Lakhasly

Online English Summarizer tool, free and accurate!

Summarize result (70%)

نشأت مدرسة شيكاغو في خضم ظروف فكرية واجتماعية خاصة جدّا، تمثلت بالأساس في احتضان مدينة شيكاغو، والأنثروبولوجيا بشكل خاص، وفي توجه رواد هذه المدرسة منذ البداية إلى
البحث الميداني لرصد ود ا رسة مختلف التحولات الديموغ ا رفية والاجتماعية
والاقتصادية التي تعرفها مدينة استطاعت في ظرف خمسين سنة استقطاب
أزيد من ثلاثة ملايين من المهاجرين القادمين من مختلف مناطق أمريكا ومن
وهذا الأمر ينطبق على الجيل الأول للمدرسة )طوماس
، كما ينسحب كذلك على الجيل الجديد
فالمدينة شهدت هجرة قوية أفضت إلى اختلاط سكاني، الحياة، ايطاليون . ومتمايزة جدا على مستوى العادات واللغة عن الإيرلنديي ن
وتحولت أحياء
المدينة التي احتضنت تلك الفسيفساء الإثنية إلى غيتوهات غير قابلة للولوج
نسبيا، وساعدت عوامل أخرى على نشأة مدرسة شيكاغو، فعلاوة على العامل
الإبستيمولوجي-المعرفي المتمثل في الأسس والمنطلقات الفكرية والفلسفية
والمنهجية التي قام عليها هذا التقليد السوسيولوجي بفضل استثمار الت ا رث
في أمريكا كالفلسفة الب ا رغماتية )جون ديوي ووليام جيمس( وتيار التفاعلية
الرمزية مع جورج هربرت ميد، هناك العامل المؤسساتي، المرتبط بتوفر الشروط
للد ا رسات العليا، على يد ألبيون سمول بطلب من
الذي
يتجلى في الطلب الاجتماعي، النابع مع واقع المجتمع الأمريكي وواقع حواضره
بالخصوص وما عرفته من تحولات اجتماعية هائلة في بداية القرن العشرين ، وبخص وص مسألة التسمية التي أثارت نقاشا مستفيضا، وصل إلى حد التشكيك
في وجود المدرسة نفسه أو في المضمون الذي تأخذه، فتعبير "مدرسة شيكاغ و "
طرف أساتذة وطلبة جامعة شيكاغو خلال الفترة الممتدة بين سنتي 1915
ولا يتعلق الأمر دائما بتيار فكري متجانس يعتمد مقاربة نظرية
مشتركة، نوعا من الوحدة ومكانة خاصة ومميزة في حقل السوسيولوجيا الأمريكية، ويمكن
وجودها أو في حقيقة توفر الوحدة والانسجام بين الأعمال والأسماء الممثلة
لها، ومثلما يؤكد هاورد بيكر، المدرسة من علماء الاجتماع المعاصرين، ولويس وورث نفسه الذي يعد أحد ممثلي هذه المدرسة، لا
ينفي في نظر بيكر، الاختلافات الكبرى في ط ا رئق البحث القائمة بين أساتذة
كان لرواد مدرسة شيكاغو إذن شرف
ومن حالة النظر الانطباعي
للظواهر والوقائع الاجتماعية إلى حالة النظر العلمي الاستكشافي، من خلال
التقنيات المنهجية التي ما زلنا نستعملها إلى اليوم، وبالخصوص تلك التي تنعت
بالكيفية، ميتودولوجيا ومدرسة للاشتغال والعمل أكثر مما هي تيا ا ر نظريا أو مدرسة فكري ة
حتى وإن تواطأ مؤرخو علم الاجتماع على تسميتها بمدرسة شيكاغو. أنجزت سلسلة من الد ا رسات حول
لكنها كرست على الخصوص
عددا من أعمالها لمشكل سياسي واجتماعي مركزي، كان يهم آنئذ كل المدن
الكبرى الامريكية ويتجاوز مجال سوسيولوجيا المدينة، تغي ا رت كمية وكيفية مهمة، فشكلت
تتميز إلى جانب تخصصها ال حضري باختيار منهجي خاص، ينتصر للبحث
الإمبريقي الكيفي، التي تبلورت وتطورت في خضم الممارسة البحثية والانشغال بد ا رسة مختلف
وخاصة ظاهرتا
بالانطلاق من وجهة نظر الفاعل الاجتماعي، ود ا رسة علاقاتهم بالواقع المحيط بهم، ومن أجل ترجمة هذا التصور على أرض
الواقع، تسمية المنهج السوسيولوجي الكيفي التي ستصبح متداولة فيما بعد، ويتضمن
استغلال الوثائق الشخصية والسير الذاتية والم ا رسلات
الخاصة ومذك ا رت وحكايا الحياة، تقنيات د ا رسة الحالة
يعتبروها غير صالحة، بل يمكن
أكدوا بشكل
بل على أن الجمع
والتفاعلية الرمزية، فإن هذا الت ا رث السوسيولوجي الحي
والفاعل، والقابل للاستثمار، يبقى غير متملك بعد بالنسبة لبعض البلدان النامية . 2 - وليام إسحاق طوماس والمقاربة الاثنوغ ا رفية للتحضر والهجر ة
ينتمي وليام إسحاق طوماس الى الجيل الأول من الباحثين الذين ينتمون لمدرسة
شيكاغو حيث التحق بالجامعة كأستاذ مساعد منذ سنة 1897 ثم أستاذا مشاركا في
سنة 1900 واستاذا من 1910 الى 1918 ، وقد جاء الى السوسيولوجيا عن طريق
الفلسفة وعلم النفس الاجتماعي حيث سبق له ان درس هذه المواد في جامعة برلين
وتأثر بالمناخ الفكري السائد آنذا ك في الجامعة الألمانية مثله مثل روبرت بارك
المنتمي كذلك لجيل المؤسسين، وقد تأث ر خلال سنوات تكوينه بهربرت سبنسر
وتظهر النزعة النفسية الاجتماعية في اعماله الأولى التي تناول فيها قضايا تهم
النوع والاختلافات الجنسية ومدى تأثيره ا في السلوك، الاجتماعي هو الذي سيدفعه لاحقا لاستعمال المنهجية المعتمدة على السيرة الذاتية
وق ا رءة الوثائق والم ا رسلات الشخصية كوسيلة لاستخ ا رج المعلومة والحصول على
معطيات أساسية وموثوقة، وقد استعمل هذه المنهجية بنجاح في البحث الواسع الذ ي
اشرف على إنجازه حول المهاجرين ذوي الأصول البولندية بمساعدة الفيلسوف وعالم
الاجتماع البولندي فلوريان زناننكي والذي تم نشره تحت عنوان الفلاح البولندي وهو
ما بين 1918 و 1920 هذه الد ا رسة تناولت المحاور التالية:
-التنظيم الاجتماعي للأسرة البولندية، عاداتها وقيمها. - أوجه إعادة تنظيم المجتمع على أسس فر دية )الاسرة النووية( . - است ا رتيجيات الزواج ما بين أمريكا وبولندا)الاختلافات(. لقد تطرق كل من طوماس وزنانيكي في د ا رستهما هاته لوضعية الفلاحين البولونيين
في موطنهم الأصلي وثم وضعيتهم بعد هجرتهم الى أمريكا، من أجل التعرف على
نمط عيشهم في بولونيا ثم ما ط أ ر من تغيير على نمط عيشهم وأوضاعهم الاجتماعية
والثقافية والاقتصادية بعد هجرتهم الى أمريكا، ومن خلال اعتمادهما على تقنيات
جديدة في البحث السوسيولوجي كحكايا الحياة ود ا رسة الحالة )المنهج البيوغ ا رفي(، استطاع كل منهما تحليل وفهم كل ا لإشكالات المرتبطة بهجرة الفلاح البولوني، واعادة التنظيم الذي يعني ضعف وت ا رجع تأثير القواعد الاجتماعية بين أف ا رد الجماعة، الذي يعرفه المجتمع، الحضري، وذلك نتيجة للارتفاع السريع للكثافة السكانية، ص ا رعات داخل الأسرة وارتفاع نسبة الج ا رئ م، غير أن هذه الحالة من سوء التنظيم
لا تستمر الى ما لا نهاية، فكما هو الشأن بالنسبة لمفهوم الأنومي عند دوركايم، فإن سوء التنظيم هو حالة مؤقتة بحيث سرعان ما تسعى جماعة المهاجرين الى
تنظيم نفسها من خلال إنتاج قواعد وقيم جديدة تتلاءم مع واقعها الجديد حتى يستطيع
المهاجر الاندماج في المجتمع الأمريكي . وتعتبر هذه الد ا رسة التي تم تمويلها من طرف مؤسسة كليفر الخاصة اول بحث
ميداني رصين في السوسيولوجيا الامريكية مستخدما العناصر المنهجية التالية:
- الوقوف على الطريقة التي يتم من خلالها إد ا رك الاف ا رد للأوضاع التي
