لخّصلي

الفصل الاول
المقدمة وتعريف المشكلة

:مقدمة
ً َّ أن یصطفیها االله عز َّ وجل دون

غة العربیة مكانة ورفعة وتشریفا
ُّ
حسب الل
الذي یحوي في ثنایاه تعالیم وشرائع ،لغات العالمین ویجعلها لغة للقرآن الكریم
إنسـهم وجنهم على : الإسلام ؛ تلك الرسالة الخاتمة الشاملة الموجهة للخلق أجمعین
ٕ لى الناس كافة على اختلاف ألسنتهم وألوانهم
وعلى اختلاف عصورهم ،السواء؛ وا
اس { :وعلى اختلاف أمصارهم وبلدانهم ،وأزمانهم َ ب ِش یرًا
َّ ِ
ً لِلن
َّة
َّلا َ كاف
ِ
َْن َ اك إ
َ َرْ سل
َو َما أ

اس
َّ ِ
َ َر الن
َ ْكث
َ ِكنَّ أ
ً َ ی عْل } ٢٨آیة: ، سبأ( { .) َ َ لاو َ مُون َنِذ َ یرًا ول
ِ یّا
ً َ ع َرب
ُ رْ آنا
َ َیْك ق
ِل
َا إ
َ ْو َح یْن
ِ َك أ
َو َكَذل
ِ َ لا ر
ْ َج ْمع
َ ال
َ ْوم
ْ ِذ َر ی
ُن
َ َ ا وت
َھ
ُ َر َى و َم ْن َ ح ْول
ْق
َّم ال
ُ
َّ ِة ْ ِذ َر أ
ُن َجن
ِت
ْ ل
ِي ال
ِ ِر ٌ یق ف
َ ف
ِ ِیھ ف
َ ِر ٌ یق َ ي یْب ف
َوف

یر
ً َّ أن یصفها االله جل ِ )٧){الشورى، آیة:السَّع . ِ

ً وتعظیما
وحسب العربیة مكانة وشرفا

ي
ِ { .شأنه بالوضوح والإبانة ٌّ
ِ َس ٌ ان ع َ َرب
َذا ل
ي َ وھ َ
َ ْع َج ِم ٌّ
َ ِیْھ أ
ِل
ْ ِح َ دُون إ
ِذ ي یُل
َّ
ِ َس ُ ان ال
ل

ُمب أن قمة ما تبلغه لغة ما ،). والحقیقة التي لا خـلاف علیها ١٠٣){النحل، آیة: ِ ٌ ین
أن تكون لغة مبینة، قادرة على الإشفاف والإفصاح عما ،في الشرف وعلو المكانة
وبنفس القدر تكون معقولة ومفهومة من قبل السامع أو المتلقي { ،في نفس المتحدث

َّ ُكْم
َ َعل
ً ل
ِ یّا
ً ع َ َرب
ُ رْ آنا
ُ ق
َاه
ْن
َّ َ ا ج َعل
ِل ).{٣) {الزخرف،آیة: ُ إ َون ِن

َ عْق
ً ت
َ ْع َج ِم یّا
ً أ
ُ رْآنا
ُ ق
َاه
ْن
َ ْو َ ج َعل
َول

ِذ َ ین لا
َّ
َ ٌ اء َ وال
ُ َ وا ھُدًى و ِشف
ِذ َ ین َ آمن
َّ
ِل
ُ َ لْ ھُو ل
ي ق
ِ ٌّ
ي َ وع َ َرب
َ ْع َج ِم ٌّ
أ
َ
ُ ھُ أ
َات
َ ْت آی
ُ صِّل
َ ْولا ف
ُوا ل
َال
َق
ل

َ
ْول
ُ
َ ِیْھْم ع ً َمى أ

ْ َ رٌ و َھُو َ عل
ِ ِھْم َ وق
ِ َ ي آذان
ُ َون ف
َادَوْ َن ِ م }(فصلت، ْن َ مَك ٍ ان َ ب ِع ٍید ْ یُؤ ِمن

