لخّصلي

خدمة تلخيص النصوص العربية أونلاين،قم بتلخيص نصوصك بضغطة واحدة من خلال هذه الخدمة

نتيجة التلخيص (59%)

ن ناحية التنظير الفلسفي فإنّ مسألة الحجاب من المعارك المتجذرة بين التيَّارات العلمانية والإسلامية في إيران، وقد اتخذ تيَّار العلمانية المؤمنة نهجًا قريبًا من العلمانية الغربية، وتسامح مع المرأة بشكلٍ عامّ، وغضّ الطرف عن مسألة الحجاب بشكلٍ خاصّ بوصفها ليست من صلب الدين ولا من مركزياته
والعلمانية إمّا تُنكِر الفهم التقليدي الفقهيّ الصادر من المرجعيات الدينية بخصوص مسألة الحجاب، وإمّا تحكم بتاريخيتها وتبرهن على موقفها بتفرقة الشريعة بين الإماء والحرائر، والمفترض أنّ القيم الأخلاقية لا تتجزأ. وفريقٌ آخر يتسامح مع الحجاب، بيد أنّه ينكر مركزيته بين المنظومة العَقَدِيّة والفروعية.وكان المفكر الإيرانيّ علي شريعتي أكثر جرأة بالنسبة إلى رجال عصره، عندما دافع عن حقوق غير المحجبات، الأمر الذي ناقشه بشدة التيَّار التقليدي ووصفوه بأنّه متأثر بالغرب وأنه “جاهل ولا ديني. فنجد اليوم أنّ سروش قد خطا خطواتٍ أكثر جرأة نحو التحرُّر من التقليدية الدينية. فيرى أنّ حجاب المرأة اختلط مفاهيميًّا، وتداخل فيه الدينيّ مع العرفي، بالإضافة إلى قَبْليات معرفية ومجتمعية لرجال الدين!
ويناقش سروش قول مطهري بضرورة الحجاب لصيانة عفة المرأة، وصيانة العفاف المجتمعيّ بشكل عام، فيقول: “وهنا يأتي السؤال: ألا يوجب ظهور نساء أهل الذمة والإماء الذين كانوا يشكلون عددا كبيرًا في المجتمع آنذاك نوعًا من الإخلال بهذا العفاف الاجتماعي؟ بلى، فالعفة من المفاهيم الأخلاقية التي تعني أن تكون المرأة امرأة والرجل رجلًا، أمّا أنه كيف نتمكن من حفظ العفة عبر القانون فهذا يرجع إلى الطرق المعتمدة في كل زمان والمتناسبة معه ومع العرف السائد فيه، فلا بد عند ملاحظة حكم الشارع بالنسبة إلى النساء الأحرار أو الإماء أو نساء أهل الكتاب من الرجوع إلى روح مراد الشارع ومعرفة لبّه”.ونلاحظُ أنّ تيَّار العلمانية المؤمنة المتمركز حول الفقه والحوزة، وأدوات الاجتهاد التقليدية، يحاول أن يكون وسطًا بين تشدد رجال الدين الرسميّين والتقليديين، فنجد أن آية الله حسين منتظري يفتي بجواز مصافحة المرأة الأجنبية “مع عدم قصد الشهوة وعدم حصولها”
ويحاول أن يرسم مقاربات أقل تشددًا بخصوص الحجاب والتعامل مع غير المحجبات، فهو وإن اعتمد القول القائل بوجوب الحجاب، فإنّه قال بعدم قطعية تفاصيله، وهذا النهج في الحقيقة يفتح الباب واسعًا للنسبية في التعاطي مع الحجاب، هذا الاجتهاد المنتظريّ وُوجه بردود ومناقشات وتعنيفات من المحسوبين على النِّظام الإيرانيّ، إذ رأوا فيه خطرًا فقهيًّا لأنه ينطلق من الوعاء الحوزوي والدرس الفقهي الشيعي المعتمد، وهذا ما حاولوا التشكيك فيه، واتهموه بأنه اعتمد آليات الاجتهاد عند العامَّة “أهل السنَّة”، وأنه خالف الإجماع الشيعي. كذلك نجد تلامذة منتظري مثل أحمد قابل اتخذوا منحًى أكثر جرأة وتجديدًا، إذ طالبوا بصناعة فقهية جديدة، وإعادة النظر في المنظومة الفقهية القائمة، ومن ثمّ نزعم أنّ خطّ منتظريّ -ممثَّلًا في بعض تلامذته- التقى خطّ سروش وملكيان في نهاية الأمر.ومن ناحيةِ الواقع العمليّ والذي يدلّ على تأثر الشعب الإيرانيّ سيما فئتي الشباب والنساء برواد العلمانية، فقد شهدت إيران في الشهور الأخيرة سجالات حول مسـألة الحجاب، فكثير من المسؤولين أبدوا غضبهم بسبب طريقة لبس النساء للحجاب، وفي نفس الوقت طالب بعض رجال الدين المحسوبين على النِّظام عدم إلزام السياح الأجانب بالحجاب،وحسب حجة الإسلام محسن غرويان، المحسوب على التيَّار الأصولي، فـ”لا إجبار على السياح من وجهة نظر الشرع والفقه في تنفيذ المعايير الدينية الخاصَّة بنا، بإمكانهم اختيار الحجاب ومن الناحية المذهبية لا يوجد إجبار عليهم”. وأوضح غرويان في رد الفعل على ما يطرحه البعض في إيران مؤخرًا من أن قانون الحجاب الإجباري ينبغي إلغاؤه على السياح الذين يأتون إلى إيران في المناطق الحرة، قائلًا: “من وجهة نظري لو تحول هذا الأمر إلى قضية ثقافية يستطيع المواطنون تقبلها، ستكون قابلة للإجراء، ومثلما نذهب نحن إلى الدول الأخرى ونتعامل حسب قوانيننا، ينبغي السماح للسياح أيضًا بالتعامل في بلادنا حسب قوانينهم”.وفي السياق نفسه صرح المدَّعي العام الإيرانيّ محمد جعفر منتظري بأن التعامل القضائيّ في الموضوعات الثقافية والحجاب لا يفيد، وأنه ينبغي انتهاج طرق سلمية، لافتًا إلى أنه يدعم أي مشروع فعال بشأن مواجهة الحجاب السيء. وأضاف منتظري أن لدى المسيئات للحجاب ثقافات عائلية تظهر الحجاب السيئ ولكنهن لا يعتبرنه سيئًا. وأردف أن بعض المسيئات للحجاب لا يؤمن بالإسلام بل هن علمانيات أو يتبعن ديانات أخرى، ولكن عددًا قليلًا منهن يفعلن ذلك بقصد الإساءة لقيم الدين وأحكام الإسلام. وأوضح أنه إذا أرادت القوات الأمنية اعتقال كافة المسيئات للحجاب، فإنها ستخلق أجواء واسعة ضدّ النِّظام والإسلام، مبينًا أن المقصر الحقيقي في الإساءة للحجاب هو التربية والتعليم، والجامعات وأن الجميع مقصرين في ذلك الشأن. وبيّن أنّ لجنة الأمر بالمعروف والحرس الثوري والقوات الأمنية تتخذ حاليًّا الإجراءات التي من شأنها أن تمنع ظاهرة الإساءة للحجاب، ولكن عليهم إدراك أن التعامل بقسوة مع الإساءة للحجاب لن يفيد.وجاءت تصريحات محمد جعفر منتظري بعد شهور من تحدي النساء للسُّلْطة دون جدوى، إذ إن السُّلْطة قد اعتقدت أنّ اعتقال بعض النساء وملاحقة أخريات كفيل بإنهاء المسألة.وجاءت تصريحات أخرى مسالمة وتدعو للسماح للنساء بالتظاهر ضدّ الحجاب، من رئيسة لجنة المرأة البرلمانية بروانه سلحشوري، فحسب قولها: “مثلما تحول الحجاب إلى قانون في الدولة، فيجب أن تصبح طريقة الاعتراض عليه قانونية وفي إطار القانون، لكن الموضوع أصبح شخصيًّا بالكامل، ومن غير الإنصاف أن نحكم بشكل متعجل على الفتيات المعترضات على الحجاب، فالنضال أمام الحجاب يعود إلى تلك السنوات التي أصبح فيها الحجاب إجباريًا، لا أعتقد أن الحجاب أصبح تشادور، لكن في ذات الوقت فالاعتراض ضدّ الحجاب موضوع ليس بجديد ولطالما اتخذ أشكالا مختلفة في الدولة. كما أن المعترضات على الحجاب لسن معاديات للنظام، إنهن اعترضن فقط على موضوع الحجاب”.وتشهد إيران كل فترة دعوات نسوية وحقوقية بإلغاء إلزامية الحجاب، وتحاول الناشطات الإيرانيّات أن يمارسن الاحتجاج على قانون إلزامية الحجاب بالاعتراض في الطرقات والشوارع والسوشيال ميديا، وخلع عدد من النساء الإيرانيّات الحجاب في الشوارع ونشرن صورهن على السوشيال ميديا اعتراضًا على تسلُّط وتغوُّل السلطات الأمنية ومعاملتها بقسوة لعدد من النساء بسبب عدم ارتداء الحجاب أو ارتداء حجاب غير محتشم.2- الرقص على الطريقة الغربية. كسر هيبة رجال الدين
