لخّصلي

كيف يمكن لكائن بشري أن يعيش في مناخ بارد جدأ, تحت سماء تطبق على السطوح؟ مضى على وجودنا في العاصمة البريطانية ثلاثة أيام ولم أتمكن بعد من الشعور بالدفء, مع أننا نقيم في فندق فخم, الدورشوستر, حيث التدفئة المركزية ممتازة.

كان قدومنا إلى إنجلترا مرتبطاً بالخلاف الممتد بيننا وبين جيراننا حول مشكلات حدودية. وكنت أضع دوماً نصب عيني إنهاء الخلافات, وأن يعيش أبناء المنطقة بأمن وأمان ورخاء, وأن نلتفت إلى المستقبل ونسير في طريق التنمية,

وقد قلت أكثر من مر: (أفضّل أن أعيش حياة متواضعة في بلدي على أن أكون صاحب ملايين وحدي). وإذا ما قدّم لي بعض التجار أو الزوّار هدايا – عادة ما تكون أكياساً من الأرز – كنت أوزعها على العائلات المحتاجة أكثر من غيرها في الواحة. كنت مدفوعاً بقوة قاهرة تمنعنى من التصرف بطريقة أخرى. لقد اعتقدت دائماً أن إعطاء بعض من النفس خير وسيلة للانتماء إلى الذات. وبشئ من الأنانية لاحظت أن كل ما نهبه يعود إلينا أضعافاً ذات يوم, كما لو أنه ينطبق علّي قول عروة بن الورد:

أقسّم جسمي في جسوم كثيرة
وأحسو قراح الماء والماءُ باردُ

لندن مثيرة للاهتمام مثل باريس, في تلك السنة, 1955, كانت المدينة لا تزال في طور إعادة الإعمار, لكن المرء يشعر بفرح الحياة الذي يعمر نفوس سكانها وكأنها تنبعث بعد سنوات الحرب التي شهدتها البلاد.  في الشوارع يُرى سادة مهذبون بقبعات مستديرة منتفخة, وسيارات أخرة سوداء, وأحياء راقية وأخرى وجدتها بائسة.  تحت الأرض يسير في أنفاق متعرّجة قطار يسمّونه الأنبوب, دُشّن, كما أكدوا لي, قبل مائة سنة تقريباً.

شخبوط الذي كان يعاني من ضعف في البصر اغتنم وجودنا في العاصمة البريطانية لإجراء فحوص في مستشفى في وسط لندن, مستشفى سان توماس. أدهشتني نوعية العلاجات المقدّمة وزادت دهشتي عندما علمت بأن هذا المستشفى موجود منذ القرن الثامن عشر. سمعت به للمرة الأولى من أخي هزّاع الذي كان يذهب إليه بانتظام لكي يتابع علاجاً ما. ما هو؟ لا أعلم شيئاً عنه, وكان هو يرفض دائماً أن يبوح لنا بما يُعانيه لكننّا عرفنا أخيراً. لم يسبق لنا, أنا وشخبوط أن استُقبلنا في باكنغام, لكن أُتيح لي أن أتأمل القصر من الخارج وأشاهد تبديل الحرس. ولم أتمالك أن أبتسم لرؤية الزيّ المضحك الذي يرتديه الخيّالة من فرقة الحرس. لم أكن أتخيل للحظة رؤية أحد رجالنا البدو معتمراً خوذة ذات عُرف غزير! أما الخيول فلا تبدو تشبه جيادنا العربية الأصيلة في رشاقتها وعدوها وجمالها.

أذكر أنني سألتُ دليلنا كم غُرف القصر فردّ عليّ أن عددها 775 غرفة مزوّدة بالماء الجاري, وأكمل: "منذ عام 1801". جوابه ذكرني فوراً بأوجه النقص في بلادي. ثمة عالم يسبقنا بقرون عديدة وتزداد معرفتي به يوماً بعد يوم طوال مدة زيارتنا كانت صور بلادي تتراكب مع الصور التي كنت أكتشفها وينتابني شعور بالانقباض لم أتمكن من تجنبه. لقد تأخرنا جداً, وإني لأتساءل هل يمكن ردم هذه الفجوة ذات يوم؟

في ذلك العام, 1955, كانت قد مضت ثلاث سنوات على وفاة الملك جورج السادس وجلوس ملكة على عرش بريطانيا هي إليزابيث الثانية, امرأة على رأس إمبراطورية. من جهتي كنت أعتبر دائماً أن دور المرأة يجب ألاّ يقتصر على الطبخ وتحضير القهوة أو الشاي. هذا مُناف للعقل. ينبغي لها, على غرار زوجها, أن تنتهز كل فرصة لتنمية شخصيتها. أليس الرجل أخاً للمرأة والمرأة أختاً للرجل؟ وليس لشيء أن يميز بينهما إلا العمل الذي يقوم به كلّ منهما.

كان من حُسن الحظ في لحظة معّينة من وجودي أنني ربطت مصيري بمصير امرأة استثنائية. نادرة. فريدة. زوجتي فاطمة. كان لديها, على صغر سنّها, عطش لا يرتوي للتعّلم, والفهم والإفهام. كانت تصغرني بخمس وعشرين سنة, لكنّ الانطباع كان يتولًد لديّ عندما ترفدني بنصائحها أحياناً بأنّ هذا الفارق كان معكوساً. وكانت مثلي لم يُتح لها أن تتعلّم في المدارس الكبيرة, إلاّ أنها كانت تعلم من شؤون العالم والحياة أكثر مما يعلمه كبار المعلّمين.

حدث ذلك في العين في شهر ديسمبر من عام 1960. كان ذلك في يوم عيد, وكان نسيم عليل يداعب قمم أشجار النخيل, وثمة رجال يؤدون فنّاً شعبّياً, متراصيين كتفاً لكتف في صفين متقابلين, يمسكون بأيديهم فضباناً دقيقة من الخيزران, كنايةً عن سهام أو سيوف, يقذفونها عالياً ثم يلتقطونها مجدّداً. كانوا يتمايلون على إيقاع الطبول والصنوج ويردّدون أبياتاً من الشعر النبطي قديمة تروي تاريخنا, تاريخ البدو, وتمجّد قيم الشرف, والحنين إلى الماضي, والتضامن. على بعد خطواط من هؤلاء الرجال كانت ست فتيات صغيرات ينعشن. في ذلك اليوم كان حفل زفافنا أنا وفاطمة.