Lakhasly

Online English Summarizer tool, free and accurate!

Summarize result (Using the clustering technique)

فلنبدأ بالإعلام في هذه الفترة إتخذ اهتمام وسائل الإعلام بي تجاوز كل الحدود المعقولة ) والمقبولة ! ) .
كنت أقول،
ولا يصدقني أحد أني أنا،
حتى أنا ،
سئمت رؤية صوري وأخباري على كل صفحة من كل جريدة .
قال لي ولي العهد الأمير عبد الله بصراحته المعهودة مرة : " لا أرى في الجرائد شيئاً غير أخبارك ".
قلت لولي العهد : " خرج الأمر من يدي ".
قبلها ،
بفترة وجيزة ،
كتبت رسالة شخصية إلى كل رؤساء الصحف أشرح فيها أن هذا الإهتمام بدأ يسبب لي الكثير من المشاكل وأرجو ألا ينشروا سوى بيانات الوزارة الرسمية.
كان يجب أن أتوقع رد الفعل.
الصحة يطلب من الصحف عدم نشر أخباره".
كان الكثيرون ،
وأحسبهم لا يزالون يعتقدون أن كل ما تنشره الصحف عني كان ينشر بناء على ترتيب مسبق.
كان الصديق عمران العمران أحـد هـؤلاء.
صادف أن زرته في عطلة نهاية الأسبوع في مدينة الهفوف،
وكانت الزيارة للراحة والإستجمام.
خلال عبورنا بالمدينة ثار الموضوع وأعرب عمران عن إعتقاده أني أخبر الصحف،
مسبقاً،
قبل أي زيارة مفاجئة " أقوم بها لأي مستشفى .
أثناء هذا الحديث كنا نمر أمام مستشفى الملك فهد.
طلبت منه أن يوقف السيارة.
قلتُ له: "تعال معي وانظر بنفسك.
أنت تعرف أن هذه زيارة خاصة في العطلة.
وأنت تعرف أني لم أكن أنوي أن أزور أي مستشفى وأنت تعرف أن أحداً لم يرتب شيئاً " .
جاء معي عمران بالفعل،
وبدأت الجولة في الدور الأول،
كالعادة،
لم يكد يعرفني أحد.
في الدور الثاني،
بدأ بعض المرضى وبعض العاملين في المستشفى يتعرفون علي.
في الدور الثالث،
كان كل من في المستشفى يدرك أن وزير الصحة موجود في المبنى.
صحفيين.
في اليوم التالي كانت أخبار الزيارة تملأ أكثر من صفحة في أكثر من صحيفة مع الصور والتعليقات.
لا يحتاج المرء إلى ذكاء ثاقب ليعرف التأثيرات السلبية لهذه التغطية الإعلامية المحمومة من القواعد الذهبية التي التزم بها ما استطعت: عامل الناس بمثل ما تحب أن يعاملوك به،
وأنا لم أكن لأحب أن يعاملني وزير آخر،
عبر الإعلام،
بهذه الطريقة.
لم أكن لأحب أن أقرأ الصحف فأراها تتجاهلني وتركز على أخبار الوزير الآخر.
و لم أكن لأحب أن أجد مقالا يطالب فيه كاتبه بالوزير الآخر وزيراً لكل وزارة بما في ذلك وزارتي.
ماذا حدث؟ كيف تحول الإهتمام الإعلامي الذي بدأ منذ سنين في هذه المرحلة،
إلى ما يشبه الهوس؟ الجواب بسيط : ظاهرة النجم.
إذا تحوّل المرأ،
لأي سبب من الأسباب،
إلى نجم يتحول إلى مادة إعلامية مثيرة شاء أو لم يشأ،
غضب أو رضي،
فعل شيئاً أو لم يفعل.
كنت في هذه المرحلة ،
بلا تواضع كاذب ،
نجماً أو شبه نجم.
عندما قلتُ لولي العهد : " خرج الأمر من يدي " لم أكن أكذب أو أبالغ.
انقلب السحر بالفعل،
على الساحر.
هنا نصيحة للإداري الناشيء: الإعلام سلاح فعال ولكنه ككل الأسلحة ،
سلاح ذو حدين.
وكانت ،
هناك ،
المقارنات.
قرأتُ ،
مرة في كتاب من كتب علم النفس أن المقارنات التي يجريها الأب بين أبنائه " لماذا لا تكون أول الفصل مثل أخيك الصغير ؟" أو " لماذا لا تصبح عضوا في فريق الكرة مثل أخيك الكبير ؟ " هي مقارنات " قاتلة " إذا أخذنا ،
بعين الاعتبار ،
تأثيرها المدمر على نفسية المقارن والمقارن به على حد سواء.
أذهب أبعد من ذلك فأقول أن أي مقارنة هي،
على نحو أو آخر،
مقارنةً قاتلة.
استطيع أن أتحمل ثناء الناس على وزير آخر ولكني لا أستطيع أن أتحمّل تعليقاً يلومني لأني لا أتصرف كما يتصرّف الوزير الآخر.
أخبرني وزيرا صحة من دولتين مجاورتين ووزير صحة من دولة غير محاورة أني سببت لهم الكثير من الحرج.
عندما تساءلت عن السبب قالوا : " كل الناس يقولون لنا : " لماذا لا تفعلون ما يفعله وزير الصحة السعودي ؟ " " .
لم أكن يعلم الله،
أتعمد إحراج أحد في أي مكان.
وكانت هناك،
الشعبية.
كنت أتوقع عندما توليت وزارة الصحة أن أكون أقل الناس شعبية كنت أتوقع أن يتساءل الناس كما فعلوا في المرة الأولى : " ماذا فعل لنا الوزير الجديد؟ " الحق أقول أني كنت أول من فوجيء بالشعبية التي انفجرت من الشهر الأول.
كل من أراه،
تقريباً،
كان يتحدث عن عجائز في البيت يدعين لي.
اللهم إيمانا كإيمان العجائز ! واللهم تقبل دعاء العجائز ! الأعداد التي تحضر مناسبات الافتتاح تضاعفت.
إنهمرت رسائل الإعجاب - وقصائده.
وزاد عدد المواطنين الذين يعبرون عن حبهم بإطلاق إسمي على مواليدهم.
ومع الشعبية ولدت الأسطورة.
والأسطورة،
كما نعرف،
تقوم على جزء يسير من الحقيقة وجزء كبير من الخيال.
بدأت أسطورة الوزير الذي يظهر في كل مكان،
ولا يهاب التعامل مع موظف "مدعوم " ،
وينتصف للمواطن المظلوم من الجهاز الظالم .
بدأت أتلقى مكالمات هاتفية من جيزان تشكرني على الزيارة التي قمت بها " البارحة " لمستشفى جيزان.
وبدأت أتلقى برقيات الشكر من تبوك على الزيارة التفقدية التي قمت بها " هذا الأسبوع " للمرافق الصحية في تبوك.
الحقيقة كانت أنني لم أزر جيزان أو تبوك في تلك الفترة.
بدأ الناس،
مراجعين وموظفين ،
يرونني حيث لم أكن موجوداً ذات مساء كنت أزور مستوصفا في " الروضة ".
جلس الزميل السائق مع المواطنين الذين ينتظرون دورهم للدخول على الطبيب قال أحدهم : " هذا وزير الصحة".
وقال الثاني : " في الأسبوع الماضي رأيته في مستوصف في " الديرة".
جاء بعد نصف الليل ملثماً وفي سيارة تاكسي "تويوتا"،
وفصل جميع العاملين في المستوصف".
وقال الثالث : " وأنا رأيته بنفسي قبل أسبوعين.
زار المستوصف في " البطحة " ملتما " .
حقيقة الأمر أني لم أزر هذين المكانين،
و لم أستخدم سيارة تاكسي قط،
ولم أتلثم قـط.
أخذت حكاية اللثام تتكرر وتتكرر.
أعتقد أن أصلها يعود إلى أسطورة أخرى،
أسطورة الفارس الملثم.
إذا كانت الشعبية تؤدي إلى السعادة فلا بد أنني أختلف عن بقية البشر.
كانت الفترة التي قضيتها في وزارة الصحة أتعس فترات حياتي على الإطلاق.
لا إبالغ إذا قلت أني لا أذكر يوماً واحداً سعيداً من تلك الفترة.
كــل أصدقائي الذي يعرفونني،
عن كثب،
لاحظوا أني كنت،
وقتها ،
أعاني الكآبة الدائمة.
كل أصدقائي الحقيقيين تمنوا لي الخروج حرصاً على صحتي ( أمـا الآخرون فتمنوا الخروج لأسباب أخرى ! ).
الكآبة تطل من كل مكان.
هناك،
أولاً،
الخوف من هول المسئولية.
عندما يتأخر القطار لا يموت أحد.
وعندما يخسر المصنع لا يموت أحد.