ينشر عدد من الفتيات والمراهقات مقاطع استعراضية خاصَّة بهنّ، واشتهرت إحداهنّ [تُدعى مائدة هزبري] بمقاطع رقص استعراضية، وسجّلت مقاطعها التي بثتها على حساباتها على السوشيال ميديا ملايين المشاهدات، وأظهرتها -مع آخرين اعتُقلوا لنفس السبب- في مقطع فيديو تعترف بالجرم وتعتذر عن جريمتها، باعتبارها خالفت “المعايير الأخلاقية”. وأغلقت الشرطة ما يقرب من خمسين ألف حساب على إنستاغرام بتهمة نشر الخلاعة. ولكن سرعان ما تعاطف عشرات الألوف من داخل إيران ومن خارجها مع الفتاة الإيرانية، ونشرت مئات الإيرانيّات مقاطع فيديو مماثلة، مِمَّا بدا كأنّه تَحَدٍّ للسلطات وكسر لهيبة رجال الدين أمام أجساد النساء الملتوية.ويُعاني الرقص -وكثير من الفنون كالموسيقى والباليه- قيودًا شديدة من جانب السلطات الإيرانية منذ ثورة 1979م وحتى اليوم. واضطرت بعض فرق الباليه التي تأسست في عهد الشاه إلى الفرار من إيران وتأسيس أو إعادة تكوين أنفسهم مرة أخرى في المهجر في أوربا وأمريكا.والمرأة في إيران ممنوعة ليس من الرقص فقط -الممنوع على الذكور والإناث- بل من حضور مباريات كرة القدم، وأحيانًا تُمنع من ركوب الدراجات في الأماكن العامَّة بفتوى خامنئي الشهيرة، وممنوعة من الالتحاق بعدد من التخصصات في الجامعات الإيرانية كالتاريخ والهندسة والإنجليزية، بسبب “عدم توافر وظائف لهنّ بعد التخرج” حسب السلطات الإيرانية. والهدف الرئيسي حسب منظَّمات نسائية الضغط على النساء الإيرانيّات للتخلي عن “معارضتهن للنظام الحاكم، والتخلي عن مطالبتهنّ بحقوقهنّ”، وحسب آخرين فإنّ هذا التضييق على النساء استجابة من النِّظام لبعض رجال الدين القلقين من ازدياد نسب تعلم النساء وأثر ذلك على الحياة الدينية والاجتماعية في إيران.هذا كلّه داخل في ما تُسمّيه السلطات “أسلمة المجتمع” و”أسلمة الجامعات”. لكن النساء في نفس الوقت وبسبب الشعور بالمظلومية واجهن هذه القوانين بالتمرد والتحدي عبر خرقها في المجال العام، مِمَّا أبداهنّ أكثر علمانية من بقية المجتمع.سادسًا: قلقُ النخبة الدينية من العلمنة.لفرنسوا تويال مقولة تعليقًا على إصلاحات الشاه التحديثية لإيران: “لم ينتبه الشاه إلى أنّ عصرنة البلاد نفسها كانت تفجّر في أعماق المجتمع ينابيع ثورة آتية، أمّا رجال الدين فقد تنبهوا للأمر قبل سواهم وكانوا ينتظرون ساعتهم”.وكما أنّ رجال الدين تنبهوا لهذه المعادلة في عهد الشاه، فهم اليوم الأكثر قلقًا وتوترًا من علمنة المجتمع وتحديثه وعصرنته، ولذلك فقد دعموا بكلّ قوَّة بقاء المجتمع تحت طروحاتهم وخطابهم، ومنعوا روافد تحديثية عبر القوانين، كمنع الفنون، والرقابة الصارمة على مواقع السوشيال ميديا والإنترنت، والاشتباك مع المفكرين والنخبة الثقافية. وإذا كانت عمليات التحديث في عهد الشاه بيده وإرادته فإنّ عمليات التقوقع على الذات ومحاولات تعمية المجتمع وحجبه عن العالَم الخارجي تتمّ أيضًا بيد السُّلْطة السياسية اليوم في إيران وإرادتها.تمثَّل هذا القلق البالغ في حديث إبراهيم رئيسي [متولي سدانة أوقاف القدس الرضوية] لأساتذة الحوزات العلمية في محافظات قمّ وخراسان وطهران وأصفهان وقد تطرق فيه إلى مسألة العلمانية الاجتماعية التي بوصفه: “تُهدد الحوزات العلمية اليوم، وكما أن الحوزات العلمية كانت منشأ الثورة فإنّ عليها اليوم أيضًا أن تدعم الثورة وأن تستمر في هذا الخطّ، لأن معيار الاعتدال هو اتباع ولاية الفقيه”.فمعيار الاعتدال وَفْقًا لرئيسي هو اتباع ولاية الفقيه، أي أنّ كل خطّ غير خطّ الولاية فهو غير معتدل وغير معتمد عند النخبة الدينية الحاكمة.كذلك حذر آية الله محمد تقيّ مصباح يزدي من علمنة الحوزة عبر تآكل أطروحة “ولاية الفقيه” حيث تمتدّ معارضتها إلى داخل الحوزات العلمية. وحسب قوله: “ففي الحوزات العلمية وبين المسؤولين الإيرانيّين عديد من المعارضات لمبدأ ولاية الفقيه. فالبعض في الحوزات العلمية يريد فصل الدين عن السياسة، في حين يميل بعض المسؤولين إلى القوميَّة الإيرانية”. يقصد الحنين إلى العلمانية الوطنية في عهد الشاه.وقال يزدي: “إنّ البعض توصلوا إلى اعتقاد بأنّه ما دام الشعب يدلي بصوته بنفسه ويختار رئيس الجمهورية فما ضرورة وجود المرشد؟ ولماذا من الأساس مبدأ ولاية الفقيه؟ فهل في الدول الأخرى مرشد؟ لقد امتدّ نطاق معارضة ولاية الفقيه إلى الحوزات العلمية. وقد شعر المرشد قبل فترة بأنّ الفكر الثوري أوشك على الانتهاء في بعض الأماكن، لذلك أمر الحوزويين والأكاديميين بأن يكونوا ثوريين خلال تحذيره بهذا الشأن. وإذا كان المرشد يوجه مثل هذا الخطاب إلى الحوزات العلمية فهذا يعني أن الحوزات العلمية تواجه خطر الانفصال عن الثورة، ومن الممكن أن ننسى أيضًا أن الجزء الأكبر من الفقه متعلق بالشؤون السياسية والاجتماعية”.وأردف قائلًا: “بعض المسؤولين اليوم يعارض أوامر الولي الفقيه بكل أريحية، فرغم إشادتهم على الدوام بتوجيهات وإرشادات المرشد يفعلون ما يخالف أوامره. إن هذه المجموعة من المسؤولين يفضلون إحلال القوميَّة محل ولاية الفقيه. لقد أبدل بعض المسؤولين بالإسلام القوميَّة الإيرانية، وهذا هو نفس الشعار الذي كان يطرحه الشاه تحت عنوان القوميَّة الإيجابية، مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الثقافية، زيادة العلمنة في الحوزة إلى أسباب حكومية، فهي “ليست نتيجة لتقاعس الحوزة وإنما نتيجة لجهود ونشاطات حكومية فُرضت على الحوزة”.وبقراءة مثل تلك التصريحات نلحظ أنّ سبب قلق رجال الدين والنخبة الحاكمة هو انهيار المقدَّس الذي اتسع على أيديهم ليشمل ظنيات معرفية وأشخاص غير معصومين، ومن ثمّ تفتتت أطروحاتهم وتآكلت نظرية ولاية الفقيه، فطلَّاب الحوزة باتوا يحضرون الدرس الحوزوي غير معممين، فحسب آية الله جعفر السبحاني: “إن الكثيرين يحضرون دروس الحوزة، في حين أن القميص والبنطال غير متناسب مع مكانة علماء الدين”، وطالب السبحاني بجعل العمامة الدينية إلزامية
فنلاحظُ أنّ العلمنة قد ضربت الحوزة الدينية نفسها، وهو ما أقلق النخبة الدينية، وتسبب في زيادة التوتُّر والخلاف بين رجال الدين، لدرجة خروجها عن المألوف والعرف الحوزوي، فقد نشب خلاف مؤخرًا في الحوزة بسبب رسالة آية الله محمد يزدي المحسوب على الخطّ الولائي، إلى المرجع الكبير آية الله شبيري زنجاني المحسوب على تيَّار الانتظار.وجاء في رسالة يزدي إلى زنجاني: “في أعقاب نشر صور في الفضاء المجازي عن حضرتك وأنت بجانب بعض الأشخاص الذين لا يكنون احترامًا للجمهورية الإسلامية وقائد الثورة، ما أثار استياء واستغراب المقلدين والحوزيين. أقول بأن مقام واحترام حضرتك يحصل في ظل احترام النِّظام الإسلامي الحاكم والقيادة وشأن المرجعية، لذلك من الضروري مراعاة هذا الاحترام وشؤون المرجعية واتخاذ ما يلزم لكي لا تتكرر هذه القضايا”.وهذه الرسالة مستبشعة وَفْقًا للعرف الحوزوي، مِمَّا أثار موجة من الانتقادات الكبيرة لها، فاضطر تيَّار عريض من المحسوبين على النِّظام أن ينتقد الرسالة أيضًا كي لا يخسر في الأوساط الدينية والسياسية، نظرًا إلى مكانة شبيري زنجاني، ولقساوة الرسالة ووصايتها. فأعلن أنه أو مكتبه “ليس لديه أي تعليق حول هذه الرسالة”، و”الطلبة والتلاميذ هم من يقومون بالرد عليها”. أي أنّ زنجاني قد ترفع عن الردّ على من يصغره سنًّا ومقامًا، وهي رسالة دينية وسياسية لاذعة ليزدي وتيَّاره.وكانت الرسالة مفجرة لردود فعل عنيفة من داخل الحوزة، واستراتيجيته في التعامل مع المراجع الكبار، سيما وأن زنجاني يحظى باحترام الجميع، فهو ليس متجاذَبًا بين التيَّارات، وليس محسوبًا على حزب بعينه، فهو منشغل بالدرس العلمي في الحوزة، وتَخرَّج على يديه جلّ رجال الحوزة، فكانت نبرة محمد يزدي له مستفزة للمراجع، الذين لم يعهدوا هذا الأسلوب حتى مع المعتكفين على أنفسهم من رجال الدين. وبعد يوم من هذه الرسالة أعلن المرجع محمد عندليب همداني في رسالة مفتوحة وجهها إلى يزدي أن التعاون بين الاثنين أصبح مستحيلًا وأن لا يعتبر نفسه عضوًا في جمعية قم العلمية بعد اليوم.وقال المرجع الدينيّ يوسف صانعي تعقيبا على رسالة محمد يزدي في رسالة وجهها إلى زنجاني: “إن أناسًا أرادوا النيل من علماء الدين والحوزة وحضرتك شخصيًّا، لكن الأمر انتهى لصالح الحوزة”.في حين استغل الإصلاحيون رسالة يزدي للهجوم على النخبة الحاكمة بخاصَّة رجال الدين المحسوبين على النِّظام، فقال مهدي كروبي بأنّ هدف رسالة يزدي هي:” انتزاع استقلالية الحوزة العلمية، وهيمنة الرعب والخوف على العلماء”.في حين ذهب بعض المحللين أنّ خطاب اليمين المتطرف وأفعاله في إيران، ستؤدي بالبلاد إلى العلمانية السياسية، وبعبارة أخرى فإن هذه الرسالة سوف تترك عواقبها الخاصَّة داخل الحوزات العلمية، ولعل إحدى هذه العواقب زيادة الكراهية للفقهاء الحكوميين وتضاعف الإقبال على المراجع المستقلين والمعتقدين بضرورة فصل المؤسَّسة الدينية عن الدولة، وهم رجال دين لديهم وجهات نظر مختلفة لا يؤمنون بالحكومة الإسلامية، ولا بالتدخل المباشر للفقهاء في إدارة المجتمع.