Lakhasly

Online English Summarizer tool, free and accurate!

Summarize result (Using the clustering technique)

أول مجلة متخصصة في تاريخ العلم هي »إيزيس«Isis التي يصفها بأنها بالنسبة له»بمثابة الروح والمطمح والأمل«، ومنذ عام ١٩١٦م راح يلقي محاضراته فيجامعة هارفارد في الفلسفة، وجامعة هارفارد العريقة أصبحت مشهورة ومتميزة بالاهتمام بتاريخ العلم وعُمق وجديَّ ةأبحاثها فيه، ثم أصبحت المجلة منذعام ١٩٢٤م لسان حال »جمعية تاريخ العلم« التي ساهم سارتون في تأسيسها. وفيمابعد أصدر مجلة أخرى تنشر بحوثاً مطولة أكثر أسماها »أوزوريس«، فعمق انشغاله الحقيقي الأصيل بتاريخ العلم جعله شديد التقديرلدور الحضارات الشرقية القديمة وتاريخ العلوم عند العرب إبان العصور الوسطى فيرسم فصول قصة العلم العالمية، واضطلعسارتون بالتأريخ النظامي الممنهج للعلم منذ هوميروس إلى عمر الخيام حتى روجرزبيكون، ولكي يزداد تمكناً من التأريخ للعلم انتقل إلى المشرق في عامي ١٩٣٢-١٩٣١ملدراسة الإسلام واللغة العربية، وخلال النصف الثاني من القرن العشرين انتشرت هذه الأقسام الجامعية المتخصصةفي أنحاء شتى من العالم — للأسف الشديد ليس من بينها مصر والبلاد العربية — معظمهايحذو حذو أكسفورد وكمبردج في إنشاء قسم لفلسفة العلم وتاريخه معًا، حتى بدتهذه العلاقة على مستوى الأبحاث والأطروحات وكأنها مشكلة غير قابلة للحل، إلا بفضل تطوراتها الداخليةعلى يد الرواد المتأخرين من فلاسفتها المحترفين، وتدفق البحوث العلمية والمجلات المتخصصة والندواتوالمؤتمرات الدولية … كانت من العوامل القوية التي ساهمت في أن يحل الوعي بتاريخالعلم في صلب فلسفة العلم. وهؤلاء المحترفون المتخصصون في تاريخ العلم الذين برزوا فيالعقود الأخيرة ورثوا عن الرواد العظام تركة زاخرة، لكنها رؤى متنافرة خلقت توترًافي الميدان يستدعي تضافرًا منشودًا بين فلسفة العلم وتاريخه؛ ١٩٧٤م) فيلسوف العلم البارز بعبارته النافذة التي كانت قوية التأثير ٍّحقا: »فلسفةالعلم بدون تاريخه خواء، لقد كان إغفال أهمية تاريخ العلم قصورًا كبيراً في بنية التفكير العلمي وفلسفته، وبأن المعالجة المتكاملة للظاهرة تقتضي الإحاطة بأبعادهاالتاريخية، وجب علينا أن نمهد لمقبل الحديث بصورة عامة لتاريخ العلم أو لصيرورتهعبر مسار الحضارة الإنسانية. إنه أعظم شأناًوأجل خطرًا من أن تستأثر بإنجازه من ألِفِه إلى يائه حضارة معينة، Toynbee ١٩٧٥–١٨٨٩(م) فيدراسة التاريخ هو أنه لا توجد أمة في العالم يتأتى دراسة تاريخها بمعزل عن تواريخبقية الأمم، ثالثاً: متى يبدأ تاريخ العلم: الأصول الأنثروبولوجية إن العلم أنبل فعاليات الإنسان وأكثر أشكال الحضارة البشرية حضورًا وتعيناً وتمثلًاوأشدها إيجابية، ويمكن القول: إن العلم كموقف إنساني هو في جوهره أقدم عهدًا منالتاريخ، أوعلى أقل الفروض منذ العصر الحجري قبل بداية الحضارة الإنسانية وتاريخها المكتوببزمان سحيق. ما كان يمكناقتحامها ومحاولة دراستها إلا بواسطة مناهج للبحث وأساليب وأدوات ووسائل، المضادات الحيوية والحاسبات الإلكترونية والطاقة النووية والسفر عبر الفضاء… هذه المكتشفات بالغة التطور التي تثير الدهشة والإعجاب قد تبدو للوهلةالأولى وكأنها تنتمي لجنس آخر أو نظام مختلف من الوجود لا صلة له بإنسانما قبل التاريخ، هكذا يطرح كراوثر بواكير محاولات التحاور بين المخ وبين المعطيات الحسيةوالخبرات التجريبية أو بين الدماغ واليد، ربما انطوى هذا التأويل على قليل من العسف وشيء من المبالغة، وعلى أساسه يؤرخ للعلم من حيث هو سجلموثق لتطور العقل الإنساني في استجابته للظروف المحيطة به؛ بدءًًامن الحرب والعلاقات الدولية وانتهاءًً بأشكال التقسيم الطبقي ووقائع الحياة اليومية. ذلك أن برنال ماركسي متحمس فيحمل عرضه لتاريخ العلم تمجيدًاللقيم الاشتراكية وقدحًا في الرأسمالية والطبقات المهيمنة التي جعلت العلم أمدًا طويلًا— طوال العصور القديمة والوسطى — مهنة أرستقراطية محجوبة عن العقول الموهوبةمن جموع الشعب، وفي كلتا الحالتين المتقابلتين (دفاع برنال الصريح عن البروليتاريا ودفاع كراوثرالضمني عن البرجوازية) يكون الانطلاق من الفعالية الاجتماعية للعلم عبر التاريخ، وكأن هذه مسلمات تلزم الباحثين في هذا الميدانمهما تناقضت المشارب والرؤية الأيديولوجية للعملية الاجتماعية. إلا أنه — أي »موجز تاريخ العلم« أو »قصة العلم« لكراوثر — يخلو من التحزب ويصعبدمغه ببطاقة سياسية أو أيديولوجية، ويمكن اعتباره أنموذجًا للعرض المنهجي الشاملوالسلس لتاريخ العلم كفعالية إنسانية، تنبع من استجابة الإنسان للتحديات البيئية ثمالعوامل الاجتماعية التي ينبثق عنها العلم، أي بإنسان العصرالحجري ليصل كراوثر في النهاية إلى اختراع الحاسب الآلي وغزو الفضاء واقتحام سرالحياة، فضلًا عن أن يختتم الكتاب بنظرة مستقبلية هي بعض أحلام الإنسان التييرجوها من العلم، وهي نظرة ما زالت تحتفظ بنضارتها رغم تسارع التطورات العلميةالراهنة. والواقع أن رموز الأعداد — كما يؤكد كراوثر— اخترعت قبل اختراع حروف الكتابة مما يدل على أن التوجه العلمي متأصل في صلبأقدم مناحي الإنجاز الإنساني وفي بنية توجهه العقلي. وإذا صح هذا فلا غرو أن أصبحت التقانة »التكنولوجيا« البدائية والعلم البدائيمواضيع دراسية متخصصة، يتكرس لها باحثون جادون ليخرجوا بنواتج جيدة، بقدر ما تفيد مباحث تاريخ العلم الراغبة في تأصيل موضوعها، منقبيل التصورات العامة للتعاقب الزماني والأوزان والمقاييس وأوليات الحساب والهندسةوالطب والجراحة والهيدروليكا وطبقات الأرض وأنواع الحجارة — أي الجيولوجيا —وقد عرفوا مجموعة محددة من المعادن منها النحاس، لأن البيئة الإنسانية — بما هي إنسانية — تتأثر دائمًا بالأساليب الفنية التي يصطنعهاالإنسان لتيسير التعامل معها، بادئ ذي بدء يمكن الاتفاق مع عَلَم الأنثروبولوجيا البارز إدوارد إيفانز بريتشاردE. Evans-Pritchard ١٩٧٣–١٩٠٢(م) على أن النشأة الحقيقية المهيأة للنماءللمباحث الأنثروبولوجية كانت مع انشغال فلاسفة القرن الثامن عشر بالسؤال حولالحالة الطبيعية للإنسان، 10 لذا يمكناعتبار علم الأنثروبولوجيا وليد عصر التنوير الذي حكمته عقيدة العقل والعلم والتقدماللامحدود الذي تنجزه البشرية باطراد. ثم توطدت هذه العقيدةبفعل نظرية التطور الداروينية ونجاحها اللافت في تفسير الارتقاء الحيوي، نازعتها في بعض الأبعاد النظريةالانتشارية التي أسسها في إنجلترا إيليوث سميثE. وتزعم أن العنصر الحضاريينتشر من مواطن ظهوره إلى المواطن الأخرى، حتى إن مقاله»خمسون عامًا مع الأنثروبولوجياFifty Years in Anthropology « المنشور في المراجعة السنوية لهذاالعلم، 11 ويكاد يتفق الأنثروبولوجيون على أن الأنثروبولوجيا كعلمبدأت بالنظرة التطورية12 التي حكمت إطار الأنثروبولوجيا ومنطلقاتها، يعطينا كتابه الشهير»العقلية البدائية« صورة مُثلى لمنطلقات هذه المرحلة الأسبق من علم الأنثروبولوجيا التيتقطع كل صلة بين الأصول البدائية للإنسان وبين أشكال التحضر الحديثة وعلى رأسهاالعلم، بل هي محض خليط من الخرافات والسحر والغيبياتوالاعتقاد بقوى خفيَّ ة تحكم العالم، الإنسان البدائي — فيمايزعم بريل — يعجز تمامًا عن النظر إلى الطبيعة باعتبارها واقعًا موضوعيٍّا على نحو مايفعل الإنسان الأوروبي المتحضر صانع العلم. تتضح إذن بمزيد من الجلاء تلك النزعة العنصرية والاستعلاء الغربي، 11 فز جوردون تشايلد، ترجمة لطفي فطيم، مما يعني أن هذا التشويه الأيديولوجيبدوره من العوامل التي دفعت التفكير العلمي — ولو من بعيد — إلى الاقتصار علىالمعطى الراهن وإهمال تاريخ العلم. ولغة العلم »ليست إلا رموزًا مختزلةلتتيح أبسط تعبير ممكن عن تعاقب الانطباعات الحسية، وعلى الرغم من هذا يدافع جهارًا نهارًا في كتابه المذكور »أركان العلم« عنمشروعية إحلال الجنس الأبيض عنوة محل القبائل البدائية من السكان الأصليين فيأمريكا وأستراليا، (ويمكن أن نضيف إليهما فيما بعد فلسطين) ما داموا يعجزون عناستغلال الأرض وإثراء الحضارة والإسهام في المعرفة الإنسانية والعلم التجريبي. إنه إذن الهدف الأيديولوجي العنصري المشبوه: إضفاء المشروعية والتبرير لسؤددالغرب والاستعمار الإمبريالي والاستيطان في أراضي