ِ كَ یُن
ئ

.)٤٤آیة:
غة العربیة،

ُّ
فما هي إذن تلك السمات التي خصَّ االله سبحانه وتعالى بها الل
ّزها بها حتى تبوأت هذه المكانة السَّامیة بین لغات البشر
غة ؟ومی
ُّ
وكیف تهیأ لهذه الل
والسؤال ؟أخرى في تاریخ البشریةالشریفة أن تبلغ ذلك الشأو الذي لم تبلغه لغة
ً رغم ضآلة الجهد الإنساني المبذول ،لماذا ظلت هذه اللغة كما هي :الأكثر إلحاحا
َّغات التي ؟لحفظها ؛ لم تتبدل ولم تتغیر
بل ولماذا لم تمت مثلما ماتت جمیع الل
لغة فقد شهد التاریخ موت الهیروغلوفیة ؟سبقتها، والمعاصرة لها أوالتي جاءت بعدها

٢

ُّغة الإغریقیة واللغة اللاتینیة ؛ وهما !،الفراعنة وبناة الأهرام

و شهد التاریخ موت الل

ً، وخضع لسلطانه
ً عظیما

ا ملوك مشارق ملغتان لإمبراطوریتین بلغتا في القوة شأوا
ومن بعد ماتت اللغة العبریة والأرامیة وهما أختا العربیة حیث !الارض ومغاربها
ٌ تعدان فرعین من ف
ٌ روع الدوحة الس

.ة أصل العربیة وأرومتها الراسخةامی

،وهذا صحیح .یتبادر للذهن مباشرة أن العربیة لم تمت لأنها لغة دینوقد

ً

لماذا ماتت الآرامیة وهي لغة المسیح علیه السلام وهي ،ولكن یبقى السؤال ملحا
ً لغة دین
العبریة وهي لغة تراجعتبل ولماذا ؟إذ هي لغة الإنجیل وبها نزل؛ أیضا
ً َّة الیهودیة :التلمود والتوراة
ً ؟كتاب المل وأعظمهم مكرا
،والیهود أكثر خلق االله دهاء

ً
ً ً وتدبیرا

على تراثهم وثقافتهم ،وأشدهم كیدا َّ كیف ماتت هذه .وأكثر الناس حرصـا
ً َّغات واندثرت، ولم تمت العربیة
؟ولم تتـبدل ولم تتحول ،الل !إن في الأمر لسرا

ً

إذ كیف تسنى للعربیة أن تصمد وتقاوم سلسلة :ثم یبقى السؤال الأكثر إلحاحا
ُّغة غزو المغول ؟من الابتلاءات والنكبات التي مرت بها الأمة

كیف قاومت هذه الل

والتتار؟ وكیف تجاوزت كید المستشرقین الحاقدین الذین ما فتـئوا یلمزونها ویغمزونها
لها أن ظلت شامخة رغم محاولات بعض السذج وكیف ؟ویرمونها بكل عیب وقصور
عون بأنها ؟من أبناء الأمة العربیة الذین ینعقون بما لا یسمعون َّ هل صحیح ما ید
ِّفة لا تصلح لأن تكون أداة لتعلم العلوم الحدیثة وتقنیات العصر
هل ؟لغة متخل
هلة صحیح ما یدعون بأنها لغة صعبة ومعقدة وعصیِّة؟ وأن اللغات الأجنبیة س
ً { ؟میسورة
َّ َ كِذبا
ِلا
ُ َون إ
ُول
َق
ِ ْن ی
ْ َو ِ اھ ِھْم إ
َف
َ ْخ ِ رُجُ م ْن أ
ً ت
ِ َمة
َك .)٥) {الكهف، آیة: َبُر ْت َ كل

ً

سوف تشكل المحاور ،هذه الأسئلة الملحة وأسئلة أخرى أكثر إلحاحا
غة العربیة
ُّ
الأساسیة لهذه الدراسة ؛ حیث یسلط الباحث الضوء على خصائص الل
اللغات الأخرى المعاصرة، عسى بعض وسماتها الممیزة ویقارنها بسمات وخصائص
عسى أن و .أن یقود ذلك إلى إدراك مكانة اللغة العربیة المتفردة بین لغات العالمین
َّ لغة سهلة مرنة معدة ،دون غیرها من اللغات ،یستدل به على حقیقة أن العربیة
مقاومة لكل عوامل الفناء والبلى ،ومجهزة ومصممة لتبقى على مر العصور
والحقیقة كما یلخصها .بل ولكل مظاهر التبدل والانحراف أو التحریف ؛ضوالانقرا