وعندما تنقطع الكهرباء لا يموت أحد.
ولكن عندما يخطيء المرفق الصحي فإن احتمال موت أحد احتمال قائم.
وإذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه،
خاف أن يحاسبه الله عزّ وجل عن شاة نفقت بعد أن عثرت في العراق،
فما بالك بالوزير المسئول،
مباشرة،
عن مرفق يمس،
مباشرة،
أرواح الناس ؟ لم تكن تراودني ذرة من الشك أني سأكون مسئولا أمام الله مسئولية شخصية عن أي خطأ يرتكبه أي عامل في القطاع.
وهناك،
ثانيا المناظر اليومية الفاجعة.
كنتُ كلما زرت مستشفى من مستشفيات الصحة النفسية أو أبصرت ضحايا الحوادث من الشباب المصاب بالشلل عدت إلى المنزل محتقنا بالحزن.
أحيانا،
كنت أبكي بمرارة بعد زيارة كهذه.
وهناك ثالثا،
ألم القرارات الصعبة .
لا يوجد إنسان يحب قطع رزق إنسان آخر،
أو تعكير صفو حياته على أي نحو،
ولكن لم يكن أمامي أي خيار لعل القارىء عندما استعرض معه بعض التجاوزات التي كنت أراها،
بصفة يومية،
كانت أقل،
لا أقصى ما يمكن اتخاذه ازاء هذه التجاوزات.
سابقة مماثلة (١) هل كان بوسعي أن أبقيه ليتمتع بمزيد من التحرش مع مزيد من الممرضات ؟ الطبيب الذي كان يُقفل مصعدا ويخصصه لاستخدامه الشخصي وحده تاركا المصعد الآخر،
الذي كان كثيرا ما يتعطل،
للمرضى والعاملين في المستشفى هل كان بوسعي أن أتركه حتى يقرر استخدام المصعدين معا وترك المرضى يدبون على السلالم؟ الممرض الشاذ الذي أقنع المرضى أن هناك طريقة جديدة لقياس درجة الحرارة تعتمد على اليد التي تنتقل عبر الجسد كله هل كان بوسعي أن أبقيه حتى يستنبط وسائل جديدة لقياس درجة الحرارة؟ الطبيب ( المزيّف) الذي كان يرتدي زي الطبيب ويحمل سماعة ويأتي من خارج المستشفى ليفحص المريضات فحصاً موضعياً دقيقا،
هل كنت أستطيع أن أرسله إلى أي مكان سوى المحكمة الشرعية؟ الممرضة التي أعطتني رسالة،
حسبتها معروضا ،
وتبين أنها رسالة غرام تحمل رقم هاتفها ( حدث هذا مرتين أو ثلاث ! ) هل كان يمكن أن أردّ عليها بشيء سوى تذكرة الطائرة التي تعيدها من حيث أنت؟ متعهد الأدوية الذي قدّم للوزارة مضادات حيوية أثبت الفحص المخبري أنها خالية من أي مادة فعّالة،
هل كان المفترض أن أبني له نصبا تذكاريا،
على هيئة حقنة عند مدخل الوزارة؟ والمتعهد الآخر الذي جاء بمصل ضد السموم تبين أنه ماء زلال،
هل كان يتوقع مني شهادة تقديرية؟ لم أكن أبحث عن تجاوزات،
ولم يكن يسرني وجود التجاوزات،
ولكن كان لا بد أن أتصرف والتجاوزات تمد أمامي أعناقها،
وأحيانا تدخل أصابعها في عيني.
مع كل قرار تأديبي يصدر كان هناك عدو يولد ( أو عدوة ) .
بمرور الأيام أصبح هناك جيش من الأعداء يستخدم كل الأسلحة،
والأسلحة غير المشروعة بوجه خاص.
قال لي ولي العهد الأمير عبد الله : " سمعت أن كل الذين عينتهم في الوزارة جاءوا من منطقتك " قلت لولي العهد : " أنت تعرف أني مصاب بعمى الألوان حين يتعلق الأمر بالمناطق.
هذه هي الأسماء وهذه هي الحقائق".
قال : كيف يكذبون عليك على هذا النحو ؟" قلت : " من هم؟ " جاءني وفد يتظلم من عنصريتك " .
" وفد " ! وقال لي الأمير نايف وزير الداخلية إن " وفداً من المثقفين " جاءه يطلب منه أن يوقف طغيان وزير الصحة .
قلت للأمير نايف " وماذا فعلت ؟ " قال : " استمعت إليهم ثم قلت : " لو كنتم تعرفون حقيقة ما يدور في وزارة الصحة لذهبتم تشكرون الوزير بدلا من أن تشكونه وفد يقابل ولي العهد و وفد من المثقفين يذهب لوزير الداخلية بدا وقتها أن كل قرار كنتُ أتخذه ،
كل قرار،
كان يخلق مجموعة من الأعداء.
تكرر الحديث عن " الطغيان " في عدد من المجالس.
لم يتحدث أحد عن حالة واحدة تجاوز فيها الوزير صلاحياته التي حددتها الأنظمة و لم يثبت أحد أن إنساناً واحداً ظلم.
ومع ذلك استمر الحديث عن الطغيان يستثير مشاعر الحق والخير والعدالة ضد غول وزارة الصحة الذي كان كما قال أحد الظرفاء،
يذبح في كل وليمة يقيمها " طبيبين وثلاث ممرضات " .
آه ! أن يتحول شاعر مسالم بطبعه،
بغتة،
حسنا ! لا أعتقد أن الملك انزعج من شعبية الوزير وبروزه ( كان الملك يعرف جيدا أن دعمه هو سبب الشعبية والبروز ).
ولا اعتقد أن الملك،
الذي يعرف الوزير جيدا،
صدق حكاية الطغيان (1) .
إلا أني أتصور أن الملك،
وهو قائد سياسي له حساباته السياسية،
بدأ يقلق من ظاهرة الأعداء الذين أخذوا يتزايدون يوما بعد يوم في كل مكان.
أتصور أن الملك عندما قرّر تثبيت الوزير كان يأمل أن يؤدي هذا إلى أن يلجم الوزير إندفاعه الشديد.
وأعرف أن الوزير فهم من التثبيت أن الملك يستطيع أن يتعايش مع الإندفاع الشديد بعد ثلاثة شهور من القسم بدأت لأول مرة في العلاقة بين الملك والوزير بوادر أزمة في الماضي،
أيام وزارة الصناعة والكهرباء،
كانت هناك مشاكل سرعان ما تنقشع ولم تكن هناك أزمات حقيقية.
ماذا حدث؟ أراد الوزير اتخاذ مجموعة من الاجراءات رأى أن مصلحة العمل تقتضيها ،
و لم يوافق الملك.
لأول مرة،
يجد الوزير نفسه عاجزا عن التحرك في الإتجاه الذي يريد التحرك فيه،
وإلى هذا الموضوع سوف أعود بعد قليل.
فلنتحدث الآن ،
قليلا ،
عن سير العمل اليومي في الوزارة.
لم يتغير شيء بعد تثبيتي،
فقد كنت أتصرف من اليوم الأول تصرف الوزير الأصيل.
ولم تختلف وتيرة العمل كثيراً،
عن وتيرته أيام الصناعة والكهرباء.
كنتُ أصل إلى المكتب في السابعة والنصف،
وكان الإجتماع الصباحي يبدأ في الثامنة تماما.
كان يحضر الاجتماع وكيلا الوزارة الدكتور نزيه نصيف والدكتور جميل الجشي ومدير عام الشئون المالية والإدارية الدكتور عبد الله بن صالح الذي جاء من كليتي القديمة (١) .
كان كل شيء يبحث بحرية وتوسع وكان النقاش،
أحيانا،
شديد الصخب ) والزملاء الثلاثة،
بحمد الله،
من المتعبين جداً،
المشاغبين جداً ).
عند انتهاء الاجتماع،
تجيء فترة المواعيد التي تنتهي مع صلاة الظهر.
قصرت المقابلات المفتوحة على يومين في الأسبوع بعد الصلاة.
كان عدد المراجعين لا يقل عن أربعين وقد يصل إلى ثمانين أو تسعين.
كنت أرجو المراجعين ألا يجلبوا المريض معهم وأن يكتفوا بالتقارير الطبية إلا أن الرجاء كان يقع على آذان صماء رأيت خلال تلك الفترة الوجيزة من أنواع الأمراض ما لا يراه الإنسان،
عادة،
عبر حياة كاملة،
الأمراض التي تتراوح من البسيط العارض إلى الخبيث القاتل.
أكثر ما كان يحز في نفسي،
ويؤرقني،
منظر طفل صغير يعاني مرضا عضالاً لا يوجد له دواء ناجع.
كنت أخصص فترة ما بعد الظهر للأوراق.
وكانت الأوراق سيلاً لا ينقطع.