وهذا الخلاف الحوزوي بين رجال الدين، الذي مرجعه في الأساس تدخُّل الحكومة في الفقه والشريعة، واعتماد أقوالٍ دون أخرى، أو ما يمكن تسميته “الاختيارات الفقهية والدينية للنظام”، بالإضافة إلى الفجوة بين الأجيال، وتمرد الشباب والنساء على ما يتعرضون له من مظالم، كل ذلك أتاح للجماعات العلمانية مساحات للاشتباك مع النِّظام، فقد حاولت الجماعة العلمانية اللعب على هذا الوتر طَوال الوقت، وبالفعل أمكنها إحداث حلحلة كبيرة في مكانة رجال الدين في المجتمع الإيرانيّ، حتى إنّ بيوتات بعضهم تعرضت للنهب والهجوم والضرب بالحجارة، اعتراضًا على “فسادهم وسياستهم”، وكذلك تعرضت بعض “الحوزات العلمية” للهجوم بسبب نفس السياسات من قبل النِّظام والنخبة الدينية الحاكمة، فبعد أن حاولت النخبة الدينية الحاكمة توسيع دوائر المقدَّس إذا بالنَّاس تُهاجم هذا المقدَّس،ومن الأسباب المهمَّة للصعود العلماني في إيران وانتشار مظاهره، والذي لحظه رجال الدين، هو زيادة الفجوة بين أجيال الثورة، فمعظم أجيال ما بعد الثورة الإسلامية 1979م لا تؤمن بالخطاب الآيديولوجي والثوريّ الحماسيّ بقدر ما باتت تؤمن بمطالب حياتية ودنيوية “علمانية”، فالحاكمية والإمامة والسُّلْطة وتمهيد الأرض للإمام الغائب ونحو ذلك من مفردات، ليس هو ما يشغل تلك الفئات المجتمعية الجديدة، ومن ثمّ تعلقت مطالبها بعدالة توزيع الثروات، وتحسين الخدمات للمواطنين، ومطالب سياسية تتعلق بالحريات والعدالة والسُّلْطة الرشيدة، وبغض النظر عن أسباب هذه التحولات -كالتنمية والعولمة والتكنولوجيا وأسباب سياسية ودينية- إلا أنّها صارت أمرًا واقعًا.لكن هذه الفجوة وإن لحظتها النخبة الدينية إلا أنها لم تسع لحلّها بل سعت لتحجيمها ونكرانها، وثقافة وافدة ضدّ نظام الحكم الإسلاميّ، ومن ثمّ توسعت الفجوة بين طموحات الجماهير لا سيما الشباب والنساء، وبين رموز النِّظام من جيل ثورة 1979، وهؤلاء يرون أن خطاب السبعينيات الذى تتمسك به القيادات السياسية، غير مؤثر في المرحلة الراهنة، كما أن التوجهات التي ينتهجها النِّظام للحفاظ على المبادئ التي أرستها ثورة 1979 أصبحت بلا تأثير، وهنا يقول عزت الله ضرغامي رئيس مؤسَّسة الإذاعة والتليفزيون الأسبق وهو واحد من الأصوليين أصحاب النفوذ: “علينا أن نتغير،وبعبارة محسن قراءتي فإنّ “الجيل الجديد لم يعُد له اهتمام برجال الدين،لكن هل بإمكان النِّظام بالفعل أن يتغير؟ حسب كارين أرمسترونغ فإنّ ولاية الفقيه ظهرت في الأصل كتحدّ للحداثة الغربية، وقد أيقن الخمينيّ أنّ رفض الشيعة لتقلد المناصب الرسميَّة في القرون السابقة، أفقد الشيعة جوهر الرسالة الحسينية، احتاج إلى قراءة مغايرة للموروث الفقهي في الحقل السياسي، فالإسلام حسب الخميني: “هو دين المناضلين الملتزمين بالعدالة والإيمان، إنه دين الطامحين إلى الحرية والاستقلال، إنه مدرسة لأولئك الذين يناضلون ويكافحون ضدّ الاستعمار”.لذا فمن الصعب أن يغيّر النِّظام آيديولوجيته، أو يتنازل لجماعات العلمانية، لأنّ أيّ تنازل أو تغيير سيكون بمثابة انهزام ثقافيّ، وإعلان فشل الثورة ومبادئها ونظريتها.لكن من المهمّ هنا أن ندرك أنّ تلك الفجوة ليست خاصَّة بالشباب غير الحوزوي أو غير المتديّن، بل تشمل الشباب المتديّن الذي نزع العمامة في أثناء حضوره الدرس الحوزوي، والشباب العاديّ الذي له تطلعات مدنية ونهضوية! مِمَّا يُعد تآكُلًا في نظرية ولاية الفقيه، سواء أتنازل النِّظام أم لم يتنازل، مِمَّا يضع مستقبل الدولة كلّها في فوهة التغيير الثقافي والهوياتي، إذا ما أُتيحت الفرصة للجيل الجديد،ولايةُ الفقيه وتعزيز العلمانية في المجتمع
يبدو تيَّار العلمانية المؤمنة أو الانتظارية الحركية، أقرب التيَّارات العلمانية في إيران للعقلانية والديمومة، ويُشكّل الخطر الحقيقي على النِّظام، إذْ إنّه يُنافس النخبة الدينية الحاكمة على قيادة الحوزة، وفي إقناع الحواضن الشعبية والجماهيرية. يُعزز هذا أيضًا أنّ تيَّار العلمانية المؤمنة لا يُعارض المخرجات الحداثية، فهو تيَّار إصلاحيّ توليفيّ، يدعو لتطبيق الديمقراطية والحدّ من السُّلْطة المطلقة لرجال الدين، وتحجيم العوارض البشرية بالقوانين والمؤسَّسات “الجمع بين الكوابح الداخلية والكوابح الخارجية”، كما أنّه قويّ حوزويًّا فلا ينقلب على ثوابت الحوزة وميراثها الفقهي والعقدي، ولكنّه يدعو إلى ديمقراطية سياسية، إلى حين ظهور الإمام المعصوم. هذه الأفكار الرائجة التي يتبناها التيَّار الإصلاحيّ في إيران ومجموعة من المفكرين ورجال الدين، والتي تعود بجذورها إلى الحركة الدستورية، وفقيهها الأول الميرزا النائيني، تشكّل اليوم الخطر الأكبر والحقيقي أمام السُّلْطة السياسية التي تعتمد نظرية “ولاية الفقيه” بقراءتها الخمينية. لذا فقد اشتبكت السلطات مع تيَّار العلمانية المؤمنة أكثر من اشتباكها مع تيَّارات العلمانية الغربية، إذ من السهل تشويه تيَّارات العلمانية الغربية بوصفهم عملاء للغرب، أو ملحدين ضدّ الدين والشريعة والمذهب، وهو ما حصل بالفعل مع أمثال سروش والشبستري وغيرهما من المحسوبين على هذا التيَّار. علاوة على أنّ تيَّار العلمانية الغربية لا ينطلق من تأسيسيات دينية أو مذهبية، ولا يبال بالتراث الفقهي والحوزوي، بل هو في صدام مستمرّ مع السُّلْطة ومع الشعب أو مع قطاع عريض منه في نفس الوقت، وهو ما تنبه إليه تيَّار العلمانية المؤمنة الذي اكتفى بالاشتباك الفكري والسياسي مع السُّلْطة، ونافسها في الحواضن المتدينة.يبدو مستقبل تيَّار العلمانية المؤمنة لافتا، فهو التيَّار الذي يمكنه ملء أي فراغ مفاجئ في السُّلْطة السياسية بما يملكه من قواعد جماهيرية، وكذلك قربه من دوائر صناعة القرار في المحليات وبعض المدن والمحافظات، بل وفي رئاسة الجمهورية نفسها. أخفق التيَّار في تغيير وجهة إيران نحو علمانية شاملة، إلاّ أنّه استطاع أن يُحرك الجماهير في 2009م، وإن تراجع رموزه في ما بعد عن دعم المطالب الجماهيرية، لأنّ الإصلاحيين يدركون حدود اللعبة ومساحتها، فالنِّظام لا يزال هو الطرف الأقوى والفاعل الرئيسي، ولا يزال المرشد الأعلى مستمسكًا بزمام المؤسَّسات الصلبة “الجيش والشرطة والحرس الثوري”. فأيّ مواجهة مباشرة ومفتوحة مع هذا النِّظام لا تعني سوى الانتحار السياسي، أمّا تيَّارات العلمانية الأخرى فهي وإن كانت قويَّة ولها بعض الجماهيرية إلاّ أنها غير منظَّمة، والمناخ السياسي الإيرانيّ لا يُساعد على وجود تنظيمات هرمية، أو أحزاب فاعلة حرة في الفعل والمشاركة والممارسة، كما شهدت هذه التيَّارات تفتتًا بسبب الضربات المتلاحقة من النِّظام وبسبب مصادمتهم لهوية الدولة ومشاعر النَّاس.لكن على أيِّ حال فالمؤكّد أنّ النِّظام السياسي الإيرانيّ الراهن ونخبته الدينية، ساعدا على تعزيز علمنة المجتمع الإيرانيّ، وذلك على مستويين: الأول الإخفاق الذي تعرضت له الدولة الإيرانية سياسيًّا واقتصاديًّا ودينيًّا بسبب الخطاب الرسميّ المتشدد، مِمَّا أعطى المعارضة العلمانية زخمًا ومجالًا لانتقاد النِّظام وتصدرها كراعٍ لحقوق النّاس. والثاني أنّ النِّظام نفسه اعتمدَ أدواتٍ وآليات علمانية، وإنْ حاول النِّظامُ الإيرانيّ التوسع في بيئات موالية أو مواتية فليس لأنّه غير مؤمنٍ بحدود الدولة الوطنية، بقدر ما هو توسُّعٌ مؤقت في لحظة راهنة ومناسبة، تشهد هشاشةٍ إقليمية وتفاعلات دوليَّة أتاحت له هذا التوسع، وهو كذلك توسّعٌ لخدمة مشروعه الجيوبوليتيكيّ وقوّته الناعمة، لا من أجل تمديد الحدود وتغيير الجغرافيا. كذلك احتكار النِّظام للقوَّة والعنف “عنف السُّلْطة” شأنه شأن الدولة الحديثة، وانبنى على احتكار الدولة للعنف عدم قداسة دماء الإنسان، فقامت الدولةُ بممارسة العنف ضدّ شعوب وأقلِّيَّات باعتبارها دخيلًا يجب أن تُطرد تمامًا أو يعيشون كأنصاف مواطنين. هذه التجليات العلمانية التي صاحبت نشوء الدولة الحديثة، لم تنفكّ عنها إيران في عهد ما بعد الثورة “الإسلامية”، فبرز هنا تناقضان: فالدولة تحارب العلمانيين وتشتبك معهم، وفي نفس الوقت هي نفسها مظهر من مظاهر العلمانية،


