Lakhasly

Online English Summarizer tool, free and accurate!

Summarize result (91%)

الفلسفة وميادين الفكر)
أشرنا في الفصل السابق إلي استعداد الإنسان لأن يفلسف كما لاحظنا العلاقة الوطيدة بين عناصر الموقف الفلسفي حيت تجتمع في ساحة فكر الإنسان ظواهر الطبيعة وقدره الله . ويهدف الإنسان من وراء الفلسفة إلي الإحاطة بحقائق الأشياء بعد تأملها، ومن ثم فالفلسفة ضرب من المعرفة يقوم علي التأمل. غير الفلسفة. ومن الملاحظ أن بعض الناس يبدو غير شغوف بالفلسفة، ونراء أكثر ألفة وشغفا بميادين أخرى لإعمال العقل وإثارة الوجدان، فما المبادين؟ لا شك أن إقامة دراسة مقارنة بين هذه الميادين والفلسفة يمثل طريقة طيبة لإضافة بعض الأفكار عن طبيعة الفلسفة. وقبل مقارنة الفلسفة بغيرها من أوجه النشاط العقلي، يجعل بنا أن نشير إلي الخطوط العامة لموضوعات الفكر الفلسفي أو مباحث الفلسفة، إن الفلسفة تعني بصفة عامة بما يلي:
-۱- دراسة فكرة الوجود، من حيث مبادئها ولوحقها. - ٢-النظرة الميتافيزيقية عند البحث في حقائق الأشياء، وهي نظرة تقوم علي تجاوز الواقع ومفارقته بالبحث عن الأسباب الأولي. وأشرف مباحث الميتافيزيقيا هو العلم الإلهي أو الإلهيات. ٣- دراسة مسألة المعرفة من حيث كيفية قيام معرفتنا بالأشياء ومدي هذه المعرفة وقيمتها. وتأتي مسالة المعرفة علي نحويين نحو عام نقتصي فيه مصادر المعرفة ووسائلها وكيف ينشأ الصدق هلي ينشأ بمطابقة فكرة نقول بها بالواقع الخارجي، أم ينشأ عن أتساق الفكرة مع ذاته داخل عقل الإنسان، ونحو خاص يعني بالمعرفة العلمية ويسمي أحياناً "إبستمولوجيا" ويعني بدراسة أسس العلوم وأفكارها الأولي من جهة ثم ما ينتج عن العلوم من نظريات ومشكلات من جهة ثانية وينطوي النحو الأخير تحت اسم "فلسفة العلوم" حالياً. ٤- دراسة القيم الأساسية في الفكر الإنساني، ونعني بها قيم الحق والخير والجمال. يمكن دراسة الحق في إطار الشروط المنطقية اللازمة لتحققه. كما يمكن دراسة الخير في إطار الأخلاق، طالما أن الأخلاق علم يعني بقياس ما يصدر عن الناس من أفعال في إطار مثل أعلي يكون الاقتراب منه هو الخير والابتعاد عنه شر محض. ومن ثم يعني علم الجمال بوضع مجموعة الشروط والقواعد العامة التي متى توفرت في أثر أدبي أو فني أرتقي إلي مرتبة المثل الأعلى للجمال . تلك هي الخطوط العامة لمباحث الفلسفة، ولا شك أن التطور المعاصر الذي اصاب أغلب العلوم الأكثر تقدماً قد وفر للفلسفة والثقافة من أهلها فرصة ذهبية للبحث في اسس هذه العلم ونتائجها معا. ويعني ذلك أن حقول البحث الفلسفي قد ازدادت اتساعا عندما راحت تبحث في نتائج العصر من فيزياء رياضية أو هندسة وراثية أو علوم بيولوجية، كما أن روافد الفلسفة قد ازدادت أيضاً عندما تشكل نتائج ونظريات وفروض هذه العلوم اسساً لطرح اسئلة فلسفية جديدة تبحث لها الفلسفة - بالإضافة إلي العلوم المتطورة - عن إجابات جديدة. ومن ناحية ثانية فإن موضوعات تنتمي إلي الفن أو إلي الأدب أو موضوعات تدخل في إطار العقيدة الدينية وتشكيلها قد تتداخل جميعها وتتشابك أطرافها من آليات وخطوات البحث الفلسفي. فقد تشترك الفلسفة مع موضوعات ميدان فكري ما في إثارة نفس الأسئلة، وقد تسهم الفلسفة مع ميدان فكري آخر في وضع إجابات ذات دلالة واحدة، وقد تسلك الفلسفة بالإضافة إلي حقل فكري ثالث علي نفس المنوال بصدد التحقق من فروض بعينها أو محاولة تحصيل إجابات لكل منهما . ونحاول الآن
أولا: الفلسفة والعلم:
تحدثنا عن الفلسفة في الصفحات السابقة، وينتظر القارئ أن نتحدث عن العلم. لكن هل يعني ذلك أن كل معرفة تعد علماً؟ إن هو الإجابة الملائمة هنا، فالعلم وأن كان مرادفاً للمعرفة إلا أنه يتميز عنها بكونه مجموعة معارف تتصف بالوحدة والتعميم، ولا يلزم عن كون
كل علم معرفة أن تكون كل معرفة علماً. إن العلم الذي نقصده هنا هو ذلك النشاط العقلي والتجريبي الذي نسعى من خلاله لتفسير وفهم موضوعات محددة، بطريقة منظمة ومرتبة ولن يتم ذلك غلا استوفي العلم ثلاثة شروط هي:
أن يقوم علي اساس مبادئ أو بالأخرى يكون ثمة موضوع للبحث. أن يستخدم منهجاً علمياً في الانتقال من مقدمات إلي نتائج. وبقدر ما تشير هذه الشروط إلي طبيعة العلم فإنها تحدد معالم التمايز والاختلاف بينه وبين الفلسفة، وبخاصة عندما يتعلق الأمر بالشرطين
الأخيرين. لنحاول أن نتقصي وجوه الاتفاق ووجوه الاختلاف بينهما علي اعتبار أن "واو" العطف بينهما في قولنا "الفلسفة والعلم" تفيد الارتباط أحياناً وتفيد التباين أحياناً أخري. إن أحد أهم أوجه التشابه بينهما أن كليهما يهتم بالمعرفة إن الفلسفة تعني بالبحث والاستقصاء وطرح والبحث عن إجابات رغبة في زيادة الرصيد المعرفي، إن المعرفة هي الغاية التي بسعي إليها العلم كما تسعي إليها الفلسفة. وتظهر أول علامات الاختلاف عند محاولة تحديد نوع المعرفة، التي يسعيان إليها. ينشد العلم ويبحث عن معرفة تدور حول الوقائع أو الحقائق بينما تسعى الفلسفة جادة نحو المعرفة على إطلاقها، وإن كانت تنطلق أحيانا في البحث من النقاط والنتائج التي ينتهي إليها العلم . قد يقال إن الحقائق تحدد الخط الفاصل بين العلم والفلسفة يسعى العلم إلى أن يقرر حقائق كنتاج نهائي له، كما يسعى من خلال أدواته المتطورة دائماً ومناهج بحثه أن يقدم عوناً للإنسانية في صورة معارف فعالة عن دقائق ووقائع وحقائق الحياة بينما تبدأ الفلسفة عملها انطلاقاً من هذه الحقائق، إنها تستفيد منها وتجعلها شواهد رغم تخيلها المختلفة. إن الفيلسوف يتخطى الوقائع وينظر إلى دلالتها ومغزاها . وهنا يحار المرء: أين يبدأ دور العالم وأين ينتهي ؟ وهل هناك دور محدد للفيلسوف أم أنه يختلف باختلاف الفلاسفة ومذاهبهم وعصورهم ؟ وهل الحقيقة الفلسفية هي عين الحقيقة العلمية، أم أنها أساس لها ؟ أو قد تكون نتيجة لازمة عنها ؟ قبل محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة علينا أن نتلمس ثانية طبيعة العلاقة ومعالم صلة العلم بالفلسفة التي تنشأ على مستويين: الأول أنه كلما طرح الإنسان أسئلة - كعادته - وحصل من ورائها إجابات ناجحة ثابتة شكلت هذه الإجابات جانبا من رصيده في المعرفة العلمية، أي صارت علماً. والثاني أن الفلسفة تعني بتحليل أو تبرير المبادئ والمسلمات التي تقوم عليها العلوم بالإضافة إلى النتائج التي نتوصل إليها تلك العلوم. ويشير المستوى الثاني إلى نشأة "فلسفة العلوم" تلك الحركة النقدية لطبيعة الحقيقة التي يتوصل إليها العلم، وقيمتها وصلتها بغيرها من
الصلة وثيقة إذن بين الفلسفة والعلم، فالهدف واحد هو بلوغ معرفة الحقيقة وهنا نعود إلى الأسئلة السابق إثارتها لن نكررها، إنما نحاول
الإجابة عنها
رغم أن للفلسفة تأثير مباشر في تطور ونمو المعرفة العلمية إلا أن
هناك من ينظر إلى الحقيقة العلمية مستقلة عن الحقيقة الفلسفية، وهناك من يجعل إحداهما أساس عمل الثانية، وهناك ثالثا من يزاوج بين الحقيقتين
هذا