كنت آخذ معي إلى المنزل كل يوم حقيبتين أو ثلاث حقائب ) من حقائب السفر .
!).
كنت أعود في المساء عندما يكون هناك اجتماع أو مواعيد عاجلة.
" ملف القراءة " ،
في هذه الفترة،
تضخم فأصبح يتكون من أكثر من ثلاثين ملفا.
هذه الملفات تشمل كل قرار صادر من الوكيلين ومن الوكلاء المساعدين ومن مدراء الشئون الصحية.
كان الوكيلان مفوضين باستخدام صلاحيات الوزير مع الإستثناءات التي سبق أن ألمحت إليها ) وكانت صلاحيات مدراء الشئون الصحية لا تقل كثيرا عن صلاحيات الوزير.
كان لا بد أن أعرف ما صنع الزملاء بهذه الصلاحيات الواسعة و لم يكن بوسعي أن أقرأ كل ورقة.
معاملة تحتوي على أسئلة تناقش بعض القرارات المتخذة (1) .
-(۲) كانت الرقابة على عمل الوزارة وفروعها عبر المملكة غاية في الإحكام.
ابتكر الدكتور عبد العزيز داغستاني الذي جاء،
معاراً،
من كليتي القديمة ليعمل مسئولا عن التحقيق والمتابعة فكرة " الخط الساخن ".
وضع في الوزارة هاتفا من عدة خطوط يعمل على مدار الساعة،
وكان يعلن الرقم يومياً،
في الجرائد.
كان بوسع أي مواطن من أي مكان في المملكة ،
في أي ساعة من ساعات الليل والنهار،
أن يتصل بهذا الخط ليقدم شكواه أو تظلمه ( أو اقتراحه ) كان " سنترال " الخط الساخن يتألف من طلبة متحمسين من الجامعة وكانت أمامهم نماذج يملأونها وهم يستمعون إلى الشكاوي.
كنت أقرأ كل شكوى - كل واحدة ! - بعد وصولها بساعات قلائل بعض الشكاوى بطبيعة الحال،
كانت كيدية،
أو مختلقة،
أو مبالغا فيها،
ولكن عددا منها كان يتكشف بعد التحقيق الشامل ( و لم يكن أي قرار يتخذ إلا بعد تحقيق شامل ) عن غبن وقع بالفعل على المواطن.
التأثير النفسي للخط الساخن،
شعور المواطن أنه قادر على الإتصال المباشر الفوري بالوزير وشعور الجهاز بوجود وسيلة الإتصال المباشر هذه،
كان ،
يفوق بكثير،
تأثيره الفعلي الشكاوي التي تأتي بالطريق المعتاد،
الرسائل،
كانت أكثر،
بكثير،
أود أن أتحدث الآن عن تجربة مثيرة ،
وزارة الصحة وموسم الحج.
منذ إنشاء الوزارة في مطلع الخمسينات الميلادية ( السبعينات الهجرية ) وهي تقوم بدور كبير،
تزايد سنة بعد سنة،
في تقديم الرعاية الصحية لضيوف الرحمن.
استقرت تقاليد هذه الخدمة عبر السنين،
وعندما جئتُ لم يكن هناك ما يمكن أن أضيفه سوى بعض اللمسات الشخصية.
علمت أن معظم الموظفين المنتدبين إلى المشاعر ينتهزون الفرصة لأداء فريضة الحج.
لا أدري ما هو الموقف الشرعي من موظف يحج بمال الإنتداب وعلى حساب مهمته الأصيلة ولكني أعرف الموقف الإداري: لا يجوز أن يتحوّل موظف انتدب لخدمة الحجيج إلى واحد من المخدومين! وافق الملك على إقتراحي أن يتفرغ موظفو الصحة لعملهم خلال الموسم.
اقترح بعض الزملاء فكرة رائعة : "حقيبة الحاج ".
تبين من تجارب السنين أن ضربة الشمس هي المشكلة الصحية الأساسية بالإضافة إلى مشاكل أخرى تنشأ من الحرارة والإزدحام.
رأينا أن تضم "حقيبة الحاج" ما يقي الحاج من ضربة الشمس: مظلة بلاستيكية وكيساً مليئاً بالثلج الصناعي.
كما رأينا أن تضم مجموعة من الأدوية التي لا يستغني عنها إنسان: من قطرة العين إلى أقراص الأسبرين إلى دواء السعال.
مليون حقيبة.
كانت الحقيبة تسلم مجانا في المطار لكل حاج قادم مع بطاقة تحمل تمنيات وزارة الصحة.
عندما وصلت إلى مبنى المستشفى في منى،
غرفة عمليات وزراة الصحة،
قيل لي أن العرف جرى عبر السنين،
على أن يستضيف كبار المسئولين في الوزارة بعض أقاربهم الحجاج في غرف المستشفى.
قلت إن العرف على العين والرأس ولكن المستشفى ليست دار ضيافة.
إلى إدارة المستشفى لتستخدمها في إيواء المرضى.
كانت الصدمة الكبرى التي واجهتني أثناء الحج هي إنخفاض الوعي،
بأنواعه،
عند طائفة كبيرة من الحجاج.
" حقيبة الحاج" التي قدمت بجانا تحولت للأسف الشديد،
الحقيبة الواحدة سوى عشرة ريالات ) .
كنا قد أعددنا صوراً ملونة تحمل ارشادات صحية بعدد من اللغات،
وسرعان ما اكتشفنا أن هذه الصور أصبحت تباع بدورها " تذكار يا حاج ! ".
كان الثلج يُوزّع،
مجاناً،
في كل مكان وكان هناك محتالون ظرفاء يأخذون الثلج المجاني ويبيعونه بأسعار خيالية على بعد أمتار من مكان التوزيع.
رأيت بعيني حجاجا يحاولون شرب مياه ملوثة قرب المستشفى في منى لأنهم اعتقدوا أنها آتية من زمزم.
أدى انخفاض الوعي إلى مواقف صعبة لم تتطلب الحزم فحسب بل،
أحيانا،
شيئاً من العنف.
إكتشف مستشفى في مكة المكرمة وجود ميكروب الكوليرا عند مجموعة من الحجيج وتقرر وضعهم تحت الحجر الصحي.
اتصل بي مدير المستشفى وقال إن المجموعة،
وهي مكونة من اكثر من ثلاثين رجلاً جميعهم غلاظ شداد،
ترفض البقاء في المحجر وتصر على مغادرة المستشفى بالقوة.
طلبت منه أن يستمهلهم (۱) .
اتصلت بالصديق الفريق عبد الله آل الشيخ مدير الأمن العام وشرحت له الموقف ورجوته أن يرسل معي ثلاثة جنود.
رجائي الشخصي في اقناعهم بالبقاء.
إلا أن جهودي ذهبت أدراج الرياح،
واضطررت إلى وضعهم في قاعة يحرسها الجنود.
وكان هناك موقف صعب آخر.
عسكرت مجموعة من الحجاج،
قرابة الخمسمائة،
أمام مدخل المستشفى في منى بحثا عن الظل،
ورفضت أن تتحرك.
لم يكن بالإمكان وهم يحتلون الساحة أمام المدخل أن تصل سيارات الإسعاف إلى المستشفى.
حاول الزملاء اقناعهم بالتحرك وحاول رجال الأمن ولم يفلحوا.
ذهبت وقدمت لهم نفسي وقلت لهم إني لا أستطيع أن أتراك ضحايا ضربة الشمس يموتون في سيارات الإسعاف لأنهم يريدون الإستمتاع بالظل.
لم يفلح الكلام،
رجال الأمن لإجلائهم بالقوة وكان هذا يتطلب بعض الوقت،
الأمر الذي يعني موت بعض المرضى في سيارات الإسعاف فضلا عن الشغب الذي يمكن أن يحدث لو اشتبك الحجاج مع رجال الأمن.
قررت اللجوء إلى سياسة "حافة الهاوية".
قلت لهم إني سأقود سيارة من سيارات الإسعاف بنفسي وسأتجه إلى المدخل وإذا قرروا البقاء تحت العجلات فهذا شأنهم وحدهم.
ذهبت بالفعل إلى سيارة إسعاف وقدتها باتجاه المدخل.
عندما أصبحت على بعد ثلاثة أمتار أو أربعة من المجموعة بدأ أفرادها يتقافزون ويركضون و لم يبق أحد أمام المدخل كنت أقود السيارة ببطء شديد وكنت،
بطبيعة الحال،
أنوي التوقف قبل أن أصل إليهم إذا لم يتحركوا ولكنهم صدقوا التهديد.
هنــا نصيحة للإداري الناشيء لا تستعمل سياسة " حافة الهاوية " إلا في الضرورة القصوى،
ولا تتردّد إذا تطلبت الضرورة القصوى استعمالها،
من الحافة إلى الهاوية ! والحديث عن ضربة الشمس يقودني إلى الحديث عن إنجاز باهر تمكنت وزارة الصحة بمتابعة شخصية من الدكتور حسين الجزائري أن تحققه في هذا
