغيرها مرة أخرى في هذا الفصل، ولكنا نبادر هنا فنقول إن هذه الاختلالات لم تنشأ -كما تصور الفكر الأوروبي في مبدأ عصر النهضة- من إهمال الفلسفة والعلوم الإغريقية والالتجاء إلى الفكر "الديني". فلم يكن "الفكر الديني" من حيث المبدأ، ولا إخضاع العقل للوحي هو مصدر الخلل في فكر العصور الوسطى في أوروبا، إنما كان الخلل كامنا في ذلك الفكر الذي قدمته الكنيسة باسم الدين، وفي إخضاع العقل لما زعمت الكنيسة أنه الوحي، بعد تحريفها ما حرفت منه، وإضافتها ما أضافت إليه، ومزج ذلك كله بعضه إلى بعض وتقديمه باسم الوحي.
والفلسفة الإغريقية التي ظنت أوروبا في عصر النهضة أن ضلالها في العصور الوسطى كان بسبب إهمالها، وأن العلاج هو الرجوع إليها والاستمداد منها، لم تكن هي في ذاتها بريئة من الخلل ولا سليمة من العيوب، ولا كانت في صورتها التي قدمها فلاسفة الإغريق القدامى زادا صالحا لحياة إنسانية مستقيمة راشدة، على الرغم من كل ما احتوته من إبداع فكري في بعض جوانبها.. وإنما ظل الفكر الأوروبي في الحقيقية يتنقل من جاهلية إلى جاهلية حتى عصره الحاضر. فمن الجاهلية الإغريقية والرومانية، إلى جاهلية الدين الكنسي المحرف في العصور الوسطى، إلى جاهلية عصر الأحياء، إلى جاهلية عصر "التنوير" إلى جاهلية الفلسفة الوضعية، إلى جاهلية المعاصرة.
وليس همنا في هذا الفصل أن نستعرض انحرافات الفكر الغربي في جاهلياته المتتابعة، إنما يهمنا فقط أن نتابع خط العقلانية في ذلك الفكر، ثم نخص بالحديث العقلانية المعاصرة.
كانت العقلانية الإغريقية لونا من عبادة العقل وتأليهه، وإعطائه حجما مزيفا أكبر بكثير من حقيقته، كما كانت في الوقت نفسه لونا من تحويل الوجود كله إلى "قضايا" تجريدية مهما يكن من صفائها وتبلورها فهي بلا شك شيء مختلف عن الوجود ذاته، بحركته الموارة الدائمة، بمقدار ما يختلف "القانون" الذي يفسر الحركة عن الحركة ذاتها، وبمقدار ما تختلف البلورة عن السائل الذي نتجت عنه.. قضايا تعالج معالجة كاملة في الذهن بصرف النظر عن وجودها الواقعي! وبصرف النظر عن كون وجودها الواقعي يقبل ذلك التفسير العقلاني في الواقع أو لا يقبله، ويتمشى معه أو يخالفه!
وكان أشد ما يبدو فيه هذا الانحراف معالجة تلك الفلسفة "لقضية"الألوهية و"قضية" الكون المادي وما بينهما من علاقة، ويتشعب هذا الانحراف شعبا كثيرة في وقت واحد.
فأول انحراف هو محاولة إقحام العقل فيما ليس من شأنه أن يلم به فضلا عن أن يحيط بكنهه في قضية الذات الإلهيةز فمن باب احترام العقل لذاته ومعرفته لطبيعته وحدود مقدرته، ما كان لهذا العقل أن يقتحم ميدانا ليس بطبيعته مؤهلا لاقتحامه، ولا قدرة له على الخوض فيه.
إن المحدود لا يتسنى له أن يحيط بغير المحدود، والفاني لا قدرة له على الإحاطة بحقيقة الأزل والأبد حيث لا بداية ولا نهاية ولا حدود، إنما يستطيع العقل أن "يتصور" ذلك لونا من التصور، وأن يدرك أنه يمكن أن يوجد على هذه الصورة..أما أن يحيط "بكنهه" على أي نحو من الأنحاء فقضية أخرى خارجة عن نطاق العقل، وهي التي نقول إن احترام العقل لذاته ومعرفته لطبيعته وحدود مقدرته هي التي توجب عليه أن يتجنب الخوض فيها؛ لأنه لن يصل فيها إلى شيء له اعتبار.
وليس معنى هذا أن "الدين" كله أمر خارج عن نطاق العقل، أو أن الاعتقاد في وجود الله ومعرفة صفاته أمر لا نصيب فيه للعقل.