الغير. ولما كان التشويه الأيديولوجييستأثر بالعلوم الإنسانية دوناً عن العلوم الطبيعية — كما سنرى في الجزء الأخير منالفصل السادس — فلا غرو أن يجعل الدراسات الأنثروبولوجية نهباً مستباحًا له، الاستعمار احتاج إليها لترسيخ سيطرته على الشعوب المقهورة بأن يزداد علمًا بأوضاعهاوأحوالها ومعارفها، ففتح المجال للأنثروبولوجيين وأتاح لهم مِنحًَا وتسهيلات لم تتُحسابقًا للباحثين، وتسير نحوالعمل على تبريره عن طريق الحط من شأن الحضارات المستعمرة وتهوين قيمة معارفهاوإنكار دورها في قصة الحضارة، حتى إن تطرفه بمعية قيم الصدق التي لا بد وأن تبرز في الميدان العلمي …هذا جعل نظريته التي تقطع كل صلة بين الإنسان البدائي وبين أصول الحضارة والعلمتتعرض لنقد حاد من الأنثروبولوجيين أنفسهم، وفي سبيل إثبات تفرد وسيادة الإنسان الأبيض تتحامل بضراوة ولا موضوعية علىالإنسان البدائي الذي لا يصح أبدًا أن ننفي عنه أية قدرة منطقية، لقد بلغت ضراوة النقد الموجه إلى ليفي بريل ٍّحدا دفع بريتشارد إلى الزعم بأنبريل أسُيء فهمه، على الرغم من أنه هو نفسه رفض نظرية بريل »الذي يدرس العقولالبدائية بمعايير عقل تشكل في ظروف مغايرة. وضراوة هذا الاحتجاج ليست إلا أصداء ثورة عارمة هبت في ساحات الأنثروبولوجياعلى مصطلح »البدائية« ذاته، فيما عدا تلك التي تشكل جزءًًا من المدنية الغربية وأسلافها القدماء!« وظهرالانشغال بمصطلح البدائية وتحديده وإعادة تعريفه، فتبعًا لمنطق العلم تحررالعلم من التشويه الأيديولوجي يسير طرديٍّا مع تنامي ونضج المنهج فيه، فإن هذه الفترات ليست حدودًا فاصلة بين مراحل متمايزة كل التمايز بقدر ما هي حالاتمن التغير المتسارع التي تمهد لظهور حلقات حضارية جديدة ضمن تلك العملية الواحدةالمتصلة، ومن الناحية الأخرى تطور علم الأنثروبولوجيا بالبحوث الميدانية الحقلية التي تعتمدعلى الاتصال المباشر بالثقافات البدائية وإدراك أنها ببساطة ثقافات إنسانية، ولم يعد متآلفًا مع النظرة العلمية إلغاء الماضي أو نفي الآخر بناء على تقدمالحاضر ورقي الأنا، لقد تدخلت النسبويةRelativism الثقافية التي تعطي لكل حضارة قيمتها بالنسبة لظروفها ولعصرها. والذي يضرب بسهمه فيالطرح المتكامل لتاريخ العلم، يكون من الملائم تمامًا أن نختم الحديث بالوقوف معالرائد العظيم، عالم الاجتماع والأنثروبولوجيا الإنجليزي ذي الأصول البولندية برنسلومالينوفسكيB. فجهوده العلمية الرصينة ساهمتفي دفع الأنثروبولوجيا وإرساء علميتها، فقد بدأ مالينوفسكي حياته الجامعية بدراسةالرياضيات والفيزياء، وبعد أن أبلى فيهما اجتذبته العلوم الإنسانية. فمن أجل دراساته الأنثروبولوجية أقام أربع سنوات فيجزر التروبرياندTrobriand قُرب أستراليا (من ١٩١٤م إلى ١٩١٨م)، ويمكن اعتبار الدراسة التي تعرضنا لها سابقًا— عن مبدئيات العلم والتكنولوجيا عند قبائل الأزتك — تطبيقًا للتعاليم التي أرساهامالينوفسكي للمعنيين بهذه المجالات. في عام ١٩٣٦م أخرج مالينوفسكي دراسة هامة بعنوان »السحر والعلم والدين« تعُدفي طليعة الأبحاث الرائدة التي تلقي الضوء على الأصول الأنثروبولوجية بظاهرة العلم. بادئ ذي بدء يسلم مالينوفسكي تسليمًا بأن العلم الحديث هو هذه القوة المتعملقةالدافقة في سياق الحضارة المعاصرة، وتفتح دومًا أفقًا أعلى وأبعد في متواليةلتقدم يتسارع؛ وأكثرها حسمًاوجزمًا وفعالية … العلم بهذه الصورة التي تنامت في العصور الحديثة لا وجود له بالقطعفي المجتمعات البدائية، بيد أن العلم بشكل عام هو أساسًانمط من المعرفة تستند على الملاحظات التجريبية لوقائع العالم في إطار من افتراضالنظام والاطراد في الكون وما شابه هذا من خطوط منطقية أولية، والمعرفة العلمية بهذا التوصيف المبدئي لا بدحاضرة في كل مجتمع إنساني مهما كان بدائيٍّا. فلولا المساحة التي تنفرد بها أصول التفكير العلمي من ملاحظةللطبيعة واعتقاد راسخ بنظام فيها، لما سارت عمليات الصيد والزرع وسائر الفنونوالحرف والصنائع التي تقيم الحياة البدائية. Tylor ١٩١٧–١٨٣٢(م) مؤسس علمالأثنولوجيا الحديث بدور الدين في المجتمعات البدائية، فضلًا عن كتابه المترجم إلى العربية »الفولكلور في العهد القديم« الذي يعرضللأصول الأنثروبولوجية أو الأصول الفكرية البدائية لمضمونات التوراة. وبعد السحروالدين يأتي مالينوفسكي ليهتم بدور العلم في المجتمعات البدائية وإبراز تمايزه عنالسحر وعن الدين. فالدين مختص بالعالم العلوي والحياة الأخرى وما بعد الموت، ربما كان كل إنسان بدائي مؤمناً بقوة السحر الخارقة وقدرة التمائم والتعاويذ علىصد الكوارث الطبيعية الجامحة والغير متوقعة كالفيضان والأعاصير والزلازل والأوبئةوهجوم أسراب الحيوانات الضارية … لكن الإنسان البدائي لن يترك أصوليات حرفته أوزراعته أو طهوه للطعام … إلخ ارتكاناً على السحر فقط، ولكنه أيضًا لا يأخذ بالرأيالمناقض تمامًا من قبيل الرأي الذي يأخذ به عالم الاجتماع والأنثروبولوجيا الأمريكيذو الأصول الروسية ألكسندر جولدنفايزرA. Goldenweiser ١٩٤٠–١٨٨٠(م) الذييرى تماثلًا ٍّتاما أو تطابقًا بين الميول العلمية في العقلية البدائية والميول العلمية فيالعقلية المعاصرة. والأدنى إلى الصواب موقف وسط نعتمده عبر هذه السطور ويأخذ بهمالينوفسكي وهو يؤكد فقط الأصول الأنثروبولوجية لظاهرة العلم في المجتمعات البدائية… وبالتالي في العهود السحيقة من الحضارة الإنسانية ثم تطورها عبر اتجاهات تطورالحضارة الإنسانية. وإذا اتفقنا على الأصول الأنثروبولوجية لظاهرة العلم التي تجعل العلم يمتد بجذورهإلى العصور الحجرية فيوازي وجوده وجود الإنسان، رابعًا: العلم عبر الحضارات على أن رجحان كفة الحضارة الفرعونية لا ينفي دور جيرانها الفينيقيين الذينفاقوها براعة في ركوب البحار وبعض المعارف المتصلة بهذا، فهذه المنطقة في شرق آسيا مهد من مهود نشأة الحضارةالإنسانية، وبالتالي افتقر العلمالصيني منذ بواكيره وحتى مشارف العصور الحديثة إلى المنطق البرهاني والرياضياتالاستنباطية والأصول النظرية التي برع الإغريق في صياغتها، وظلت الرياضيات الصينية دائمًا متعثرة مرتبكة يعتمد ُّ العد فيها على استخدامالعصي، ولم يعرفوا الترقيم العربي الهندي واستخدام الصفر ولا عرفوا شيئاً عن حسابالمثلثات، Huff عوضوا ذلكبتوظيف فلكيين عرب في بكين منذ القرن الثالث عشر، وفي هذا التاريخ عرفوا لأول مرةالترقيم والنظام العشري والصفر واستخداماته، فهو نظام أوتوقراطي يهدف إلى إعدادموظفين للحكومة المركزية البيروقراطية، بخلاف ابتكارات أخرىكثيرة كالساعة المائية والورق والبارود … لذلك فإن جوزيف نيدهام، هذا العالم الذيترك معمله ليكشف عن دور الصين في تاريخ العلم وتاريخ الحضارة وخرج بإنجازاتكبيرة وفاصلة في هذا الصدد تمثلت في موسوعة ضخمة من سبعة أجزاء عن تاريخالعلم والحضارة في الصين، وفي غضون القرنين الأول والثاني الميلاديين كانتالصين قد بلغت قمة من قمم التقدم العلمي والتقاني عبر التاريخ؛ وعلى سبيل المثال ارتبطتمعارفهم الأولية لمواقع الكواكب وحركتها بمعايير ضبط الحياة اليومية، فقد استوعبت ميراثها وواصلت المسير لتمثل المرحلة التالية في قصةالعلم المناظرة لقصة الحضارة، فتحالباب أمام نزعات الاستعلاء الغربي للزعم بأن العلم بدأ مع الإغريق من نقطة الصفرالمطلق بإهدار تام لدور الحضارات الشرقية القديمة، وعبر فجوة باهتة مظلمة هيالعصور الوسطى قام فيها العرب بدور ساعي البريد أو حافظ الأمانة الذي أدخل عليهابعض التجديدات، فيغدو السؤدد الحضاري والسيطرة على العالمين نصيب الغرب المشروعومكانه الطبيعي، وبدأت الديمقراطية في أثينا … إلخ … إلخ… فيبدو الغرب هو الفاعل الوحيد لكل فعل حضاري، ولأن العلم فارس الحلبة في الحضارة الحديثة فإنهيستأثر بنصيب الأسد من هذه الملحمة الزائفة التي تؤكد نقطة البدء مع الإغريق؛ تراجع ذلك الزعم وبدأ الإدراك الواضح لدور كل الحضارات بفضل جهود جورج سارتونوجوزيف نيدهام وأمثالهما، هذا لأنهم دأبوا على تمجيد النظر وتحقير العمل حتى جاهرأرسطو بأن العبيد مجرد آلات حية لخدمة السادة الأحرار المتفرغين لممارسة فضيلتيالتأمل والصداقة! لقد كان العلم الإغريقي هو المقابل الصريح للعلم الصيني، لذا ففي أعقاب المرحلة الإغريقية — الهلينية الخاق