النص الأصلي

ن ناحية التنظير الفلسفي فإنّ مسألة الحجاب من المعارك المتجذرة بين التيَّارات العلمانية والإسلامية في إيران، وقد اتخذ تيَّار العلمانية المؤمنة نهجًا قريبًا من العلمانية الغربية، وتسامح مع المرأة بشكلٍ عامّ، وطالبَ بحقوقها ومساواتها مع الرجل، وغضّ الطرف عن مسألة الحجاب بشكلٍ خاصّ بوصفها ليست من صلب الدين ولا من مركزياته
والعلمانية إمّا تُنكِر الفهم التقليدي الفقهيّ الصادر من المرجعيات الدينية بخصوص مسألة الحجاب، وإمّا تحكم بتاريخيتها وتبرهن على موقفها بتفرقة الشريعة بين الإماء والحرائر، والمفترض أنّ القيم الأخلاقية لا تتجزأ. وفريقٌ آخر يتسامح مع الحجاب، بيد أنّه ينكر مركزيته بين المنظومة العَقَدِيّة والفروعية.
وكان المفكر الإيرانيّ علي شريعتي أكثر جرأة بالنسبة إلى رجال عصره، عندما دافع عن حقوق غير المحجبات، الأمر الذي ناقشه بشدة التيَّار التقليدي ووصفوه بأنّه متأثر بالغرب وأنه “جاهل ولا ديني.
وتطور الخطّ العلمانيّ الإيرانيّ، فنجد اليوم أنّ سروش قد خطا خطواتٍ أكثر جرأة نحو التحرُّر من التقليدية الدينية. فيرى أنّ حجاب المرأة اختلط مفاهيميًّا، وتداخل فيه الدينيّ مع العرفي، بالإضافة إلى قَبْليات معرفية ومجتمعية لرجال الدين!
ويناقش سروش قول مطهري بضرورة الحجاب لصيانة عفة المرأة، وصيانة العفاف المجتمعيّ بشكل عام، فيقول: “وهنا يأتي السؤال: ألا يوجب ظهور نساء أهل الذمة والإماء الذين كانوا يشكلون عددا كبيرًا في المجتمع آنذاك نوعًا من الإخلال بهذا العفاف الاجتماعي؟ بلى، فالعفة من المفاهيم الأخلاقية التي تعني أن تكون المرأة امرأة والرجل رجلًا، ولا تختصّ بالمرأة، أمّا أنه كيف نتمكن من حفظ العفة عبر القانون فهذا يرجع إلى الطرق المعتمدة في كل زمان والمتناسبة معه ومع العرف السائد فيه، وقد اتبع الإسلام هذا العرف، فلا بد عند ملاحظة حكم الشارع بالنسبة إلى النساء الأحرار أو الإماء أو نساء أهل الكتاب من الرجوع إلى روح مراد الشارع ومعرفة لبّه”.
ونلاحظُ أنّ تيَّار العلمانية المؤمنة المتمركز حول الفقه والحوزة، وأدوات الاجتهاد التقليدية، يحاول أن يكون وسطًا بين تشدد رجال الدين الرسميّين والتقليديين، وبين العلمانيين الحداثيين. فنجد أن آية الله حسين منتظري يفتي بجواز مصافحة المرأة الأجنبية “مع عدم قصد الشهوة وعدم حصولها”
ويحاول أن يرسم مقاربات أقل تشددًا بخصوص الحجاب والتعامل مع غير المحجبات، فهو وإن اعتمد القول القائل بوجوب الحجاب، فإنّه قال بعدم قطعية تفاصيله، أي إنّ الحجاب قطعيّ، لكنّ تفاصيله غير قطعية، وهذا النهج في الحقيقة يفتح الباب واسعًا للنسبية في التعاطي مع الحجاب، حول حجمه ومواضعه، وتعريفه في الأساس. هذا الاجتهاد المنتظريّ وُوجه بردود ومناقشات وتعنيفات من المحسوبين على النِّظام الإيرانيّ، إذ رأوا فيه خطرًا فقهيًّا لأنه ينطلق من الوعاء الحوزوي والدرس الفقهي الشيعي المعتمد، وهذا ما حاولوا التشكيك فيه، واتهموه بأنه اعتمد آليات الاجتهاد عند العامَّة “أهل السنَّة”، وأنه خالف الإجماع الشيعي. كذلك نجد تلامذة منتظري مثل أحمد قابل اتخذوا منحًى أكثر جرأة وتجديدًا، إذ طالبوا بصناعة فقهية جديدة، وإعادة النظر في المنظومة الفقهية القائمة، ومن ثمّ نزعم أنّ خطّ منتظريّ -ممثَّلًا في بعض تلامذته- التقى خطّ سروش وملكيان في نهاية الأمر.
ومن ناحيةِ الواقع العمليّ والذي يدلّ على تأثر الشعب الإيرانيّ سيما فئتي الشباب والنساء برواد العلمانية، فقد شهدت إيران في الشهور الأخيرة سجالات حول مسـألة الحجاب، فكثير من المسؤولين أبدوا غضبهم بسبب طريقة لبس النساء للحجاب، وفي نفس الوقت طالب بعض رجال الدين المحسوبين على النِّظام عدم إلزام السياح الأجانب بالحجاب، تنشيطًا للسياحة الإيرانية، فالسجال هذه المرة تقليدي-تقليدي، أو محافظ-محافظ، لا بين محافظ-إصلاحي.
وحسب حجة الإسلام محسن غرويان، المحسوب على التيَّار الأصولي، فـ”لا إجبار على السياح من وجهة نظر الشرع والفقه في تنفيذ المعايير الدينية الخاصَّة بنا، بإمكانهم اختيار الحجاب ومن الناحية المذهبية لا يوجد إجبار عليهم”. وأوضح غرويان في رد الفعل على ما يطرحه البعض في إيران مؤخرًا من أن قانون الحجاب الإجباري ينبغي إلغاؤه على السياح الذين يأتون إلى إيران في المناطق الحرة، قائلًا: “من وجهة نظري لو تحول هذا الأمر إلى قضية ثقافية يستطيع المواطنون تقبلها، ستكون قابلة للإجراء، ومثلما نذهب نحن إلى الدول الأخرى ونتعامل حسب قوانيننا، ينبغي السماح للسياح أيضًا بالتعامل في بلادنا حسب قوانينهم”.
وفي السياق نفسه صرح المدَّعي العام الإيرانيّ محمد جعفر منتظري بأن التعامل القضائيّ في الموضوعات الثقافية والحجاب لا يفيد، وأنه ينبغي انتهاج طرق سلمية، لافتًا إلى أنه يدعم أي مشروع فعال بشأن مواجهة الحجاب السيء. وأضاف منتظري أن لدى المسيئات للحجاب ثقافات عائلية تظهر الحجاب السيئ ولكنهن لا يعتبرنه سيئًا. وأردف أن بعض المسيئات للحجاب لا يؤمن بالإسلام بل هن علمانيات أو يتبعن ديانات أخرى، ولكن عددًا قليلًا منهن يفعلن ذلك بقصد الإساءة لقيم الدين وأحكام الإسلام. وأوضح أنه إذا أرادت القوات الأمنية اعتقال كافة المسيئات للحجاب، فإنها ستخلق أجواء واسعة ضدّ النِّظام والإسلام، مبينًا أن المقصر الحقيقي في الإساءة للحجاب هو التربية والتعليم، ورجال الدين، والتعليم العالي، والجامعات وأن الجميع مقصرين في ذلك الشأن. وبيّن أنّ لجنة الأمر بالمعروف والحرس الثوري والقوات الأمنية تتخذ حاليًّا الإجراءات التي من شأنها أن تمنع ظاهرة الإساءة للحجاب، ولكن عليهم إدراك أن التعامل بقسوة مع الإساءة للحجاب لن يفيد.
وجاءت تصريحات محمد جعفر منتظري بعد شهور من تحدي النساء للسُّلْطة دون جدوى، إذ إن السُّلْطة قد اعتقدت أنّ اعتقال بعض النساء وملاحقة أخريات كفيل بإنهاء المسألة.
وجاءت تصريحات أخرى مسالمة وتدعو للسماح للنساء بالتظاهر ضدّ الحجاب، من رئيسة لجنة المرأة البرلمانية بروانه سلحشوري، فحسب قولها: “مثلما تحول الحجاب إلى قانون في الدولة، فيجب أن تصبح طريقة الاعتراض عليه قانونية وفي إطار القانون، لكن الموضوع أصبح شخصيًّا بالكامل، ومن غير الإنصاف أن نحكم بشكل متعجل على الفتيات المعترضات على الحجاب، ويُتهمن بالفساد، فالنضال أمام الحجاب يعود إلى تلك السنوات التي أصبح فيها الحجاب إجباريًا، لا أعتقد أن الحجاب أصبح تشادور، لكن في ذات الوقت فالاعتراض ضدّ الحجاب موضوع ليس بجديد ولطالما اتخذ أشكالا مختلفة في الدولة. كما أن المعترضات على الحجاب لسن معاديات للنظام، ولا فاسدات، ولا جاسوسات، إنهن اعترضن فقط على موضوع الحجاب”.