كلا.. إنما يدخل العقل إلى هذا الميدان من بابه الذي هو مؤهل بطبيعته أن يدخل منه، لا من الباب الذي لا يقدر على فتحه، والذي يضل فيه لو اقتحمه بغير أداته، يدخل من باب إدراك آثار القدرة الإلهية والاستدلال من هذه الآثار على وجود الله ومعرفة صفاته التي يتفرد بها دون الخلق، ولكن لا يدخل من باب "الكنه" الذي لا يقدر عليه ولا يصل إلى نتيجة فيه[1].
أرأيت لو أنك أدخلت مفتاحا في قفل أكبر منه، فظل يدور في القفل ويدور دون أن يصل إلى فتحه، فهل تظل تقول إن هذا المفتاح صالح لكل شيء، ولا بد أن تفتح به جميع الأبواب، ولو بقيت الدهور تدير المفتاح في القفل فلا يفتح لك الباب؟! أم تتواضع أمام الأمر الواقع وتقر بأن هذا المفتاح لا يصلح لذلك الباب، وتبحث له عن مفتاح آخر يناسبه، وتحتفظ بمفتاحك للباب الذي يحسن فتحه!
ليس العيب في القفل ولا في المفتاح! إنما العيب في أنك أنت تحاول أن تقتحم به بابا لا يقدر على اقتحامه!وحين أصرت الفلسفة اليونانية -ومن تبعها بعد من فلاسفة النصارى وفلاسفة المسلمين- أن يقتحموا باب الكنه بمفتاح العقل، فقد وصلوا جميعا إلى ذلك التخبط الذي يملأ كتب الفلسفة كلها من أول التاريخ إلى آخر التاريخ!
لا جرم أن تجد أرسطو، الذي يعتبره دارسو الفلسفة أعظم "عقل" في التاريخ القديم, يصف إلهه -بعقله- على هذه الصورة:
يقول "العقاد" في كتاب "حقائق الإسلام وأباطيل خصومه":
"ومذهب أرسطو في الإله إنه كائن أزلي أبدي مطلق الكمال لا أول له ولا آخر ولا عمل له ولا إرادة. منذ كان العمل طلبا لشيء والله غني عن كل طلب، وقد كانت الإرادة اختيارا بين أمرين، والله قد اجتمع عنده الأصلح والأفضل من كل كمال فلا حاجة به إلى الاختيار بين صالح وغير
صالح ولا بين فاضل ومفضول، وليس مما يناسب الإله في رأي أرسطو أن يبتدي العمل في زمان؛ لأنه أبدي سرمدي ولا يطرأ عليه طارئ يدعوه إلى العمل، ولا يستجد عليه من جديد في وجوده المطلق بلا أول ولا آخر ولا جديد ولا قديم، وكل ما يناسب كماله فهو السعادة بنعمة بقائه التي لا بغية وراءها ولا نعمة فوقها ولا دونها، ولا تخرج عن نطاقها عناية تعنيه".
"فالإله الكامل المطلق الكمال لا يعنيه أن يخلق العالم أو يخلق مادته الأولى وهي "الهيولى".. ولكن هذه "الهيولى", قابلة للوجود يخرجها من القوة إلى الفعل شوقها إلى الوجود الذي يفيض عليها من قبل الإله، فيدفعها هذا الشوق إلى الوجود، ثم يدفعها النقص إلى الكمال المستطاع في حدودها، فتتحرك بما فيها من الشوق والقابلية، ولا يقل عنها إنها من خلقة الله إلا أن تكون الخلقة على هذا الاعتبار"[1].
ويعلق العقاد -بصدق- على هذا التصور فيقول:
"كمال مطلق لا يعمل ولا يريد ... أو كمال مطلق يوشك أن يكون هو والعدم المطلق على حد سواء ... "[2].
والانحراف الثاني هو تحويل الموضوع كله إلى قضايا فلسفية ذهنية بحتة، تبدأ في العقل وتنتهي في العقل، ويثبت ما يثبت منها وينفي ما ينفى بالعقل، فلا تمس الوجدان البشري، ولا تؤثر في سلوك الإنسان العملي، فتفقد قيمتها في واقع الحياة ...إن موضوع الألوهية ليس موضوعا فلسفيا بالصورة التي تتناوله بها الفلسفة، إنما هو موضوع "العقيدة". الفرق بين الفلسفة والعقيدة أن الفلسفة تخاطب الذهن وحده، تبدأ من هناك وتنتهي هناك ... ولا تتجاوز الذهن إلى الواقع الحي الذي يعيشه الإنسان في الأرض، أما العقيدة فتخاطب الكيان الإنساني كله: عقله وجسمه وروحه وكل شيء فيه. إنها لا تسكن كما تسكن الفكرة في الذهن، ولا تتحرك حول نفسها في الفراغ كما تتحرك الفكرة في الذهن إن تحركت، إنما هي دائما تدفع الإنسان إلى "سلوك" معين ينبثق منها ويتناسق معها. وإلى "حركة" معينة وجدانية وسلوكية وفكرية في عالم الواقع.