الرأي الأول : " استقلال حقائق العلم عن الفلسفة يذهب الرأي إلى أن الحقيقة المطلوبة في الفلسفة غير ما يطلبه العلم، ذلك أن الحقيقة العلمية مستمدة من التجربة والخبرة بالعالم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، إنها تصف الوقائع المادية ولا تضيف شيئاً أكثر مما تمدنا به الوقائع. كما أن الحقيقة العلمية عامة، فقانون الحركة عند "نيوتن" لا ينطبق على جسم بذاته بل ينسحب على الحركة بعمومها، وإذا لم يتحقق هذا العموم لا يصبح قانوناً علمياً. ويضاف إلى ذلك أن الحقيقة العلمية موضوعية غير ذاتية وهي بهذه الصفات والخصائص تبدو مستقلة عن الفلسفة وحقائقها . أما الحقيقة الفلسفية فليست خاضعة للعالم لأنها تضيف ما ليس في وقائعه حين تحدثنا عن علل هذا العالم وما معناه ومغزاه وما قيمته. كما أن الحقيقة الفلسفية - في نظر أصحاب هذا الرأي - لا تبدو عامة إذ لا تهدف الفلسفة إلى إقامة قوانين بل إلى يقين خاص أو حقيقة شخصية. ثم إن الحقيقة الفلسفية أخيرا ذاتية متصلة بالأنا لا تنقل إلى الآخر إلا تجربة ذاتية عاشها صاحبها دون غيره. ويرصد "جيمس جينز في كتابه الفيزياء والفلسفة وجهاً آخر لتباين حقائق الفلسفة عن حقائق العلم حين يميز بين لغة الفلسفة ولغة العلم، ويشير إلى أن اختلافهما يحول دون نشأة حوار بينهما . يعود ذلك إلى أن الفلسفة لا تملك مصطلحات دقيقة أو موضع إتفاق بين الفلاسفة، لأن لكل
فيلسوف مصطلحات خاصة به او دلالات خاصة لمصطلحات شائعة. كما أن كلمات الفلسفة تصور تجارب ذاتية فتكتسب معاني ذاتية بينما تميل لغة العلم ومفرداتها إلى الموضوعية. وأخيرا فإن قطاعاً عريضا من الفلاسفة ونقصد بهم فلاسفة الإدراك العام يفكرون بلغة الوقائع كما تنكشف للإدراك الحسي في حين تنطوي حقائق العلم ووقائعه على التسليم بدور الأجهزة الدقيقة المعاونة للإدراك الحسي الطبيعي. الرأي الثاني: "الحقيقة الفلسفية أساس للحقيقة العلمية أو العكس". وهنا نعرض لوجهتي نظر متقابلتين تذهب الأولى إلى أن السؤال الفلسفي هو أساس قيام كل حقيقة علمية، ومعنى ذلك أن العلوم الطبيعية على سبيل المثال تشتق مبادئها من فلسفة الطبيعة التي تعتمد بدورها على الميتافيزيقا - أي ما وراء الطبيعة - وهنا تصبح الميتافيزيقا دراسة للمبادئ الأولى التي تتخلل العلوم جميعا. ويقول بهذا الصدد: "إما أن تكون الميتافيزيقا وإما أن لا تكون علماً بالمرة. وهناك من يتطرف في هذا الاتجاه ويجعل الفلسفة بأكملها لا عمل لها سوى تتبع نظريات وقضايا العلم بالشرح والتحليل حتى تتحول الفلسفة على إطلاقها إلى فلسفة علمية كما يذهب أصحاب الوضعية المنطقية إن هؤلاء يجردون الفلسفة من خاصتها الأولى طرح السؤال وانتقاء ونقد الإجابات، ولا يرون فيها إلا مجرد جهاز لتبرير كل ما تقدمه لها نظريات العلم. والسؤال الذي نطرحه عليهم
وفنونه، فماذا كان عمل الفلسفة قبل نشأة العلم برمته ؟! الرأي الثالث: تداخل حقائق الفلسفة وحقائق العلم يعبر أغلب أصحاب هذا الرأي عن وحدة المنشأ الذي يصدر عنه العلم والفلسفة، ونقصد به الإنسان أو بالأحرى عقل الإنسان. إن السؤال صيغة مشتركة للعالم والفيلسوف، والبحث عن إجابة سلوك مشترك والغاية في النهاية واحدة. إن هذا من ناحية الشكل، أما من ناحية المضمون فإنه كما أشرنا في موضع سابق قد تلعب الحقيقة الواحدة - أو الواقعة ذات الدلالة - دورا في الفلسفة وتلعب دورا في العلم، وقد يستفيد العالم من نهج وفروض الفيلسوف، كما أنه قد ينطلق الفيلسوف في بحثه استنادا لحقائق العلم. ويعبر عن هذا الموقف بصدق محمود زيدان في خاتمة كتابه من نظريات العلم المعاصر إلى المواقف الفلسفية بقوله : " إن العلم والفلسفة ليس أحدهما غريبا على الآخر. فالفلاسفة مشغولون منذ أقدم العصور بالعلم الطبيعي ومحاولة فهمه وتفسيره على قدر ما أوتوا من معطيات وأدوات، بينما الفلاسفة حديثا يعتمدون على زملائهم العلماء في النهل من علمهم ومحاولة الإفادة من هذا العلم في بناء نسقهم الفلسفي وكثيرا ما يخرج العلماء من ميدان بحثهم العلمي تشدهم مشكلات الفلسفة ويحاولون تكوين مواقف فلسفية تتسق ونتائج بحثهم، كما ينهلون من تراث الفلاسفة. وبذلك يهتم الفلاسفة بأبحاث العلماء كما يهتم العلماء باتخاذ مواقف فلسفية. وكل فريق يستفتي الفريق الآخر في مجال دراسته، بحيث نصل في نهاية المطاف إلى إدراك أن الهدف الأسمي لكلا الفريقين هو تكوين تصور عن الكون بالإجمال أو بالتفصيل، أو تفسير العالم الذي نعيش فيه. وكما يختلف الفلاسفة بعضهم عن بعض في تصوراتهم أو وجهات نظرهم، يختلف العلماء بعضهم عن بعض في مواقفهم الفلسفية. ولا يمكن أن ينتهي حديثنا عن علاقة الفلسفة بالعلم دون أن نشير إلى الذات ذات الإنسان التي تفلسف أحيانا أو تنشد المعرفة العلمية أحيانا. هل ثمة اختلافا بين الدورين؟
هو أن الفلسفة تعبير عن نشاط ذاتي، وأن العلم تعبير عن نشاط موضوعي ومن ثم فإن ما يصدر عن الفلاسفة من رأي إنما يعبر اتجاهات مذهبية، وما يصدر عن العلماء من نظريات هو موضوع اتفاق وتسليم، إلا أن قبول مثل هذه الآراء على إطلاقها ينطوي على مغامرة غير محسوبة النتائج. إنه لا يمكن أن نضع حدوداً فاصلة بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي، بين ما هو فلسفي قح وما هو علمي خالص. لنتحقق مما نقول بفحص ومراجعة ذلك البناء الشامخ لنظريات العلم المعاصر، لنرى مدى موضوعيته إن وجدت ومدى تشربه بالطابع الذاتي للإنسان. إن أول ما نلاحظه على العالم الطبيعي، أو ما نلاحظه على إحدى ظواهره هو أن معرفتنا بهما إنما جاءت وليدة لقدراتنا العقلية نحن وترتبط بمدى دقة آلاتنا التي نستخدمها في الرصد ومقاييسنا ويعني ذلك أن معرفتنا بالأشياء يعود في جانب كبير منه إلى ذواتنا وليس إلى
فإذا أراد العالم عزل إلكترون واحد من
المجموعة ليدرس طبيعته وتركيبه وحركاته فلن يعثر على شئ محدد، ذلك أنه إذا استطاع تحديد موضعه بدقة عجز عن تحديد سرعة حركته والعكس صحيح. ويعود العجز هنا إلى طبيعة الذرة القلقة، إنها قلقة حين
تعزل أحد مكوناتها، وقلقة حين تثير هدوئها، وفي الحالين ينبعث اضطراب في حركاتها يفسد دراستها بطريقة موضوعية. ويصور المرحوم الدكتور محمود زيدان - ي صفحة ٨٥ من كتابه المشار إليه باقتدار مغزى هذه المعطيات وغيرها عن عالم الذرة في إقامة معرفتنا بالأشياء، يقول: إنك لكي تعرف شيئاً عن الكترون أو عن ذرة عليك أن تفسد عليها هدوءها وتبعث الاضطراب في حركاتها، فإن أسدت هدوءها استطعت أن تعرف عن حركاتها ما نتج عن تدخلك في شئونها، لكن ضاع عنك ما كان عليه حالها قبل إزعاجك لها. لا تستطيع أن تقوم بدور الجاسوس على المادة لكي تكتشف واقعها الحقيقي، وإنما كنت كالأعمى الذي يحاول أن يعرف شكل وتركيب قطعة من الثلج فلا يكاد يلمسها أو يتذوقها حتى تنصهر فيضيع مغزى التجربة، أو كمن يحاول أن يكتشف حركة الطائر فيمسك بجناحيه ليكتشف كيف يطير . إننا نفعل نفس الشئ في الدراسات النفسية والاجتماعية. إننا ساعة أن نخضع الإنسان وسلوكه للملاحظة المباشرة نجده يسلك بصورة مختلفة عن سلوكه الطبيعي في غالب الأمر. ويحاول أنيبرز في حديثه القيم التي يود أن نصدق أنه يؤمن بها ولنا عود إلى هذا عند الحديث عن
المعرفة العلمية في فصل قادم. يدل على تضافرهما لأسباب عدة أهمها أنهما يصدران عن الإنسان، عن الذات. إن الذات تتداخل دائماً
يكفي أن تدلل على ذلك
بتساؤل:
إن كانت المعرفة تقوم على ذات ، فأي موضوع ذلك الذي تدركه الذات؟ هل تدرك الذات الموضوع كما هو في حقيقته وجوهره؟ أم تؤلف الذات موضوعا للمعرفة بما توفر لها من أدوات تحصيل وإدراك حسي