Original text

أول مجلة متخصصة في تاريخ العلم هي »إيزيس«Isis التي يصفها بأنها بالنسبة له»بمثابة الروح والمطمح والأمل«، صدر عددها الأول في مارس عام ١٩١٣م.
ثم هاجر سارتون إلى هولندا، ومنها إلى إنجلترا، وتزوج من فنانة تشكيلية إنجليزية،واستقر أخيراً في الولايات المتحدة الأمريكية. ومنذ عام ١٩١٦م راح يلقي محاضراته فيجامعة هارفارد في الفلسفة، ثم في تاريخ العلم. ومنذ ذلك الحين فصاعدًا وحتى الآن،وجامعة هارفارد العريقة أصبحت مشهورة ومتميزة بالاهتمام بتاريخ العلم وعُمق وجديَّ ةأبحاثها فيه، حتى باتت قبلة المعنيين به.
وقد صدر العدد الثاني من »إيزيس« في سبتمبر عام ١٩١٩م، ثم أصبحت المجلة منذعام ١٩٢٤م لسان حال »جمعية تاريخ العلم« التي ساهم سارتون في تأسيسها. وفيمابعد أصدر مجلة أخرى تنشر بحوثاً مطولة أكثر أسماها »أوزوريس«، ونلاحظ ولعهبالعناوين الشرقية، فعمق انشغاله الحقيقي الأصيل بتاريخ العلم جعله شديد التقديرلدور الحضارات الشرقية القديمة وتاريخ العلوم عند العرب إبان العصور الوسطى فيرسم فصول قصة العلم العالمية، التي يؤكد دائمًا أنها معامل الوحدة بين البشر. واضطلعسارتون بالتأريخ النظامي الممنهج للعلم منذ هوميروس إلى عمر الخيام حتى روجرزبيكون، ولكي يزداد تمكناً من التأريخ للعلم انتقل إلى المشرق في عامي ١٩٣٢-١٩٣١ملدراسة الإسلام واللغة العربية، مما يبرز أهمية تاريخ العلوم عند العرب في ملحمة العلمالمجيدة.
أصبح سارتون أستاذًا لتاريخ العلم في جامعة هارفارد منذ عام ١٩٤٠م وحتىتقاعده ورحيله. ولا شك أن جهوده وجهود زملائه من أعضاء »جمعية تاريخ العلوم«أمثال »بول تانري«P. Tannery من العوامل التي تمخضت عن تأسيس أقسام متخصصةفي تاريخ العلوم بالجامعات الأمريكية منذ عام ١٩٥٠م — كما ذكرنا.
وخلال النصف الثاني من القرن العشرين انتشرت هذه الأقسام الجامعية المتخصصةفي أنحاء شتى من العالم — للأسف الشديد ليس من بينها مصر والبلاد العربية — معظمهايحذو حذو أكسفورد وكمبردج في إنشاء قسم لفلسفة العلم وتاريخه معًا، يعطي شهادةجامعية في هذا التخصص الذي يضم المبحثين. وتجدر الإشارة أيضًا إلى التجربة الإيطاليةفي دراسة تاريخ العلوم التي ازدهرت منذ الستينيات، تمت هي الأخرى تحت رعايةالفلسفة وأنجزت حصادًا طيباً.
في هذا الإطار التنظيمي ظل المبحثان — فلسفة العلم وتاريخ العلم — مختلفينمتمايزين ومستقلين إلى حد ما، يجتمعان فقط على عنايتهما بنفس الموضوع، أي ظاهرةالعلم. قد يكون هذا في حد ذاته علاقة، لكنها صورية شكلية تنظيمية واهية، حتى بدتهذه العلاقة على مستوى الأبحاث والأطروحات وكأنها مشكلة غير قابلة للحل، ولم يدخلالوعي التاريخي في صلب فلسفة العلم كصيرورة ونماء لها، إلا بفضل تطوراتها الداخليةعلى يد الرواد المتأخرين من فلاسفتها المحترفين، هذا صحيح، لكن لا شك أن تناميالاهتمام الأكاديمي بتاريخ العلم، وتدفق البحوث العلمية والمجلات المتخصصة والندواتوالمؤتمرات الدولية … كانت من العوامل القوية التي ساهمت في أن يحل الوعي بتاريخالعلم في صلب فلسفة العلم.
لقد بدا واضحًا أن كلا الطرفين — تاريخ العلم وفلسفة العلم — في حاجة إلىالتفاعل العميق مع الآخر، وهؤلاء المحترفون المتخصصون في تاريخ العلم الذين برزوا فيالعقود الأخيرة ورثوا عن الرواد العظام تركة زاخرة، لكنها رؤى متنافرة خلقت توترًافي الميدان يستدعي تضافرًا منشودًا بين فلسفة العلم وتاريخه؛ لأن الإبستمولوجيا — كمايقول جان دومبريهJ. Dhombres — ِّ تقدم العون الأساسي في التعريف الحقيقي لنشاطتاريخ العلم، وتاريخ العلم بدوره ليس مجرد ذاكرة العلم، بل هو مختبره الإبستمولوجيEpistemological Laboratory، أو كما قال إمري لاكاتوشI. Lakatos (٢٢٩١–
١٩٧٤م) فيلسوف العلم البارز بعبارته النافذة التي كانت قوية التأثير ٍّحقا: »فلسفةالعلم بدون تاريخه خواء، وتاريخ العلم بدون فلسفته عماء.« وسوف نتوقف عندهاتفصيلًا في الفصل الأخير.
لقد كان إغفال أهمية تاريخ العلم قصورًا كبيراً في بنية التفكير العلمي وفلسفته،وكان لا بد من تجاوزه، كما فعلت فلسفة العلم في واحد من اتجاهات تطورها اللاحقةوالمحمودة ٍّحقا، التي شهدتها المراحل الأخيرة من القرن العشرين.
وإذا سلمنا بهذا، وبأن المعالجة المتكاملة للظاهرة تقتضي الإحاطة بأبعادهاالتاريخية، وجب علينا أن نمهد لمقبل الحديث بصورة عامة لتاريخ العلم أو لصيرورتهعبر مسار الحضارة الإنسانية.
ٍّحقا إن موضوعنا هو فلسفة العلم في القرن العشرين، أي إنه منصب على هذه الحقبةالأخيرة، والتي كانت الحضارة الغربية مسرحها، إلا أن الطرح المنهجي المتكامل يقتضيأن نعطي كل مرحلة حقها؛ لأن العلم أنبل مشروع ينجزه الإنسان طُ ٍّرا، إنه أعظم شأناًوأجل خطرًا من أن تستأثر بإنجازه من ألِفِه إلى يائه حضارة معينة، أو مرحلة واحدةمن مراحل التاريخ، وإذا كان مبدأ »أرنولد توينبي«A. Toynbee ١٩٧٥–١٨٨٩(م) فيدراسة التاريخ هو أنه لا توجد أمة في العالم يتأتى دراسة تاريخها بمعزل عن تواريخبقية الأمم، فإنه لا يمكن دراسة مرحلة من تاريخ العلم وفلسفة التفكير العلمي بمعزلتام عن المراحل الأخرى المفضية إليها. وأول تساؤل يفرض ذاته: متى يبدأ تاريخ العلم؟
ثالثاً: متى يبدأ تاريخ العلم: الأصول الأنثروبولوجية
إن العلم أنبل فعاليات الإنسان وأكثر أشكال الحضارة البشرية حضورًا وتعيناً وتمثلًاوأشدها إيجابية، ويمكن القول: إن العلم كموقف إنساني هو في جوهره أقدم عهدًا منالتاريخ، بدأ قبل أن يبدأ التاريخ، ببداية وجود الإنسان في العالم، إنسان نياندرتال، أوعلى أقل الفروض منذ العصر الحجري قبل بداية الحضارة الإنسانية وتاريخها المكتوببزمان سحيق. وهذه الحِقَب السحيقة من تاريخ وجود الإنسان في الكون، ما كان يمكناقتحامها ومحاولة دراستها إلا بواسطة مناهج للبحث وأساليب وأدوات ووسائل، تطورتفقط في القرن العشرين.
ويأتي ج. ج. كراوثرJ. J Crowther الذي يعُد من أهم مؤرخي العلم في القرنالعشرين؛ ليذهب ببدايات العلم إلى ما هو أبعد من ذلك، طارحًا الاحتمال بأن يكون العلمأقدم عهدًا وأسبق في الوجود من الإنسان ذاته! فيقول كراوثر في كتابه الممتع ٍّحقا »موجزلتاريخ العلم ١٩٦٩م« والذي ترُجم إلى العربية تحت عنوان »قصة العلم« يقول:
المضادات الحيوية والحاسبات الإلكترونية والطاقة النووية والسفر عبر الفضاء… هذه المكتشفات بالغة التطور التي تثير الدهشة والإعجاب قد تبدو للوهلةالأولى وكأنها تنتمي لجنس آخر أو نظام مختلف من الوجود لا صلة له بإنسانما قبل التاريخ، وهي على العكس من ذلك تمتد بجذورها للجهد الإنسانيالبدائي فيما قبل التاريخ المكتوب، ومحاولات أسلافنا الساذجة في استخدامالحجارة لصنع أدواتهم هي التي قادت عبر مئات الآلاف من السنين، ومثلهامن محاولات لتصحيح الأخطاء، قادت إلى ما يتصف به علمنا التجريبي اليوممن كمال، فالجهد الذي بذله أسلافنا الأوائل للتنسيق بين أفعالهم البصريةوحركات أيديهم، والذي هو نوع من النشاط العلمي التجريبي، وإن كان فيصورة بدائية، كان أحد أسباب نمو المخ، والذي عن طريقه تحول الإنسانتدريجيٍّا من الحيوانية إلى الإنسانية؛ إذن العلم — بمعنى ما — أقدم منالإنسان.
هكذا يطرح كراوثر بواكير محاولات التحاور بين المخ وبين المعطيات الحسيةوالخبرات التجريبية أو بين الدماغ واليد، وتصويبها وتعديلها عبر آلية المحاولة والخطأ،وأثر ذلك على تطور المخ ليبلغ المرحلة الإنسانية، ومن هذا المنظور تكون المحاولات البدائيةللعلم أقدم عهدًا من إنسانية الإنسان، بل ومؤدية إليها، ويبقى أن نلاحظ كيف أن التحاوربين اليد والدماغ عبر آلية المحاولة والخطأ هو جوهر نظرية المنهج العلمي التجريبي!
ربما انطوى هذا التأويل على قليل من العسف وشيء من المبالغة، وكراوثر نفسهيطرحه كاحتمال، لكن بدايات العلم منذ العصر الحجري هو ما يأخذ به غالبية مؤرخيالعلم من الراغبين في الطرح المتكامل.
وهذا هو ما يسلم به كراوثر نفسه، وعلى أساسه يؤرخ للعلم من حيث هو سجلموثق لتطور العقل الإنساني في استجابته للظروف المحيطة به؛ لذلك تتمركز تأريخاتكراوثر حول صلة العلم بالمجتمع، والعلاقة التبادلية بينهما، وضرورة أن يهيئ المجتمعالظروف المواتية للتقدم العلمي، والتأثير الشديد للعلم على مناحي الحياة الاجتماعية، بدءًًامن الحرب والعلاقات الدولية وانتهاءًً بأشكال التقسيم الطبقي ووقائع الحياة اليومية.
تمامًا كما أكد جون ديزموند برنالJ. D. Bernal على الوظيفة الاجتماعية للعلم،في تأريخاته المسهبة وكتابه الشهير »العلم في التاريخ« الذي صدرت طبعته الأولى عام١٩٥٤م، وصدرت طبعته الثانية المزيدة والمنقحة والذائعة الصيت عام ١٩٥٧م.ولم تكن مقابلة كراوثر ببرنال من بين جمهرة مؤرخي العلم جزافًا، فكلاهما إنجليزيمن أبناء القرن العشرين، من أبرز مؤرخي العلم فيه، ومن المهم أن نلاحظ دلالة تناقضالمشارب بينهما؛ ذلك أن برنال ماركسي متحمس فيحمل عرضه لتاريخ العلم تمجيدًاللقيم الاشتراكية وقدحًا في الرأسمالية والطبقات المهيمنة التي جعلت العلم أمدًا طويلًا— طوال العصور القديمة والوسطى — مهنة أرستقراطية محجوبة عن العقول الموهوبةمن جموع الشعب، فضلًا عن تجهيل العلماء بمشاكل الجماهير واحتياجاتها، هذا بخلافاستغلال الرأسمالية الحديثة والمعاصرة لإمكانيات العلم وتقاناته »التكنولوجيا« استغلالاًبشعًا في قهر الطبقات والشعوب الأقل ٍّحظا، بينما نجد كراوثر أكثر اعتدالاً، بلا تحزبأو تعصب، لكن يقدم الرد على هذا بكتابه المذكور؛ إذ يركز على أن العلم الحديث صنيعةالطبقة البرجوازية التي تشكلت في العصر الحديث، وشكلت بدورها معالمه.
وفي كلتا الحالتين المتقابلتين (دفاع برنال الصريح عن البروليتاريا ودفاع كراوثرالضمني عن البرجوازية) يكون الانطلاق من الفعالية الاجتماعية للعلم عبر التاريخ، وأنتاريخ العلم يبدأ منذ العصر الحجري، وكأن هذه مسلمات تلزم الباحثين في هذا الميدانمهما تناقضت المشارب والرؤية الأيديولوجية للعملية الاجتماعية.
والحق أن كتاب كراوثر المذكور، وإن كان يقف في مواجهة تطرف برنال اليساري،إلا أنه — أي »موجز تاريخ العلم« أو »قصة العلم« لكراوثر — يخلو من التحزب ويصعبدمغه ببطاقة سياسية أو أيديولوجية، ويمكن اعتباره أنموذجًا للعرض المنهجي الشاملوالسلس لتاريخ العلم كفعالية إنسانية، تنبع من استجابة الإنسان للتحديات البيئية ثمالعوامل الاجتماعية التي ينبثق عنها العلم، في مثل هذا العرض لا بد وأن تبدأ قصة العلمالمثيرة — تمامًا كما بدأت مع جون برنال — منذ ما قبل التاريخ، أي بإنسان العصرالحجري ليصل كراوثر في النهاية إلى اختراع الحاسب الآلي وغزو الفضاء واقتحام سرالحياة، فضلًا عن أن يختتم الكتاب بنظرة مستقبلية هي بعض أحلام الإنسان التييرجوها من العلم، وهي نظرة ما زالت تحتفظ بنضارتها رغم تسارع التطورات العلميةالراهنة.
وها هنا أكد كراوثر أن العلم أقدم عهدًا من التاريخ؛ لأن معطياته الأساسية كانتأول ما تأمله الإنسان في العصر الحجري، والواقع أن رموز الأعداد — كما يؤكد كراوثر— اخترعت قبل اختراع حروف الكتابة مما يدل على أن التوجه العلمي متأصل في صلبأقدم مناحي الإنجاز الإنساني وفي بنية توجهه العقلي.
وإذا صح هذا فلا غرو أن أصبحت التقانة »التكنولوجيا« البدائية والعلم البدائيمواضيع دراسية متخصصة، يتكرس لها باحثون جادون ليخرجوا بنواتج جيدة، تفيدمباحث الأنثروبولوجيا، بقدر ما تفيد مباحث تاريخ العلم الراغبة في تأصيل موضوعها،بمعنى الوقوف على أصوله البعيدة؛ نشداناً لرؤية شاملة.
نذكر في هذا — على سبيل المثال — دراسة ممتازة اتخذت موضوعها قبائل الأزتكالتي نزحت من الشمال واستقرت في هضبة المكسيك منذ عام ١٢٦٧م، وحين اكتشافالأمريكتين عام ١٤٩٢م كانت قبائل الأزتك من أكثر الثقافات البدائية تكاملًا في أمريكاالوسطى، على أنهم افتقدوا كثيراً من أوليات التقانة »التكنولوجيا« فكانوا لا يعرفونالعجلة أو المحراث أو التقطير، ولا صهر المعادن والزجاج؛ لذلك اعتبرهم الباحث مرحلةٍّبدائية جدا لم تصل حتى إلى العصر البرونزي، ومع هذا سيطروا على مشاكل تكنولوجية فيبيئتهم بطريقة مدهشة، انطوت على كثير من أوليات الأفكار العلمية القابلة للتطوير، منقبيل التصورات العامة للتعاقب الزماني والأوزان والمقاييس وأوليات الحساب والهندسةوالطب والجراحة والهيدروليكا وطبقات الأرض وأنواع الحجارة — أي الجيولوجيا —وقد عرفوا مجموعة محددة من المعادن منها النحاس، وأيضًا الذهب الذي أطلقوا عليهاسم »المقدس« وظنوه الشمس مقابل الفضة التي هي القمر، ولكن نظرًا لثراء بيئتهمبالنبات مقابل فقرها في أنواع الحيوانات، فقد اهتموا كثيرًا بتصنيف النبات بالذات حتىامتلكوا في هذا قاموسًا رائعًا، وقد بذل الباحث جهدًا مضنياً معتمدًا على توصيفات الرحالةعبر التاريخ، وفحص الوثائق، بجانب الدراسة الميدانية، حتى إنه أتقن لغتهم »النيوتل«Nahutl ليعطي بلورة واضحة لأصول هذه البذور العلمية وتطورها، وعن مثل هذهالبذور، وعبر تاريخ الحضارة الإنسانية الطويل، كانت شجرة العلم التي تبدو الآن ريانةالغصون وارفة الظلال.
ولئن كانت التقانة »التكنولوجيا« البدائية ألحت كثيرًا على الدراسات الأنثروبولوجية؛لأن البيئة الإنسانية — بما هي إنسانية — تتأثر دائمًا بالأساليب الفنية التي يصطنعهاالإنسان لتيسير التعامل معها، فإن اهتمام الأنثروبولوجيا الأحدث نسبيٍّا بأصول العلمالنظري هو تطور جوهري ٍّحقا للأنثروبولوجيا، بقدر ما هو تطور جوهري لقضيةالتأريخ للعلم؛ ليفيد هذا التطور بكلا وجهيه في استكشاف قصة الحضارة ومسارها، لاسيما وأن العلم شريان تاجي من شرايين الحضارة الإنسانية، ونبضه مؤشر شديد الدلالةعلى درجة تدفق الحياة وإمكانيات النماء في الحضارة المعنية.
ويجمل بنا أن نتوقف مليٍّا بإزاء هذا التطور في الأنثروبولوجيا الذي حدث إبان القرنالعشرين فأتاح للمعنيين بتاريخ العلم أن يبدءوه ببداية الحضور الإنساني منذ العصرالحجري وما قبل التاريخ؛ لأن التحاور بين أطراف المنظومة المعرفية ورجع الصدى بينجنباتها يجعلنا نلمح توازياً ٍّدالا ٍّجدا بين هذا التطور في الأنثروبولوجيا وذاك التطور فيوضع تاريخ العلم كمبحث نضج الاهتمام به فقط في القرن العشرين.
بادئ ذي بدء يمكن الاتفاق مع عَلَم الأنثروبولوجيا البارز إدوارد إيفانز بريتشاردE. E. Evans-Pritchard ١٩٧٣–١٩٠٢(م) على أن النشأة الحقيقية المهيأة للنماءللمباحث الأنثروبولوجية كانت مع انشغال فلاسفة القرن الثامن عشر بالسؤال حولالحالة الطبيعية للإنسان، أو ما كان عليه قبل نشوء الحكومات المدنية،10 لذا يمكناعتبار علم الأنثروبولوجيا وليد عصر التنوير الذي حكمته عقيدة العقل والعلم والتقدماللامحدود الذي تنجزه البشرية باطراد. طريق التقدم واحد هو خطى كُتب على البشرأجمعين أن يقطعوها، وإن كان بعضهم أبطأ أو أسرع من الآخر. ثم توطدت هذه العقيدةبفعل نظرية التطور الداروينية ونجاحها اللافت في تفسير الارتقاء الحيوي، فساد الميدانما عُرف بالأنثروبولوجيا التطورية، والتطورية الجديدة، نازعتها في بعض الأبعاد النظريةالانتشارية التي أسسها في إنجلترا إيليوث سميثE. Smith ، وتزعم أن العنصر الحضاريينتشر من مواطن ظهوره إلى المواطن الأخرى، وأن حضارة العصر تبدأ في مركز ثم تنتشرمنه لتتنامى؛ إذ لا يوجد قوم قادرون على صنع الحضارة بأسرها بمفردهم، ولكن كماأوضح جوردون تشايلدG. Ghilde ، فإن النزاع بين التطورية والانتشارية زائف ووهمي؛