ومن ثم لم تكن الفلسفة قط من وسائل الهداية للبشرية! إن غاية ما يمكن أن تصل إليه هو نوع من المتعة العقلية عند هواة هذا اللون من المتعة، وهم بطبيعتهم محدودون، ولكنها -وحدها- لم تنشئ قط أمة ولم تحرك أمة. والقليلون الذين يجدون فيها المتعة العقلية ينتهي بهم الأمر إلى هذا المتاع الذاتي ولا زيادة. أو إن تحركوا فلا تزيد حركتهم على محاولة إحداث هذه المتعة عند مجموعة قليلة حولهم.. ولا زيادة. إنها لا تهدف إلى إحداث "سلوك" معين في واقع حياة الناس، ولا تملك ذلك. ونظرة سريعة إلى واقع المجتمع الإغريقي الذي عاش فيه أولئك الفلاسفة والمفكرون الكبار تبين هذه الحقيقة بوضوح، فما كانت هناك صلة على الإطلاق بين "أفكار" هؤلاء الفلاسفة و"واقع" الناس. هؤلاء يتكلمون في "الحكمة" وفي السلوك الإنساني "كما ينبغي أن يكون" والمجتمع غارق في كل أنواع الفسق والرذيلة والفساد والظلم, لا يعني نفسه بشيء مما يملأ "أذهان" أولئك المفكرين.
أما العقيدة فلها شأن آخر..
إنها تخاطب العقل فيما تخاطبه من كيان الإنسان، ولكن لا من أجل المتعة العقلية كما تصنع الفلسفة، بل من أجل إحداث الوعي اللازم بحقيقة الألوهية، الذي يترتب عليه الوعي بالالتزام الواجب تجاه تلك الحقيقة ... أي: الالتزام بمقام العبودية، الذي يستلزم الحب والخشية والطاعة والاستقامة على أمر الله.
ثم إنها تخاطب الوجدان ... أو أقل إنها تركز خطابها مع الوجدان -وإن كانت قط لا تهمل مخاطبة العقل- لأن الوجدان هو الأداة المثلى لتحويل قيم العقيدة ومبادئها إلى سلوك عملي؛ لأنه حي منفعل متحرك. فهو الأقدر على تلقيالشحنة العقيدية، وهو الأقدر على ترجمتها في صورة واقعية حية؛ لأن من طبيعته أن ينفعل بما يتلقى ويشع من هذا الانفعال في داخل النفس يقينا اعتقاديا من جهة، وتوجها متحركا يتناسق مع هذا اليقين من جهة أخرى.
ولذلك كانت العقيدة الحية دائما هي التي تنشئ الأمم وتحكم السلوك البشري، وكانت دائما هي سبيل الهداية للبشرية.
، ويحدث ولا شك تفلت من المقتضيات السلوكية للعقيدة في صورة معاص وانحرافات، ولكن يظل الأمر في أسوأ حالاته مختلفا عن الشأن مع الفلسفة، فمع العقيدة هناك ارتباط قوي في أصله يمكن أن يطرأ عليه الضعف, ومع الفلسفة لا يوجد ارتباط على الإطلاق.
وموضوع الأولهية هو أصلا موضوع العقيدة ... أو هو موضوع "العقيدة" باعتبار الإنسان كائنا معتقدا بطبعه، عابدا بفطرته، حتى إن ضلت هذه الفطرة عن طريقها السوي لسبب من الأسباب، وليس معنى ذلك أنه محرم على الفلسفة -أو الفكر- أن يتناوله. ولكنه حين يتناوله على النحو الذي تناولته به الفلسفة الإغريقية العقلانية، وتبعها فيه فلاسفة النصارى فيما يعرف "باللاهوت" وفلاسفة المسلمين فيما يسمى "الفلسفة الإسلامية" أيك التناول الذهني التجريدي الخالص، يكون قد انحرف به عن طريقه الأصيل, وحوله إلى "كلام" و"أفكار" لا تنشئ سلوكا واقعيا، ولا تغير شيئا في حياة الناس.. فيتحول إلى زبد لا ينفع.
{.
وأما الانحراف الثالث الناشئ من التناول العقلاني لقضية الألوهية، وعدم الرجوع فيها إلى المصدر اليقيني الأوحد وهو الوحي الرباني، فهو تخبط الفلاسفة فيما بينهم وتعارض ما يقوله كل واحد منهم مع ما يقوله الآخر.
ولا عجب في ذلك، فما دام "العقل" هو المحكم في هذه القضية, فعقل من؟! إن العقل المطلق أو العقل المثالي تجريد لا وجود له في عالم الواقع! إنما الموجود في الواقع هو عقل هذا المفكر وذاك المفكر. ولكل منهم طريقته الخاصة في "تعقل" الأمور، ولكل منهم "نوازعه" الخاصة التي يحسبها بعيدة عن