يتواجدون فيها وكيف يفهمون هذه الأوضا ع وقد صاغ وليام طوماس في هذا
السياق المبدأ السوسيولوجي المشه ور: ان كل وضعية يعتبرها الفرد موجودة
تكون موجودة فعلا في امتداداتها، بعبارة أخرى ان تصو ا رتنا حول الواقع تؤثر
في سلوكنا وطريقتنا في البحث عن حلول للمشاكل التي نواجهها حتى لو كان
- الباحث السوسيولوجي يحتاج في نفس الوقت لد ا رسة الوقائع الاجتماعية والقيم
اولقواعد الخارجة عن الاف ا رد بالمعنى الدوركايمي، ويدرس في نفس الوقت
السلوك الشخصي المقابل لهذه القيم والقواعد والوقائع الاجتماعية . المعمقة ود ا رسة السيرة الذاتية من خلال السرد البي وغ ا رفي وق ا رءة الم ا رسلات
ود ا رسة الوثائق الإدارية واعتماد الاحصائيات الاجتماعية مع التركيز على
3 - روبرت ار ا ز بارك والمقاربة الايكولوجية للتحض ر
طوماس، الذي أجبر على تقديم استقالته بسبب فضيحة أخلاقي ة، حيث سيتمكن
من خلال إنجا زه العديد من
وفي هذا السياق اعتمد بارك
وهذا ما ميز سوسيولوجيته، تابع "بارك " مساره الد ا رسي بقسم الفلسفة وسيدرس الفلسفة الب ا رغماتية عند جون
فيه ما جعله مؤهلا لاستخدام تقنيات وأدوات كفيلة بجمع المعطيات الميدانية
السيرة الذاتية، والمقابلة( واكتس ب ما يكفي من الخبرة لاقتحام موضوعات
نمط من التنظيم الاجتماعي لا مجرد ظاهرة جغ ا رفية، لكن ه لم يمكث طويلا في
عالم الصحافة، حيث سيستأنف د ا رسته بشعبة الفلسفة من جديد بجامعة هارفارد
حيث سيلتقي فيها بوليام جيمس الذي اثر فيه كثي ا ر لينتقل بعدها الى المانيا
لاستكمال تكوينه حيث سيلتقي بجورج سيمل وسيحضر أطروحة للدكتو ا ره حول
الجمهور والاشهار تحت اش ا رفه وعند عودته الى أمريكا سيتقلد عدة مناصب
بالجمعيات الإصلاحية التي كانت تهتم بأوضاع السود في أمريكا وافريقيا. المعنون مدخل لعلم السوسيولوجيا والذي اعتبره طلابه إلى حدود 1943 "الإنجيل
من اهم ما انجزه، ومن خلال هذين العملين سيدخل بارك تاريخ
السوسيولوجيا . ان التحضر بالنسبة لروبرت بارك ه و ظاهرة إيكولوجية بمعنى أنها مثلها مث ل
باقي الظواهر الطبيعية الاخرى تخضع لنفس القوانين التي تحكم هذه الأخيرة ، وكي يعمل على إحداث القطيعة مع التصور غير العلمي الذي كان سائدا
إلى تبني نموذج مع رفي جديد كفيل بالمساعدة على معرفة الواقع الحضري
معرفة علمية اولتمكن من فهم هذا الواقع والسيطرة عليه، فما المقصود
بالإيكولوجيا وكيف وظفها بارك في مقاربة ظاهرتي التحضر والهجرة ؟
على الظواهر الحضرية، سنحاول تسلي ط الضوء على المقاربة الإيكولوجية كعلم
طبيعي وعلم للبيئة، يهتم بالكيفية التي تتوزع بها الكائنات الحيوانية والنباتية في
معينة ويجعل مجموعة أخرى تغادرها أو تغيرها ؟ بمعنى أن الإيكولوجيا هي مقاربة
تسلط الضوء على العلاقات بين الكائنات الحية ومحيطها الطبيعي، البيولوجي إرنست هيجل (Ernst Haeckel) أول من أستخدم مفهوم الإيكولوجيا، وقام بتطبيقه على طبيعة العلاقة التي ينسجها الحيوان مع بيئته العضوية وغير
العضوية، ولكن يرجع أصل هذا المفهوم لتشارلز داروين الذي أصدر سنة 1859
أهم الأعمال المؤثرة في العلم الحديث وأحد ركائز علم الأحياء التطوري وهو مؤلفه
الشهير "في أصل الأنواع ، حيث قدم فيه داروين نظريته الذائعة الصيت استناد ا
على ب ا رهين علمية جمعها في رحلته البحرية في ثلاثينات القرن التاسع عشر، من بين اهم الخلاصات التي توصل إليها
فيها، هي الكائنات الأقل قدرة على البقاء على قيد الحياة، الأكثر تأقلما مع البيئة التي توجد فيها، قيد الحياة والأكثر تكاث ا ر، الى الأجيال القادمة. مفهوم ا لإيكولوجيا المشتق من علم الأحياء )البيولوجيا(، لفهم عملية اندماج الأف ا رد داخل المدينة وكذلك عملية عدم اندماجهم. لأنه يعتبر أن
لأنها تنشأ
وأن السكان يتأثرون
وهذا التأثير هو ما يجعلهم متميزين عن غيرهم
بناء على ما سبق يرى بارك أنه بنفس المبدأ الذي يتم به د ا رسة علاقات
يمكن د ا رسة علاقة الإنسان بيئته الحضرية، ومن
أهم الأسئلة التي يرى أنه من الضروري الإجابة عنها داخل السوسيولوجيا انطلاقا
10
من المقاربة الإيكولوجية هي: ما الذي يحكم تواجد جماعة اجتماعية في مجال
حضري معين؟ وما الذي يدفع جماعة أو فرد للهروب من مجال والحلول في آخر؟
وما نوع التفاعلات التي تنشأ بين الناس والوسط الطبيعي؟ وكيف يتفاعل الاف ا ر د
إن ما يهم بارك في المجال الاجتماعي هو المجموعة أكثر من الإنسان الفرد، والعلاقات بين الناس أكثر من علاقاتهم مع الأرض التي يعيشون عليها" وذلك
على عكس كل من ماكس فيبر وجورج زيمل اللذان كان لهما اهتمام بالفرد أكثر
من الجماعة، ولم يكتف بارك بهذا فقط بل اطلع على أعمال التطوريون
الطبيعيون خصوصا أعمال داروين، ص ا رع بامتياز بين الأف ا رد مثلها مثل المحيط الطبيعي الذي تعيش كائناته على
فالذين يصارعون من أجل استم ا ررهم يجدون
أما الكائنات غير القادرة على الص ا رع فهي مهددة
بالانق ا رض، المتميز بديناميته، وتطوره السريع والذ ي يفرض على الأف ا رد مسايرته والتأقلم
وبهذا نجد
ولذلك، فإن المنطلق
بالعضوية الحية، وبالتالي، روبرت بارك مطبوعة بنزعة طبيعوية، ومنه فالمدينة من هذا المنظور
ال ا رئد الثاني لشيكاغو إلى اعتبار المجال الحضري أهم ما يميز النظرية
11
السوسيولوجية الحديثة وأن ما يجعل المدينة المجال الأنسب لد ا رسة الحياة
وتتطور بسرعة، وبالتالي فهي قابلة للملاحظة وللتجريب. فهي تمنح جوا خاصا لأف ا ردها فكل فرد وكيفما كانت أطواره يجد مجالا
فيها ويمكنه من التعبير عن خصوصياته، هذا من ناحية، المدينة حسب المنظور الإيكولوجي هي السكن الطبيعي للإنسان المتحضر، ففي المدينة تطورت الفلسفة والعلم اللذان يجعلان الإنسان ليس حيوانا عاقلا
فحسب، بل حيوانا رفيعا، وبالتالي فالفرد المديني تميز عن الحيوانات الدنيا
وعن البدائيين ، العالم الذي أصبح محكوما على هذا الإنسان أن يعيش فيه ويواكب تطو ا رته . مزدوجة عن المدينة على الرغم من التقدم والرخاء والحرية ونمط العيش الأفضل
الذي تتميز به المدينة، إلا أنها مجال المعدلات الأعلى في الجريمة والانح ا ر ف
وسوء التنظيم الاجتماعي؛ فالمجال الحضري مجال غير متجانس لأنه عبارة
وذلك ما يعبر عنه بارك من منظور
وضعها ارنست بيرجس في مقاله "نمو المدينة" والتي سيشتغل عليها بارك من
لكن ما يميز هذه المناطق عن
فكل مدينة
حلقتها الأولى هي مركزها ونواتها التي تكون مخصصة
12
للأعمال والتجارة ثم المناطق الصناعية سواء تلك المختصة في الصناعات
الثقيلة أو الخفيفة، بالإضافة
ولكل مدينة مناطقها الهامشية حيث تكون أكثر حرية وأكثر تشجيعا على
إن هذه البنية الإيكولوجية للمدينة تتشكل