المجال.
كانت العادة المتبعة قديما،
في علاج المصابين بضربة الشمس هي القاؤهم في حوض مليء بالماء البارد والثلج.
كانت صدمة البرودة بعد صدمة الحرارة تقتل نصف المرضى وتشفي النصف الآخر.
قامت وزارة الصحة بتطوير سرير لمعالجة ضحايا الضربة .
كان السرير،
في حقيقة الأمر،
غرفة إنعاش مصغرة تمكن الطبيب من أن يختار درجة البرودة التي تتلائم مع وضع المريض أدى هذا الاكتشاف الى انخفاض مذهل في عدد الوفيات.
وهذا الجهاز،
"سرير مكة"،
مُسجّل دوليا باسم وزارة الصحة السعودية.
تحدثت عن موقف صعب،
وأود أن أتحدث عن أطرف موقف مر بي في حياتي الإدارية كلها ) وهي مليئة بطرائف من كل نوع).
استلمت ذات يوم،
رسالة من طبيب عربي يبدي فيها رغبته في العمل بالوزارة وكان يحمل كل المؤهلات المطلوبة.
إلا أن الطبيب تصوّر أن طلبه سيلقى المزيد من اهتمام الوزير الشاعر إذا أرفق به قصيدة في مدح الوزير.
كانت القصيدة ركيكة ولم يكن فيها بيت موزون واحد.
كتبت إلى شئون الموظفين أوجه بتوظيف الطبيب وأضفت " على ألا يكتب شعرا ".
بعد أسبوع قيل لي أن الطبيب يود مقابلتي جاء،
متظلما،
من إدارة شئون الموظفين التي طلبت منه أن يوقع على تعهد،
وقدم لي ورقة.
لم أستطع أن أغالب الضحك وأنا أقرأ " بالإشارة إلى توجيه معالي الوزير المبلغ شرحاً برقم كذا وتاريخ كذا فإنني (فلان الفلاني) أتعهد بعدم كتابة الشعر مادمت أعمل في وزارة الصحة ،
ولو كتبت شعرا جاز للوزارة إلغاء العقد.
" .
مزقت التعهد وقلت له إن بوسعه أن يكتب ما يشاء من شعر شريطة ألا يرسله لي.
لم نر وزيرا يمزح معنا من قبل ! ".
والحديث عن الأطباء المؤهلين يجرني إلى برنامج ناجح بدأته الوزارة لاستقطاب الكفاءات العالية.
ذي مؤهل عال بالتعاقد معها،
وشكوى المواطنين من عدم وجود أطباء من هذا النوع كانت شكوى في محلها.
إلا أن أنظمة الخدمة المدنية تنص على أنه يجوز بالتفاهم بين الوزير المختص وديوان الخدمة المدنية إقرار كادر خاص لذوي المؤهلات العالية النادرة لا يتقيّد بالكادر المعتاد.
كان الصديق القديم الأستاذ تركي السديري،
رئيس الديوان متجاوباً كل التجاوب واتفقنا،
فعلا،
على كادر خاص يحتوي على رواتب مغرية.
أرسلت وفدا للتعاقد في أوروبا،
ووفدا للتعاقد في الولايات المتحدة،
وتمكنــا مــن التعاقد مع عشرات الإخصائيين.
لأول مرة كانت مستشفيات وزراة الصحة،
الكبرى،
تضم أخصائيين على هذا المستوى.
وكانت هناك تجربة أخرى مثلت حلا وسطا بين أسلوب التشغيل الذاتي الذي تتبعه الوزارة وبين أسلوب إعطاء الإدارة الكاملة لشركة عالمية متخصصة،
وهو الأسلوب الذي كان يتبع في المستشفيات العسكرية.
كان هناك برنامج للتعاون الثنائي بين المملكة وألمانيا الغربية يشرف عليـه مـن الجانب السعودي محمد أبا الخيل لجأت إلى محمد أطلب مساعدته وكان،
كالعادة،
متجاوباً بلا تحفظ.
تم الإتفاق ضمن هذا البرنامج أن تقوم مؤسسة المانية طبية بتزويدنا بالأطباء والأخصائيين اللازمين لإدارة المستشفى صحيا،
على أن تتولى الوزارة العبء الإداري،
التموين والصيانة والنظافة ( عن طريق مقاولين محليين ).
كانت تكلفة السرير،
بهذه الطريقة ،
لا تتجاوز مائتي ألف ريال.
كانت التجربة تبشر بالنجاح وتسمح بتعميمها على مستشفيات إضافية.
أعتقد أن الأوان قد آن للحديث عن خروجي من وزارة الصحة،
معفى بأمر ملكي،
في ربيع ١٩٨٤م ( ١٤٠٤ هـ)،
بعد سنة ونصف في الوزارة،
منها سنة بالنيابة،
ونصف سنة بالأصالة.
قصة الإعفاء دراما إنسانية معقدة،
وهي دراما لا موضع لها في كتاب عن الإدارة.
عندما يُتاح لي أن أكتب،
ذات يوم،
سيرتي الذاتية الكاملة فقد يكون للدراما الإنسانية مكانها في السيرة.
أما في هذا الكتاب السيرة الإدارية،
فسوف أكتفي بالجانب الإداري،
وبالجانب الإداري وحده.
من الناحية الإدارية لا يصعب فهم ما حدث.
أراد الوزير أن يتخذ اجراءات إعتقد أنها ضرورية،
و لم يوافق الملك.
أوضح الوزير للملك،
بلا أي غموض،
أنه لا يستطيع أن يبقى في موقعه إذا لم تتخذ هذه الإجراءات.
نصح الملك الوزير،
مرة بعد مرة،
أن يتذرع بالصبر وأن يبقى في موقعه.
فجر الوزير الموقف عندما نشر قصيدة " رسالة المتنبي الأخيرة إلى سيف الدولة ".
كان نشر القصيدة خروجاً صارخاً على قواعد اللعبة السياسية / الاجتماعية / الإدارية في المملكة: هذه القواعد لا تجيز بحث أي خلاف في العلن،
فضلا عن النشر في الصحف،
فضلا عن خلاف مع رئيس الدولة.
لم يكن أمام الملك بعد نشر القصيدة خيار.
بعد أسابيع قليلة من نشر القصيدة صدر أمر ملكي بإعفائي من وزارة الصحة.
أعتقد،
ولا أعلم أن الإعفاء تراخي بعض الوقت لأن الملك أراد أن يختار التوقيت لا أن يُفرض عليه التوقيت فرضا هذا كل ما حدث.
إلا أن أصحاب نظرية المؤامرة كان لهم تفسير آخر.
بعد أن إنتهت كل مفرقعاتي الإعلامية،
عندما أفلست من المبادرات،
عندما تبينت أني سوف أفشل فشلاً ذريعا في وزارة الصحة،
اخترعت أزمـة بـعـد أزمة،
ومشكلة بعد مشكلة،
حتى أخرج لا خروج الفاشلين بـل خـروج الأبطال.
لم أكن قط،
من المؤمنين بنظرية المؤامرة ولكني كنت دوما،
أغبط أصحابها على خيالهم الواسع.
وهذا التحليل بلا ريب هو درة من درر الخيال.
ولكنني،
لأسباب سأوضحها بعد لحظة،
لم أستطع أن أبقى.
الشعبية والضجيج الإعلامي.
إذا كان المقصود بالغرور الثقة بالنفس فهذه علة لم تفارقني لحظة.
أما إذا كان المقصود بالغرور الإستعلاء علـى أحـد مـن خلـق اللـه فهذا شعور لم أعرفه حتى هذه اللحظة وأرجو ألا أعرفه أبداً.
إذا كان لا بد من تفسير نفسي فإنه يكمن في " الأسطورة".
كان الرجل أمام خيار: إما أن يبقى الوزير وتنتهي الأسطورة،
أو أن ينتهي الوزير وتبقى الأسطورة.
إنحاز صاحبنا،
بلا تردد،
إلى الأسطورة.
هذا ما حدث ذهب الوزير وبقيت الأسطورة.
بصرف النظر عن نظريات المنظرين هناك سؤال إداري هام لا بد أن أجيب عليه.
لماذا شعرت أن تلك الإجراءات،
بحيث ربطت بينها وبين بقائي في الوزارة؟ لا بدّ أن أذكر القارىء بما قلته،
وكررته،
عن الإنضباط.
لم أتصور،
قط،
ولا أتصور ،
الآن،
أني كنت أتمتع بأي ميزة شخصية على أي سلف من أسلافي الكرام في وزارة الصحة.
كل ما ميزني عنهم أنني جئت بثقة مطلقة،
بتفويض كامل شامل،
لم يحظ به وزير صحة،
أي وزير صحة آخر من قبل.
عندما رفض الملك إجراءات كنت أراها ضرورية كان معنى هذا،
في نظري ،
أن الثقة بدأت تهتز.
لم يكن هذا،
إذا أردنا الدقة،