Summarize English and Arabic text online

Summarize text automatically

Summarize English and Arabic text using the statistical algorithm and sorting sentences based on its importance

Download Summary

You can download the summary result with one of any available formats such as PDF,DOCX and TXT

Permanent URL

ٌYou can share the summary link easily, we keep the summary on the website for future reference,except for private summaries.

Other Features

We are working on adding new features to make summarization more easy and accurate


Latest summaries

الإيمان باليوم ...

الإيمان باليوم الآخر هو الرّكن الخامس من أركان الإيمان، وهو أن يؤمن العبد إيمانا جازما بأن هناك حياة...

لا تخفى أهمِّيّ...

لا تخفى أهمِّيَّـةُ الطاقـةِ في تطوُّرِ التِّكنولوجيا وأشكالِ الإنتاجِ في العالَمِ، فإذا كانَ منَ ال...

تعد اللغة من أه...

تعد اللغة من أهم العوامل التي تساعد في تنمية شتى مهارات الطفل، حيث تكسبه القدرة على التعبير عن حاجات...

تعتبر التجارة ا...

تعتبر التجارة الإلكترونية من الظواهر الحديثة التي غيرت مفهوم التجارة التقليدية ، وأثرت بشكل كبير علي...

.إن الإصابة بمر...

.إن الإصابة بمرض القصور الكلوي المزمن كثيرا ما يكون نتيجة الأمراض أخرى كالإصابة بمرض السكري، أو إرتف...

طلاء الأكريليك ...

طلاء الأكريليك عادة ما يحتوي على مركبات البوليمر الأكريليك، والتي يمكن أن تكون مختلفة باختلاف الصيغة...

A/ LES PREMIERS...

A/ LES PREMIERS CONTACTS AVEC LE F.L.N : Abderrahmane Farés, même qu’il n’était pas au courant des p...

وهو ما فتح من ش...

وهو ما فتح من شهية المحترفين بشتى أنواعهم ، إلى غزو عقول المستهلكين ، مستهدفين الربح السريع بغض النظ...

horizontal flow...

horizontal flow: supports operations-level tasks with highly detailed information about the many bus...

كان محمد سعيدا ...

كان محمد سعيدا جدا و هو يخطط لاجازة ممتعة مع والديه و اخته الصغيرة فسيزور عمته التي تسكن في مدينة خو...

تؤكد النظرية ال...

تؤكد النظرية الإنسانية في الاستشارة الزوجية على أهمية النمو الشخصي، والوعي الذاتي، وتحقيق إمكانات كل...

العالقه بين مها...

العالقه بين مهارات االتصال واستكشاف األخطاء وإصالحها تأسيس مهارات تواصل جيدة • االستماع إلى العميل...