واستدلال؟
أخشى أن يكون الخيار الثاني هو ما يحدث بالفعل، بمعنى أن معرفتنا للعالم ليست مطابقة للواقع الخارجي، وإنما العالم الذي نعرفه معرفة علمية - كما نزعم - هو مجرد تركيب عقلي من إحساساتنا وإدراكنا الحسي
وذكرياتنا . إن للدين قاعدة مشتركة مع الفلسفة - كما هو الحال في العلم - تتمثل في اهتمامه بالحقيقة. إن أحد اهتمامات الدين الأساسية التي يشترك فيها مع الفلسفة والعلم هو تحصيل معرفة موثقة ومقنعة. إلا أن الدين ليس أمراً عقلانياً خالصاً كما هو الحال بالنسبة للعلم والفلسفة. إن الدين يدعو بصورة مثالية إلى الالتزام من جانب كل شخص بالقيم الأساسية التي تحفظ له بقاءه، كما تحافظ على صنع علاقة طيبة مع الآخر : الإنسان
والطبيعة. ومن ثم يدعونا الدين إلى أن نسلك على نحو معين في الحياة
وأن نتحمل مسؤوليات اجتماعية محددة. إن الاعتقاد الخاطئ بأن الفلسفة نوع من الدين أو العقيدة أمر ينبغي تصحيحه منذ البداية، لأن هناك وجوهاً للاختلاف في نقاط البداية لكل
منهما وفي الغايات وفي الوسائل إن الفلسفة ليست عقيدة بالمعنى الديني كما أنها ليست طرحاً فكرياً يمكن أن يحل محل الدين بصفة عامة، بل إن الفلاسفة قد يقومون بما يعارض الدين أحياناً. ويحدد "هنترميد" في كتابه فائق الشهرة Types and Problems of Philosophy والذي نقله إلى العربية فؤاد زكريا بعنوان: الفلسفة أنواعها ومشكلاتها، إن الفلسفة تعني بالبحث عن إجابات لأسئلة محددة، وكذلك يوفر الدين إجابات من نفس النوع لبني البشر . الإجابات هنا وهناك تنشد الحق والحقيقة، إلا أنه بينما نلاحظ أن إجابات الفلسفة تصور مسعى بشر يحتكم إلى إعمال عقل الإنسان والاستناد إلى تجربته وقدرته على الاستدلال، إن هذه الإجابات تأتي رداً على
أسئلة من نوع: ما أصل الإنسان وما مصيره ؟ ما طبيعة علاقة الإنسان بالكون ؟ ما طبيعة الله ؟ وما طبيعة علاقتنا به؟ هل هي علاقة صدور عنه؟ أم علاقة علة ومعلول ؟ أم علاقة توحد ؟ ما طبيعة النفس الإنسانية، وما مصدرها ؟ وهل تغني بفناء الجسد، أم أنها خالدة ؟ هل ثمة إرادة للإنسان على الحقيقة ؟ وهل هناك حرية إرادة حقاً ؟ وما مظاهرها ؟ ما المقصود بسعادة الإنسان ؟ وما سبل تحققها ؟ وما أنواعها إن وجدت؟
إن
الفلسفة تبادر باستخدام العقل والارتكان إليه سبيلاً لتحصيل المعارف دون ره، بينما يستند الدين إلى الإيمان أولا ثم يعول على العقل. إن الفيلسوف عندما يستخدم العقل يبحث ويقارن ويستحسن ثم يقرر، ثم يعود إلى الشواهد والبينات التي تستند إلى علوم أخرى تعني بطبيعة الحال وأصل الكون وتركيب الجزئيات من عناصر . إلخ، في
إن العقل الإنساني لشدة طموحه وقلة خبرته واستناده إلى المشاهدات حيناً وإلى الاستدلال حيناً آخر يستغرق وقتاً أطول في البحث عن حل للمشكلات الفلسفية أو حتى مجرد الإجابة عن الأسئلة التي يثيرها الإنسان رحلة حياته بينما الإيمان المبطن بالعاطفة يستقبل الإجابات ذات الطابع الديني ودون مناقشة يسلم بها المفكر الديني ثم يبشر بها وقد العقل أحياناً في التبشير بها لكن دون إسراف. إن الإيمان يدل على قبول رأي أو مذهب دون الاستناد إلى مصادر حسية أو إلى عمليات عقلية، بل إن هذا الرأي أو المذهب العقائدي الإيماني قد يكون نتيجة لوحي يأتي من عالم مفارق لعالمنا الطبيعي، وقد يكون مصدره الأحاديث النبوية، حتى التجارب الصوفية. وفي كل هذه الحالات فإن ثمة إنسانا ينبغي يكون وجوده ودوره هو الآخر محل :إيمان إنه النبي أو الرسول، الموحي غليه. إن الفيلسوف وهو ينشد المعرفة يخلص تماماً للعقل قبل العاطفة، بل إنه ينحي العواطف جانباً مثل الميول والأهواء الذاتية، لكن إذا جاء سعيه للمعرفة محققا نتائج مماثلة أو حتى مطابقة لما تأتي به الأديان فلا ضير بذلك، بل هو خير. أما إذا أدى استدلاله العقلي واستنباطه المحكم إلى نتائج خاصة لا تتفق وغايات تنشدها العاطفة أو الدين، فلا ضير عنده أيضا. أي أن الفيلسوف يبذل كل جهد للسير وراء العقل إلى أي نتيجة يؤدي إليها . تماماً نزوعاته الانفعالية خلال بحثه عن الحقيقة. وهنا نقرر مع هنترميد" أن ليس في وسع الدين أن يقدم نظيراً لهذا الموقف الفلسفي. وأفضل وسيلة تحقق بها هذا الهدف هي أن عالما يكون فيه للفرد قيمة وغاية ويكون فيه لحياته معنى لشئ أو لشخص غيره هو ذاته من غير المقربين إليه. فإذا لم يستطع الشخص المتدين أن يجد أسبابا عقلية لهذا الاعتقاد، فإنه يجعل العقل خاضعاً ويهيب بالإيمان أن يمده بالإقناع الذي يفتقر إليه وعلى قدر ما يطلب الفيلسوف رضاً عقلياً، يطلب الشخص المتدين رضا انفعالياً، أي إشباعاً عاطفياً. وهناك وجه آخر للاختلاف بين الفلسفة والدين، فإذا كان ما سبق أن أشرنا إليه يشير إلى اختلافهما في موضوع البحث وطريقة تناوله فإن الاختلاف هنا يتعلق بطبيعة نقطة البداية. المسلمات والمصادرات والفروض الأولية. إن الفيلسوف يرى ضرورة ألا نبدأ من مسلمات أو أفكار توجه بحثه وجهة بعينها، وتنكر عليه حق البحث الحر والاجتهاد إن أغلب الفلاسفة ينصحون بضرورة تطهير الذهن من الأفكار السابقة التي قد تشكل لنا أصناماً تعوق التفكير الصحيح
بينما يسلم الإنسان المتدين بأمور ليست محل ، نقاش إنها لديه بمثابة أسس للبناء ألا نسلم نحن ونصادر منذ البداية بوصفنا من المؤمنين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. ألا نشهد بوصفنا مسلمين بالله الواحد، ونشهد برسوله محمد ()، كما نشهد ونسلم بالصلاة والزكاة وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا. إن هذه مسلمات لا تقبل نقاشاً أو مراجعة أو شكاً من قبل الإنسان المؤمن أو المسلم. إن الفيلسوف يبدأ البحث متجردا ، والإنسان المتدين يبدأ البحث مزوداً بأفكار أولية يعمل في نطاقها، ولهذا فإن الأول يستغرق وقتا أطول في بحثه عن الثاني. بل إن الثاني لو اصطنع البحث العقلي أحيانا فإنه يناقش ويبحث ويصوغ المجادلات والحجج، إنه يتصرف وينتقل ويتحرك داخل عربة في قطار يسير به على قضبان. بينما الفيلسوف حينما يعول على البحث والنظر العقلى كأداة وحيدة للبحث؛ فإن مثله مثل من يبحر في سفينة من صنعه في بحر متلاطم الأمواج متقلب الرياح. إن الإنسان حين يبحث ويكتب معتنقاً فكراً دينياً بعينه، يعمل في نطاق بـ أصول هذا الفكر، فقد يكتب مجلدات عديدة يناقش فيها طبيعة الله وسيطرته على الكون، ودقة صنعه وعلاقته بالإنسان. يبحث في طبيعة الله وفي وجوده وفي ضرورته. إن الفيلسوف عندما يبحث في الغيبيات وفي ما وراء الطبيعة من مباحث ميتافيزيقية لا يقوم بطقوس معينة ولا يؤدي بالضرورة صلوات تفيد تسليمه بالمصادرة على وجود موضوعات بحثه. إنه يمارس نشاطاً عقلياً خالصاً، إنه يناقش أية فكرة، أو أي تصور، أو أية قيمة، أو قاعدة أو قانون. وفي كل ذلك يكون إخلاصه كاملا للعقل ولآليات البحث المنهجي
كما يفترض. إنه يقوم ببحث نظري مجرد يكاد يخلو من المسلمات السابقة، وأخيراً نتساءل عن الغاية لكل من الفلسفة والدين، هل هي غاية واحدة؟ أو لنطرح الأمر على نحو مختلف هل ما يتوصلان إليه من نتائج تعني الشئ نفسه؟
إن غاية الفيلسوف الأثيرة هي المعرفة المعرفة لذاتها بصرف النظر عما يعانيه من أجل بلوغها . بينما غاية الإنسان المتدين هي تحقيق أكبر قدر من الإحساس بالأمان.