رالف بيلز أول مؤلفي هذا العمل الضخم من الباحثين المخضرمين في الأنثروبولوجيا، حتى إن مقاله»خمسون عامًا مع الأنثروبولوجياFifty Years in Anthropology « المنشور في المراجعة السنوية لهذاالعلم، يعُد من التأريخات الجيدة لعلم الأنثروبولوجيا ذاته.
E. E. Evans-Pritchard, Social Anthropology And Other Essays, The Free Press, New 10
.York, 1966, P. 8
لأن الأولى تستفيد من الثانية،11 ويكاد يتفق الأنثروبولوجيون على أن الأنثروبولوجيا كعلمبدأت بالنظرة التطورية12 التي حكمت إطار الأنثروبولوجيا ومنطلقاتها، بل واستأثرتبها في تلك المرحلة الأسبق والتي استمرت حتى الحرب العالمية الثانية.
وما دمنا معنيين الآن بأصول تاريخ العلم، فيمكن اعتبار »لوسيان ليفي بريل«L. Levy-Bruhl ١٩٣٩–١٨٥٧(م) أبرز ممثلي تلك النظرة الأنثروبولوجية التطورية، إنهالوريث الأمين ل »سان سيمون وأوجست كونت،«13 و»إميل دوركايم« ليكون من أهمالشخصيات الأنثروبولوجية في الربع الأول من القرن العشرين، يعطينا كتابه الشهير»العقلية البدائية« صورة مُثلى لمنطلقات هذه المرحلة الأسبق من علم الأنثروبولوجيا التيتقطع كل صلة بين الأصول البدائية للإنسان وبين أشكال التحضر الحديثة وعلى رأسهاالعلم، مما يساهم في تبرير النظرة التي تغفل أهمية تاريخ العلم. فقد ذهب بريل إلى أنالعقلية البدائية مختلفة اختلافًا جذريٍّا عن العقلية المتحضرة، ويستعين برأي ثورنفالدThurnwald بغياب قانون العلية تمامًا عن العقلية البدائية؛ ليؤكد أنها لا علاقة لهاالبتة بالمنطق والتفكير الاستدلالي، بل هي محض خليط من الخرافات والسحر والغيبياتوالاعتقاد بقوى خفيَّ ة تحكم العالم، وبسطوة الأحلام وأرواح الموتى وعلامات التطير، ولاتميز بين الإنسان والطبيعة، بل تعتبره مشاركًا فيها وجزءًًا منها. الإنسان البدائي — فيمايزعم بريل — يعجز تمامًا عن النظر إلى الطبيعة باعتبارها واقعًا موضوعيٍّا على نحو مايفعل الإنسان الأوروبي المتحضر صانع العلم. وينتهي ليفي بريل إلى أن العقلية البدائيةلا تتقدم ولا تكتسب القوى المنطقية إلا عن طريق احتكاكها بالإنسان الغربي الأبيضبالكشوف أو التبشير أو الاستعمار!
تتضح إذن بمزيد من الجلاء تلك النزعة العنصرية والاستعلاء الغربي، أوبمصطلحات فلسفة العلم »التشويه الأيديولوجي« للعلوم الأنثروبولوجية ومدى طغيانه