Original text

فلنبدأ بالإعلام في هذه الفترة إتخذ اهتمام وسائل الإعلام بي تجاوز كل الحدود المعقولة ) والمقبولة ! ) . كنت أقول، ولا يصدقني أحد أني أنا، حتى أنا ، سئمت رؤية صوري وأخباري على كل صفحة من كل جريدة . قال لي ولي العهد الأمير عبد الله بصراحته المعهودة مرة : " لا أرى في الجرائد شيئاً غير أخبارك ". قلت لولي العهد : " خرج الأمر من يدي ". قبلها ، بفترة وجيزة ، كتبت رسالة شخصية إلى كل رؤساء الصحف أشرح فيها أن هذا الإهتمام بدأ يسبب لي الكثير من المشاكل وأرجو ألا ينشروا سوى بيانات الوزارة الرسمية. كان يجب أن أتوقع رد الفعل. نشرت صحيفة مانشيت كبير : " وزيـر


الصحة يطلب من الصحف عدم نشر أخباره". كان الكثيرون ، وأحسبهم لا يزالون يعتقدون أن كل ما تنشره الصحف عني كان ينشر بناء على ترتيب مسبق. كان الصديق عمران العمران أحـد هـؤلاء.


صادف أن زرته في عطلة نهاية الأسبوع في مدينة الهفوف، وكانت الزيارة للراحة والإستجمام. خلال عبورنا بالمدينة ثار الموضوع وأعرب عمران عن إعتقاده أني أخبر الصحف، مسبقاً، قبل أي زيارة مفاجئة " أقوم بها لأي مستشفى . أثناء هذا الحديث كنا نمر أمام مستشفى الملك فهد. طلبت منه أن يوقف السيارة. قلتُ له: "تعال معي وانظر بنفسك. أنت تعرف أن هذه زيارة خاصة في العطلة. وأنت تعرف أني لم أكن أنوي أن أزور أي مستشفى وأنت تعرف أن أحداً لم يرتب شيئاً " . جاء معي عمران بالفعل، وبدأت الجولة في الدور الأول، كالعادة، لم يكد يعرفني أحد. في الدور الثاني، بدأ بعض المرضى وبعض العاملين في المستشفى يتعرفون علي. في الدور الثالث، كان كل من في المستشفى يدرك أن وزير الصحة موجود في المبنى. عندما وصلت إلى الدور الرابع كان هناك عدة مصورين وعدة


صحفيين. في اليوم التالي كانت أخبار الزيارة تملأ أكثر من صفحة في أكثر من صحيفة مع الصور والتعليقات. اقتنع عمران ولكن هل اقتنع الآخرون؟


لا يحتاج المرء إلى ذكاء ثاقب ليعرف التأثيرات السلبية لهذه التغطية الإعلامية المحمومة من القواعد الذهبية التي التزم بها ما استطعت: عامل الناس بمثل ما تحب أن يعاملوك به، وأنا لم أكن لأحب أن يعاملني وزير آخر، عبر الإعلام، بهذه الطريقة. لم أكن لأحب أن أقرأ الصحف فأراها تتجاهلني وتركز على أخبار الوزير الآخر. و لم أكن لأحب أن أجد مقالا يطالب فيه كاتبه بالوزير الآخر وزيراً لكل وزارة بما في ذلك وزارتي. ماذا حدث؟ كيف تحول الإهتمام الإعلامي الذي بدأ منذ سنين في هذه المرحلة، إلى ما يشبه الهوس؟ الجواب بسيط : ظاهرة النجم. إذا تحوّل المرأ، لأي سبب من الأسباب، إلى نجم يتحول إلى مادة إعلامية مثيرة شاء أو لم يشأ، غضب أو رضي، فعل شيئاً أو لم يفعل. كنت في هذه المرحلة ، بلا تواضع كاذب ، نجماً أو شبه نجم. عندما قلتُ لولي العهد : " خرج الأمر من يدي " لم أكن أكذب أو أبالغ. انقلب السحر بالفعل، على الساحر. هنا نصيحة للإداري الناشيء: الإعلام سلاح فعال ولكنه ككل الأسلحة ، سلاح ذو حدين.


وكانت ، هناك ، المقارنات. قرأتُ ، مرة في كتاب من كتب علم النفس أن المقارنات التي يجريها الأب بين أبنائه " لماذا لا تكون أول الفصل مثل أخيك الصغير ؟" أو " لماذا لا تصبح عضوا في فريق الكرة مثل أخيك الكبير ؟ " هي مقارنات " قاتلة " إذا أخذنا ، بعين الاعتبار ، تأثيرها المدمر على نفسية المقارن والمقارن به على حد سواء. أذهب أبعد من ذلك فأقول أن أي مقارنة هي، على نحو أو آخر، مقارنةً قاتلة. استطيع أن أتحمل ثناء الناس على وزير آخر ولكني لا أستطيع أن أتحمّل تعليقاً يلومني لأني لا أتصرف كما يتصرّف الوزير الآخر. أخبرني وزيرا صحة من دولتين مجاورتين ووزير صحة من دولة غير محاورة أني سببت لهم الكثير من الحرج. عندما تساءلت عن السبب قالوا : " كل الناس يقولون لنا : " لماذا لا تفعلون ما يفعله وزير الصحة السعودي ؟ " " . لم أكن يعلم الله، أتعمد إحراج أحد في أي مكان. وكانت هناك، الشعبية. كنت أتوقع عندما توليت وزارة الصحة أن أكون أقل الناس شعبية كنت أتوقع أن يتساءل الناس كما فعلوا في المرة الأولى : " ماذا فعل لنا الوزير الجديد؟ " الحق أقول أني كنت أول من فوجيء بالشعبية التي انفجرت من الشهر الأول. كل من أراه، تقريباً، كان يتحدث عن عجائز في البيت يدعين لي. اللهم إيمانا كإيمان العجائز ! واللهم تقبل دعاء العجائز ! الأعداد التي تحضر مناسبات الافتتاح تضاعفت. إنهمرت رسائل الإعجاب - وقصائده. وزاد عدد المواطنين الذين يعبرون عن حبهم بإطلاق إسمي على مواليدهم. ومع الشعبية ولدت الأسطورة. والأسطورة، كما نعرف، تقوم على جزء يسير من الحقيقة وجزء كبير من الخيال. بدأت أسطورة الوزير الذي يظهر في كل مكان، ولا يهاب التعامل مع موظف "مدعوم " ، وينتصف للمواطن المظلوم من الجهاز الظالم . بدأت أتلقى مكالمات هاتفية من جيزان تشكرني على الزيارة التي قمت بها " البارحة " لمستشفى جيزان.وبدأت أتلقى برقيات الشكر من تبوك على الزيارة التفقدية التي قمت بها " هذا الأسبوع " للمرافق الصحية في تبوك. الحقيقة كانت أنني لم أزر جيزان أو تبوك في تلك الفترة. بدأ الناس، مراجعين وموظفين ، يرونني حيث لم أكن موجوداً ذات مساء كنت أزور مستوصفا في " الروضة ". جلس الزميل السائق مع المواطنين الذين ينتظرون دورهم للدخول على الطبيب قال أحدهم : " هذا وزير الصحة". وقال الثاني : " في الأسبوع الماضي رأيته في مستوصف في " الديرة". جاء بعد نصف الليل ملثماً وفي سيارة تاكسي "تويوتا"، وفصل جميع العاملين في المستوصف". وقال الثالث : " وأنا رأيته بنفسي قبل أسبوعين. زار المستوصف في " البطحة " ملتما " . حقيقة الأمر أني لم أزر هذين المكانين، و لم أستخدم سيارة تاكسي قط، ولم أتلثم قـط. أخذت حكاية اللثام تتكرر وتتكرر. أعتقد أن أصلها يعود إلى أسطورة أخرى، أسطورة الفارس الملثم. إذا كانت الشعبية تؤدي إلى السعادة فلا بد أنني أختلف عن بقية البشر. كانت الفترة التي قضيتها في وزارة الصحة أتعس فترات حياتي على الإطلاق. لا إبالغ إذا قلت أني لا أذكر يوماً واحداً سعيداً من تلك الفترة. كــل أصدقائي الذي يعرفونني، عن كثب، لاحظوا أني كنت، وقتها ، أعاني الكآبة الدائمة. كل أصدقائي الحقيقيين تمنوا لي الخروج حرصاً على صحتي ( أمـا الآخرون فتمنوا الخروج لأسباب أخرى ! ). وكانت الأسباب التي تدعو إلى


الكآبة تطل من كل مكان. هناك، أولاً، الخوف من هول المسئولية. عندما يتأخر القطار لا يموت أحد. وعندما يخسر المصنع لا يموت أحد. وعندما تنقطع الكهرباء لا يموت أحد. ولكن عندما يخطيء المرفق الصحي فإن احتمال موت أحد احتمال قائم. وإذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، خاف أن يحاسبه الله عزّ وجل عن شاة نفقت بعد أن عثرت في العراق، فما بالك بالوزير المسئول، مباشرة، عن مرفق يمس، مباشرة، أرواح الناس ؟ لم تكن تراودني ذرة من الشك أني سأكون مسئولا أمام الله مسئولية شخصية عن أي خطأ يرتكبه أي عامل في القطاع. وهناك، ثانيا المناظر اليومية الفاجعة. كنتُ كلما زرت مستشفى من مستشفيات الصحة النفسية أو أبصرت ضحايا الحوادث من الشباب المصاب بالشلل عدت إلى المنزل محتقنا بالحزن. أحيانا، كنت أبكي بمرارة بعد زيارة كهذه. وهناك ثالثا، ألم القرارات الصعبة . لا يوجد إنسان يحب قطع رزق إنسان آخر، أو تعكير صفو حياته على أي نحو، ولكن لم يكن أمامي أي خيار لعل القارىء عندما استعرض معه بعض التجاوزات التي كنت أراها، بصفة يومية، سيصل إلى اقتناع بأن الإجراءات التي اتخذتها


كانت أقل، لا أقصى ما يمكن اتخاذه ازاء هذه التجاوزات. الطبيب الذي تحرش بممرضة وتبين في التحقيق أن في ملفه سبع مخالفات