Original text

الفصل الثالث
(الفلسفة وميادين الفكر)


أشرنا في الفصل السابق إلي استعداد الإنسان لأن يفلسف كما لاحظنا العلاقة الوطيدة بين عناصر الموقف الفلسفي حيت تجتمع في ساحة فكر الإنسان ظواهر الطبيعة وقدره الله . ويهدف الإنسان من وراء الفلسفة إلي الإحاطة بحقائق الأشياء بعد تأملها، ومن ثم فالفلسفة ضرب من المعرفة يقوم علي التأمل.
إلا أننا نتساءل هنا: هل الفلسفة هي السبيل المعرفي الوحيد الذي يركن إليه الإنسان في معرفة حقائق الأشياء؟ هل الفلسفة الذهني الوحيد الذي يمارسه الإنسان لسير عور الأشياء؟ هل تحيط مباحث الفلسفة وموضوعاتها بكافة مناشط الإنسان؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها تطلعنا علي أن ثمة ميادين للفكر، بل للنشاط الذهني والوجداني، غير الفلسفة.
ومن الملاحظ أن بعض الناس يبدو غير شغوف بالفلسفة، ونراء أكثر ألفة وشغفا بميادين أخرى لإعمال العقل وإثارة الوجدان، فما المبادين؟ لا شك أن إقامة دراسة مقارنة بين هذه الميادين والفلسفة يمثل طريقة طيبة لإضافة بعض الأفكار عن طبيعة الفلسفة.
وقبل مقارنة الفلسفة بغيرها من أوجه النشاط العقلي، يجعل بنا أن نشير إلي الخطوط العامة لموضوعات الفكر الفلسفي أو مباحث الفلسفة،
إن الفلسفة تعني بصفة عامة بما يلي:


-۱- دراسة فكرة الوجود، من حيث مبادئها ولوحقها.



  • ٢-النظرة الميتافيزيقية عند البحث في حقائق الأشياء، وهي نظرة تقوم علي تجاوز الواقع ومفارقته بالبحث عن الأسباب الأولي. وأشرف مباحث الميتافيزيقيا هو العلم الإلهي أو الإلهيات. ٣- دراسة مسألة المعرفة من حيث كيفية قيام معرفتنا بالأشياء ومدي هذه المعرفة وقيمتها. وتأتي مسالة المعرفة علي نحويين نحو عام نقتصي فيه مصادر المعرفة ووسائلها وكيف ينشأ الصدق هلي ينشأ بمطابقة فكرة نقول بها بالواقع الخارجي، أم ينشأ عن أتساق الفكرة مع ذاته داخل عقل الإنسان، ونحو خاص يعني بالمعرفة العلمية ويسمي أحياناً "إبستمولوجيا" ويعني بدراسة أسس العلوم وأفكارها الأولي من جهة ثم ما ينتج عن العلوم من نظريات ومشكلات من جهة ثانية وينطوي النحو الأخير تحت اسم "فلسفة العلوم" حالياً.
    ٤- دراسة القيم الأساسية في الفكر الإنساني، ونعني بها قيم الحق والخير والجمال. يمكن دراسة الحق في إطار الشروط المنطقية اللازمة لتحققه. كما يمكن دراسة الخير في إطار الأخلاق، طالما أن الأخلاق علم يعني بقياس ما يصدر عن الناس من أفعال في إطار مثل أعلي يكون الاقتراب منه هو الخير والابتعاد عنه شر محض. أما الجمال كقيمة فإنه يبحث فيما يبحث فيما ينبغي أن يكون عليه الأثر الفني، ومن ثم يعني علم الجمال بوضع مجموعة الشروط والقواعد العامة التي متى توفرت في أثر أدبي أو فني أرتقي إلي مرتبة المثل الأعلى للجمال .
    تلك هي الخطوط العامة لمباحث الفلسفة، ولا شك أن التطور المعاصر الذي اصاب أغلب العلوم الأكثر تقدماً قد وفر للفلسفة والثقافة من أهلها فرصة ذهبية للبحث في اسس هذه العلم ونتائجها معا. ويعني ذلك أن حقول البحث الفلسفي قد ازدادت اتساعا عندما راحت تبحث في نتائج العصر من فيزياء رياضية أو هندسة وراثية أو علوم بيولوجية، كما أن روافد الفلسفة قد ازدادت أيضاً عندما تشكل نتائج ونظريات وفروض هذه العلوم اسساً لطرح اسئلة فلسفية جديدة تبحث لها الفلسفة - بالإضافة إلي العلوم المتطورة - عن إجابات جديدة.