بفعل الانتقاء والتميز من جهة، وعملية التنشئة والعدوى من جهة أخرى. هاتين
العمليتين تجعل مناطق المدينة تتحول إلى مناطق متميزة عن بعضها البعض
مجاليا وثقافيا، الاجتماعي والثقافي، الاجتماعي والاقتصادي، وبالتالي، فالسكن يحدد الطبيعة الاقتصادية والاجتماعية للأف ا رد، وهذا سيساهم بشكل آلي
وسيقلص من نسبة
لأنه يتم وفق حلقات مغلقة حيث أف ا رد المركز يتواصلو ن
فلكل مجال في المدينة خصوصياته، فمثلا
كلما ابتعدنا عن مركز المدينة ابتعدنا عن التنظيم والقانون، وأيضا العودة إلى
المركز تفرض على الأف ا رد أن يكونوا مجبرين على التصنع، المركز إلى المحيط نجد العنف والعدوانية، ومنه فالمجال بثقافته يفرض على
الطبيعي، وهذا معناه أن هذه المجالات تشكلت بطريقة اعتباطية وتلقائية بمعنى
وهي تخص الأحياء
13
المركز على الأف ا رد والإقصاء والتهميش الذي تتعرض له فئات عريضة داخل
المجال الحضري ، وهذا يعني أن المركز له خصوصياته وله قالبه الخاص، وهو الذي تتوفر فيه الأنشطة الاقتصادية ، وهذا ما يجعله نقطة جذب
بالإضافة إلى أن
الانتماء إلى المركز يتطلب مكانة اقتصادية مريحة، عن الانتقاء، وبالنسبة إليه هذا المجال الهامشي يصبح مع مضي الوقت مجالا
خاصا له تقاليده وعاداته وقيمه الخاصة، المشترك الذي يقوم على ذاكرة جماعية ومشاعر خاصة بها، إن المجال
الطبيعي يتكون من أف ا رد غير متشابهين ثقافيا ما يجعلهم يعيشون بشكل مشترك
هو وضعيتهم الاقتصادية وهذه الوضعية هي وضعية إجبارية وليست اختيارية . و"التوازن" و"التنافس"، و"التأقلم"، أن عملية اندماج المهاجرين وانخ ا رطهم في الحياة الاجتماعية داخل مجتمعات
تمر بالضرورة عبر أربعة م ا رحل، - مرحلة التنافس، وهي مرحلة يتشكل التفاعل فيها بدون اتصال، حيث
يواجه المهاجر كل مشاكل الحياة الاجتماعية الجديدة، 14
هذا التنافس يكون ضمنيا وغير
معلن عنه من اجل الوصول الى خي ا رت المجال او الى السلطة، انه تنافس بين قيم المهاجر القديمة التي حملها معه من بلده الأصلي
- مرحلة الص ا رع، الحصول عليم اثناء التنافس، اذ يكون اما
الذات القديمة والذات الجديدة للمهاجر. - مرحلة التأقلم، البحث عن الانسجام والاعت ا رف، جزئي بالمهاجر، المستقبل، مجتمع البلد المستقبل، يتكلم لغتهم ويطبق
ويخضع قيمه وسلوكاته وخطاباته لمرجعيتهم الثقافية. مرحلة الاستيعاب بشكل كلي عند الجيل الثالث أو ال ا ربع للمهاجرين وما
لأن الجيل الأول لا يستطع الاندماج بشكل كلي على اعتبار ان
15
فكرة العودة إلى البلد الأصلي تظل ت ا روضه بشكل دائم، يحاول أن يعيد إنتاج ثقافة بلده الأصل في البلد المستقبل، التي يخضعون لها تتمحور حول التشبث بتقاليد وثقافة البلد الأصلي. حيث إنها، تتكون وتنمو بشكل لم يخطط له ولا يمكن السيطرة عليه، ولا شك أن هذا
مع "النظرة الاجتماعية" ذات النزعة الطبيعية، والتي تفترض
سوسيولوجيا الهج ا رت في مشروع بارك، هو أنها
تنظر للهجرة والمهاجر من منظورين اثنين: منظور يعتبر المهاجر الفرد الأكثر
نشاطا وإنتاجية وأداة لنقل الثقافة وتقدم الحضا ا رت. المهاجر نفسه أداة مساعدة على ظهور وانتشار سوء التنظيم الاجتماعي، كما
يتمظهر في الفقر والإج ا رم والفساد الأخلاقي
4 - لويس وورث والثقافة الحضري ة
أ ا رد لويس وورث الابتعاد والتميز عن باقي الاتجاهات التي كانت سائدة في
مدرسة شيكاغو، ويتجلى هذا الابتعاد من خلال تجاهله ورفضه للنموذج
وركز اهتمامه على شكل المجموعات
الحضرية أي شكل التجمعات السكانية في علاقتها بسياقاتها التاريخية المختلفة، وهذا ما يقف عليه كل مهتم بت ا رث جورج زيمل السوسيولوجي وخصوصا ما له
فقد سعى من خلالها الى البرهنة على اصالة أفكاره في علم الاجتماع مجسدا
16
إياها بوضوح في د ا رسته الشهيرة حول الغيت و، حي ث سيقف فيها على رسم وتتبع
تاريخ تشكل الحي اليهودي ابتداء من سنة 1516 مفندا بذلك الطرح
وفي تعريفه للمدينة استبعد اعتبارها مجرد وحدة فيزيقية او طبيعية
واستبعد أيضا اعتبارها تشكل قطيعة مع العالم القروي، فالمدينة في نظره هي
أساس عملية التح ول الذي لا يحدده فقط التواجد في مجال ما او عدد معين
من السكان )المعيار الكمي( او معايير إدارية او قانونية معينة، مقالته الشهيرة الظاهرة الحضرية كنمط للحياة الصادرة سنة 1938 حيث اعتبر
ان التحضر هو عبارة عن نمط حياة يعاش في المدينة، الحضري، وبناء عليه فالمدينة من وجهة نظر سوسيولوجية هي تجمع سكاني
كبير الحجم كثيف نسبيا ودائم بأف ا ر د غير م تجانسين اجتماعيا، التعريف ان المدينة تتسم بخصائص ثلاث هي الحجم، ومن هذه الخصائص حدد وورث نموذجه المثالي للحياة الحضرية اذ اختزله في
الاتي: خاصية التجاهل، تجزيئي عقلاني ونفعي، وتمتاز أيضا بتعدد الأدوار والانتماءات مما يجعل
كما تعوض العلاقات الجماعية الأولية بعلاقات جديدة
مرتبطة بتنظيمات اجتماعية كالأندية والجمعيات ذات الأساس العقلاني، آليات المماثلة والتمثل يسمح للأف ا رد بالانفتاح والابداع ومنه تبرز الف ردانية. التجزيء والتقسيم الشديد، حاجياتهم الضرورية وتبعا لذلك فهم يرتبطون بأكبر عدد من الجماعات
المنظمة، لكنهم في نفس الوقت أكثر استقلال عن الأشخاص واقل تبعية لهم، هذا ما يدل على ان المدينة تطبع سلوك اف ا ردها بعلاقات ثانوية أكثر منها
علاقات أولية، وعرضية تمتاز بالتحفظ والحذر وباللامبالاة. يتحدد المجال الحضري حسب لويس وورث من ثلاث متغي ا رت أساسية، تتظافر
فيما بينها لتنتج نمط حياة خاص هو نمط العيش ال حضري بمعنى ان للمدينة
المنافسة محل التضامن، وتتصاعد الفردانية والهامشية وتتقوى سطحية العلاقات ومختلف أنواع التفكك، انتشار الام ا رض العقلية والنفسية وتصاعد معدلات الجنوح والجريمة . الانتماءات اللاشخصية، وتوصل وورث الى ان حجم المدينة يؤثر على
العلاقات الاجتماعية، حيث انه كلما كبر الحجم كبرت الاختلافات بين
الامر الذي
يؤدي الى تلاشي العلاقات التعاونية الجماعية لتعوض بمكانيزمات جديدة
ويؤدي تعدد التفاعلات
ونسق التفاعل كذلك الى تفتيت وتجزئ العلاقات الاجتماعية واف ا رز وتقوية
هذه الوضعية تؤدي الى تباين في
الأدوار والى تخصص مهني ووظيفي دقيق يتجسد في تقسيم العمل واقتصاد
كما يطرح العدد الكبير من الاف ا رد مشكل اتخاذ الق ا رر وتدبير المشاكل
ومنه فالدفاع عن
عليهم في اتخاذ الق ا ر ا رت. 18
يعتبر وورث انه اذا كانت الكثافة السكانية تعني التقارب الفيزيقي والتمركز
المجالي، الاف ا رد، فمن المفارقات الغريب ة انه كلما كان الاف ا رد متقاربين فيزيقيا وجسديا
الفردية والعلمانية في المدينة وهكذا فان التساكن والتكدس المجالي للأف ا رد يؤدي
الى نشوء ظواهر جديدة مثل الفصل او العزل والتنافس على المجال، بحيث