11 فز جوردون تشايلد، التطور الاجتماعي، ترجمة لطفي فطيم، مؤسسة سجل العرب، القاهرة،
١٩٨٤م، ص١٨ وما بعدها.
B. Malinowski, A. Scientific Theory of Culture, The University of North Carolina Press, 12
.1944, 6th Printing, 1973, P. 16 L. Levy Bruhl, La Philosophie d’Auguste : ليفي بريل له كتاب جيد عن فلسفة أوجست كونت13
.Comte, Felix Alcan, Paris, 1921
على الروح العلمية الحديثة في موطنها الأوروبي، مما يعني أن هذا التشويه الأيديولوجيبدوره من العوامل التي دفعت التفكير العلمي — ولو من بعيد — إلى الاقتصار علىالمعطى الراهن وإهمال تاريخ العلم.
وها هو ذا واحد من أقطاب الروح العلمية المبرزين، كارل بيرسونK. Pearson )١٩٣٦–١٨٥٧م) وكتابه الشهير »أركان العلم« — والذي صدرت طبعته الأولى عام
١٨٩٢م (الثانية عام ١٩٠٠م، والثالثة عام ١٩١١م) — ليجسد الروح العلمية التجريبيةالمتطرفة تطرفًا ٍّحادا، فيرفض الميتافيزيقا، بل وحتى الشعر ما لم يكن قائمًا على أساسعلمي هو الحسية المتطرفة. فكل ما لا يرتد إلى انطباعات حسية — كما أكدت الوضعيةالمنطقية فيما بعد — هو لا علمي، هو لغو وهراء، ولغة العلم »ليست إلا رموزًا مختزلةلتتيح أبسط تعبير ممكن عن تعاقب الانطباعات الحسية،« وقد كان بيرسون نصيراًمتحمسًا وداعية مفوهًا للفكر الاشتراكي، ومن أهم أعماله »الاشتراكية نظريٍّا وعمليٍّا١٨٨٧م«، وعلى الرغم من هذا يدافع جهارًا نهارًا في كتابه المذكور »أركان العلم« عنمشروعية إحلال الجنس الأبيض عنوة محل القبائل البدائية من السكان الأصليين فيأمريكا وأستراليا، (ويمكن أن نضيف إليهما فيما بعد فلسطين) ما داموا يعجزون عناستغلال الأرض وإثراء الحضارة والإسهام في المعرفة الإنسانية والعلم التجريبي.
إنه إذن الهدف الأيديولوجي العنصري المشبوه: إضفاء المشروعية والتبرير لسؤددالغرب والاستعمار الإمبريالي والاستيطان في أراضي الغير. ولما كان التشويه الأيديولوجييستأثر بالعلوم الإنسانية دوناً عن العلوم الطبيعية — كما سنرى في الجزء الأخير منالفصل السادس — فلا غرو أن يجعل الدراسات الأنثروبولوجية نهباً مستباحًا له،فضلًا عن طبيعة موضوعها، كانت العلاقة بينها وبين الاستعمار علاقة تبادلية وطيدة.الاستعمار احتاج إليها لترسيخ سيطرته على الشعوب المقهورة بأن يزداد علمًا بأوضاعهاوأحوالها ومعارفها، ففتح المجال للأنثروبولوجيين وأتاح لهم مِنحًَا وتسهيلات لم تتُحسابقًا للباحثين، فكان لا بد وأن ترد الأنثروبولوجيا الدين للاستعمار، وتسير نحوالعمل على تبريره عن طريق الحط من شأن الحضارات المستعمرة وتهوين قيمة معارفهاوإنكار دورها في قصة الحضارة، وأنبل فصولها قصة العلم. وسوف يواجهنا هذا التشويهالأيديولوجي مرة أخرى حين نتعرض لفصول قصة العلم عبر الحضارات.
ولما كان ليفي بريل من أهم الأنثروبولوجيين في عصره — كما ذكرنا — كان أكثرهمتعبيراً عن هذا، حتى إن تطرفه بمعية قيم الصدق التي لا بد وأن تبرز في الميدان العلمي …هذا جعل نظريته التي تقطع كل صلة بين الإنسان البدائي وبين أصول الحضارة والعلمتتعرض لنقد حاد من الأنثروبولوجيين أنفسهم، رآها كثيرون منهم على حقيقتها، عنصريةقاسية، وفي سبيل إثبات تفرد وسيادة الإنسان الأبيض تتحامل بضراوة ولا موضوعية علىالإنسان البدائي الذي لا يصح أبدًا أن ننفي عنه أية قدرة منطقية، ولئن اختلطت رؤاهبالتصورات الساذجة واللامبررة عقلانيٍّا، فلا شك أنه له موقفه الأولي وتفكيره المنطقيالبسيط. لقد بلغت ضراوة النقد الموجه إلى ليفي بريل ٍّحدا دفع بريتشارد إلى الزعم بأنبريل أسُيء فهمه، على الرغم من أنه هو نفسه رفض نظرية بريل »الذي يدرس العقولالبدائية بمعايير عقل تشكل في ظروف مغايرة.«
وضراوة هذا الاحتجاج ليست إلا أصداء ثورة عارمة هبت في ساحات الأنثروبولوجياعلى مصطلح »البدائية« ذاته، فاستخداماته المثقلة بالانحياز العنصري والتشويهالأيديولوجي تكاد تفرغه من المضمون العلمي، فهي »تحشر معًا كل شعوب العالم ماضيهاوحاضرها، فيما عدا تلك التي تشكل جزءًًا من المدنية الغربية وأسلافها القدماء!« وظهرالانشغال بمصطلح البدائية وتحديده وإعادة تعريفه، حتى اقترح البعض — عام ١٩٤٨م— نبذه وإحلال مصطلح اللاكتابيةNon-Literal محل البدائية.
إن هذه الثورة هي الطريق الذي شقته الأنثروبولوجيا نحو مرحلتها الأحدث الأكثرتحررًا من التشويه الأيديولوجي، أي الأكثر موضوعية وعلمية. فتبعًا لمنطق العلم تحررالعلم من التشويه الأيديولوجي يسير طرديٍّا مع تنامي ونضج المنهج فيه، وأيضًا سوفيواجهنا هذا النضج المتحرر من التشويه الأيديولوجي مرة أخرى حين نتعرض للعلم عبرالحضارات.
لقد كان بريل وزملاؤه التطوريون فلاسفة نظريين أكثر منهم علماء متخصصين،فلم يقوموا بأي بحث حقلي ميداني، واعتمد بريل على مادة سبق أن جمعها منقبلُ الرحالةُ والمبشرون. ومع نمو العلم وإلحاح المنهج العلمي التجريبي بات واضحًاأنه إذا كان للأنثروبولوجيا أن تصبح علمًا متقدمًا فلا بد أن يجمع الأنثروبولوجيونالملاحظات بأنفسهم، وأصبحت مناهج الأنثروبولوجيا تفرق بين أساليب دارسي الحضاراتالراهنة المعتمدة على الأثنوجرافيا والأثنولوجي »أي دراسة الأنماط والأنساق الثقافية،«وبين أساليب دارسي الحضارات الماضية والبائدة التي تعتمد على الأركيولوجيا »علمالآثار«. والبحث عن الأصول الأنثروبولوجية لظاهرة العلم إنما هو — إلى حد كبير— مع هؤلاء »الذين تطورت مناهجهم لجمع المعطيات الأركيولوجية تطورًا كبيراً،« واستطاعت الكشوف الأركيولوجية أن تملأ كثيراً من الفجوات التي كانت تعيب معرفةالأنثروبولوجيين، َّ فأسهمت بشكل فعال في القضاء على الفكرة التي سادت في القرن التاسععشر عن تطور الحضارة خلال مراحل متمايزة ومستقلة، وبذلك »ظهرت الحضارة علىأنها عملية مستمرة ومتصلة، وإذا كانت هناك فترات انتقالية للمظاهر الحضارية الكبرى،فإن هذه الفترات ليست حدودًا فاصلة بين مراحل متمايزة كل التمايز بقدر ما هي حالاتمن التغير المتسارع التي تمهد لظهور حلقات حضارية جديدة ضمن تلك العملية الواحدةالمتصلة، وأن الحلقات الجديدة إنما تقوم وتنبعث عن الأوضاع والأحوال التي سبقتها فيالوجود،« وعلى هذا يمكن النظر إلى تاريخ العلم كعملية متصلة بدأت ببداية الحضارةوتنتهي بقيام الساعة، تتباطأ حيناً وتتسارع حيناً.
ومن الناحية الأخرى تطور علم الأنثروبولوجيا بالبحوث الميدانية الحقلية التي تعتمدعلى الاتصال المباشر بالثقافات البدائية وإدراك أنها ببساطة ثقافات إنسانية، فانزاحتالنظرة إليها بوصفها رواسب أو بقايا مراحل مُنحطة وأدنى، ملغاة تمامًا بفضل التقدمالحضاري، ولم يعد متآلفًا مع النظرة العلمية إلغاء الماضي أو نفي الآخر بناء على تقدمالحاضر ورقي الأنا، أو حتى الحكم عليه بأنه همجي وحشي، فلا بد وأنه يملك رصيده— وإن تواضع — من مبدئيات النظرة العلمية. لقد تدخلت النسبويةRelativism الثقافية التي تعطي لكل حضارة قيمتها بالنسبة لظروفها ولعصرها.
وفي حدوث هذا التقدم الجوهري للأنثروبولوجيا، والذي يضرب بسهمه فيالطرح المتكامل لتاريخ العلم، يكون من الملائم تمامًا أن نختم الحديث بالوقوف معالرائد العظيم، عالم الاجتماع والأنثروبولوجيا الإنجليزي ذي الأصول البولندية برنسلومالينوفسكيB. Malinowski ١٩٤٢–١٨٨٤(م)، فجهوده العلمية الرصينة ساهمتفي دفع الأنثروبولوجيا وإرساء علميتها، بقدر ما ساهمت في إرساء دراسة الأصولالأنثروبولوجية لظاهرة العلم. ولا غرو، فقد بدأ مالينوفسكي حياته الجامعية بدراسةالرياضيات والفيزياء، وبعد أن أبلى فيهما اجتذبته العلوم الإنسانية.
إن مالينوفسكي رائد، نظريٍّا وتطبيقيٍّا، فهو رائد بارز من رواد النظرية البنائيةالوظيفيةStructural Functionalism في علم الاجتماع التي تدرس الحياة الاجتماعيةأو الثقافية كبنية ذات علاقات متبادلة بين جوانبها أو مؤسساتها العديدة، كالجانبالتربوي والدين والقيم والاقتصاد وأنساق المعرفة والقانون ونظم الثواب والعقاب … إلخ،وكل جانب أو مؤسسة يدُرس على أساس الوظيفة التي يؤديها. إن النظرة الوظيفية إلىكل مؤسسة تساهم في إماطة اللثام عن نسبوية الثقافات، مما يفتح الطريق أمام إزاحةالعنصرية والتعالي الأوروبي وأمثال تلك التوجهات الآتية من التشويه الأيديولوجي.