ومن ناحية ثانية فإن موضوعات تنتمي إلي الفن أو إلي الأدب أو موضوعات تدخل في إطار العقيدة الدينية وتشكيلها قد تتداخل جميعها وتتشابك أطرافها من آليات وخطوات البحث الفلسفي. فقد تشترك الفلسفة مع موضوعات ميدان فكري ما في إثارة نفس الأسئلة، وقد تسهم الفلسفة مع ميدان فكري آخر في وضع إجابات ذات دلالة واحدة، وقد تسلك الفلسفة بالإضافة إلي حقل فكري ثالث علي نفس المنوال بصدد التحقق من فروض بعينها أو محاولة تحصيل إجابات لكل منهما . نقول أن الفلسفة قد تشترك مع بعض التخصصات الأخرى في نقطة البدء أو في نقطة الوصول أو في الطريقة ولمنهج، لكن يبقي للفلسفة كما يبقي لبقية أنماط الفكر الأخرى خصائصه المميزة. ونحاول الآن
الكشف عن بعض هذه الخصائص التي نوهنا عنها في صدر هذاالفصل.
أولا: الفلسفة والعلم:
تحدثنا عن الفلسفة في الصفحات السابقة، وينتظر القارئ أن نتحدث عن العلم. إن العلم بصفة عامة يدل علي ما نعرف بل وعلي مجموعة المعرفة الإنسانية بأسرها. لكن هل يعني ذلك أن كل معرفة تعد علماً؟ إن هو الإجابة الملائمة هنا، فالعلم وأن كان مرادفاً للمعرفة إلا أنه يتميز عنها بكونه مجموعة معارف تتصف بالوحدة والتعميم، ولا يلزم عن كون
كل علم معرفة أن تكون كل معرفة علماً.
إن العلم الذي نقصده هنا هو ذلك النشاط العقلي والتجريبي الذي نسعى من خلاله لتفسير وفهم موضوعات محددة، بطريقة منظمة ومرتبة ولن يتم ذلك غلا استوفي العلم ثلاثة شروط هي:
أن يقوم علي اساس مبادئ أو بالأخرى يكون ثمة موضوع للبحث.
أن يستخدم منهجاً علمياً في الانتقال من مقدمات إلي نتائج.
أن يتحقق من صحة مكتشفاته بالتنبؤ الصادق
وبقدر ما تشير هذه الشروط إلي طبيعة العلم فإنها تحدد معالم التمايز والاختلاف بينه وبين الفلسفة، وبخاصة عندما يتعلق الأمر بالشرطين
الأخيرين. لنحاول أن نتقصي وجوه الاتفاق ووجوه الاختلاف بينهما علي اعتبار أن "واو" العطف بينهما في قولنا "الفلسفة والعلم" تفيد الارتباط أحياناً وتفيد التباين أحياناً أخري. إن أحد أهم أوجه التشابه بينهما أن كليهما يهتم بالمعرفة إن الفلسفة تعني بالبحث والاستقصاء وطرح والبحث عن إجابات رغبة في زيادة الرصيد المعرفي، وكذلك العلم يقوم بنفس الدور. إن المعرفة هي الغاية التي بسعي إليها العلم كما تسعي إليها الفلسفة.
وتظهر أول علامات الاختلاف عند محاولة تحديد نوع المعرفة، التي يسعيان إليها. ينشد العلم ويبحث عن معرفة تدور حول الوقائع أو الحقائق بينما تسعى الفلسفة جادة نحو المعرفة على إطلاقها، وإن كانت تنطلق أحيانا في البحث من النقاط والنتائج التي ينتهي إليها العلم .
قد يقال إن الحقائق تحدد الخط الفاصل بين العلم والفلسفة يسعى العلم إلى أن يقرر حقائق كنتاج نهائي له، كما يسعى من خلال أدواته المتطورة دائماً ومناهج بحثه أن يقدم عوناً للإنسانية في صورة معارف فعالة عن دقائق ووقائع وحقائق الحياة بينما تبدأ الفلسفة عملها انطلاقاً من هذه الحقائق، إنها تستفيد منها وتجعلها شواهد رغم تخيلها المختلفة. إن الفيلسوف يتخطى الوقائع وينظر إلى دلالتها ومغزاها . إنه يحاول أن يصنع نسيجاً للحياة بأكملها يضم كافة الوقائع والحقائق التي كشف عنها العلماء في مناطق اختصاصهم الضيق. وهنا يحار المرء: أين يبدأ دور العالم وأين ينتهي ؟ وهل هناك دور محدد للفيلسوف أم أنه يختلف باختلاف الفلاسفة ومذاهبهم وعصورهم ؟ وهل الحقيقة الفلسفية هي عين الحقيقة العلمية، أم أنها أساس لها ؟ أو قد تكون نتيجة لازمة عنها ؟ قبل محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة علينا أن نتلمس ثانية طبيعة العلاقة ومعالم صلة العلم بالفلسفة التي تنشأ على مستويين: الأول أنه كلما طرح الإنسان أسئلة - كعادته - وحصل من ورائها إجابات ناجحة ثابتة شكلت هذه الإجابات جانبا من رصيده في المعرفة العلمية، أي صارت علماً. والثاني أن الفلسفة تعني بتحليل أو تبرير المبادئ والمسلمات التي تقوم عليها العلوم بالإضافة إلى النتائج التي نتوصل إليها تلك العلوم. يشير المستوى الأول للعلاقة إلى أن العلم ابن شرعي للفلسفة حتى وإن استقل عنها، ويشير المستوى الثاني إلى نشأة "فلسفة العلوم" تلك الحركة النقدية لطبيعة الحقيقة التي يتوصل إليها العلم، وقيمتها وصلتها بغيرها من
الحقائق.
الصلة وثيقة إذن بين الفلسفة والعلم، فالهدف واحد هو بلوغ معرفة الحقيقة وهنا نعود إلى الأسئلة السابق إثارتها لن نكررها، إنما نحاول
الإجابة عنها