Original text

نشأت مدرسة شيكاغو في خضم ظروف فكرية واجتماعية خاصة جدّا،
تمثلت بالأساس في احتضان مدينة شيكاغو، في نهاية القرن التاسع عشر،
لجامعة ا رئدة في كل مجالات العلم والمعرفة، وفي حقل علم الاجتماع
والأنثروبولوجيا بشكل خاص، وفي توجه رواد هذه المدرسة منذ البداية إلى
البحث الميداني لرصد ود ا رسة مختلف التحولات الديموغ ا رفية والاجتماعية
والاقتصادية التي تعرفها مدينة استطاعت في ظرف خمسين سنة استقطاب
أزيد من ثلاثة ملايين من المهاجرين القادمين من مختلف مناطق أمريكا ومن
خارجها بالخصوص، وهذا الأمر ينطبق على الجيل الأول للمدرسة )طوماس
وبارك وبيرجيس ووورث وماكنزي...(، كما ينسحب كذلك على الجيل الجديد
ابتداء من منتصف الخمسينيات )بيكر، كرفينكل، وكوفمان، وست ا روس( ،
فالمدينة شهدت هجرة قوية أفضت إلى اختلاط سكاني، سيؤثر بقوة في نمط
الحياة، حيث تشكلت ساكنة المدينة من مجموعات إثنية متنوعة )بولونيون،
تشيك، ايطاليون ...( ومتمايزة جدا على مستوى العادات واللغة عن الإيرلنديي ن
والألمان والإسكندنافيين الذين وصلوا للمدينة في القرن 19 ، وتحولت أحياء
المدينة التي احتضنت تلك الفسيفساء الإثنية إلى غيتوهات غير قابلة للولوج
نسبيا، تعطي الانطباع باختلال اجتماعي كبير وتفترض مباد ا رت تخليقية ،
وساعدت عوامل أخرى على نشأة مدرسة شيكاغو، فعلاوة على العامل
الإبستيمولوجي-المعرفي المتمثل في الأسس والمنطلقات الفكرية والفلسفية
والمنهجية التي قام عليها هذا التقليد السوسيولوجي بفضل استثمار الت ا رث
السوسيولوجي الأوروبي )الفرنسي والألماني والإنجليزي( والفكر الفلسفي السائد
في أمريكا كالفلسفة الب ا رغماتية )جون ديوي ووليام جيمس( وتيار التفاعلية
2
الرمزية مع جورج هربرت ميد، إضافة إل ى دور حركة الإصلاح الاجتماعي
اولتحقيقات الاجتماعية التي ستلعب دو ا ر رئيسيا في التمهيد للبحث
السوسيولوجي الميداني، هناك العامل المؤسساتي، المرتبط بتوفر الشروط
الأكاديمية لإنتاج ونقل المعرفة العلمية في حقل السوسيولوجيا الحضرية الناشئ،
خصوصا تأسيس شعبة علم الاجتماع والأنثروبولوجيا بجامعة شيكاغو وقسم
للد ا رسات العليا، وتأسيس مجلة متخصصة... على يد ألبيون سمول بطلب من
رئيس الجامعة وليام هاربر، وهناك أخي ا ر العامل السوسيو-اقتصادي، الذي
يتجلى في الطلب الاجتماعي، النابع مع واقع المجتمع الأمريكي وواقع حواضره
بالخصوص وما عرفته من تحولات اجتماعية هائلة في بداية القرن العشرين ،
وبخص وص مسألة التسمية التي أثارت نقاشا مستفيضا، وصل إلى حد التشكيك
في وجود المدرسة نفسه أو في المضمون الذي تأخذه، فتعبير "مدرسة شيكاغ و "
يشير عادة إلى مجموعة من الأعمال والأبحاث السوسيولوجية المنجزة من
طرف أساتذة وطلبة جامعة شيكاغو خلال الفترة الممتدة بين سنتي 1915
و 1940 ، ولا يتعلق الأمر دائما بتيار فكري متجانس يعتمد مقاربة نظرية
مشتركة، لكن مع ذلك تتميز مدرسة شيكاغو بمجموعة من الممي ا زت تمنحها
نوعا من الوحدة ومكانة خاصة ومميزة في حقل السوسيولوجيا الأمريكية، ويمكن
القول إن مدرسة شيكاغو قد ترسخت بهذا الاسم حتى عند المجادلين في حقيقة
وجودها أو في حقيقة توفر الوحدة والانسجام بين الأعمال والأسماء الممثلة
لها، ومثلما يؤكد هاورد بيكر، أحد أبرز من يشكلون الامتداد المنهجي لهذه
المدرسة من علماء الاجتماع المعاصرين، فإن مدرسة شيكاغو لم تكن أبدا
مدرسة فكرية موحدة، وإنما بالأحرى مجالا لتقاسم الأفكار بين باحثين من
مختلف الأجيال، ولويس وورث نفسه الذي يعد أحد ممثلي هذه المدرسة، لا
ينفي في نظر بيكر، الاختلافات الكبرى في ط ا رئق البحث القائمة بين أساتذة
3
قسم علم الاجتماع بجامعة شيكاغو . كان لرواد مدرسة شيكاغو إذن شرف
الانتقال بعلم الاجتماع من الهواية إلى الاحت ا رف، ومن حالة النظر الانطباعي
للظواهر والوقائع الاجتماعية إلى حالة النظر العلمي الاستكشافي، من خلال
تأسيسهم لتقليد البحث الميداني في هذا العلم، وتمكنهم من ابتكار وتطبيق أهم
التقنيات المنهجية التي ما زلنا نستعملها إلى اليوم، وبالخصوص تلك التي تنعت
بالكيفية، ولعل هذا ما جعل رواد هذه المدرسة وأتباعها يفضلون اعتبارها تيا ا ر
ميتودولوجيا ومدرسة للاشتغال والعمل أكثر مما هي تيا ا ر نظريا أو مدرسة فكري ة
حتى وإن تواطأ مؤرخو علم الاجتماع على تسميتها بمدرسة شيكاغو.
ومدرسة شيكاغو هي سوسيولو جيا حضرية، أنجزت سلسلة من الد ا رسات حول
المشاكل التي كانت تواجهها مدينة شيكاغو، لكنها كرست على الخصوص
عددا من أعمالها لمشكل سياسي واجتماعي مركزي، كان يهم آنئذ كل المدن
الكبرى الامريكية ويتجاوز مجال سوسيولوجيا المدينة، إنه مشكل الهجرة واندماج
ملايين المهاجرين في المجتمع الأمريكي، فمدينة شيكاغو عرفت خلال بداية
القرن العشرين، تغي ا رت كمية وكيفية مهمة، أضحت موضوعا للتحليل، فشكلت
بالتالي "مختب ا ر اجتماعيا" لعلماء اجتماع المدرسة، وبحكم أن مدرسة شيكاغو
تتميز إلى جانب تخصصها ال حضري باختيار منهجي خاص، ينتصر للبحث
الإمبريقي الكيفي، على اعتبار ان رواد هذه المدرسة اهتمو ا بالمسألة المنهجية،
التي تبلورت وتطورت في خضم الممارسة البحثية والانشغال بد ا رسة مختلف
الظواهر والتحولات الاجتماعية التي عرفتها مدينة شيكاغو، وخاصة ظاهرتا
الهجرة والت حضر وتتميز المنهجية المعتمدة من طرف رواد مدرسة شيكاغو
وتلامذتهم، بالانطلاق من وجهة نظر الفاعل الاجتماعي، ومن د ا رسة أفعال
وممارسات الأف ا رد، ود ا رسة علاقاتهم بالواقع المحيط بهم، ومحاولة فهم المعنى
4
أو المعاني التي يعطونها لهذا الواقع، ومن أجل ترجمة هذا التصور على أرض
الواقع، تمت الاستعانة بتقنيات خاصة، تندرج ضمن ما سيجمعه الدارسون تحت
تسمية المنهج السوسيولوجي الكيفي التي ستصبح متداولة فيما بعد، ويتضمن
هذا المنهج تقنيات، استغلال الوثائق الشخصية والسير الذاتية والم ا رسلات
الخاصة ومذك ا رت وحكايا الحياة، وهناك من جهة أخرى، تقنيات د ا رسة الحالة
التي تعتمد الملاحظة المشاركة والملاحظة المباشرة والمقابلة والشهادة، وينبغي
الاشارة إلى أن رواد مدرسة شيكاغو لم يهملوا المناهج الكمية في أبحاثهم، ولم
يعتبروها غير صالحة، بل لقد أعطوها كل ما تستحق من عناية، بل يمكن
القول إنهم إضافة إلى كونهم ابتكروا واستعملوا المناهج الكيفية، أكدوا بشكل
ا رئد على عدم وجود أي تناقض بينها وبين المناهج الكمية، بل على أن الجمع
بين المناهج الكيفية والكمية يمكن أن يكون أكثر غنى ومردودي ة، وإذا كانت
العديد من التيا ا رت السوسيولوجية ال ا رئدة اليوم ما ت ا زل تمتح من الت ا رث الغن ي
الذي خلفته مدرسة شيكاغو، مثل الاثنوميتودولوجيا، والتفاعلية الرمزية،
وسوسيولوجيا الحياة اليومية، وغيرها، فإن هذا الت ا رث السوسيولوجي الحي
والفاعل، والقابل للاستثمار، يبقى غير متملك بعد بالنسبة لبعض البلدان النامية .
2 - وليام إسحاق طوماس والمقاربة الاثنوغ ا رفية للتحضر والهجر ة
ينتمي وليام إسحاق طوماس الى الجيل الأول من الباحثين الذين ينتمون لمدرسة
شيكاغو حيث التحق بالجامعة كأستاذ مساعد منذ سنة 1897 ثم أستاذا مشاركا في
سنة 1900 واستاذا من 1910 الى 1918 ، وقد جاء الى السوسيولوجيا عن طريق
الفلسفة وعلم النفس الاجتماعي حيث سبق له ان درس هذه المواد في جامعة برلين
وتأثر بالمناخ الفكري السائد آنذا ك في الجامعة الألمانية مثله مثل روبرت بارك
المنتمي كذلك لجيل المؤسسين، وقد تأث ر خلال سنوات تكوينه بهربرت سبنسر
5
وخصوصا بمؤلفه مبادئ علم الاجتماع الذي سيحدد له توجهاته المعرفية لاحقا،
وتظهر النزعة النفسية الاجتماعية في اعماله الأولى التي تناول فيها قضايا تهم
النوع والاختلافات الجنسية ومدى تأثيره ا في السلوك، ولعل هذا التوجه النفسي
الاجتماعي هو الذي سيدفعه لاحقا لاستعمال المنهجية المعتمدة على السيرة الذاتية
وق ا رءة الوثائق والم ا رسلات الشخصية كوسيلة لاستخ ا رج المعلومة والحصول على
معطيات أساسية وموثوقة، وقد استعمل هذه المنهجية بنجاح في البحث الواسع الذ ي
اشرف على إنجازه حول المهاجرين ذوي الأصول البولندية بمساعدة الفيلسوف وعالم
الاجتماع البولندي فلوريان زناننكي والذي تم نشره تحت عنوان الفلاح البولندي وهو
العمل الميداني الذي اعلن ع ن ميلاد المدرسة وهي د ا رسة نشرت في خمسة أج ا ز ء
ما بين 1918 و 1920 هذه الد ا رسة تناولت المحاور التالية:
-التنظيم الاجتماعي للأسرة البولندية، عاداتها وقيمها.