وأيضًا كان برنسلو مالينوفسكي رائدًا تطبيقيٍّا، أي رائدًا للبحوث الميدانية أو الحقلية،وقد دفعها خطوات إلى الأمام، فمن أجل دراساته الأنثروبولوجية أقام أربع سنوات فيجزر التروبرياندTrobriand قُرب أستراليا (من ١٩١٤م إلى ١٩١٨م)، وكان أول منأجرى بحوثه باللغة الأهلية للسكان. ويمكن اعتبار الدراسة التي تعرضنا لها سابقًا— عن مبدئيات العلم والتكنولوجيا عند قبائل الأزتك — تطبيقًا للتعاليم التي أرساهامالينوفسكي للمعنيين بهذه المجالات.
في عام ١٩٣٦م أخرج مالينوفسكي دراسة هامة بعنوان »السحر والعلم والدين« تعُدفي طليعة الأبحاث الرائدة التي تلقي الضوء على الأصول الأنثروبولوجية بظاهرة العلم.
بادئ ذي بدء يسلم مالينوفسكي تسليمًا بأن العلم الحديث هو هذه القوة المتعملقةالدافقة في سياق الحضارة المعاصرة، كإنجازات عقلية جبارة لا تهدأ ولا تستكن أبدًا،تصوب ذاتها وتتجاوز الوضع الراهن باستمرار، وتفتح دومًا أفقًا أعلى وأبعد في متواليةلتقدم يتسارع؛ ليمثل العلم الحديث العقل النقدي البناء في أبهى صوره، وأكثرها حسمًاوجزمًا وفعالية … العلم بهذه الصورة التي تنامت في العصور الحديثة لا وجود له بالقطعفي المجتمعات البدائية، ولا حتى في الحضارات القديمة. بيد أن العلم بشكل عام هو أساسًانمط من المعرفة تستند على الملاحظات التجريبية لوقائع العالم في إطار من افتراضالنظام والاطراد في الكون وما شابه هذا من خطوط منطقية أولية، فتزيد من سيطرةالإنسان على بيئته وإحكام تعامله مع عالمه. والمعرفة العلمية بهذا التوصيف المبدئي لا بدحاضرة في كل مجتمع إنساني مهما كان بدائيٍّا. وإذا كنا نسلم بأن الدين والسحر كائنانوحاضران بقوة في المجتمعات البدائية، فلا بد وأن نضيف إليهما أيضًا العلم.
ويسهب مالينوفسكي في إيضاح كيف أن هذه الدوائر الثلاث، السحر والعلم والدين،متمايزة تمامًا في العقلية البدائية، وغير صحيح أن دائرة السحر تبتلع دائرة العلم، أوأن دائرة الدين تنفيها، فلولا المساحة التي تنفرد بها أصول التفكير العلمي من ملاحظةللطبيعة واعتقاد راسخ بنظام فيها، لما سارت عمليات الصيد والزرع وسائر الفنونوالحرف والصنائع التي تقيم الحياة البدائية.
لقد اهتم السير إدوارد ب. تايلورE. B. Tylor ١٩١٧–١٨٣٢(م) مؤسس علمالأثنولوجيا الحديث بدور الدين في المجتمعات البدائية، واهتم جيمس فريزر بالسحرالبدائي، ووضع ما يشبه موسوعة كبرى في هذا الصدد، وهي كتابه الشهير »الغصنالذهبي«، فضلًا عن كتابه المترجم إلى العربية »الفولكلور في العهد القديم« الذي يعرضللأصول الأنثروبولوجية أو الأصول الفكرية البدائية لمضمونات التوراة. وبعد السحروالدين يأتي مالينوفسكي ليهتم بدور العلم في المجتمعات البدائية وإبراز تمايزه عنالسحر وعن الدين. فالدين مختص بالعالم العلوي والحياة الأخرى وما بعد الموت، والعلممختص بالعالم الأرضي والحياة الدنيا، يمكن أن يتواجدا معًا في نفس العقلية في حالةالإنسان البدائي، كما هو الأمر في حالة الإنسان المعاصر.
أما السحر، فصحيح أنه يتشارك مع العلم في أن كليهما يصدر عن رغبة في السيطرةعلى الطبيعة، إلا أنهما مع هذا يختلفان جذريٍّا في أن السحر إقصاء تام للعقل ولا يستندإلا على قوة التقاليد والاعتقادات المتوارثة، في عالم غامض هلامي مجهول، مما يجعلالسحر حكرًا على طبقة معينة في المجتمع البدائي؛ هي طبقة الكهنة والسحرة. أما العلمالبدائي، فلأنه علم ينبع من العقل البدائي وتصوبه الملاحظات البدائية، ويمثل خيرًا عميمًامتاحًا للجميع، وليس حكرًا على فئة ما، ولن يصبح العلم هكذا إلا بعد أن تمتهنه الكهنةفي الحضارات الشرقية القديمة.
ربما كان كل إنسان بدائي مؤمناً بقوة السحر الخارقة وقدرة التمائم والتعاويذ علىصد الكوارث الطبيعية الجامحة والغير متوقعة كالفيضان والأعاصير والزلازل والأوبئةوهجوم أسراب الحيوانات الضارية … لكن الإنسان البدائي لن يترك أصوليات حرفته أوزراعته أو طهوه للطعام … إلخ ارتكاناً على السحر فقط، ويؤكد مالينوفسكي بأن الإنسانالبدائي سوف يستخف تمامًا بأي اقتراح كهذا، مما يعني حدودًا مصونة لأصوليات المعرفةالعلمية في عقل الإنسان البدائي، وبطبيعة الحال يستشهد مالينوفسكي على هذا من واقعدراساته لجزر التروبرياند.
وعلى هذا الأساس يرفض مالينوفسكي تمامًا رأي ليفي بريل الذي يقطع كل صلة بينالإنسان البدائي والعقلية البدائية، وبين العلم وأصوله المنطقية، ولكنه أيضًا لا يأخذ بالرأيالمناقض تمامًا من قبيل الرأي الذي يأخذ به عالم الاجتماع والأنثروبولوجيا الأمريكيذو الأصول الروسية ألكسندر جولدنفايزرA. Goldenweiser ١٩٤٠–١٨٨٠(م) الذييرى تماثلًا ٍّتاما أو تطابقًا بين الميول العلمية في العقلية البدائية والميول العلمية فيالعقلية المعاصرة. والأدنى إلى الصواب موقف وسط نعتمده عبر هذه السطور ويأخذ بهمالينوفسكي وهو يؤكد فقط الأصول الأنثروبولوجية لظاهرة العلم في المجتمعات البدائية… وبالتالي في العهود السحيقة من الحضارة الإنسانية ثم تطورها عبر اتجاهات تطورالحضارة الإنسانية.
وإذا اتفقنا على الأصول الأنثروبولوجية لظاهرة العلم التي تجعل العلم يمتد بجذورهإلى العصور الحجرية فيوازي وجوده وجود الإنسان، أمكن ببساطة أن نتتبع سيرورةالعلم عبر الحضارات.
رابعًا: العلم عبر الحضارات
كما اتفقنا، العلم شريان تاجي من شرايين الحضارة الإنسانية، ونبضه مؤشر دال علىحيوية الحضارة المعنية، والحضارة بدورها ليست مراحل منفصلة متمايزة بقدر ما هيعملية متصلة وسيرورة متنامية، تسُلم كل مرحلة فيها إلى الأخرى؛ لذلك فإذا غادرنا تلكالأصول الأنثروبولوجية وجدنا حركية العلم ٍّخطا موازياً لحركة الحضارة عبر التاريخ،وتقدمه هو عينه مسار تقدمها. كما أشار مؤرخ العلم جون برنال، بتوجهه اليساريالذي يستدعي تفسيراً ماديٍّا للتاريخ، في الأعم الأغلب يتفق ازدهار العلم مع ازدهارالاقتصاد وتقدم التقانة »التكنولوجيا«، فتنتقل جميعها من بلد إلى بلد ومن عصر إلى آخر.ومن وادي النيل ووادي الرافدين — مصر وبابل — انتقل العلم والتقانة إلى الإغريق،ومن الإغريق رحلا إلى الإمبراطورية الإسلامية، ومن غربها الأندلسي انتقلا إلى إيطاليا فيعصر النهضة، ومن إيطاليا إلى فرنسا وهولندا، حتى َّ حطا في إنجلترا واسكتلندا إبانعصر الثورة الصناعية. وهذا هو نفسه مسار الازدهار الاقتصادي والتجاري والصناعي.ويمكن ملاحظة أن هذا المسار واصل سيره ليصل إلى الولايات المتحدة الأمريكية منناحية، واليابان ومراكز عدة في شرق آسيا الناهض من الناحية الأخرى، وكلها مراكزازدهار صناعي وتقني وعلمي في نفس الوقت.
بداية، تخلق الأساس العريض والجذع المتين للعلم في الحضارات الشرقية القديمة،خصوصًا في منطقة الشرق الأوسط منذ ما قبل عام ٤٠٠٠ق.م حتى ٦٠٠٠ق.م، وعلىرأسها أعظم الحضارات ٍّطرا وفجرها الناصع، أي الحضارة الفرعونية التي كانت المنشأالأصيل لمحاور شتى في العلم، بدءًًا من الرياضة والهندسة والفلك، مرورًا بعلوم المعادنوالكيمياء وصولاً إلى الطب والجراحة. علم الكيمياء بالذات لا يزال يحتفظ باسمه المنسوبإلى اسم مصر، إلى »الكي/مي«che-mi أي التربة السوداء؛ كناية أرض مصر الخصيبة،ومنذ أن أمر الإمبراطور دقلديانوس بحرق الكتب الكيمية، أي المصرية، كتب العلم الذييحيل المعادن ذهباً فيفتن الألباب.
على أن رجحان كفة الحضارة الفرعونية لا ينفي دور جيرانها الفينيقيين الذينفاقوها براعة في ركوب البحار وبعض المعارف المتصلة بهذا، كانوا بحارة جسورينوتجارًا على اتصال مباشر بالبابليين. والحق أنه لا يضاهي الإنجاز المصري إلا إنجازحضارات بلاد الرافدين، خصوصًا الحضارة البابلية. بعض مؤرخي العلم يرون الإنجازالبابلي في الفلك والتقاويم متقدمًا على الإنجاز المصري، واتفق العلم المصري مع العلمالبابلي في أنه كان حكرًا على طبقة الكهنة.
بصفة عامة، كان التقدم أكثر للحساب في بابل وللهندسة في مصر؛ لأن وادي الرافدينيخلو تقريباً من الأحجار الصلبة، بينما مصر عامرة بالجبال والحجارة شديدة الصلابة،والصلابة التي تحفظ الشكل ثابتاً هي أساس جيد لتقدم الهندسة. وكان البابليون همالذين ابتكروا واستخدموا نظام الخانات العددية، ويرى بعض مؤرخي العلم أنهم همالذين ابتكروا رموز الأرقام، ثم انتقلت من العراق القديم إلى الهند القديمة، فوجب أننزجي الشكر لبابل على أهم ابتكار في تاريخ الرياضيات.