وتشهد إيران كل فترة دعوات نسوية وحقوقية بإلغاء إلزامية الحجاب، وتحاول الناشطات الإيرانيّات أن يمارسن الاحتجاج على قانون إلزامية الحجاب بالاعتراض في الطرقات والشوارع والسوشيال ميديا، والوسائل كافة. وخلع عدد من النساء الإيرانيّات الحجاب في الشوارع ونشرن صورهن على السوشيال ميديا اعتراضًا على تسلُّط وتغوُّل السلطات الأمنية ومعاملتها بقسوة لعدد من النساء بسبب عدم ارتداء الحجاب أو ارتداء حجاب غير محتشم.
2- الرقص على الطريقة الغربية.. كسر هيبة رجال الدين
ينشر عدد من الفتيات والمراهقات مقاطع استعراضية خاصَّة بهنّ، باستمرار، واشتهرت إحداهنّ [تُدعى مائدة هزبري] بمقاطع رقص استعراضية، وسجّلت مقاطعها التي بثتها على حساباتها على السوشيال ميديا ملايين المشاهدات، فاعتقلتها الشرطة الإيرانية، وأظهرتها -مع آخرين اعتُقلوا لنفس السبب- في مقطع فيديو تعترف بالجرم وتعتذر عن جريمتها، باعتبارها خالفت “المعايير الأخلاقية”. وأغلقت الشرطة ما يقرب من خمسين ألف حساب على إنستاغرام بتهمة نشر الخلاعة. ولكن سرعان ما تعاطف عشرات الألوف من داخل إيران ومن خارجها مع الفتاة الإيرانية، ونشرت مئات الإيرانيّات مقاطع فيديو مماثلة، مِمَّا بدا كأنّه تَحَدٍّ للسلطات وكسر لهيبة رجال الدين أمام أجساد النساء الملتوية.
ويُعاني الرقص -وكثير من الفنون كالموسيقى والباليه- قيودًا شديدة من جانب السلطات الإيرانية منذ ثورة 1979م وحتى اليوم. واضطرت بعض فرق الباليه التي تأسست في عهد الشاه إلى الفرار من إيران وتأسيس أو إعادة تكوين أنفسهم مرة أخرى في المهجر في أوربا وأمريكا.
والمرأة في إيران ممنوعة ليس من الرقص فقط -الممنوع على الذكور والإناث- بل من حضور مباريات كرة القدم، وأحيانًا تُمنع من ركوب الدراجات في الأماكن العامَّة بفتوى خامنئي الشهيرة، وممنوعة من الالتحاق بعدد من التخصصات في الجامعات الإيرانية كالتاريخ والهندسة والإنجليزية، وغيرها، بسبب “عدم توافر وظائف لهنّ بعد التخرج” حسب السلطات الإيرانية. والهدف الرئيسي حسب منظَّمات نسائية الضغط على النساء الإيرانيّات للتخلي عن “معارضتهن للنظام الحاكم، والتخلي عن مطالبتهنّ بحقوقهنّ”، وحسب آخرين فإنّ هذا التضييق على النساء استجابة من النِّظام لبعض رجال الدين القلقين من ازدياد نسب تعلم النساء وأثر ذلك على الحياة الدينية والاجتماعية في إيران.
هذا كلّه داخل في ما تُسمّيه السلطات “أسلمة المجتمع” و”أسلمة الجامعات”. لكن النساء في نفس الوقت وبسبب الشعور بالمظلومية واجهن هذه القوانين بالتمرد والتحدي عبر خرقها في المجال العام، مِمَّا أبداهنّ أكثر علمانية من بقية المجتمع.
سادسًا: قلقُ النخبة الدينية من العلمنة.. انهيار المُقدَّس
لفرنسوا تويال مقولة تعليقًا على إصلاحات الشاه التحديثية لإيران: “لم ينتبه الشاه إلى أنّ عصرنة البلاد نفسها كانت تفجّر في أعماق المجتمع ينابيع ثورة آتية، أمّا رجال الدين فقد تنبهوا للأمر قبل سواهم وكانوا ينتظرون ساعتهم”.
وكما أنّ رجال الدين تنبهوا لهذه المعادلة في عهد الشاه، فهم اليوم الأكثر قلقًا وتوترًا من علمنة المجتمع وتحديثه وعصرنته، ولذلك فقد دعموا بكلّ قوَّة بقاء المجتمع تحت طروحاتهم وخطابهم، ومنعوا روافد تحديثية عبر القوانين، وإنما تُفهم كلّ السياسات التي تحدثنا عنها آنفًا في هذا السياق، كمنع الفنون، والرقابة الصارمة على مواقع السوشيال ميديا والإنترنت، والاشتباك مع المفكرين والنخبة الثقافية. وإذا كانت عمليات التحديث في عهد الشاه بيده وإرادته فإنّ عمليات التقوقع على الذات ومحاولات تعمية المجتمع وحجبه عن العالَم الخارجي تتمّ أيضًا بيد السُّلْطة السياسية اليوم في إيران وإرادتها.
تمثَّل هذا القلق البالغ في حديث إبراهيم رئيسي [متولي سدانة أوقاف القدس الرضوية] لأساتذة الحوزات العلمية في محافظات قمّ وخراسان وطهران وأصفهان وقد تطرق فيه إلى مسألة العلمانية الاجتماعية التي بوصفه: “تُهدد الحوزات العلمية اليوم، وكما أن الحوزات العلمية كانت منشأ الثورة فإنّ عليها اليوم أيضًا أن تدعم الثورة وأن تستمر في هذا الخطّ، لأن معيار الاعتدال هو اتباع ولاية الفقيه”.
فمعيار الاعتدال وَفْقًا لرئيسي هو اتباع ولاية الفقيه، أي أنّ كل خطّ غير خطّ الولاية فهو غير معتدل وغير معتمد عند النخبة الدينية الحاكمة.
كذلك حذر آية الله محمد تقيّ مصباح يزدي من علمنة الحوزة عبر تآكل أطروحة “ولاية الفقيه” حيث تمتدّ معارضتها إلى داخل الحوزات العلمية. وحسب قوله: “ففي الحوزات العلمية وبين المسؤولين الإيرانيّين عديد من المعارضات لمبدأ ولاية الفقيه. فالبعض في الحوزات العلمية يريد فصل الدين عن السياسة، في حين يميل بعض المسؤولين إلى القوميَّة الإيرانية”. يقصد الحنين إلى العلمانية الوطنية في عهد الشاه.
وقال يزدي: “إنّ البعض توصلوا إلى اعتقاد بأنّه ما دام الشعب يدلي بصوته بنفسه ويختار رئيس الجمهورية فما ضرورة وجود المرشد؟ ولماذا من الأساس مبدأ ولاية الفقيه؟ فهل في الدول الأخرى مرشد؟ لقد امتدّ نطاق معارضة ولاية الفقيه إلى الحوزات العلمية. وقد شعر المرشد قبل فترة بأنّ الفكر الثوري أوشك على الانتهاء في بعض الأماكن، لذلك أمر الحوزويين والأكاديميين بأن يكونوا ثوريين خلال تحذيره بهذا الشأن. وإذا كان المرشد يوجه مثل هذا الخطاب إلى الحوزات العلمية فهذا يعني أن الحوزات العلمية تواجه خطر الانفصال عن الثورة، ومن الممكن أن ننسى أيضًا أن الجزء الأكبر من الفقه متعلق بالشؤون السياسية والاجتماعية”.
وأردف قائلًا: “بعض المسؤولين اليوم يعارض أوامر الولي الفقيه بكل أريحية، فرغم إشادتهم على الدوام بتوجيهات وإرشادات المرشد يفعلون ما يخالف أوامره. إن هذه المجموعة من المسؤولين يفضلون إحلال القوميَّة محل ولاية الفقيه. لقد أبدل بعض المسؤولين بالإسلام القوميَّة الإيرانية، وهذا هو نفس الشعار الذي كان يطرحه الشاه تحت عنوان القوميَّة الإيجابية، أي تنحية القيم الإلهية والإنسانية كافة جانبًا”.
ورجع حسام الدين آشنا، مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الثقافية، زيادة العلمنة في الحوزة إلى أسباب حكومية، فهي “ليست نتيجة لتقاعس الحوزة وإنما نتيجة لجهود ونشاطات حكومية فُرضت على الحوزة”.