  • أوجه إعادة تنظيم المجتمع على أسس فر دية )الاسرة النووية( .

  • است ا رتيجيات الزواج ما بين أمريكا وبولندا)الاختلافات(.

  • سيرة حياة مهاجر بولندي اسمه فلاديك ويزنياوسكي .
    لقد تطرق كل من طوماس وزنانيكي في د ا رستهما هاته لوضعية الفلاحين البولونيين
    في موطنهم الأصلي وثم وضعيتهم بعد هجرتهم الى أمريكا، من أجل التعرف على
    نمط عيشهم في بولونيا ثم ما ط أ ر من تغيير على نمط عيشهم وأوضاعهم الاجتماعية
    والثقافية والاقتصادية بعد هجرتهم الى أمريكا، ومن خلال اعتمادهما على تقنيات
    جديدة في البحث السوسيولوجي كحكايا الحياة ود ا رسة الحالة )المنهج البيوغ ا رفي(،
    استطاع كل منهما تحليل وفهم كل ا لإشكالات المرتبطة بهجرة الفلاح البولوني،
    ولعل أهم مفهوم تم التوصل اليه في هذه الد ا رسة هو مفهوم سوء التنظيم الاجتماعي
    6
    واعادة التنظيم الذي يعني ضعف وت ا رجع تأثير القواعد الاجتماعية بين أف ا رد الجماعة،
    واعتبر أن الهجرة هي ظاهرة ناتجة بالأساس عن سوء التنظيم الاجتماعي والتفكيك
    الذي يعرفه المجتمع، كما أن الهجرة تصبح مصد ا ر للتفكيك الاجتماعي بالوسط
    الحضري، وذلك نتيجة للارتفاع السريع للكثافة السكانية، وقد لاحظ طوماس أن
    هجرة الفلاحين البولونيين الى أمريكا تتسبب في خلق نوع من سوء التنظيم وحدوث
    ص ا رعات داخل الأسرة وارتفاع نسبة الج ا رئ م، غير أن هذه الحالة من سوء التنظيم
    لا تستمر الى ما لا نهاية، فكما هو الشأن بالنسبة لمفهوم الأنومي عند دوركايم،
    فإن سوء التنظيم هو حالة مؤقتة بحيث سرعان ما تسعى جماعة المهاجرين الى
    تنظيم نفسها من خلال إنتاج قواعد وقيم جديدة تتلاءم مع واقعها الجديد حتى يستطيع
    المهاجر الاندماج في المجتمع الأمريكي .
    وتعتبر هذه الد ا رسة التي تم تمويلها من طرف مؤسسة كليفر الخاصة اول بحث
    ميداني رصين في السوسيولوجيا الامريكية مستخدما العناصر المنهجية التالية:

  • الوقوف على الطريقة التي يتم من خلالها إد ا رك الاف ا رد للأوضاع التي
    يتواجدون فيها وكيف يفهمون هذه الأوضا ع وقد صاغ وليام طوماس في هذا
    السياق المبدأ السوسيولوجي المشه ور: ان كل وضعية يعتبرها الفرد موجودة
    تكون موجودة فعلا في امتداداتها، بعبارة أخرى ان تصو ا رتنا حول الواقع تؤثر
    في سلوكنا وطريقتنا في البحث عن حلول للمشاكل التي نواجهها حتى لو كان
    اد ا ركنا خاطئا للأوضاع التي نعيشها .

  • الباحث السوسيولوجي يحتاج في نفس الوقت لد ا رسة الوقائع الاجتماعية والقيم
    اولقواعد الخارجة عن الاف ا رد بالمعنى الدوركايمي، ويدرس في نفس الوقت
    السلوك الشخصي المقابل لهذه القيم والقواعد والوقائع الاجتماعية .