أما الهند وجارتها الصين، فهذه المنطقة في شرق آسيا مهد من مهود نشأة الحضارةالإنسانية، وبالتالي ساهمت بنصيبها في هذه المرحلة الباكرة والأولية التمهيدية من تاريخالعلم، حيث وعورة شق وتعبيد الطريق؛ ليكون الإبداع الأصيل، إن دور الصين كبيرفي تاريخ الحضارة الإنسانية وفي الواقع المعاصر على السواء. لكن حتى أواخر العصورالوسطى، كان العلم الصيني يسير في مسار مختلف ومستقل عن مسار الحضارتينالغربية والعربية، فلم يعرفوا شيئاً عن أرسطو وإقليدس وبطليموس، وبالتالي افتقر العلمالصيني منذ بواكيره وحتى مشارف العصور الحديثة إلى المنطق البرهاني والرياضياتالاستنباطية والأصول النظرية التي برع الإغريق في صياغتها، وكانت جميعها طوع بنانالعرب، وظلت الرياضيات الصينية دائمًا متعثرة مرتبكة يعتمد ُّ العد فيها على استخدامالعصي، ولم يعرفوا الترقيم العربي الهندي واستخدام الصفر ولا عرفوا شيئاً عن حسابالمثلثات، على الرغم من أهميته في علم الفلك. وكما يقول توبي هفT. E. Huff عوضوا ذلكبتوظيف فلكيين عرب في بكين منذ القرن الثالث عشر، وفي هذا التاريخ عرفوا لأول مرةالترقيم والنظام العشري والصفر واستخداماته، خصوصًا بعد مجيء المبشرين المسيحيين.وقد لحق التفكير النظري في الطبيعة بوضعية الرياضيات. عرفت الصين بالتأكيد فكرًاقانونيٍّا، وعرفوا أيضًا تفكيراً في الطبيعة، ولكنهم لم يعرفوا علم الفيزياء. وكان نظامالتعليم في الصين يوطد هذا الوضع ويدعمه، فهو نظام أوتوقراطي يهدف إلى إعدادموظفين للحكومة المركزية البيروقراطية، والحصول على الوظيفة هو الهدف الوحيدمن العملية التعليمية، وهذا يقتضي إتقان الإنسانيات والكلاسيكيات الخمس، أو التراثالصيني القديم، خصوصًا منتخبات كونفوشيوس، ومسائل أخرى إدارية وثقافية. وكلهذا لا علاقة له بالرياضيات ولا بالتفكير العلمي في الطبيعة، فلم يكن ثمة بواعث لتعلمهما،فضلًا عن البحث والإبداع فيهما.
ولكن إذا كان هذا هو حال العلوم النظرية كالرياضيات والطبيعة، فإن الصين قدأسهمت برصيد هائل في العلوم التطبيقية، ومنها الطب الصيني الشهير. والحق أنه يمكناعتبار التقانة »التكنولوجيا« الميكانيكية في أصلها ابتكارًا صينيٍّا، بخلاف ابتكارات أخرىكثيرة كالساعة المائية والورق والبارود … لذلك فإن جوزيف نيدهام، هذا العالم الذيترك معمله ليكشف عن دور الصين في تاريخ العلم وتاريخ الحضارة وخرج بإنجازاتكبيرة وفاصلة في هذا الصدد تمثلت في موسوعة ضخمة من سبعة أجزاء عن تاريخالعلم والحضارة في الصين، أعدها نيدهام للنشر، ثم قام بتلخيصها يقول جوزيفنيدهام: »إن العلم الصيني شبه تجريبيquasi-empirical وتطبيقي في جملته؛ لذاكانت الجوانب النظرية فيه أقل تقدمًا. وفي غضون القرنين الأول والثاني الميلاديين كانتالصين قد بلغت قمة من قمم التقدم العلمي والتقاني عبر التاريخ؛ لذلك فإنه من الناحيةالتقانية بالذات، يحق اعتبار الصين غاية وذروة الحضارات الشرقية القديمة«.
ومهما قيل عن ارتباط العلم في الحضارات الشرقية القديمة بالاحتياجات العملية،فإنه لم ينفصل أبدًا عن الإطار المعرفي والبنية التصورية. والحق أن هذا الانفصال يكاديكون مستحيلًا؛ لأن العلم أولاً وقبل كل شيء نشاط معرفي. وعلى سبيل المثال ارتبطتمعارفهم الأولية لمواقع الكواكب وحركتها بمعايير ضبط الحياة اليومية، وبنفس القدرلم تنفصل عن التأمل النظري في عناية القوى العلوية؛ لأن الوجدان الشرقي وثيق الصلةبالألوهية، وأوضح راشكوفسكي في كتابه »نظرية العلم والشرق، ٠٨٩١« بمزيد منالتفصيل أن كوزمولوجيا العهد القديم ترجع إلى أساطير ما بين النهرين، ويمكن عنطريق هذا تتبع الصلة بين الميثولوجيا، أي الأساطير التي مثلت إطارهم المعرفي وبينعناصر العلم في هذه الحضارات؛ ليظل العلم في كل حال خير شاهد على حركية العقلالبشري عبر الحضارات.
ولأن الجزر الإغريقية تتميز بقربها وتوسطها وسهولة اتصالها بمواطن الحضاراتالشرقية الأسبق، فقد استوعبت ميراثها وواصلت المسير لتمثل المرحلة التالية في قصةالعلم المناظرة لقصة الحضارة، وكان الفضل العظيم للإغريق في صياغة الأصول النظريةالعقلانية للعلم، فضلًا عن الفروض الخصيبة التي طرحها بعضهم خصوصًا القبلسقراطيين، وكما هو معروف، بلغت حصافة الأصول النظرية مع الإغريق ٍّحدا، فتحالباب أمام نزعات الاستعلاء الغربي للزعم بأن العلم بدأ مع الإغريق من نقطة الصفرالمطلق بإهدار تام لدور الحضارات الشرقية القديمة، وعبر فجوة باهتة مظلمة هيالعصور الوسطى قام فيها العرب بدور ساعي البريد أو حافظ الأمانة الذي أدخل عليهابعض التجديدات، انتقل العلم من الإغريق إلى أحفادهم وورثتهم الشرعيين في غرب أوروبا،هكذا تبدو قصة العلم من ألِفها إلى يائها قصة غربية خالصة!
لقد كان الإغريق أول قوم في أوروبا يخرجون من الوضع القبلي البدائي، ويصنعونمدنية وثقافة متنامية، قبل الميلاد بستة قرون. إنهم بداية الحضارة الأوروبية التيتطورت عبر التاريخ حتى بلغت مرحلة المد الاستعماري، فلم يتوان مفكرون غربيون فيتسويغه، حتى شكلوا فيلقًا في الجيوش الاستعمارية، بزعم أن الغرب هو صانع الحضارةًابتداءً وأبدًا، فيغدو السؤدد الحضاري والسيطرة على العالمين نصيب الغرب المشروعومكانه الطبيعي، وكان السبيل لهذا هو الإسراف في تمجيد ما أسموه المعجزة الإغريقية،وإهدار ميراث الحضارات الشرقية القديمة الأسبق منها، والتي أصبحت مستعمرة. وبينماالحضارة اختراع مصري خالص، أنجزه الفراعنة — قبل الإغريق بألفي عام — ليكونالفجر الناصع ونقطة البدء الحقيقية، راحوا يزعمون أن هذا قد انزوى، والإغريق همنقطة بدء الحضارة الإنسانية بجملتها، وليس الأوروبية فقط، فالعلم بدأ مع الإغريق، كمابدأت الفلسفة مع طاليس، وبدأت الرياضة مع فيثاغورث، والميثولوجيا »الأساطير« معهوميروس، والمسرح مع يوربيديس وأسخيلوس، وبدأت الديمقراطية في أثينا … إلخ … إلخ… فيبدو الغرب هو الفاعل الوحيد لكل فعل حضاري، المالك الوحيد لكل غنيمة حضارية،صاحب الحق في تصريف شئون الحضارة البشرية وفقًا لمصالحه. إذن الاستعمار والهيمنةعلى العالمين نصيب الغرب المشروع، ولأن العلم فارس الحلبة في الحضارة الحديثة فإنهيستأثر بنصيب الأسد من هذه الملحمة الزائفة التي تؤكد نقطة البدء مع الإغريق؛ تجسيدًالما أشرنا إليه سابقًا من تشويه أيديولوجي، وقد انصب على تاريخ العلم.
وأجج من هذا ضعف الحصيلة المعرفية عن العلم القديم وما كان شائعًا من خفوتالوعي بتاريخ العلم، ومع انطلاقة الوعي التاريخي وتنامي الدراسات في تاريخ العلم،تراجع ذلك الزعم وبدأ الإدراك الواضح لدور كل الحضارات بفضل جهود جورج سارتونوجوزيف نيدهام وأمثالهما، هذا بخلاف المحاولات الدءوبة التي مرت علينا، محاولة أنتتبع حركة العلم حتى الأصول الأنثروبولوجية، والمحصلة أن تتكامل قصة العلم عبرالحضارات، فيما يعُد ظفرًا معرفيٍّا كبيراً.
وبهذا الطرح الموضوعي المتكامل يبدو العلم الإغريقي مرحلة تالية لمرحلة الحضاراتالشرقية القديمة، مستفيدةً منها ومواصلة لمسارها. بدأت في أيونيا ببلاد اليونان وليس فيأي مكان آخر من أوروبا، لقربها وسهولة اتصالها بمواطن الحضارات الشرقية الأسبقمنها، مصر وفينيقيا وبابل، فكانت تمثلًا واستيعاباً لميراثها، ثم تطورًا لها. وكما يقولهال: اختلف العلم الأيوني عن العلم المصري القديم في أنه افتقر إلى أساس من الملاحظاتالتجريبية، وإذا عُد طاليس — أول الفلاسفة الإغريق — من الحكماء السبعة؛ لأنه استطاعالتنبؤ بكسوف الشمس، فقد فعل هذا على أساس الوثائق البابلية التي استطاع الاطلاععليها. وعلى أية حال فإن التطور الجوهري العظيم ٍّحقا الذي أنجزه الإغريق يتمثلفي بلورة مثل البحث العلمي وإرساء أسسه العقلانية. بصفة عامة انحسرت المباحثالتجريبية وتمركزت إنجازات الإغريق العظمى في العقل النظري والعلوم الاستنباطية،أي في المنطق والرياضيات؛ هذا لأنهم دأبوا على تمجيد النظر وتحقير العمل حتى جاهرأرسطو بأن العبيد مجرد آلات حية لخدمة السادة الأحرار المتفرغين لممارسة فضيلتيالتأمل والصداقة! لقد كان العلم الإغريقي هو المقابل الصريح للعلم الصيني، فبينمااهتم هذا الأخير بالجوانب التطبيقية والتقانية »التكنولوجية« وأغفل الجوانب النظريةوالاستنباطية، فعل العلم الإغريقي العكس تمامًا. والواقع أن النمو الحضاري الصحيالواعد يأتي بتكامل الجانبين: العلم والتقانة، والمنهج العلمي ذاته يقوم على دعامتين؛ هماالفرض والتجربة، أو النظرية والملاحظة.
لذا ففي أعقاب المرحلة الإغريقية — الهلينية الخاق