رغم أن للفلسفة تأثير مباشر في تطور ونمو المعرفة العلمية إلا أن
هناك من ينظر إلى الحقيقة العلمية مستقلة عن الحقيقة الفلسفية، وهناك من يجعل إحداهما أساس عمل الثانية، وهناك ثالثا من يزاوج بين الحقيقتين
بوصفهما نتاجاً طبيعياً لعقل الإنسان.
هذا
الرأي الأول : " استقلال حقائق العلم عن الفلسفة يذهب الرأي إلى أن الحقيقة المطلوبة في الفلسفة غير ما يطلبه العلم، ذلك أن الحقيقة العلمية مستمدة من التجربة والخبرة بالعالم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، إنها تصف الوقائع المادية ولا تضيف شيئاً أكثر مما تمدنا به الوقائع. كما أن الحقيقة العلمية عامة، فقانون الحركة عند "نيوتن" لا ينطبق على جسم بذاته بل ينسحب على الحركة بعمومها، وإذا لم يتحقق هذا العموم لا يصبح قانوناً علمياً. ويضاف إلى ذلك أن الحقيقة العلمية موضوعية غير ذاتية وهي بهذه الصفات والخصائص تبدو مستقلة عن الفلسفة وحقائقها .
أما الحقيقة الفلسفية فليست خاضعة للعالم لأنها تضيف ما ليس في وقائعه حين تحدثنا عن علل هذا العالم وما معناه ومغزاه وما قيمته. كما أن الحقيقة الفلسفية - في نظر أصحاب هذا الرأي - لا تبدو عامة إذ لا تهدف الفلسفة إلى إقامة قوانين بل إلى يقين خاص أو حقيقة شخصية. ثم إن الحقيقة الفلسفية أخيرا ذاتية متصلة بالأنا لا تنقل إلى الآخر إلا تجربة ذاتية عاشها صاحبها دون غيره.
ويرصد "جيمس جينز في كتابه الفيزياء والفلسفة وجهاً آخر لتباين حقائق الفلسفة عن حقائق العلم حين يميز بين لغة الفلسفة ولغة العلم، ويشير إلى أن اختلافهما يحول دون نشأة حوار بينهما . يعود ذلك إلى أن الفلسفة لا تملك مصطلحات دقيقة أو موضع إتفاق بين الفلاسفة، لأن لكل
فيلسوف مصطلحات خاصة به او دلالات خاصة لمصطلحات شائعة. كما أن كلمات الفلسفة تصور تجارب ذاتية فتكتسب معاني ذاتية بينما تميل لغة العلم ومفرداتها إلى الموضوعية. وأخيرا فإن قطاعاً عريضا من الفلاسفة ونقصد بهم فلاسفة الإدراك العام يفكرون بلغة الوقائع كما تنكشف للإدراك الحسي في حين تنطوي حقائق العلم ووقائعه على التسليم بدور الأجهزة الدقيقة المعاونة للإدراك الحسي الطبيعي.
الرأي الثاني: "الحقيقة الفلسفية أساس للحقيقة العلمية أو العكس". وهنا نعرض لوجهتي نظر متقابلتين تذهب الأولى إلى أن السؤال الفلسفي هو أساس قيام كل حقيقة علمية، حتى أنه عندما يظهر أحد العلوم وتكتمل أركانه فإنه يسهل علينا ملاحظة أن جذوره الأولى أسئلة ذات طابع فلسفي نشأت في تربة فلسفية قوامها الدهشة وحب الاستطلاع والشك والقلق. ومعنى ذلك أن العلوم الطبيعية على سبيل المثال تشتق مبادئها من فلسفة الطبيعة التي تعتمد بدورها على الميتافيزيقا - أي ما وراء الطبيعة - وهنا تصبح الميتافيزيقا دراسة للمبادئ الأولى التي تتخلل العلوم جميعا.
المقابل فهناك من يهاجم الميتافيزيقا - كما يلاحظ محمد ثابت الفندي" في كتابه مع الفيلسوف - مثل "المبير" الذي احتذى المنهج العلمي الذي يبدأ وينتهي بالوقائع بينما الميتافيزيقا في نظره تفكير مجرد لاترقي أن تكون علماً، ويقول بهذا الصدد: "إما أن تكون الميتافيزيقا وإما أن لا تكون علماً بالمرة. وهناك من يتطرف في هذا الاتجاه ويجعل الفلسفة بأكملها لا عمل لها سوى تتبع نظريات وقضايا العلم بالشرح والتحليل حتى تتحول الفلسفة على إطلاقها إلى فلسفة علمية كما يذهب أصحاب الوضعية المنطقية إن هؤلاء يجردون الفلسفة من خاصتها الأولى طرح السؤال وانتقاء ونقد الإجابات، ولا يرون فيها إلا مجرد جهاز لتبرير كل ما تقدمه لها نظريات العلم. والسؤال الذي نطرحه عليهم
ولا ننتظر إجابة شافية إذا كان هذا عمل الفلسفة حاليا بعد نشأة العلم
وفنونه، فماذا كان عمل الفلسفة قبل نشأة العلم برمته ؟! الرأي الثالث: تداخل حقائق الفلسفة وحقائق العلم يعبر أغلب أصحاب هذا الرأي عن وحدة المنشأ الذي يصدر عنه العلم والفلسفة، ونقصد به الإنسان أو بالأحرى عقل الإنسان. إن السؤال صيغة مشتركة للعالم والفيلسوف، والبحث عن إجابة سلوك مشترك والغاية في النهاية واحدة. إن هذا من ناحية الشكل، أما من ناحية المضمون فإنه كما أشرنا في موضع سابق قد تلعب الحقيقة الواحدة - أو الواقعة ذات الدلالة - دورا في الفلسفة وتلعب دورا في العلم، وقد يستفيد العالم من نهج وفروض الفيلسوف، كما أنه قد ينطلق الفيلسوف في بحثه استنادا لحقائق العلم. ويعبر عن هذا الموقف بصدق محمود زيدان في خاتمة كتابه من نظريات العلم المعاصر إلى المواقف الفلسفية بقوله : " إن العلم والفلسفة ليس أحدهما غريبا على الآخر. فالفلاسفة مشغولون منذ أقدم العصور بالعلم الطبيعي ومحاولة فهمه وتفسيره على قدر ما أوتوا من معطيات وأدوات، بينما الفلاسفة حديثا يعتمدون على زملائهم العلماء في النهل من علمهم ومحاولة الإفادة من هذا العلم في بناء نسقهم الفلسفي وكثيرا ما يخرج العلماء من ميدان بحثهم العلمي تشدهم مشكلات الفلسفة ويحاولون تكوين مواقف فلسفية تتسق ونتائج بحثهم، كما ينهلون من تراث الفلاسفة. وبذلك يهتم الفلاسفة بأبحاث العلماء كما يهتم العلماء باتخاذ مواقف فلسفية. وكل فريق يستفتي الفريق الآخر في مجال دراسته، بحيث نصل في نهاية المطاف إلى إدراك أن الهدف الأسمي لكلا الفريقين هو تكوين تصور عن الكون بالإجمال أو بالتفصيل، أو تفسير العالم الذي نعيش فيه. وكما يختلف الفلاسفة بعضهم عن بعض في تصوراتهم أو وجهات نظرهم، يختلف العلماء بعضهم عن بعض في مواقفهم الفلسفية.
ولا يمكن أن ينتهي حديثنا عن علاقة الفلسفة بالعلم دون أن نشير إلى الذات ذات الإنسان التي تفلسف أحيانا أو تنشد المعرفة العلمية أحيانا. هل ثمة اختلافا بين الدورين؟
هناك قول سائد يكاد يكون موضع تسليم بين العامة وأهل الاختصاص على السواء، هو أن الفلسفة تعبير عن نشاط ذاتي، وأن العلم تعبير عن نشاط موضوعي ومن ثم فإن ما يصدر عن الفلاسفة من رأي إنما يعبر اتجاهات مذهبية، وما يصدر عن العلماء من نظريات هو موضوع اتفاق وتسليم، إلا أن قبول مثل هذه الآراء على إطلاقها ينطوي على مغامرة غير محسوبة النتائج. إنه لا يمكن أن نضع حدوداً فاصلة بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي، بين ما هو فلسفي قح وما هو علمي خالص. لنتحقق مما نقول بفحص ومراجعة ذلك البناء الشامخ لنظريات العلم المعاصر، لنرى مدى موضوعيته إن وجدت ومدى تشربه بالطابع الذاتي للإنسان.
إن أول ما نلاحظه على العالم الطبيعي، أو ما نلاحظه على إحدى ظواهره هو أن معرفتنا بهما إنما جاءت وليدة لقدراتنا العقلية نحن وترتبط بمدى دقة آلاتنا التي نستخدمها في الرصد ومقاييسنا ويعني ذلك أن معرفتنا بالأشياء يعود في جانب كبير منه إلى ذواتنا وليس إلى
موضوعات المعرفة والدليل على ذلك أننا - في نظرية الكوانتم لا يمكننا معرفة حركة كل الكترون داخل مجموع في الذرة ، وإنما نستدل على حركة المجموعة بكاملها، فإذا أراد العالم عزل إلكترون واحد من
المجموعة ليدرس طبيعته وتركيبه وحركاته فلن يعثر على شئ محدد، ذلك أنه إذا استطاع تحديد موضعه بدقة عجز عن تحديد سرعة حركته والعكس صحيح. ويعود العجز هنا إلى طبيعة الذرة القلقة، إنها قلقة حين
تعزل أحد مكوناتها، وقلقة حين تثير هدوئها، وفي الحالين ينبعث اضطراب في حركاتها يفسد دراستها بطريقة موضوعية.
ويصور المرحوم الدكتور محمود زيدان - ي صفحة ٨٥ من كتابه المشار إليه باقتدار مغزى هذه المعطيات وغيرها عن عالم الذرة في إقامة معرفتنا بالأشياء، يقول: إنك لكي تعرف شيئاً عن الكترون أو عن ذرة عليك أن تفسد عليها هدوءها وتبعث الاضطراب في حركاتها، فإن أسدت هدوءها استطعت أن تعرف عن حركاتها ما نتج عن تدخلك في شئونها، لكن ضاع عنك ما كان عليه حالها قبل إزعاجك لها. لا تستطيع أن تقوم بدور الجاسوس على المادة لكي تكتشف واقعها الحقيقي، وإنما كنت كالأعمى الذي يحاول أن يعرف شكل وتركيب قطعة من الثلج فلا يكاد يلمسها أو يتذوقها حتى تنصهر فيضيع مغزى التجربة، أو كمن يحاول أن يكتشف حركة الطائر فيمسك بجناحيه ليكتشف كيف يطير .....
وما يقال عن المادة هنا عند محاولة دراستها دراسة علمية لا يختلف كثيرا عما يمكن أن يقال عند محاولتنا دراسة سلوك الإنسان تجاه نفسه وتجاه الآخر. إننا نفعل نفس الشئ في الدراسات النفسية والاجتماعية. إننا ساعة أن نخضع الإنسان وسلوكه للملاحظة المباشرة نجده يسلك بصورة مختلفة عن سلوكه الطبيعي في غالب الأمر. إنه يفتعل العبارات التي تنطوي على ذوق ومجاملة في التعبير عن نفسه، وينطوي سلوكه على إظهار ما ينبغي أن يكون عليه السلوك القويم، ويحاول أنيبرز في حديثه القيم التي يود أن نصدق أنه يؤمن بها ولنا عود إلى هذا عند الحديث عن
المعرفة العلمية في فصل قادم.
نقول إن أي بحث عن العلاقة بين الفلسفة والعلم، يدل على تضافرهما لأسباب عدة أهمها أنهما يصدران عن الإنسان، عن الذات. إن الذات تتداخل دائماً
تصدر حين تصدر عن الذات الفردية والعلم يصدر حين يصدر عن الذات الإنسانية أو الجمعية إن صح هذا التعبير). يكفي أن تدلل على ذلك
بتساؤل:
إن كانت المعرفة تقوم على ذات ،وموضوع يُشكل الذات الإنسان ويشكل الموضوع العالم الخارجي، فأي موضوع ذلك الذي تدركه الذات؟ هل تدرك الذات الموضوع كما هو في حقيقته وجوهره؟ أم تؤلف الذات موضوعا للمعرفة بما توفر لها من أدوات تحصيل وإدراك حسي
واستدلال؟
أخشى أن يكون الخيار الثاني هو ما يحدث بالفعل، بمعنى أن معرفتنا للعالم ليست مطابقة للواقع الخارجي، وإنما العالم الذي نعرفه معرفة علمية - كما نزعم - هو مجرد تركيب عقلي من إحساساتنا وإدراكنا الحسي
وذكرياتنا .
ثانيا: الفلسفة والدين
إن للدين قاعدة مشتركة مع الفلسفة - كما هو الحال في العلم - تتمثل في اهتمامه بالحقيقة. إن أحد اهتمامات الدين الأساسية التي يشترك فيها مع الفلسفة والعلم هو تحصيل معرفة موثقة ومقنعة. إلا أن الدين ليس أمراً عقلانياً خالصاً كما هو الحال بالنسبة للعلم والفلسفة. إن الدين يدعو بصورة مثالية إلى الالتزام من جانب كل شخص بالقيم الأساسية التي تحفظ له بقاءه، كما تحافظ على صنع علاقة طيبة مع الآخر : الإنسان
والطبيعة.
ومن ثم يدعونا الدين إلى أن نسلك على نحو معين في الحياة
وأن نتحمل مسؤوليات اجتماعية محددة.