وبقراءة مثل تلك التصريحات نلحظ أنّ سبب قلق رجال الدين والنخبة الحاكمة هو انهيار المقدَّس الذي اتسع على أيديهم ليشمل ظنيات معرفية وأشخاص غير معصومين، ومن ثمّ تفتتت أطروحاتهم وتآكلت نظرية ولاية الفقيه، حتى داخل الحوزة نفسها، فطلَّاب الحوزة باتوا يحضرون الدرس الحوزوي غير معممين، فحسب آية الله جعفر السبحاني: “إن الكثيرين يحضرون دروس الحوزة، لكنهم لا يتعممون، في حين أن القميص والبنطال غير متناسب مع مكانة علماء الدين”، وطالب السبحاني بجعل العمامة الدينية إلزامية
فنلاحظُ أنّ العلمنة قد ضربت الحوزة الدينية نفسها، العلمنة بشقيها الانتظاري والتغريبي. وهو ما أقلق النخبة الدينية، وتسبب في زيادة التوتُّر والخلاف بين رجال الدين، لدرجة خروجها عن المألوف والعرف الحوزوي، فقد نشب خلاف مؤخرًا في الحوزة بسبب رسالة آية الله محمد يزدي المحسوب على الخطّ الولائي، إلى المرجع الكبير آية الله شبيري زنجاني المحسوب على تيَّار الانتظار.
وجاء في رسالة يزدي إلى زنجاني: “في أعقاب نشر صور في الفضاء المجازي عن حضرتك وأنت بجانب بعض الأشخاص الذين لا يكنون احترامًا للجمهورية الإسلامية وقائد الثورة، ما أثار استياء واستغراب المقلدين والحوزيين.. أقول بأن مقام واحترام حضرتك يحصل في ظل احترام النِّظام الإسلامي الحاكم والقيادة وشأن المرجعية، لذلك من الضروري مراعاة هذا الاحترام وشؤون المرجعية واتخاذ ما يلزم لكي لا تتكرر هذه القضايا”.
وهذه الرسالة مستبشعة وَفْقًا للعرف الحوزوي، ومعايير مخاطبة المرجعيات الكبرى، مِمَّا أثار موجة من الانتقادات الكبيرة لها، فاضطر تيَّار عريض من المحسوبين على النِّظام أن ينتقد الرسالة أيضًا كي لا يخسر في الأوساط الدينية والسياسية، نظرًا إلى مكانة شبيري زنجاني، ولقساوة الرسالة ووصايتها.
أما المرجع موسى شبيري زنجاني، فأعلن أنه أو مكتبه “ليس لديه أي تعليق حول هذه الرسالة”، و”الطلبة والتلاميذ هم من يقومون بالرد عليها”. أي أنّ زنجاني قد ترفع عن الردّ على من يصغره سنًّا ومقامًا، وهي رسالة دينية وسياسية لاذعة ليزدي وتيَّاره.
وكانت الرسالة مفجرة لردود فعل عنيفة من داخل الحوزة، ضدّ النِّظام، واستراتيجيته في التعامل مع المراجع الكبار، سيما وأن زنجاني يحظى باحترام الجميع، فهو ليس متجاذَبًا بين التيَّارات، وليس محسوبًا على حزب بعينه، فهو منشغل بالدرس العلمي في الحوزة، وتَخرَّج على يديه جلّ رجال الحوزة، فكانت نبرة محمد يزدي له مستفزة للمراجع، الذين لم يعهدوا هذا الأسلوب حتى مع المعتكفين على أنفسهم من رجال الدين. وبعد يوم من هذه الرسالة أعلن المرجع محمد عندليب همداني في رسالة مفتوحة وجهها إلى يزدي أن التعاون بين الاثنين أصبح مستحيلًا وأن لا يعتبر نفسه عضوًا في جمعية قم العلمية بعد اليوم.
وقال المرجع الدينيّ يوسف صانعي تعقيبا على رسالة محمد يزدي في رسالة وجهها إلى زنجاني: “إن أناسًا أرادوا النيل من علماء الدين والحوزة وحضرتك شخصيًّا، لكن الأمر انتهى لصالح الحوزة”.
في حين استغل الإصلاحيون رسالة يزدي للهجوم على النخبة الحاكمة بخاصَّة رجال الدين المحسوبين على النِّظام، فقال مهدي كروبي بأنّ هدف رسالة يزدي هي:” انتزاع استقلالية الحوزة العلمية، وهيمنة الرعب والخوف على العلماء”.
في حين ذهب بعض المحللين أنّ خطاب اليمين المتطرف وأفعاله في إيران، والمزايدين على الجميع، ستؤدي بالبلاد إلى العلمانية السياسية، وبعبارة أخرى فإن هذه الرسالة سوف تترك عواقبها الخاصَّة داخل الحوزات العلمية، ولعل إحدى هذه العواقب زيادة الكراهية للفقهاء الحكوميين وتضاعف الإقبال على المراجع المستقلين والمعتقدين بضرورة فصل المؤسَّسة الدينية عن الدولة، وهم رجال دين لديهم وجهات نظر مختلفة لا يؤمنون بالحكومة الإسلامية، ولا بالتدخل المباشر للفقهاء في إدارة المجتمع.
وهذا الخلاف الحوزوي بين رجال الدين، الذي مرجعه في الأساس تدخُّل الحكومة في الفقه والشريعة، واعتماد أقوالٍ دون أخرى، أو ما يمكن تسميته “الاختيارات الفقهية والدينية للنظام”، بالإضافة إلى الفجوة بين الأجيال، وتمرد الشباب والنساء على ما يتعرضون له من مظالم، كل ذلك أتاح للجماعات العلمانية مساحات للاشتباك مع النِّظام، فقد حاولت الجماعة العلمانية اللعب على هذا الوتر طَوال الوقت، وبالفعل أمكنها إحداث حلحلة كبيرة في مكانة رجال الدين في المجتمع الإيرانيّ، حتى إنّ بيوتات بعضهم تعرضت للنهب والهجوم والضرب بالحجارة، اعتراضًا على “فسادهم وسياستهم”، وكذلك تعرضت بعض “الحوزات العلمية” للهجوم بسبب نفس السياسات من قبل النِّظام والنخبة الدينية الحاكمة، وهو تطور لافت، وخطير إن لم تتم معالجته وعدم نكرانه. فبعد أن حاولت النخبة الدينية الحاكمة توسيع دوائر المقدَّس إذا بالنَّاس تُهاجم هذا المقدَّس، وتشتبك معه، وتهتف ضدّه.
ومن الأسباب المهمَّة للصعود العلماني في إيران وانتشار مظاهره، والذي لحظه رجال الدين، هو زيادة الفجوة بين أجيال الثورة، وما بعدها، فمعظم أجيال ما بعد الثورة الإسلامية 1979م لا تؤمن بالخطاب الآيديولوجي والثوريّ الحماسيّ بقدر ما باتت تؤمن بمطالب حياتية ودنيوية “علمانية”، فالحاكمية والإمامة والسُّلْطة وتمهيد الأرض للإمام الغائب ونحو ذلك من مفردات، ليس هو ما يشغل تلك الفئات المجتمعية الجديدة، بل صارت متطلعة إلى حياةٍ أفضل، ومن ثمّ تعلقت مطالبها بعدالة توزيع الثروات، وتحسين الخدمات للمواطنين، ومطالب سياسية تتعلق بالحريات والعدالة والسُّلْطة الرشيدة، ومواكبة الغرب في تقدمه، وبغض النظر عن أسباب هذه التحولات -كالتنمية والعولمة والتكنولوجيا وأسباب سياسية ودينية- إلا أنّها صارت أمرًا واقعًا.
لكن هذه الفجوة وإن لحظتها النخبة الدينية إلا أنها لم تسع لحلّها بل سعت لتحجيمها ونكرانها، باعتبارها أمرا مريبًا، وثقافة وافدة ضدّ نظام الحكم الإسلاميّ، ومن ثمّ توسعت الفجوة بين طموحات الجماهير لا سيما الشباب والنساء، وبين رموز النِّظام من جيل ثورة 1979، وهؤلاء يرون أن خطاب السبعينيات الذى تتمسك به القيادات السياسية، غير مؤثر في المرحلة الراهنة، كما أن التوجهات التي ينتهجها النِّظام للحفاظ على المبادئ التي أرستها ثورة 1979 أصبحت بلا تأثير، وهنا يقول عزت الله ضرغامي رئيس مؤسَّسة الإذاعة والتليفزيون الأسبق وهو واحد من الأصوليين أصحاب النفوذ: “علينا أن نتغير، وإلا فجيل الشباب سيُغيِّرنا.