سابقة مماثلة (١) هل كان بوسعي أن أبقيه ليتمتع بمزيد من التحرش مع مزيد من الممرضات ؟ الطبيب الذي كان يُقفل مصعدا ويخصصه لاستخدامه الشخصي وحده تاركا المصعد الآخر، الذي كان كثيرا ما يتعطل، للمرضى والعاملين في المستشفى هل كان بوسعي أن أتركه حتى يقرر استخدام المصعدين معا وترك المرضى يدبون على السلالم؟ الممرض الشاذ الذي أقنع المرضى أن هناك طريقة جديدة لقياس درجة الحرارة تعتمد على اليد التي تنتقل عبر الجسد كله هل كان بوسعي أن أبقيه حتى يستنبط وسائل جديدة لقياس درجة الحرارة؟ الطبيب ( المزيّف) الذي كان يرتدي زي الطبيب ويحمل سماعة ويأتي من خارج المستشفى ليفحص المريضات فحصاً موضعياً دقيقا، هل كنت أستطيع أن أرسله إلى أي مكان سوى المحكمة الشرعية؟ الممرضة التي أعطتني رسالة، حسبتها معروضا ، وتبين أنها رسالة غرام تحمل رقم هاتفها ( حدث هذا مرتين أو ثلاث ! ) هل كان يمكن أن أردّ عليها بشيء سوى تذكرة الطائرة التي تعيدها من حيث أنت؟ متعهد الأدوية الذي قدّم للوزارة مضادات حيوية أثبت الفحص المخبري أنها خالية من أي مادة فعّالة، هل كان المفترض أن أبني له نصبا تذكاريا، على هيئة حقنة عند مدخل الوزارة؟ والمتعهد الآخر الذي جاء بمصل ضد السموم تبين أنه ماء زلال، هل كان يتوقع مني شهادة تقديرية؟ لم أكن أبحث عن تجاوزات، ولم يكن يسرني وجود التجاوزات، ولكن كان لا بد أن أتصرف والتجاوزات تمد أمامي أعناقها، وأحيانا تدخل أصابعها في عيني.


مع كل قرار تأديبي يصدر كان هناك عدو يولد ( أو عدوة ) . بمرور الأيام أصبح هناك جيش من الأعداء يستخدم كل الأسلحة، والأسلحة غير المشروعة بوجه خاص. قال لي ولي العهد الأمير عبد الله : " سمعت أن كل الذين عينتهم في الوزارة جاءوا من منطقتك " قلت لولي العهد : " أنت تعرف أني مصاب بعمى الألوان حين يتعلق الأمر بالمناطق. هذه هي الأسماء وهذه هي الحقائق". قال : كيف يكذبون عليك على هذا النحو ؟" قلت : " من هم؟ " جاءني وفد يتظلم من عنصريتك " . " وفد " ! وقال لي الأمير نايف وزير الداخلية إن " وفداً من المثقفين " جاءه يطلب منه أن يوقف طغيان وزير الصحة . قلت للأمير نايف " وماذا فعلت ؟ " قال : " استمعت إليهم ثم قلت : " لو كنتم تعرفون حقيقة ما يدور في وزارة الصحة لذهبتم تشكرون الوزير بدلا من أن تشكونه وفد يقابل ولي العهد و وفد من المثقفين يذهب لوزير الداخلية بدا وقتها أن كل قرار كنتُ أتخذه ، كل قرار، كان يخلق مجموعة من الأعداء. تكرر الحديث عن " الطغيان " في عدد من المجالس. لم يتحدث أحد عن حالة واحدة تجاوز فيها الوزير صلاحياته التي حددتها الأنظمة و لم يثبت أحد أن إنساناً واحداً ظلم. ومع ذلك استمر الحديث عن الطغيان يستثير مشاعر الحق والخير والعدالة ضد غول وزارة الصحة الذي كان كما قال أحد الظرفاء، يذبح في كل وليمة يقيمها " طبيبين وثلاث ممرضات " . آه ! أن يتحول شاعر مسالم بطبعه، بغتة، بعد


الأربعين ، إلى طاغية دموي! يا للشعور اللذيذ !


حسنا ! لا أعتقد أن الملك انزعج من شعبية الوزير وبروزه ( كان الملك يعرف جيدا أن دعمه هو سبب الشعبية والبروز ). ولا اعتقد أن الملك، الذي يعرف الوزير جيدا، صدق حكاية الطغيان (1) . إلا أني أتصور أن الملك، وهو قائد سياسي له حساباته السياسية، بدأ يقلق من ظاهرة الأعداء الذين أخذوا يتزايدون يوما بعد يوم في كل مكان. أتصور أن الملك عندما قرّر تثبيت الوزير كان يأمل أن يؤدي هذا إلى أن يلجم الوزير إندفاعه الشديد.
وأعرف أن الوزير فهم من التثبيت أن الملك يستطيع أن يتعايش مع الإندفاع الشديد بعد ثلاثة شهور من القسم بدأت لأول مرة في العلاقة بين الملك والوزير بوادر أزمة في الماضي، أيام وزارة الصناعة والكهرباء، كانت هناك مشاكل سرعان ما تنقشع ولم تكن هناك أزمات حقيقية. ماذا حدث؟ أراد الوزير اتخاذ مجموعة من الاجراءات رأى أن مصلحة العمل تقتضيها ، و لم يوافق الملك. لأول مرة، يجد الوزير نفسه عاجزا عن التحرك في الإتجاه الذي يريد التحرك فيه، وإلى هذا الموضوع سوف أعود بعد قليل.
فلنتحدث الآن ، قليلا ، عن سير العمل اليومي في الوزارة. لم يتغير شيء بعد تثبيتي، فقد كنت أتصرف من اليوم الأول تصرف الوزير الأصيل. ولم تختلف وتيرة العمل كثيراً، عن وتيرته أيام الصناعة والكهرباء. كنتُ أصل إلى المكتب في السابعة والنصف، وكان الإجتماع الصباحي يبدأ في الثامنة تماما. كان يحضر الاجتماع وكيلا الوزارة الدكتور نزيه نصيف والدكتور جميل الجشي ومدير عام الشئون المالية والإدارية الدكتور عبد الله بن صالح الذي جاء من كليتي القديمة (١) . كان كل شيء يبحث بحرية وتوسع وكان النقاش، أحيانا، شديد الصخب ) والزملاء الثلاثة، بحمد الله، من المتعبين جداً، المشاغبين جداً ). عند انتهاء الاجتماع، تجيء فترة المواعيد التي تنتهي مع صلاة الظهر. قصرت المقابلات المفتوحة على يومين في الأسبوع بعد الصلاة. كان عدد المراجعين لا يقل عن أربعين وقد يصل إلى ثمانين أو تسعين. كنت أرجو المراجعين ألا يجلبوا المريض معهم وأن يكتفوا بالتقارير الطبية إلا أن الرجاء كان يقع على آذان صماء رأيت خلال تلك الفترة الوجيزة من أنواع الأمراض ما لا يراه الإنسان، عادة، عبر حياة كاملة، الأمراض التي تتراوح من البسيط العارض إلى الخبيث القاتل. أكثر ما كان يحز في نفسي، ويؤرقني، منظر طفل صغير يعاني مرضا عضالاً لا يوجد له دواء ناجع. كنت أخصص فترة ما بعد الظهر للأوراق. وكانت الأوراق سيلاً لا ينقطع. كنت آخذ معي إلى المنزل كل يوم حقيبتين أو ثلاث حقائب ) من حقائب السفر .!). كنت أعود في المساء عندما يكون هناك اجتماع أو مواعيد عاجلة.


" ملف القراءة " ، في هذه الفترة، تضخم فأصبح يتكون من أكثر من ثلاثين ملفا. هذه الملفات تشمل كل قرار صادر من الوكيلين ومن الوكلاء المساعدين ومن مدراء الشئون الصحية. كان الوكيلان مفوضين باستخدام صلاحيات الوزير مع الإستثناءات التي سبق أن ألمحت إليها ) وكانت صلاحيات مدراء الشئون الصحية لا تقل كثيرا عن صلاحيات الوزير. كان لا بد أن أعرف ما صنع الزملاء بهذه الصلاحيات الواسعة و لم يكن بوسعي أن أقرأ كل ورقة. اكتفيت بقراءة ما يصدر من الوكيلين واستعنت بمجموعة من أساتذة الجامعة تقرأ بقية الملفات بعناية وتلفت نظري إلى أي قرار يحتاج إلى مراجعة صباح كل سبت كانت تصدر من مكتبي ثلاثون أو أربعون


معاملة تحتوي على أسئلة تناقش بعض القرارات المتخذة (1) .


-(۲) كانت الرقابة على عمل الوزارة وفروعها عبر المملكة غاية في الإحكام. ابتكر الدكتور عبد العزيز داغستاني الذي جاء، معاراً، من كليتي القديمة ليعمل مسئولا عن التحقيق والمتابعة فكرة " الخط الساخن ". وضع في الوزارة هاتفا من عدة خطوط يعمل على مدار الساعة، وكان يعلن الرقم يومياً، في الجرائد. كان بوسع أي مواطن من أي مكان في المملكة ، في أي ساعة من ساعات الليل والنهار، أن يتصل بهذا الخط ليقدم شكواه أو تظلمه ( أو اقتراحه ) كان " سنترال " الخط الساخن يتألف من طلبة متحمسين من الجامعة وكانت أمامهم نماذج يملأونها وهم يستمعون إلى الشكاوي. كنت أقرأ كل شكوى - كل واحدة ! - بعد وصولها بساعات قلائل بعض الشكاوى بطبيعة الحال، كانت كيدية، أو مختلقة، أو مبالغا فيها، ولكن عددا منها كان يتكشف بعد التحقيق الشامل ( و لم يكن أي قرار يتخذ إلا بعد تحقيق شامل ) عن غبن وقع بالفعل على المواطن. التأثير النفسي للخط الساخن، شعور المواطن أنه قادر على الإتصال المباشر الفوري بالوزير وشعور الجهاز بوجود وسيلة الإتصال المباشر هذه، كان ، يفوق بكثير، تأثيره الفعلي الشكاوي التي تأتي بالطريق المعتاد، الرسائل، كانت أكثر، بكثير، من شكاوي


الخط الساخن).