Summarize English and Arabic text online

Summarize text automatically

Summarize English and Arabic text using the statistical algorithm and sorting sentences based on its importance

Download Summary

You can download the summary result with one of any available formats such as PDF,DOCX and TXT

Permanent URL

ٌYou can share the summary link easily, we keep the summary on the website for future reference,except for private summaries.

Other Features

We are working on adding new features to make summarization more easy and accurate


Latest summaries

دراسة ظاهرة الم...

دراسة ظاهرة المقاومة المكتسبة فى الفطريات نتيجة استخدام المبيدات الفطرية دراسة تأثير نظم الرى المختل...

الأربعون الآن و...

الأربعون الآن وصلت إلى قمة هرم الحياة، والآن بدأت أنحدر في جانبه الآخر، ولا أعلم هل أستطيع أن أهبط ب...

Morocco has rec...

Morocco has recently been making huge preparations to host the African Cup of Nations in 2025 and th...

The Romantic mo...

The Romantic movement, which emerged in the late 18th and early 19th centuries, transformed literatu...

تتركز رؤية القس...

تتركز رؤية القسم على تطوير تقنيات متقدمة للتشخيص المبكر والدقيق للأمراض البكتيرية النباتية، بالاستفا...

نفذ صباح امس ال...

نفذ صباح امس الأربعاء موظفي وموظفات مؤسسة موانئ خليج عدن وقفتهم الاحتجاجية الرابعة امام محكمة استئنا...

.ركز أبحاث العل...

.ركز أبحاث العلاج الجيني للصرع حاليًا على تخفيف الأعراض باستخدام ناقلات فيروسية مثل AAV، مع الاستفاد...

The book "Anima...

The book "Animal Farm" authored by George Orwell, written during the peak of World War II, functions...

قصة السلطة مع ا...

قصة السلطة مع الزنزانة وقصة الشيخ عيسى المؤمن مع القضبان، قصتان تنفرد كل قصة بأرضها وبنوعها وبفرادته...

كلمة رئيس قسم ب...

كلمة رئيس قسم بحوث ديدان اللوز "نعمل في قسم بحوث ديدان اللوز بجد وتفانٍ، مدركين الأهمية الاقتصادية ل...

تعد القيمة السو...

تعد القيمة السوقية من المؤشرات الأساسية التي تعكس قوة المراكز المالية للمصارف ومكانتها في السوق ومدى...

[المتحدث 3] Hel...

[المتحدث 3] Hello, and welcome to today's PMI research webinar. And as mentioned, I'm Daniel Nichols...