٣

العربیة وصلت إلینا معبرة عن تاریخ أن "م) ١٩٨٣: ٤٤د.عبد الصبور شاهین (
دون أن ،كما كانت تنطق عن ألسنتهم ،ناطقة على ألسنتنا ،وتراث عریق ،بعید
هي هي، لم یصبها التغییر رغم ،فأصولها وصیغها وتراكیبها .أو تستعجم ،تستغرب
وهذا أمر نادر الحدوث في عالم اللغات لم یسجله .وتعاقب الأجیال ،تطاول العهود
غة العربیةالتا

ُّ
َا ،ریخ إلا لل
ِه
َم
ِد
ِق
،التي یقرأ القارئ الیوم نصوصها القدیمة فلا یحس ب
ِها
ُل

."بل ویستخدمها في أحیان كثیرة ،بل یأنس بها ویتلذذ بتكرارها وتمث

ً

ُّ غات الأخرى تستغلق :ویمضي د. شاهین قائلا

"على حین أن نصوص الل

فتصبح من مخلفات ،قرن واحد بل ،على الفهم إذا مضى على إنشائها قرنان
ُ َ وضع لتفسیرها المعاجم الكلاسیكیة ؛ فأما إذا كانت بنت ثلاثة أو أربعة ،التاریخ
وت
عد من مقتنیات المتاحف "
ُ ُّ

.قرون فإنها ت
أنها تبقى بقدر ما یتعاظم رصیدها من ،فالمعلوم عن تطور اللغات البشریة
ولكن حتى ذلك لا یحول ،ابهون من بنیهاالآثار الأدبیة والعلمیة التي یبتدعها الن
دون تغییر أصواتها ومفرداتها وتراكیبها حتى تصبح في مرحلة لاحقة من تاریخها
ً على خرق هذا الناموس وتخلف هذه
ً متفردا
غة العربیة مثالا
ُّ
ً آخر. وتبقى الل
خلقا
ُّغة القاعدة ؛ حیث بدأت مع انبثاق فجر الرسالة المحمدیة مرحلة جدیدة في حیا
ة الل
،العربیة الفصحى ؛ فهي كأنما تعاطت مع تعالیم هذه الرسالة الخالدة إكسیر الحیاة

ِها شجاعة المواجهة
َحی

وروح الثبات التي جعلتها لغة كل ،وسر البقاء واستمدت من و
قادرة على ،فبقیت العربیة كما كانت راسخة القدم مبنى ومعنى .العصور والأزمان
العصور المتلاحقة تشتق وتنحت من أصولها وجذورها، ما التعاطي مع متطلبات
وتأخذ ما یلزمها من غیرها عند ،تعبر به عن مفاهیم العلوم والمعارف المتجددة
وتهب لغیرها من اللغات ما تحتاجه بسخاء ،الضرورة القصوى دونما إفراط أو تفریط
ُّغة العربیة، هكذا كانت، وهكذ .ودون منٍّ أو أذى

ا سوف تكون، إن شاء هذه هي الل

.ً
ً كان مفعولا
االله، حتى یقضي االله أمرا
ألا وهو ما هي الوسائل والأدوات والقوالب الجدلیة ،وهنا یبرز السؤال الأهم
غة العربیة بین اللغات المعاصرة
ُّ

؟التي یجب على الباحث استخدامها لتحدید مكانة الل

٤
ُر التحلیلیة الحدیثة

التي یمكن للباحث استخدامها ،وماهي المناهج البحثیة والأُط
غة العربیة وسماتها الفریدة التي تؤهلها
ُّ
ً لإظهار خصائص الل
ً وسندا
لتكون له عونا
؟لأن تكون لغة للعلوم والآداب والمعارف والفنون على مر الأیام وتعاقب الأجیال
ً ً قویما
ً علمیا
ً ،ویستلزم منهجا
ً ضعفا
وهنا تأتي الإجابة بداهة ،أن الأمر یتطلب جهدا
فینظر نظرة ثاقبة في متن ،یستند على معطیات ومسلمات البحوث العلمیة الحدیثة

ً وتراكیب
ُّغویة أصواتا
،المادة الل ٍ فیحلل ویقارن ویقابل حتى یصل إلى ،ومباني معان
ً
ً وبرهانا
ً م یقدمها الباحث دلیلا