أود أن أتحدث الآن عن تجربة مثيرة ، وزارة الصحة وموسم الحج. منذ إنشاء الوزارة في مطلع الخمسينات الميلادية ( السبعينات الهجرية ) وهي تقوم بدور كبير، تزايد سنة بعد سنة، في تقديم الرعاية الصحية لضيوف الرحمن. استقرت تقاليد هذه الخدمة عبر السنين، وعندما جئتُ لم يكن هناك ما يمكن أن أضيفه سوى بعض اللمسات الشخصية. علمت أن معظم الموظفين المنتدبين إلى المشاعر ينتهزون الفرصة لأداء فريضة الحج. لا أدري ما هو الموقف الشرعي من موظف يحج بمال الإنتداب وعلى حساب مهمته الأصيلة ولكني أعرف الموقف الإداري: لا يجوز أن يتحوّل موظف انتدب لخدمة الحجيج إلى واحد من المخدومين! وافق الملك على إقتراحي أن يتفرغ موظفو الصحة لعملهم خلال الموسم. اقترح بعض الزملاء فكرة رائعة : "حقيبة الحاج ". تبين من تجارب السنين أن ضربة الشمس هي المشكلة الصحية الأساسية بالإضافة إلى مشاكل أخرى تنشأ من الحرارة والإزدحام. رأينا أن تضم "حقيبة الحاج" ما يقي الحاج من ضربة الشمس: مظلة بلاستيكية وكيساً مليئاً بالثلج الصناعي. كما رأينا أن تضم مجموعة من الأدوية التي لا يستغني عنها إنسان: من قطرة العين إلى أقراص الأسبرين إلى دواء السعال. وافق الملك على الفكرة وأعددنا نصف


مليون حقيبة. كانت الحقيبة تسلم مجانا في المطار لكل حاج قادم مع بطاقة تحمل تمنيات وزارة الصحة.عندما وصلت إلى مبنى المستشفى في منى، غرفة عمليات وزراة الصحة، قيل لي أن العرف جرى عبر السنين، على أن يستضيف كبار المسئولين في الوزارة بعض أقاربهم الحجاج في غرف المستشفى. قلت إن العرف على العين والرأس ولكن المستشفى ليست دار ضيافة. أعدت الغرف التي كانت مخصصة لهذا الغرض


إلى إدارة المستشفى لتستخدمها في إيواء المرضى. كانت الصدمة الكبرى التي واجهتني أثناء الحج هي إنخفاض الوعي، بأنواعه، عند طائفة كبيرة من الحجاج. " حقيبة الحاج" التي قدمت بجانا تحولت للأسف الشديد، إلى سلعة تباع وتشترى بأثمان باهظة ( لم تكلفنا


الحقيبة الواحدة سوى عشرة ريالات ) . كنا قد أعددنا صوراً ملونة تحمل ارشادات صحية بعدد من اللغات، وسرعان ما اكتشفنا أن هذه الصور أصبحت تباع بدورها " تذكار يا حاج ! ". كان الثلج يُوزّع، مجاناً، في كل مكان وكان هناك محتالون ظرفاء يأخذون الثلج المجاني ويبيعونه بأسعار خيالية على بعد أمتار من مكان التوزيع. رأيت بعيني حجاجا يحاولون شرب مياه ملوثة قرب المستشفى في منى لأنهم اعتقدوا أنها آتية من زمزم. أدى انخفاض الوعي إلى مواقف صعبة لم تتطلب الحزم فحسب بل، أحيانا، شيئاً من العنف. إكتشف مستشفى في مكة المكرمة وجود ميكروب الكوليرا عند مجموعة من الحجيج وتقرر وضعهم تحت الحجر الصحي. اتصل بي مدير المستشفى وقال إن المجموعة، وهي مكونة من اكثر من ثلاثين رجلاً جميعهم غلاظ شداد، ترفض البقاء في المحجر وتصر على مغادرة المستشفى بالقوة. طلبت منه أن يستمهلهم (۱) . اتصلت بالصديق الفريق عبد الله آل الشيخ مدير الأمن العام وشرحت له الموقف ورجوته أن يرسل معي ثلاثة جنود. ذهبت آملا أن يفلح حتى حضوري


رجائي الشخصي في اقناعهم بالبقاء. إلا أن جهودي ذهبت أدراج الرياح،


واضطررت إلى وضعهم في قاعة يحرسها الجنود. وكان هناك موقف صعب آخر. عسكرت مجموعة من الحجاج، قرابة الخمسمائة، أمام مدخل المستشفى في منى بحثا عن الظل، ورفضت أن تتحرك. لم يكن بالإمكان وهم يحتلون الساحة أمام المدخل أن تصل سيارات الإسعاف إلى المستشفى. حاول الزملاء اقناعهم بالتحرك وحاول رجال الأمن ولم يفلحوا. ذهبت وقدمت لهم نفسي وقلت لهم إني لا أستطيع أن أتراك ضحايا ضربة الشمس يموتون في سيارات الإسعاف لأنهم يريدون الإستمتاع بالظل. لم يفلح الكلام، ولم يكن هناك من سبيل سوى طلب قوة كبيرة من


رجال الأمن لإجلائهم بالقوة وكان هذا يتطلب بعض الوقت، الأمر الذي يعني موت بعض المرضى في سيارات الإسعاف فضلا عن الشغب الذي يمكن أن يحدث لو اشتبك الحجاج مع رجال الأمن. قررت اللجوء إلى سياسة "حافة الهاوية". قلت لهم إني سأقود سيارة من سيارات الإسعاف بنفسي وسأتجه إلى المدخل وإذا قرروا البقاء تحت العجلات فهذا شأنهم وحدهم. ذهبت بالفعل إلى سيارة إسعاف وقدتها باتجاه المدخل. عندما أصبحت على بعد ثلاثة أمتار أو أربعة من المجموعة بدأ أفرادها يتقافزون ويركضون و لم يبق أحد أمام المدخل كنت أقود السيارة ببطء شديد وكنت، بطبيعة الحال، أنوي التوقف قبل أن أصل إليهم إذا لم يتحركوا ولكنهم صدقوا التهديد. هنــا نصيحة للإداري الناشيء لا تستعمل سياسة " حافة الهاوية " إلا في الضرورة القصوى، ولا تتردّد إذا تطلبت الضرورة القصوى استعمالها، وإياك أن تنزلق


من الحافة إلى الهاوية ! والحديث عن ضربة الشمس يقودني إلى الحديث عن إنجاز باهر تمكنت وزارة الصحة بمتابعة شخصية من الدكتور حسين الجزائري أن تحققه في هذا


المجال. كانت العادة المتبعة قديما، في علاج المصابين بضربة الشمس هي القاؤهم في حوض مليء بالماء البارد والثلج. كانت صدمة البرودة بعد صدمة الحرارة تقتل نصف المرضى وتشفي النصف الآخر. قامت وزارة الصحة بتطوير سرير لمعالجة ضحايا الضربة . كان السرير، في حقيقة الأمر، غرفة إنعاش مصغرة تمكن الطبيب من أن يختار درجة البرودة التي تتلائم مع وضع المريض أدى هذا الاكتشاف الى انخفاض مذهل في عدد الوفيات. وهذا الجهاز، "سرير مكة"، مُسجّل دوليا باسم وزارة الصحة السعودية.


تحدثت عن موقف صعب، وأود أن أتحدث عن أطرف موقف مر بي في حياتي الإدارية كلها ) وهي مليئة بطرائف من كل نوع). استلمت ذات يوم، رسالة من طبيب عربي يبدي فيها رغبته في العمل بالوزارة وكان يحمل كل المؤهلات المطلوبة. إلا أن الطبيب تصوّر أن طلبه سيلقى المزيد من اهتمام الوزير الشاعر إذا أرفق به قصيدة في مدح الوزير. كانت القصيدة ركيكة ولم يكن فيها بيت موزون واحد. كتبت إلى شئون الموظفين أوجه بتوظيف الطبيب وأضفت " على ألا يكتب شعرا ". بعد أسبوع قيل لي أن الطبيب يود مقابلتي جاء، متظلما، من إدارة شئون الموظفين التي طلبت منه أن يوقع على تعهد، وقدم لي ورقة. لم أستطع أن أغالب الضحك وأنا أقرأ " بالإشارة إلى توجيه معالي الوزير المبلغ شرحاً برقم كذا وتاريخ كذا فإنني (فلان الفلاني) أتعهد بعدم كتابة الشعر مادمت أعمل في وزارة الصحة ، ولو كتبت شعرا جاز للوزارة إلغاء العقد.. " .مزقت التعهد وقلت له إن بوسعه أن يكتب ما يشاء من شعر شريطة ألا يرسله لي. عندما استفسرت من الإدارة جاء الرد :


لم نر وزيرا يمزح معنا من قبل ! ". والحديث عن الأطباء المؤهلين يجرني إلى برنامج ناجح بدأته الوزارة لاستقطاب الكفاءات العالية. لم يكن كادر وزارة الصحة يغري أي طبيب


ذي مؤهل عال بالتعاقد معها، وشكوى المواطنين من عدم وجود أطباء من هذا النوع كانت شكوى في محلها. إلا أن أنظمة الخدمة المدنية تنص على أنه يجوز بالتفاهم بين الوزير المختص وديوان الخدمة المدنية إقرار كادر خاص لذوي المؤهلات العالية النادرة لا يتقيّد بالكادر المعتاد. كان الصديق القديم الأستاذ تركي السديري، رئيس الديوان متجاوباً كل التجاوب واتفقنا، فعلا، على كادر خاص يحتوي على رواتب مغرية. أرسلت وفدا للتعاقد في أوروبا، ووفدا للتعاقد في الولايات المتحدة، وتمكنــا مــن التعاقد مع عشرات الإخصائيين. لأول مرة كانت مستشفيات وزراة الصحة، حتى خارج المدن


الكبرى، تضم أخصائيين على هذا المستوى.