  • استعمال التقنيات الكيفية في البحث السوسيولوجي المعتمدة على المقابلة
    المعمقة ود ا رسة السيرة الذاتية من خلال السرد البي وغ ا رفي وق ا رءة الم ا رسلات
    7
    ود ا رسة الوثائق الإدارية واعتماد الاحصائيات الاجتماعية مع التركيز على
    حالات خاصة عوض الاهتمام ببنيات عامة ومجردة.
    3 - روبرت ار ا ز بارك والمقاربة الايكولوجية للتحض ر
    يعد روبرت ار ا ز بارك الأب الروحي لمدرسة شيكاغو بعد ويليا م إسحاق
    طوماس، الذي أجبر على تقديم استقالته بسبب فضيحة أخلاقي ة، حيث سيتمكن
    بارك من فرض نفسه ك ا رئد فكري لمدرسة شيكاغو، من خلال إنجا زه العديد من
    المقالات والم ونوغ ا رفيات المتعلقة بالحياة الحضرية، وفي هذا السياق اعتمد بارك
    على المقاربة الإيكولوجية لظاهرتي التحضر والهجرة، وهذا ما ميز سوسيولوجيته،
    تابع "بارك " مساره الد ا رسي بقسم الفلسفة وسيدرس الفلسفة الب ا رغماتية عند جون
    ديوي ، وبعد حصوله على شهادة البكالوريوس سيتجه الى عالم الصحافة الذي تعلم
    فيه ما جعله مؤهلا لاستخدام تقنيات وأدوات كفيلة بجمع المعطيات الميدانية
    )التوثيق، السيرة الذاتية، والمقابلة( واكتس ب ما يكفي من الخبرة لاقتحام موضوعات
    مثل الهامش والمهمشين، وقادته تجاربه في صحافة التحقيق الى اعتبار المدينة
    نمط من التنظيم الاجتماعي لا مجرد ظاهرة جغ ا رفية، لكن ه لم يمكث طويلا في
    عالم الصحافة، حيث سيستأنف د ا رسته بشعبة الفلسفة من جديد بجامعة هارفارد
    حيث سيلتقي فيها بوليام جيمس الذي اثر فيه كثي ا ر لينتقل بعدها الى المانيا
    لاستكمال تكوينه حيث سيلتقي بجورج سيمل وسيحضر أطروحة للدكتو ا ره حول
    الجمهور والاشهار تحت اش ا رفه وعند عودته الى أمريكا سيتقلد عدة مناصب
    بالجمعيات الإصلاحية التي كانت تهتم بأوضاع السود في أمريكا وافريقيا.
    8
    ويعتبر المقال الذي كتبه بارك بطلب من وليام طوماس حول "برنامج البحث
    السوسيولوجي في المدينة" والكتاب الذي ألفه بالاشت ا رك مع ارنست بيرجس
    المعنون مدخل لعلم السوسيولوجيا والذي اعتبره طلابه إلى حدود 1943 "الإنجيل
    الأخضر "، من اهم ما انجزه، ومن خلال هذين العملين سيدخل بارك تاريخ
    السوسيولوجيا .
    ان التحضر بالنسبة لروبرت بارك ه و ظاهرة إيكولوجية بمعنى أنها مثلها مث ل
    باقي الظواهر الطبيعية الاخرى تخضع لنفس القوانين التي تحكم هذه الأخيرة ،
    وكي يعمل على إحداث القطيعة مع التصور غير العلمي الذي كان سائدا
    خلال فترة الإصلاح الاجتماعي سيعمد بارك على غ ا رر رواد مدرسة شيكاغو
    إلى تبني نموذج مع رفي جديد كفيل بالمساعدة على معرفة الواقع الحضري
    معرفة علمية اولتمكن من فهم هذا الواقع والسيطرة عليه، فما المقصود
    بالإيكولوجيا وكيف وظفها بارك في مقاربة ظاهرتي التحضر والهجرة ؟
    . قبل الخوض في غمار الكيفية التي طبق بها بارك المقاربة الإيكولوجية
    على الظواهر الحضرية، سنحاول تسلي ط الضوء على المقاربة الإيكولوجية كعلم
    طبيعي وعلم للبيئة، يهتم بالكيفية التي تتوزع بها الكائنات الحيوانية والنباتية في
    المجال الطبيعي؟ وما الذي يجعل مجموعة نباتية أو حيوانية تستوطن مجالات
    معينة ويجعل مجموعة أخرى تغادرها أو تغيرها ؟ بمعنى أن الإيكولوجيا هي مقاربة
    تسلط الضوء على العلاقات بين الكائنات الحية ومحيطها الطبيعي، ويعتبر
    البيولوجي إرنست هيجل (Ernst Haeckel) أول من أستخدم مفهوم الإيكولوجيا،
    وقام بتطبيقه على طبيعة العلاقة التي ينسجها الحيوان مع بيئته العضوية وغير
    العضوية، ولكن يرجع أصل هذا المفهوم لتشارلز داروين الذي أصدر سنة 1859
    9
    أهم الأعمال المؤثرة في العلم الحديث وأحد ركائز علم الأحياء التطوري وهو مؤلفه
    الشهير "في أصل الأنواع ، حيث قدم فيه داروين نظريته الذائعة الصيت استناد ا
    على ب ا رهين علمية جمعها في رحلته البحرية في ثلاثينات القرن التاسع عشر،
    وعلى عدة أبحاث وتجارب قام بها، من بين اهم الخلاصات التي توصل إليها
    داروين في هذا الكتاب هي أن الكائنات الأقل تأقلما وملاءمة للبيئة التي توج د
    فيها، هي الكائنات الأقل قدرة على البقاء على قيد الحياة، في حين أن الكائنات
    الأكثر تأقلما مع البيئة التي توجد فيها، هي الكائنات الأكثر قدرة على البقاء على
    قيد الحياة والأكثر تكاث ا ر، لأن خصائصها البيولوجية قادرة على التوريث والانتقال
    الى الأجيال القادمة.
    إذن، مفهوم ا لإيكولوجيا المشتق من علم الأحياء )البيولوجيا(، يستخدمه بارك
    لفهم عملية اندماج الأف ا رد داخل المدينة وكذلك عملية عدم اندماجهم. لأنه يعتبر أن
    المدينة هي بيئة من بيئات أخرى يعيش فيها الكائن البشري ويتفاعل فيها، والبيئة
    التي ينظم فيها الأف ا ر د أنفسهم ويحاولون التكيف مع تغي ا رتها بشكل دائم ومستمر ،
    ويعتقد بارك بأنه ينبغي د ا رسة ظاهرة التحضر مثل أي ظاهرة طبيعية، لأنها تنشأ
    وتتأثر بعوامل طبيعية كثيرة، وأن لكل مدينة طابعها الخاص، وأن السكان يتأثرون
    بالمجال المديني الذ ي يتواجدون فيه، وهذا التأثير هو ما يجعلهم متميزين عن غيرهم
    من سكان مناطق أخرى.
    بناء على ما سبق يرى بارك أنه بنفس المبدأ الذي يتم به د ا رسة علاقات
    الكائنات ببيئتها في البيولوجيا، يمكن د ا رسة علاقة الإنسان بيئته الحضرية، ومن
    أهم الأسئلة التي يرى أنه من الضروري الإجابة عنها داخل السوسيولوجيا انطلاقا
    10
    من المقاربة الإيكولوجية هي: ما الذي يحكم تواجد جماعة اجتماعية في مجال
    حضري معين؟ وما الذي يدفع جماعة أو فرد للهروب من مجال والحلول في آخر؟
    وما نوع التفاعلات التي تنشأ بين الناس والوسط الطبيعي؟ وكيف يتفاعل الاف ا ر د
    في مجالات معينة؟ وكيف يستخدمون هذه المجالات؟
    إن ما يهم بارك في المجال الاجتماعي هو المجموعة أكثر من الإنسان الفرد،
    والعلاقات بين الناس أكثر من علاقاتهم مع الأرض التي يعيشون عليها" وذلك
    على عكس كل من ماكس فيبر وجورج زيمل اللذان كان لهما اهتمام بالفرد أكثر
    من الجماعة، ولم يكتف بارك بهذا فقط بل اطلع على أعمال التطوريون
    الطبيعيون خصوصا أعمال داروين، واستخلص بأن الحياة المدين ية هي حياة
    ص ا رع بامتياز بين الأف ا رد مثلها مثل المحيط الطبيعي الذي تعيش كائناته على
    الص ا رع من أجل البقاء والاستم ا رر، فالذين يصارعون من أجل استم ا ررهم يجدون
    عشهم في المحيط الطبيعي، أما الكائنات غير القادرة على الص ا رع فهي مهددة
    بالانق ا رض، وهذا هو الحال بالنسبة للعلاقة التي تجمع الأف ا رد بالمجال الحضري
    المتميز بديناميته، وتطوره السريع والذ ي يفرض على الأف ا رد مسايرته والتأقلم
    معه، ففي حالة عدم مسايرته يصبح الأف ا رد مهددين بالعيش خارجه، وبهذا نجد
    أن الإيكولوجية الإنسانية اهتمت بالتفاعلات بين الناس والوسط الطبيعي وكذا
    التفاعلات بين الجماعات في وسط جغ ا رفي معين، ولذلك، فإن المنطلق
    الأساسي لهذا العلم يقتضي الإق ا رر بأن المدينة كائن عضوي طبيعي شبيه
    بالعضوية الحية، وبالتالي، فإن هذا التأثر بالإيكولوجيا سيجعل من مقاربة
    روبرت بارك مطبوعة بنزعة طبيعوية، ومنه فالمدينة من هذا المنظور
    الإيكولوجي تبدو كمجال قابل للد ا رسة الوضعية ولهذا انتهى ارنست بيرجس
    ال ا رئد الثاني لشيكاغو إلى اعتبار المجال الحضري أهم ما يميز النظرية
    11
    السوسيولوجية الحديثة وأن ما يجعل المدينة المجال الأنسب لد ا رسة الحياة
    الاجتماعية ويمنحها صفة المختبر الاجتماعي هو أن هذه المؤسسات تنمو
    وتتطور بسرعة، وبالتالي فهي قابلة للملاحظة وللتجريب.
    إن المدينة حسب بارك تضخم وتنشر وترسخ مظاهر الطبيعة الإنسانية الأكثر
    تنوعا؛ فهي تمنح جوا خاصا لأف ا ردها فكل فرد وكيفما كانت أطواره يجد مجالا
    فيها ويمكنه من التعبير عن خصوصياته، فالمجال الحضري مجال متنوع يضم
    "المجرم – المتسول – الإنسان – العبقري". هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية،
    المدينة حسب المنظور الإيكولوجي هي السكن الطبيعي للإنسان المتحضر،
    ففي المدينة تطورت الفلسفة والعلم اللذان يجعلان الإنسان ليس حيوانا عاقلا
    فحسب، بل حيوانا رفيعا، وبالتالي فالفرد المديني تميز عن الحيوانات الدنيا
    وعن البدائيين ، لكن إذا كانت المدينة هي العالم الذي خلقه الإنسان فإنها أيضا
    العالم الذي أصبح محكوما على هذا الإنسان أن يعيش فيه ويواكب تطو ا رته .
    إن تمجيد بارك للمدينة وللحياة الحضرية لم يمنعه مع ذلك من تبني نظرة
    مزدوجة عن المدينة على الرغم من التقدم والرخاء والحرية ونمط العيش الأفضل
    الذي تتميز به المدينة، إلا أنها مجال المعدلات الأعلى في الجريمة والانح ا ر ف
    وسوء التنظيم الاجتماعي؛ فالمجال الحضري مجال غير متجانس لأنه عبارة
    عن فسيفساء متعددة الألوان والأشكال، وذلك ما يعبر عنه بارك من منظور
    إيكولوجي واضح بالمناطق الروحية والمناطق الطبيعية وفي هذا الصدد استلهم
    بارك الفرضية المنطقية التي تقول بالإمكاني ة الطبغ ا رفية للظواهر الطبيعية التي
    وضعها ارنست بيرجس في مقاله "نمو المدينة" والتي سيشتغل عليها بارك من
    خلال تقسيمه للمدينة إلى عدة مناطق متجاورة، لكن ما يميز هذه المناطق عن
    بعضها البعض هو طبيعة السكان ونوعية الوظائف الممارسة فيها؛ فكل مدينة
    مكونة من حلقات، حلقتها الأولى هي مركزها ونواتها التي تكون مخصصة
    12
    للأعمال والتجارة ثم المناطق الصناعية سواء تلك المختصة في الصناعات
    الثقيلة أو الخفيفة، أيضا فإن كل مدينة لها مدنها التابعة المحيطة بها، بالإضافة
    إلى أحيائها ومستوطنات المهاجرين الذين يتمسكون بدرجات مختلفة بثقافتهم،
    ولكل مدينة مناطقها الهامشية حيث تكون أكثر حرية وأكثر تشجيعا على
    المغامرة وأكثر عزلة مقارنة بالأخرى ، إن هذه البنية الإيكولوجية للمدينة تتشكل
    بفعل الانتقاء والتميز من جهة، وعملية التنشئة والعدوى من جهة أخرى. هاتين
    العمليتين تجعل مناطق المدينة تتحول إلى مناطق متميزة عن بعضها البعض
    مجاليا وثقافيا، فالناس داخل المدينة كثي ا ر ما يبحثون عن التميز وعدم التجانس
    الاجتماعي والثقافي، ومنه فالمسألة المجالية يتم تحديدها انطلاقا من الانتماء
    الاجتماعي والاقتصادي، وفي هذا الصدد نجد ارنست بيرجس يحاول أن يبين
    على أن المجال الذي ينتمي إليه الفرد يتحدد من خلال متوسط الدخل، وبالتالي،
    فالسكن يحدد الطبيعة الاقتصادية والاجتماعية للأف ا رد، وهذا سيساهم بشكل آلي
    في ارتفاع مستوى الت ا رت بيات الاجتماعية والاقتصادية، وسيقلص من نسبة
    التواصل بين الفئات، لأنه يتم وفق حلقات مغلقة حيث أف ا رد المركز يتواصلو ن
    مع أف ا رد المركز والعكس بالعكس... فلكل مجال في المدينة خصوصياته، فمثلا
    كلما ابتعدنا عن مركز المدينة ابتعدنا عن التنظيم والقانون، وأيضا العودة إلى
    المركز تفرض على الأف ا رد أن يكونوا مجبرين على التصنع، وكلما انتقلنا من
    المركز إلى المحيط نجد العنف والعدوانية، ومنه فالمجال بثقافته يفرض على
    الأف ا رد سلطة معينة .
    استعمل بارك في مقاله "المدينة" مفهومين يبدوان مختلفين من ناحية التركيب
    لكنهما متشابهين على مستوى المعنى وهما: المجال الأخلاقي والمجال
    الطبيعي، وهذا معناه أن هذه المجالات تشكلت بطريقة اعتباطية وتلقائية بمعنى
    أنها تنمو بمعزل عن أي است ا رتيجية أو سياسية للدولة ، وهي تخص الأحياء
    13
    الهامشية والعشوائية؛ هذه المجالات تنتج عن سببين وهما: الضغط الذي يمارسه
    المركز على الأف ا رد والإقصاء والتهميش الذي تتعرض له فئات عريضة داخل
    المجال الحضري ، وهذا يعني أن المركز له خصوصياته وله قالبه الخاص،
    وهو الذي تتوفر فيه الأنشطة الاقتصادية ، التجارية، وهذا ما يجعله نقطة جذب
    بالنسبة للأحياء الأخرى وهو أيضا ما يمنحه سلطة الضغط، بالإضافة إلى أن
    الانتماء إلى المركز يتطلب مكانة اقتصادية مريحة، لذلك نجد بارك يتحدث
    عن الانتقاء، وبالنسبة إليه هذا المجال الهامشي يصبح مع مضي الوقت مجالا
    خاصا له تقاليده وعاداته وقيمه الخاصة، ومن هنا فهاته الفئات تشكل تاريخها
    المشترك الذي يقوم على ذاكرة جماعية ومشاعر خاصة بها، إن المجال
    الطبيعي يتكون من أف ا رد غير متشابهين ثقافيا ما يجعلهم يعيشون بشكل مشترك
    هو وضعيتهم الاقتصادية وهذه الوضعية هي وضعية إجبارية وليست اختيارية .
    المدينة مجال لبروز الحريات الفردية وتحسن نمط العيش والاتصال، مجال
    للإبداع الفكري والعلمي ولكن في نفس الآن مجال للانح ا رف والانتحار والعنف،
    وبهذا فإن المدينة هي عبارة عن مجال ذو وجهين .
    وانطلاقا من العدة النظرية الايكولوجية، التي تشمل مفاهيم "الاستخلاف "
    و"التوازن" و"التنافس"، و"الص ا رع"، و"التأقلم"، و"الاستيعاب ".... إ لخ، يعتبر بارك
    أن عملية اندماج المهاجرين وانخ ا رطهم في الحياة الاجتماعية داخل مجتمعات
    الاستقبال، تمر بالضرورة عبر أربعة م ا رحل، كل مرحلة تمثل جزءا أساسيا من
    حياة المهاجر:

  • مرحلة التنافس، وهي مرحلة يتشكل التفاعل فيها بدون اتصال، حيث
    يواجه المهاجر كل مشاكل الحياة الاجتماعية الجديدة، ويضطر الى
    14
    محاكاة جماعة المهاجرين السابقين له للتطبع بأفكارهم وطباعهم
    وسلوكاتهم وعادتهم وأنماط عيشهم، هذا التنافس يكون ضمنيا وغير
    معلن عنه من اجل الوصول الى خي ا رت المجال او الى السلطة، كما
    انه تنافس بين قيم المهاجر القديمة التي حملها معه من بلده الأصلي
    وقيم بلد الاستقبال الحديثة.

  • مرحلة الص ا رع، خلال هاته المرحلة يصبح التنافس ص ا رعا علنيا يخوضه
    الاف ا رد بوعي تام من اجل نيل الاعت ا رف الاجتماعي وشرعنة ما تم
    الحصول عليم اثناء التنافس، ويتخذ الص ا رع هنا عدة ابعاد، اذ يكون اما
    ص ا رعا مع الاخر المهاجر او مع الاخر الساكن الأصلي او الص ا رع بين
    الذات القديمة والذات الجديدة للمهاجر.

  • مرحلة التأقلم، خلالها تتحول التفاعلات من مرحلة التنافس والص ا رع إلى
    البحث عن الانسجام والاعت ا رف، أي عندما يتم القبول بشكل كلي أو
    جزئي بالمهاجر، وتحصل عملية التأقلم عندما يستطيع المهاجر استيعاب
    قيم البلد المستقبل والوعي بها وعدم تحويها إلى خصم أو عدو .