عن العاطفة والانفعال. ث ،الحقائق مجردة على بعیدا

وتثبیت
ٌ ً
ً أن یكون في ذلك هدى

.لقوم یتفكرون صدق فرضیاته ومرئیاته آملا
:إلى من توجه هذه الدراسة
یأتي هذا البحث في مجمله لیخاطب طوائف ثلاث ً الطائفة الأولى هي طائفة : ا
وقبولها سالف فكر أو المفكرین المتجردین الباحثین عن الحقیقة، لا یحول دونهم
وعلى .وبغیتهم التي عنها یبحثون ،سابق انتماء. فالحقیقة هي ضالتهم التي ینشدون

ً ویخاطبهم بمستوى عقولهم النیِّرة

ِّ وأفئدتهم المشرئبة إلى ،هؤلاء یعول الباحث كثیرا
غة الشریفة وسماتها الفریدة ، الحق

ُّ

ومكانتها بین اللغات ،فیتبینون معالم هذه الل
.البشریة

ً

لا یتطرق إلیه والطائفة الثانیة یؤمن أفرادها بعظمة العربیة وعلو مكانها إیمانا
ً ً عملیا
ً أو برهانا
ً علمیا
،ولا تخامره الظنون، الشك ولكنهم ربما لا یملكون دلیلا
فعلى هذه الطائفة تنزل هذه الدراسة .هذا الاعتقادفي یفندون به دعاوى من یخالفهم
ِّ ِّ وتقد ً وس
ً یشفي غلیلهم ویثبِّت أفئدتهم ویق

وي عقیدتهمبردا م البرهان على صدق ،لاما

ً

على إیمانهم ،اعتقادهم بل وتقدم لهم الحجج والأدلة العلمیة التي ،فیزدادوا إیمانا
.یقارعون بها من خالفهم الرأي والاعتقاد
ُّغ ،أما الطائفة الثالثة

ً دافعهم ،ة العربیةفهم نفر یحملون توجها ً سلبیا نحو الل
أو قد یكون دافعهم الإحباط ،إلى ذلك إما جهلهم بمیزات هذه اللغة وسماتها المتفردة
وتخلفها وقعودها عن اللحاق بركب الأمم ،الذي یعیشونه جراء انهزام الأمة
ههم شطر الغرب یقلدون أسالیبه، وینظرون بمنظاره،و فیولون وج .المتحضرة

٥

ٌ .ویمارسون احتقار الذات بطریقة محزنة ،بببغائیة ساذجةویرددون مقولاته
ذلك ومرد
َّ فیحقرون كل ما .وفقدان الثقة بالنفس ،وعقدة النقص ،إلى ضعف الهویة عندهم
.وعلى رأس ما یحتقرون لغة الأمة وثقافتها وأسالیب حیاتها ،یمت إلى الأمة بصلة
.لى قلوبهم من انكسار الهزیمةوهذه الفئة تحتاج إلى معالجة نفسیة تزیل ما ران ع
أن ،تأتي هذه الدراسة لتثبت بالدلائل والبراهین العملیة ،وفي هذا الإطار
فهي قادرة على الاستجابة .تحمل في طیاتها سر بقائها ،العربیة لغة متفردة متطورة
لمتطلبات الحضارة والمعارف المتجددة ؛ وأن تخلف الأمة وقعودها عن مسایرة
.لا یعني بالضرورة ضعف لغتها أو تخلفها ،المشروعات الحضاریة للأمم الأخرى
فلا مناص من ،ن أرید للأمة أن تنهض من كبوتهاإف ،بل إن الأمر عكس ذلك
فلا سبیل لخلق أمة مبدعة .عطى من العنایة ما تستحقوأن ت ،الاهتمام باللغة
،ووجدانها الحي ،أنى یكون هذا واللغة ضمیر الأمة .متطورة من خلال لسان أجنبي
وتبوؤ ،واسترداد كرامتها ،وصیانة عزتها ،وعقلها المفكر وسبیلها لبناء حضارتها
رساء ،مقعدها بین الأمم الراقیة، ووسیلتها للإسهام في إثراء الحضارة الإنسانیة ٕوا
هذه مهام ووظائف جسام، لا یمكن لأمة واعیة أن تحلم بتحقیقها من خلال .دعائمها

ً
.لسان