وبعبارة محسن قراءتي فإنّ “الجيل الجديد لم يعُد له اهتمام برجال الدين، لذلك علينا إعادة النظر في سلوكياتنا”.
لكن هل بإمكان النِّظام بالفعل أن يتغير؟ حسب كارين أرمسترونغ فإنّ ولاية الفقيه ظهرت في الأصل كتحدّ للحداثة الغربية، وقد أيقن الخمينيّ أنّ رفض الشيعة لتقلد المناصب الرسميَّة في القرون السابقة، وعدم المشاركة السياسية أو السعي نحو السُّلْطة، أفقد الشيعة جوهر الرسالة الحسينية، ولكي يغير الخميني هذا السمت المستقرّ، احتاج إلى قراءة مغايرة للموروث الفقهي في الحقل السياسي، فالإسلام حسب الخميني: “هو دين المناضلين الملتزمين بالعدالة والإيمان، إنه دين الطامحين إلى الحرية والاستقلال، إنه مدرسة لأولئك الذين يناضلون ويكافحون ضدّ الاستعمار”.
لذا فمن الصعب أن يغيّر النِّظام آيديولوجيته، أو يتنازل لجماعات العلمانية، لأنّ أيّ تنازل أو تغيير سيكون بمثابة انهزام ثقافيّ، وإعلان فشل الثورة ومبادئها ونظريتها.
لكن من المهمّ هنا أن ندرك أنّ تلك الفجوة ليست خاصَّة بالشباب غير الحوزوي أو غير المتديّن، بل تشمل الشباب المتديّن الذي نزع العمامة في أثناء حضوره الدرس الحوزوي، والشباب العاديّ الذي له تطلعات مدنية ونهضوية! مِمَّا يُعد تآكُلًا في نظرية ولاية الفقيه، وآيديولوجية الدولة، سواء أتنازل النِّظام أم لم يتنازل، مِمَّا يضع مستقبل الدولة كلّها في فوهة التغيير الثقافي والهوياتي، إذا ما أُتيحت الفرصة للجيل الجديد، أن يُطبّق طروحاته.
ولايةُ الفقيه وتعزيز العلمانية في المجتمع
يبدو تيَّار العلمانية المؤمنة أو الانتظارية الحركية، أقرب التيَّارات العلمانية في إيران للعقلانية والديمومة، ويُشكّل الخطر الحقيقي على النِّظام، إذْ إنّه يُنافس النخبة الدينية الحاكمة على قيادة الحوزة، وفي إقناع الحواضن الشعبية والجماهيرية. يُعزز هذا أيضًا أنّ تيَّار العلمانية المؤمنة لا يُعارض المخرجات الحداثية، فهو تيَّار إصلاحيّ توليفيّ، تقدمي، يدعو لتطبيق الديمقراطية والحدّ من السُّلْطة المطلقة لرجال الدين، وتحجيم العوارض البشرية بالقوانين والمؤسَّسات “الجمع بين الكوابح الداخلية والكوابح الخارجية”، كما أنّه قويّ حوزويًّا فلا ينقلب على ثوابت الحوزة وميراثها الفقهي والعقدي، بل يؤمن بالانتظار، ولكنّه يدعو إلى ديمقراطية سياسية، ودولةٍ مدنيَّةٍ، إلى حين ظهور الإمام المعصوم. هذه الأفكار الرائجة التي يتبناها التيَّار الإصلاحيّ في إيران ومجموعة من المفكرين ورجال الدين، والتي تعود بجذورها إلى الحركة الدستورية، وفقيهها الأول الميرزا النائيني، تشكّل اليوم الخطر الأكبر والحقيقي أمام السُّلْطة السياسية التي تعتمد نظرية “ولاية الفقيه” بقراءتها الخمينية. لذا فقد اشتبكت السلطات مع تيَّار العلمانية المؤمنة أكثر من اشتباكها مع تيَّارات العلمانية الغربية، إذ من السهل تشويه تيَّارات العلمانية الغربية بوصفهم عملاء للغرب، أو ملحدين ضدّ الدين والشريعة والمذهب، وهو ما حصل بالفعل مع أمثال سروش والشبستري وغيرهما من المحسوبين على هذا التيَّار. علاوة على أنّ تيَّار العلمانية الغربية لا ينطلق من تأسيسيات دينية أو مذهبية، ولا يبال بالتراث الفقهي والحوزوي، بل هو في صدام مستمرّ مع السُّلْطة ومع الشعب أو مع قطاع عريض منه في نفس الوقت، وهو ما تنبه إليه تيَّار العلمانية المؤمنة الذي اكتفى بالاشتباك الفكري والسياسي مع السُّلْطة، ونافسها في الحواضن المتدينة.
يبدو مستقبل تيَّار العلمانية المؤمنة لافتا، فهو التيَّار الذي يمكنه ملء أي فراغ مفاجئ في السُّلْطة السياسية بما يملكه من قواعد جماهيرية، وأساسات حوزوية، وكذلك قربه من دوائر صناعة القرار في المحليات وبعض المدن والمحافظات، بل وفي رئاسة الجمهورية نفسها. نعم، أخفق التيَّار في تغيير وجهة إيران نحو علمانية شاملة، إلاّ أنّه استطاع أن يُحرك الجماهير في 2009م، وفي 1999م، وإن تراجع رموزه في ما بعد عن دعم المطالب الجماهيرية، وهو تراجعٌ تكتيكيّ لا استراتيجيّ، لأنّ الإصلاحيين يدركون حدود اللعبة ومساحتها، ودوائر المناورة، وخرائط الصراع جيدًا، فالنِّظام لا يزال هو الطرف الأقوى والفاعل الرئيسي، ولا يزال المرشد الأعلى مستمسكًا بزمام المؤسَّسات الصلبة “الجيش والشرطة والحرس الثوري”. فأيّ مواجهة مباشرة ومفتوحة مع هذا النِّظام لا تعني سوى الانتحار السياسي، والتشويه الديني. أمّا تيَّارات العلمانية الأخرى فهي وإن كانت قويَّة ولها بعض الجماهيرية إلاّ أنها غير منظَّمة، والمناخ السياسي الإيرانيّ لا يُساعد على وجود تنظيمات هرمية، أو أحزاب فاعلة حرة في الفعل والمشاركة والممارسة، كما شهدت هذه التيَّارات تفتتًا بسبب الضربات المتلاحقة من النِّظام وبسبب مصادمتهم لهوية الدولة ومشاعر النَّاس.
لكن على أيِّ حال فالمؤكّد أنّ النِّظام السياسي الإيرانيّ الراهن ونخبته الدينية، ساعدا على تعزيز علمنة المجتمع الإيرانيّ، وذلك على مستويين: الأول الإخفاق الذي تعرضت له الدولة الإيرانية سياسيًّا واقتصاديًّا ودينيًّا بسبب الخطاب الرسميّ المتشدد، مِمَّا أعطى المعارضة العلمانية زخمًا ومجالًا لانتقاد النِّظام وتصدرها كراعٍ لحقوق النّاس. والثاني أنّ النِّظام نفسه اعتمدَ أدواتٍ وآليات علمانية، كإقراره بالدولة الحديثة، ودفاعه المستميت عنها، واستعماله لأدواتها وآلياتها. وإنْ حاول النِّظامُ الإيرانيّ التوسع في بيئات موالية أو مواتية فليس لأنّه غير مؤمنٍ بحدود الدولة الوطنية، بقدر ما هو توسُّعٌ مؤقت في لحظة راهنة ومناسبة، تشهد هشاشةٍ إقليمية وتفاعلات دوليَّة أتاحت له هذا التوسع، وهو كذلك توسّعٌ لخدمة مشروعه الجيوبوليتيكيّ وقوّته الناعمة، لا من أجل تمديد الحدود وتغيير الجغرافيا. كذلك احتكار النِّظام للقوَّة والعنف “عنف السُّلْطة” شأنه شأن الدولة الحديثة، وانبنى على احتكار الدولة للعنف عدم قداسة دماء الإنسان، الذي كفلته الأديان، والشرائع السماوية، وانتُزعت القداسة من الحقل السياسيّ برمّته، فقامت الدولةُ بممارسة العنف ضدّ شعوب وأقلِّيَّات باعتبارها دخيلًا يجب أن تُطرد تمامًا أو يعيشون كأنصاف مواطنين. هذه التجليات العلمانية التي صاحبت نشوء الدولة الحديثة، والقوميَّة، وما بعد الاستعمارية، لم تنفكّ عنها إيران في عهد ما بعد الثورة “الإسلامية”، فبرز هنا تناقضان: فالدولة تحارب العلمانيين وتشتبك معهم، وتُحجّمهم، وفي نفس الوقت هي نفسها مظهر من مظاهر العلمانية، مستعملة نفس أدوات العلمانية اللا أخلاقية في إدارة الأزمات