  • مرحلة الاستيعاب، خلالها يصبح المهاجر عضوا كاملا في البلد
    المستقبل، وهي اللحظة تتم عندما يتملك المهاجر بشكل كلي قيم وأخلاق
    مجتمع البلد المستقبل، ويصبح ابنا لهذا البلد، يتكلم لغتهم ويطبق
    قواعدهم، ويخضع قيمه وسلوكاته وخطاباته لمرجعيتهم الثقافية. وتبدأ
    مرحلة الاستيعاب بشكل كلي عند الجيل الثالث أو ال ا ربع للمهاجرين وما
    بعده، لأن الجيل الأول لا يستطع الاندماج بشكل كلي على اعتبار ان
    15
    فكرة العودة إلى البلد الأصلي تظل ت ا روضه بشكل دائم، كما انه جيل
    يحاول أن يعيد إنتاج ثقافة بلده الأصل في البلد المستقبل، أما الجيل
    الثاني فهو الذي يعيش عملية الص ا رع بحدة اكبر لأن التربية والتنشئة
    التي يخضعون لها تتمحور حول التشبث بتقاليد وثقافة البلد الأصلي.
    اعتبر بارك أن بنية المدينة تمتد بجذورها في الطبيعة الإنسانية، حيث إنها،
    تتكون وتنمو بشكل لم يخطط له ولا يمكن السيطرة عليه، ولا شك أن هذا
    التصور يلتقي، مع "النظرة الاجتماعية" ذات النزعة الطبيعية، والتي تفترض
    وجود قوى اجتماعية تشتغل بمعزل عن الإ ا ردات الفردي ة ولعل أهم ما يميز
    سوسيولوجيا الهج ا رت في مشروع بارك، وفي مدرسة شيكاغو عموما، هو أنها
    تنظر للهجرة والمهاجر من منظورين اثنين: منظور يعتبر المهاجر الفرد الأكثر
    نشاطا وإنتاجية وأداة لنقل الثقافة وتقدم الحضا ا رت. ومنظور مضاد يعتبر
    المهاجر نفسه أداة مساعدة على ظهور وانتشار سوء التنظيم الاجتماعي، كما
    يتمظهر في الفقر والإج ا رم والفساد الأخلاقي
    4 - لويس وورث والثقافة الحضري ة
    أ ا رد لويس وورث الابتعاد والتميز عن باقي الاتجاهات التي كانت سائدة في
    مدرسة شيكاغو، ويتجلى هذا الابتعاد من خلال تجاهله ورفضه للنموذج
    الايكولوجي كقاعدة للد ا رسات الحضرية، وركز اهتمامه على شكل المجموعات
    الحضرية أي شكل التجمعات السكانية في علاقتها بسياقاتها التاريخية المختلفة،
    وهذا ما يقف عليه كل مهتم بت ا رث جورج زيمل السوسيولوجي وخصوصا ما له
    علاقة بالكتابات الحضرية وهي كتابات متميزة عن كتابات زملائه في شيكاغو،
    فقد سعى من خلالها الى البرهنة على اصالة أفكاره في علم الاجتماع مجسدا
    16
    إياها بوضوح في د ا رسته الشهيرة حول الغيت و، حي ث سيقف فيها على رسم وتتبع
    تاريخ تشكل الحي اليهودي ابتداء من سنة 1516 مفندا بذلك الطرح
    الايكولوجي، وفي تعريفه للمدينة استبعد اعتبارها مجرد وحدة فيزيقية او طبيعية
    واستبعد أيضا اعتبارها تشكل قطيعة مع العالم القروي، فالمدينة في نظره هي
    أساس عملية التح ول الذي لا يحدده فقط التواجد في مجال ما او عدد معين
    من السكان )المعيار الكمي( او معايير إدارية او قانونية معينة، وعرفها في
    مقالته الشهيرة الظاهرة الحضرية كنمط للحياة الصادرة سنة 1938 حيث اعتبر
    ان التحضر هو عبارة عن نمط حياة يعاش في المدينة، ويمتاز بتعدد الأدوا ر،
    بالمجهولية والعلاقات السطحية، وهي المتغي ا رت المجسدة للذهنية والوجود
    الحضري، وبناء عليه فالمدينة من وجهة نظر سوسيولوجية هي تجمع سكاني
    كبير الحجم كثيف نسبيا ودائم بأف ا ر د غير م تجانسين اجتماعيا، نستنتج من هذا
    التعريف ان المدينة تتسم بخصائص ثلاث هي الحجم، الكثافة واللاتجانس،
    ومن هذه الخصائص حدد وورث نموذجه المثالي للحياة الحضرية اذ اختزله في
    الاتي: خاصية التجاهل، العلاقات الاجتماعية سطحية وعابرة وتأخذ منحى
    تجزيئي عقلاني ونفعي، وتمتاز أيضا بتعدد الأدوار والانتماءات مما يجعل
    الفرد ينخرط جزئيا، كما تعوض العلاقات الجماعية الأولية بعلاقات جديدة
    مرتبطة بتنظيمات اجتماعية كالأندية والجمعيات ذات الأساس العقلاني، فعبر
    آليات المماثلة والتمثل يسمح للأف ا رد بالانفتاح والابداع ومنه تبرز الف ردانية.
    ان ما يميز المجتمع الحضري هو ان ساكنته تلتقي حول أدوار تتسم بكثير م ن
    التجزيء والتقسيم الشديد، فالأف ا رد يعتمدون على أكبر عدد من الناس لتلبية
    حاجياتهم الضرورية وتبعا لذلك فهم يرتبطون بأكبر عدد من الجماعات
    المنظمة، لكنهم في نفس الوقت أكثر استقلال عن الأشخاص واقل تبعية لهم،
    17
    هذا ما يدل على ان المدينة تطبع سلوك اف ا ردها بعلاقات ثانوية أكثر منها
    علاقات أولية، فالعلاقات تكون وجها لوجه مباشرة ومع ذلك تظل سطحية
    وعرضية تمتاز بالتحفظ والحذر وباللامبالاة.
    يتحدد المجال الحضري حسب لويس وورث من ثلاث متغي ا رت أساسية، تتظافر
    فيما بينها لتنتج نمط حياة خاص هو نمط العيش ال حضري بمعنى ان للمدينة
    تأثير ووقع على الاف ا رد والجماعات ومجموع المواقف الاجتماعية، بحيث تحل
    المنافسة محل التضامن، ويبدأ الضبط الاجتماعي في الت ا رجع والت ا رخي
    وتتصاعد الفردانية والهامشية وتتقوى سطحية العلاقات ومختلف أنواع التفكك،
    انتشار الام ا رض العقلية والنفسية وتصاعد معدلات الجنوح والجريمة ... وهيمنة
    الانتماءات اللاشخصية، وتوصل وورث الى ان حجم المدينة يؤثر على
    العلاقات الاجتماعية، حيث انه كلما كبر الحجم كبرت الاختلافات بين
    الأشخاص أيضا ونفس الشيء بخصوص التمايز الاجتماعي، الامر الذي
    يؤدي الى تلاشي العلاقات التعاونية الجماعية لتعوض بمكانيزمات جديدة
    سمتها الأساسية الضغط الصارم والتنافس الاجتماعي، ويؤدي تعدد التفاعلات
    ونسق التفاعل كذلك الى تفتيت وتجزئ العلاقات الاجتماعية واف ا رز وتقوية
    الطابع الانفصامي للشخصية الحضرية، هذه الوضعية تؤدي الى تباين في
    الأدوار والى تخصص مهني ووظيفي دقيق يتجسد في تقسيم العمل واقتصاد
    السوق ، كما يطرح العدد الكبير من الاف ا رد مشكل اتخاذ الق ا رر وتدبير المشاكل
    الجماعية بشكل فردي نظ ا ر لاستحالة التواصل المباشر، ومنه فالدفاع عن
    مصالح الناس في المدن الكبرى يتم بالنيابة عنهم أ ي بالتفويض لمن ينوب
    عليهم في اتخاذ الق ا ر ا رت.
    18
    يعتبر وورث انه اذا كانت الكثافة السكانية تعني التقارب الفيزيقي والتمركز
    المجالي، فإنها تؤدي الى تقوية الاختلاف الداخلي والتباعد الاجتماعي بين
    الاف ا رد، فمن المفارقات الغريب ة انه كلما كان الاف ا رد متقاربين فيزيقيا وجسديا
    كلما كانت الاتصالات بينهم متباعد ة الامر الذي يؤدي الى هيمنة وطغيان
    الفردية والعلمانية في المدينة وهكذا فان التساكن والتكدس المجالي للأف ا رد يؤدي
    الى نشوء ظواهر جديدة مثل الفصل او العزل والتنافس على المجال، بحيث
    ينمو ويتطور تقسيم وفصل دقي ق بي ن أماكن العمل وأماكن السكن والإقام ة ،
    بحيث تكشف سيرورة الفصل هاته عن خليط حضري ، غير ان هذا المزيج
    الحض ري لا يؤدي الى انفتاح الاف ا رد على بعضهم البعض بل يؤدي الى
    الانغلاق والانطوائية والعزلة والوحشية الفردية والى العدوانية في النهاية،
    ولتجاوز هذا الوضع يتجه الاف ا رد الى التكتل والانخ ا رط بكثافة في الأنشط ة
    الاجتماعية.


Summarize English and Arabic text online

Summarize text automatically

Summarize English and Arabic text using the statistical algorithm and sorting sentences based on its importance

Download Summary

You can download the summary result with one of any available formats such as PDF,DOCX and TXT

Permanent URL

ٌYou can share the summary link easily, we keep the summary on the website for future reference,except for private summaries.

Other Features

We are working on adding new features to make summarization more easy and accurate


Latest summaries

معابنة cg.. a p...

معابنة cg.. a prcnut rcceIved nuy conmist of data itcms policy numntet and aoxunt. but nny eist xeve...

من العبط أن يقو...

من العبط أن يقول الإنسان هذا الهراء أو الخراء التالي: ((أنتوا قلقانين ليه؟؟ هو ديننا ضعيف؟؟ ما تسيب...

According to th...

According to the United Nations Children’s Fund (UNICEF), one child is killed or injured in Gaza eve...

النمط السياحي :...

النمط السياحي : قصر الصانع، قصر البنت، القصر الفريد".. معالم أثرية غارقة في الجمال تقع بمدائن صالح ...

قيام المﺸـرفات ...

قيام المﺸـرفات على التـدريب من الكلية ومن جهةالتدريب بتقـديم النصـح والإشــاد للطالبات حول أنظمة الع...

.5أنواع الدراسا...

.5أنواع الدراسات المختلفة وفقًا لمستويات المعرفة يتم تمييز بين البحث التجريبي والبحث غير التجريبي ال...

أوالا-: موضوع ا...

أوالا-: موضوع الدراسة وإشكالياته-: يتحدد موضوع هذه الدراسة بإشكالياته المختلفة فى محاولة فهم ودراسة...

‎ و الأب والطفل...

‎ و الأب والطفل والتكنولوجيا والسلوك الحميد والأمانة والسمعة الطيبة والخيال والثقافة والترفيه، ونقدم...

تأثير مرض نقص ا...

تأثير مرض نقص الدم على الجسم يؤدي مرض نقص الدم إلى تأثيرات سلبية عديدة على الجسم، حيث يمكن أن يتسبب ...

-1- مسؤولية الم...

-1- مسؤولية المسير اتجاه الشركة والشركاء تكون مسؤولية المسير في مواجهة الشركة والشركاء مسؤولية عقدي...

لطالما كان للسي...

لطالما كان للسيارات الرياضية مكانة خاصة في قلوب عشاق القيادة والسرعات العالية؛ لذا حرصت العديد من ال...

هو العلم الذى ي...

هو العلم الذى يدرس اللغة فى ذاتها ومن أجل ذاتها, ويعالج قضايا لغوية متعددة , مجردًا من الارتباط بلغة...