إن الاعتقاد الخاطئ بأن الفلسفة نوع من الدين أو العقيدة أمر ينبغي تصحيحه منذ البداية، لأن هناك وجوهاً للاختلاف في نقاط البداية لكل
منهما وفي الغايات وفي الوسائل إن الفلسفة ليست عقيدة بالمعنى الديني كما أنها ليست طرحاً فكرياً يمكن أن يحل محل الدين بصفة عامة، بل إن الفلاسفة قد يقومون بما يعارض الدين أحياناً.
ويحدد "هنترميد" في كتابه فائق الشهرة Types and Problems of Philosophy والذي نقله إلى العربية فؤاد زكريا بعنوان: الفلسفة أنواعها ومشكلاتها، في فصله الثاني الفروق بين الفلسفة والدين على نحو نعتمد عليه إلى حد ما مع تصرف. إن الفلسفة تعني بالبحث عن إجابات لأسئلة محددة، وكذلك يوفر الدين إجابات من نفس النوع لبني البشر . الإجابات هنا وهناك تنشد الحق والحقيقة، إلا أنه بينما نلاحظ أن إجابات الفلسفة تصور مسعى بشر يحتكم إلى إعمال عقل الإنسان والاستناد إلى تجربته وقدرته على الاستدلال، فإن إجابات العقيدة الدينية تنقل وحياً إلهيا في غالب الأمر ينبغي الالتزام به دون مناقشة أو تعديل. إن هذه الإجابات تأتي رداً على
أسئلة من نوع: ما أصل الإنسان وما مصيره ؟ ما طبيعة علاقة الإنسان بالكون ؟ ما طبيعة الله ؟ وما طبيعة علاقتنا به؟ هل هي علاقة صدور عنه؟ أم علاقة علة ومعلول ؟ أم علاقة توحد ؟ ما طبيعة النفس الإنسانية، وما مصدرها ؟ وهل تغني بفناء الجسد، أم أنها خالدة ؟ هل ثمة إرادة للإنسان على الحقيقة ؟ وهل هناك حرية إرادة حقاً ؟ وما مظاهرها ؟ ما المقصود بسعادة الإنسان ؟ وما سبل تحققها ؟ وما أنواعها إن وجدت؟
عندما نقارن موقف الفلسفة والدين من الإجابة عن هذه الأسئلة نجد بوادر الاختلاف تبدأ في الظهور : سواء في سبل البحث عن إجابات ومنهج البحث أو في الحدود التي ينتهي عندها موضوع البحث. إن
غیره
الفلسفة تبادر باستخدام العقل والارتكان إليه سبيلاً لتحصيل المعارف دون ره، بينما يستند الدين إلى الإيمان أولا ثم يعول على العقل. إن الفيلسوف عندما يستخدم العقل يبحث ويقارن ويستحسن ثم يقرر، ثم يعود إلى الشواهد والبينات التي تستند إلى علوم أخرى تعني بطبيعة الحال وأصل الكون وتركيب الجزئيات من عناصر .. إلخ، بينما يعمل العقل في الإطار الديني في حظيرة الإيمان والعاطفة ولا يخرج عن نطاقهما .
في
يستخدم
إن العقل الإنساني لشدة طموحه وقلة خبرته واستناده إلى المشاهدات حيناً وإلى الاستدلال حيناً آخر يستغرق وقتاً أطول في البحث عن حل للمشكلات الفلسفية أو حتى مجرد الإجابة عن الأسئلة التي يثيرها الإنسان رحلة حياته بينما الإيمان المبطن بالعاطفة يستقبل الإجابات ذات الطابع الديني ودون مناقشة يسلم بها المفكر الديني ثم يبشر بها وقد العقل أحياناً في التبشير بها لكن دون إسراف. إن الإيمان يدل على قبول رأي أو مذهب دون الاستناد إلى مصادر حسية أو إلى عمليات عقلية، بل إن هذا الرأي أو المذهب العقائدي الإيماني قد يكون نتيجة لوحي يأتي من عالم مفارق لعالمنا الطبيعي، وقد يكون مصدر كتابا موحي به كالقرآن الكريم، وقد يكون مصدره الأحاديث النبوية، حتى التجارب الصوفية. وفي كل هذه الحالات فإن ثمة إنسانا ينبغي يكون وجوده ودوره هو الآخر محل :إيمان إنه النبي أو الرسول، الموحي غليه. إن الفيلسوف وهو ينشد المعرفة يخلص تماماً للعقل قبل العاطفة، بل إنه ينحي العواطف جانباً مثل الميول والأهواء الذاتية، لكن إذا جاء سعيه للمعرفة محققا نتائج مماثلة أو حتى مطابقة لما تأتي به الأديان فلا ضير بذلك، بل هو خير. أما إذا أدى استدلاله العقلي واستنباطه المحكم إلى نتائج خاصة لا تتفق وغايات تنشدها العاطفة أو الدين، فلا ضير عنده أيضا. أي أن الفيلسوف يبذل كل جهد للسير وراء العقل إلى أي نتيجة يؤدي إليها .. إنه يسعى بكل ما أوتي من قوة إلى سبر أغوار العالم من حوله متجاهلاً
تماماً نزوعاته الانفعالية خلال بحثه عن الحقيقة.