وكانت هناك تجربة أخرى مثلت حلا وسطا بين أسلوب التشغيل الذاتي الذي تتبعه الوزارة وبين أسلوب إعطاء الإدارة الكاملة لشركة عالمية متخصصة، وهو الأسلوب الذي كان يتبع في المستشفيات العسكرية. كان هناك برنامج للتعاون الثنائي بين المملكة وألمانيا الغربية يشرف عليـه مـن الجانب السعودي محمد أبا الخيل لجأت إلى محمد أطلب مساعدته وكان، كالعادة، متجاوباً بلا تحفظ. تم الإتفاق ضمن هذا البرنامج أن تقوم مؤسسة المانية طبية بتزويدنا بالأطباء والأخصائيين اللازمين لإدارة المستشفى صحيا، على أن تتولى الوزارة العبء الإداري، التموين والصيانة والنظافة ( عن طريق مقاولين محليين ). كانت تكلفة السرير، بهذه الطريقة ، لا تتجاوز مائتي ألف ريال. بدأنا بثلاثة مستشفيات شُغلت بهذه الطريقة وعندما تركت الوزارة


كانت التجربة تبشر بالنجاح وتسمح بتعميمها على مستشفيات إضافية. أعتقد أن الأوان قد آن للحديث عن خروجي من وزارة الصحة، معفى بأمر ملكي، في ربيع ١٩٨٤م ( ١٤٠٤ هـ)، بعد سنة ونصف في الوزارة، منها سنة بالنيابة، ونصف سنة بالأصالة. قصة الإعفاء دراما إنسانية معقدة، وهي دراما لا موضع لها في كتاب عن الإدارة. عندما يُتاح لي أن أكتب، ذات يوم، سيرتي الذاتية الكاملة فقد يكون للدراما الإنسانية مكانها في السيرة. أما في هذا الكتاب السيرة الإدارية، فسوف أكتفي بالجانب الإداري، وبالجانب الإداري وحده.


من الناحية الإدارية لا يصعب فهم ما حدث. أراد الوزير أن يتخذ اجراءات إعتقد أنها ضرورية، و لم يوافق الملك. أوضح الوزير للملك، بلا أي غموض، أنه لا يستطيع أن يبقى في موقعه إذا لم تتخذ هذه الإجراءات. نصح الملك الوزير، مرة بعد مرة، أن يتذرع بالصبر وأن يبقى في موقعه. فجر الوزير الموقف عندما نشر قصيدة " رسالة المتنبي الأخيرة إلى سيف الدولة ". كان نشر القصيدة خروجاً صارخاً على قواعد اللعبة السياسية / الاجتماعية / الإدارية في المملكة: هذه القواعد لا تجيز بحث أي خلاف في العلن، فضلا عن النشر في الصحف، فضلا عن خلاف مع رئيس الدولة. لم يكن أمام الملك بعد نشر القصيدة خيار. بعد أسابيع قليلة من نشر القصيدة صدر أمر ملكي بإعفائي من وزارة الصحة. أعتقد، ولا أعلم أن الإعفاء تراخي بعض الوقت لأن الملك أراد أن يختار التوقيت لا أن يُفرض عليه التوقيت فرضا هذا كل ما حدث. إلا أن أصحاب نظرية المؤامرة كان لهم تفسير آخر. بعد أن إنتهت كل مفرقعاتي الإعلامية، عندما أفلست من المبادرات، عندما تبينت أني سوف أفشل فشلاً ذريعا في وزارة الصحة، اخترعت أزمـة بـعـد أزمة، ومشكلة بعد مشكلة، حتى أخرج لا خروج الفاشلين بـل خـروج الأبطال. لم أكن قط، من المؤمنين بنظرية المؤامرة ولكني كنت دوما، أغبط أصحابها على خيالهم الواسع. وهذا التحليل بلا ريب هو درة من درر الخيال. لم يكن خروجي بطولة كانت البطولة أن أبقى لأكمل ما بدأته


ولكنني، لأسباب سأوضحها بعد لحظة، لم أستطع أن أبقى. وكان هناك تفسير آخر: حالة الغرور التي انتابتني في تلك الفترة نتيجة


الشعبية والضجيج الإعلامي. إذا كان المقصود بالغرور الثقة بالنفس فهذه علة لم تفارقني لحظة. أما إذا كان المقصود بالغرور الإستعلاء علـى أحـد مـن خلـق اللـه فهذا شعور لم أعرفه حتى هذه اللحظة وأرجو ألا أعرفه أبداً. إذا كان لا بد من تفسير نفسي فإنه يكمن في " الأسطورة". كان الرجل أمام خيار: إما أن يبقى الوزير وتنتهي الأسطورة، أو أن ينتهي الوزير وتبقى الأسطورة. إنحاز صاحبنا، بلا تردد، إلى الأسطورة. هذا ما حدث ذهب الوزير وبقيت الأسطورة.


بصرف النظر عن نظريات المنظرين هناك سؤال إداري هام لا بد أن أجيب عليه. لماذا شعرت أن تلك الإجراءات، أن أي إجراءات من الأهمية


بحيث ربطت بينها وبين بقائي في الوزارة؟ لا بدّ أن أذكر القارىء بما قلته، وكررته، عن الإنضباط. لم أتصور، قط، ولا أتصور ، الآن، أني كنت أتمتع بأي ميزة شخصية على أي سلف من أسلافي الكرام في وزارة الصحة.
كل ما ميزني عنهم أنني جئت بثقة مطلقة، بتفويض كامل شامل، لم يحظ به وزير صحة، أي وزير صحة آخر من قبل. عندما رفض الملك إجراءات كنت أراها ضرورية كان معنى هذا، في نظري ، أن الثقة بدأت تهتز. لم يكن هذا، إذا أردنا الدقة، رأيي بمفردي بدأت البيروقراطية – وهي أحد الكائنات بصرا وأرهفها سمعا - تلمس أن التفويض الكامل الذي بدأت به لم يعد كاملاً


Summarize English and Arabic text online

Summarize text automatically

Summarize English and Arabic text using the statistical algorithm and sorting sentences based on its importance

Download Summary

You can download the summary result with one of any available formats such as PDF,DOCX and TXT

Permanent URL

ٌYou can share the summary link easily, we keep the summary on the website for future reference,except for private summaries.

Other Features

We are working on adding new features to make summarization more easy and accurate


Latest summaries

في ليلةٍ من ليا...

في ليلةٍ من ليالي سنة ١٦٤٠، بدأ الناس يَفِدُون إلى حانة بوروجونيا في باريس، لمشاهدة رواية «كلوريز» —...

والم اكز المخية...

والم اكز المخية المسؤولة عن اللغة وهي ثلاثة م راكز تقع في القسم الأمامي الأعلى من القشرة المخية الذي...

one morning in ...

one morning in 852 CE, a man climbed to the top of a minaret of a large mosque in Cordoba. He was we...

يعتبر دور المرا...

يعتبر دور المراجع التأكيدي والاستشاري في تحسين عمليات الحوكمة وإدارة المخاطر والرقابة الداخلية أمرًا...

أدى أسلوب الريّ...

أدى أسلوب الريّ بالغمر بطريقة تغيب فيها انظمة الصرف الفعالة إلى ظهور علامات تقزّم النبات المزروع واص...

في ظّل التطورات...

في ظّل التطورات التكنولوجية المتسارعة، أصبح التسويق الإلكتروني أداةً لا غنى عنها في إدارة الأعمال؛ ح...

التبادل التجاري...

التبادل التجاري الخارجي عرف العرب قديمًا فوائد التجارة الخارجية، ومن أهمها تصدير الفائض عن حاجتهم وا...

Medicinal plant...

Medicinal plants have long been used as alternative therapy. Today, there's a growing search for eff...

Strengths• Glob...

Strengths• Global Presence: FedEx has a strong global .1 network with operations in over 220 countri...

stc Group is th...

stc Group is the digital transformation engine in the region, offering advanced solutions and drivin...

A person with ...

A person with a co-occurring disorder presents with both a mental health disorder and a substance ...

في احد الليالي ...

في احد الليالي البارده كان هناك جمل جشع و رجل طيب وفي أحد الليالي قد طلب جمل من صاحبه رجل ان يدخل ق...