تلخيص النصوص العربية والإنجليزية أونلاين

تلخيص النصوص آلياً

تلخيص النصوص العربية والإنجليزية اليا باستخدام الخوارزميات الإحصائية وترتيب وأهمية الجمل في النص

تحميل التلخيص

يمكنك تحميل ناتج التلخيص بأكثر من صيغة متوفرة مثل PDF أو ملفات Word أو حتي نصوص عادية

رابط دائم

يمكنك مشاركة رابط التلخيص بسهولة حيث يحتفظ الموقع بالتلخيص لإمكانية الإطلاع عليه في أي وقت ومن أي جهاز ماعدا الملخصات الخاصة

مميزات أخري

نعمل علي العديد من الإضافات والمميزات لتسهيل عملية التلخيص وتحسينها


آخر التلخيصات

ان التجارة الال...

ان التجارة الالكترونية كمصطلح حديث التداول بدأ مع التسعينات، لكنه كمفهوم بدأ في التبلور منذ بضعة عقو...

The user interf...

The user interface is the most important part of any computer system. Why? It is the system to most...

مشكلة البحث : ‎...

مشكلة البحث : ‎من خلال التعامل مع الاطفال ذوى الاحتياجات الخاصة بشكل عام ، ومع فئه الاطفال ذوى اضطرا...

موضوعي 1 المعيا...

موضوعي 1 المعيار الدولي لإعداد التقارير المالية S2 [في المسودة] تهدف الإفصاحات المتعلقة بتغير المناخ...

إذا كان الإنسان...

إذا كان الإنسان هو المبتدأ وهو المنتهى في مسيرة الحياة البشرية، فإن الوليد البشري إنما يكون في البدا...

‎أيضاً تحدث باس...

‎أيضاً تحدث باسم عن محو الثقافات وكيف يتم الآن محو الثقافة الفلسطينية، وأشار بالتحديد إلى نسب الإسرا...

تنهض العملية ال...

تنهض العملية النقدية، بوصفها فعالية تهدف إلى اكتناء عالم الخطاب الإبداعي، في مستوياته الأسلوبية والت...

A fair reward s...

A fair reward system is one that operates in accordance with the principles of distributive and proc...

1 التثبيت Fixat...

1 التثبيت Fixation تحـدث هـذه العمليـة مـن وجهـة نظـر فر ويـد إذا مـر الطفـل بخبره صـادمة فـي أي مرح...

Have you ever w...

Have you ever wondered why some people seem to carry an invisible weight, a burden that sinks them i...

تقييم إنجازات ا...

تقييم إنجازات المعالج: أي الجهود التي بذلها والسياسات التي إتخذها. - إنهاء العلاج يشرح المعالج للعمي...

https://learn-e...

https://learn-eu-central-1-prod-fleet01-xythos.content.blackboardcdn.com/607ffd7bf052e/187423?X-Blac...