وهنا نقرر مع هنترميد" أن ليس في وسع الدين أن يقدم نظيراً لهذا الموقف الفلسفي. فالهدف الأول لكل عقيدة تقريباً هو إعطاء أتباعها إحساساً بالسلام والانسجام. وأفضل وسيلة تحقق بها هذا الهدف هي أن عالما يكون فيه للفرد قيمة وغاية ويكون فيه لحياته معنى لشئ أو لشخص غيره هو ذاته من غير المقربين إليه. فإذا لم يستطع الشخص المتدين أن يجد أسبابا عقلية لهذا الاعتقاد، فإنه يجعل العقل خاضعاً ويهيب بالإيمان أن يمده بالإقناع الذي يفتقر إليه وعلى قدر ما يطلب الفيلسوف رضاً عقلياً، يطلب الشخص المتدين رضا انفعالياً، أي إشباعاً عاطفياً.
وهناك وجه آخر للاختلاف بين الفلسفة والدين، فإذا كان ما سبق أن أشرنا إليه يشير إلى اختلافهما في موضوع البحث وطريقة تناوله فإن الاختلاف هنا يتعلق بطبيعة نقطة البداية. المسلمات والمصادرات والفروض الأولية.
إن الفيلسوف يرى ضرورة ألا نبدأ من مسلمات أو أفكار توجه بحثه وجهة بعينها، وتنكر عليه حق البحث الحر والاجتهاد إن أغلب الفلاسفة ينصحون بضرورة تطهير الذهن من الأفكار السابقة التي قد تشكل لنا أصناماً تعوق التفكير الصحيح
بينما يسلم الإنسان المتدين بأمور ليست محل ،نقاش إنها لديه بمثابة أسس للبناء ألا نسلم نحن ونصادر منذ البداية بوصفنا من المؤمنين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. ألا نشهد بوصفنا مسلمين بالله الواحد، ونشهد برسوله محمد ()، كما نشهد ونسلم بالصلاة والزكاة وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا. إن هذه مسلمات لا تقبل نقاشاً أو مراجعة أو شكاً من قبل الإنسان المؤمن أو المسلم.
إن الفيلسوف يبدأ البحث متجردا ، والإنسان المتدين يبدأ البحث مزوداً بأفكار أولية يعمل في نطاقها، ولهذا فإن الأول يستغرق وقتا أطول في بحثه عن الثاني. بل إن الثاني لو اصطنع البحث العقلي أحيانا فإنه يناقش ويبحث ويصوغ المجادلات والحجج، إلا أن ذلك كله يتم في إطار ما يؤمن به ويعتقد ؛ إنه يتصرف وينتقل ويتحرك داخل عربة في قطار يسير به على قضبان. بينما الفيلسوف حينما يعول على البحث والنظر العقلى كأداة وحيدة للبحث؛ فإن مثله مثل من يبحر في سفينة من صنعه في بحر متلاطم الأمواج متقلب الرياح.
إن الإنسان حين يبحث ويكتب معتنقاً فكراً دينياً بعينه، يعمل في نطاق بـ أصول هذا الفكر، فقد يكتب مجلدات عديدة يناقش فيها طبيعة الله وسيطرته على الكون، ودقة صنعه وعلاقته بالإنسان.. إلخ. لكن مهما تكن براعته في الكتابة عن طبيعة الله، ومهما تكن وجاهة الأدلة التي يسوقها برهانا على وجود الله فإن كل ما يقوم به ينطلق من تسليم أولى بوجود الله، بل وبضرورة وجوده أما الإنسان حين يفلسف ويتخذ موقفاً فلسفياً فإنه يكون في كل الحالات متجرداً من أي مسلمة أو فكرة مسبقة، إنه يبحث أيضاً في مشكلة الألوهية، يبحث في طبيعة الله وفي وجوده وفي ضرورته.. لكنه يتناول هذه الأمور وغيرها تناولاً مفتوحاً غير محدد سلفاً بقيود أو شروط أو مسلمات. إن الفيلسوف عندما يبحث في الغيبيات وفي ما وراء الطبيعة من مباحث ميتافيزيقية لا يقوم بطقوس معينة ولا يؤدي بالضرورة صلوات تفيد تسليمه بالمصادرة على وجود موضوعات بحثه. إنه يمارس نشاطاً عقلياً خالصاً، إنه يناقش أية فكرة، أو أي تصور، أو أية قيمة، أو قاعدة أو قانون.. وفي كل ذلك يكون إخلاصه كاملا للعقل ولآليات البحث المنهجي
كما يفترض. إنه إذ يناقش يحاول أن يصوغ مذهباً في صورة هيكل معرفي يخلو من أي شوائب غيبية تكشف عن عجزه في سد ثغرات هنا أو هناك. إنه يقوم ببحث نظري مجرد يكاد يخلو من المسلمات السابقة، وإن افترض هو مسلمات خاصة به يبدأ منها بحثه فإنه يجعلها أقل عددا ما استطاع إلى ذلك سبيلاً وأكثر قدرة ودقة واستقلالاً.
وأخيراً نتساءل عن الغاية لكل من الفلسفة والدين، هل هي غاية واحدة؟ أو لنطرح الأمر على نحو مختلف هل ما يتوصلان إليه من نتائج تعني الشئ نفسه؟
إن غاية الفيلسوف الأثيرة هي المعرفة المعرفة لذاتها بصرف النظر عما يعانيه من أجل بلوغها . بينما غاية الإنسان المتدين هي تحقيق أكبر قدر من الإحساس بالأمان. ونحن نلاحظ أن غاية الفيلسوف قد تتحقق بشق الأنفس، وقد لا تتحقق، بينما غاية المتدين تبدأ علامات تحققها من اللحظة التي يسلم بها بالله مسلمة أولى أو درجة أولى من درجات سلم الإيمان، ذلك السلم الذي كلما اعتلى درجاته، درجة فأخرى حقق درجة أعلى من الإشباع الوجداني. إن سلوك طريق الإيمان ينطوي على تحقيق حاجات الإنسان العملية بالدرجة الأولى ولا يحتاج منا دعاوي عقلية أو براهين استنباطية شاقة كالتي يقترحها الفيلسوف إن طريق الإيمان يجعل عمل العقل يبدأ من حيث ينتهي الإيمان، وهنا نده طريقاً ممهداً مستقيماً به علامات للتوجيه على الجانبين. بينما طريق الفيلسوف يشقه بأظافره ويستدل على الاتجاهات بمنطقه وقوة برهانه ويقترح علامات ذات دلالات من بنات أفكاره، وفي الحالين إنه الإنسان حين يؤمن فيستريح وحين يفلسف فيشقي حتى حين


Summarize English and Arabic text online

Summarize text automatically

Summarize English and Arabic text using the statistical algorithm and sorting sentences based on its importance

Download Summary

You can download the summary result with one of any available formats such as PDF,DOCX and TXT

Permanent URL

ٌYou can share the summary link easily, we keep the summary on the website for future reference,except for private summaries.

Other Features

We are working on adding new features to make summarization more easy and accurate


Latest summaries

المعروف عن الري...

المعروف عن الرياضيات انه علم قائم على العقل البشري، فالرياضيون مبدعون، مادتهم العقل ونتاجهم مجموعه م...

In theory, any ...

In theory, any kind of organism could take over the Earth just by reproducing. For instance, imagine...

The Food Truck ...

The Food Truck Management Plan (FD) is a strategy that offers a range of foods and beverages to cate...

يذكر المؤلف أن ...

يذكر المؤلف أن رئيس هيئة أركان الجيش العربي الأردني غلوب باشا سمى حرب 1948 في فلسطين بالحرب المزيفة،...

في تشرين الثاني...

في تشرين الثاني / نوفمبر 1968 بعث القنصل العام الأمريكي في الظهران بالمملكة العربية السعودية لي دينز...

اللمس والحركة ه...

اللمس والحركة هما أفضل الطرق للمتعلمين اللمسيين للتعلم. غالبا ما يشاركون في المظاهرات أو الكتابة أو ...

ارتبط البحث الل...

ارتبط البحث اللغوي عند العرب القدامى بظاهرة اللحن التي تفشت على الألسنة بعد الفتوحات الإسلامية، إذ ك...

الفتوى تعريف ا...

الفتوى تعريف الفتوى لغة واصطلاحاً : تعريفها لغة مصدر لفعل (أفتى) وهي مأخوذة من فتى وفتو وهي (الإبا...

An airline is a...

An airline is a company that offers air transportation services for people and cargo. Airlines util...

1 In today's ...

1 In today's globalized world, you may be surprised to learn that there are still some tribes, or ...

قيمة التسامح في...

قيمة التسامح في الإسلام تعتبر أساسية للفرد والمجتمع، ولها تأثيرات إيجابية عديدة تؤدي إلى تعزيز السلا...

لخص النص التالي...

لخص النص التالي بنفس ترتيب فقراته واحداثه وجعله اكثر تبسيطا النص هو . ( 6 ) موقف الثورة السوفيتية من...