لخّصلي

خدمة تلخيص النصوص العربية أونلاين،قم بتلخيص نصوصك بضغطة واحدة من خلال هذه الخدمة

نتيجة التلخيص (86%)

ما زالت ترنّ في أُذني صرخات الأم، وأرى الأب متعلقاً كالغريق، والطفلة الصغيرة راقدة على حصير من بذراعي قصب، خرجت مسرعاً لأجدني في غرفة صغيرة، موزعاً بين اليأس والسخط . عندما مرضت والدتي سلامة -رحمها الله اضطررنا إلى استدعاء طبيب إنجليزي من دبي، أمضى وقتاً طويلاً للوصول نظراً إلى عدم وجود طرق للمركبات. لا توجد لدي أية معرفة طبية بحالة الفتاة لكني أيقنت أنها معرّضة للموت إن لم تتلق العلاج على وجه السرعة. أمرتُ الأب: «ارفعها! احملها إلى سيارتي». تمتم: «إلى أين تأخذها، ولولت الأم: «الشارقة ؟ لماذا؟»، «لأنّ أقرب مستشفى يوجد هناك». مائة وخمسون كيلومتراً تفصلنا عن الشارقة، والمستشفى ة المقصود هو مستشفى سارة هوسمان، على اسم الطبيبة النسائية البريطانية التي أسسته منذ عشر سنوات، في الخمسينيات بإيعاز من الشيخ صقر بن سلطان القاسمي. هناك سيكون الأطباء قادرين على علاجها. لفت الفتاة بغطاء، ومدّدت على المقعد الخلفي للاندروفر. كانت حُزمة الضوء المرتعشة الصادرة عن مصابيح السيارة تكتسح الكثبان وتضفي على الليل إحساساً بالوحدة هائلاً. شعرت كما لم أشعر من قبل بما للصحراء من حضور كُلّي، ساحر وقادر على سلب اللب. عبر واقية الريح يتسلل نور الهلال وبريق النجوم. من كل كياني ابتهلت لخالق الأكوان. على نحو متقطع كنت أُلقي نظرة على مرآة الخلفيات التي تعكس لي وجه الفتاة وقسماتها التي شوّهها الألم أسمع أنينها فأطمئن. ألا يدلّ الأنين على أن جسدها الصغير ما زال يقاوم الموت؟ لا أدري لماذا كان تفكيري يتجه نحو هزّاع. في العشرين من يناير 1958 كنا في نيويورك. من خلال الكوة الزجاجية في إحدى غرف المستشفى رحت أتأمل مياه نهر هادسن المنسابة ببطء تحت سماء كئيبة. عدتُ لأجلس قرب السرير. وجه هزاع صاف هادئ. قبل أسبوع، ما الفائدة؟ لقد فهم. سواء أعاش المرء حياة سعيدة أم لا، وسواء أخاب أمله في الوجود أم نال ما يرضيه، يُحدق في باب الغرفة. حركة بسيطة، أمسكت بيد أخي. فتح عينيه ابتسم لي ابتسامة واهنة. أحياناً كنت إخال أنه لم يعد يتنفس لفرط ما كان تنفسه ضعيفاً. وكذلك والدتي. ظلت صامتة. برقعها يغطي وجهها وكانت عيناها مغرورقتين بالدمع يمكنني أن أقرأ فيهما كلّ يأس العالم واحتضار النجوم. انقضت ساعات حوالي الثالثة بعد الظهر أسلم هزاع الروح لبارئها. انفجرت أمي بالنحيب مخفية وجهها بين ذراعي خالد. أما أنا فأشحت بوجهي ورحت احدق في المباني عبر الحاجز الزجاجي. تتشح بالسواد. أن تتوقف عقارب ساعاتها. كانت اللاندروفر ، تتقافز مثيرة زوبعة من الغبار الأبيض. كم كيلومتراً قطعتُ على هذا المنوال، يداي تضغطان على المقود، بدت ساكنة. أمينة» لم ترد. قفزت خارجاً. فتحت الباب الخلفي، انحنيت على الفتاة. أدنيت أُذني من شفتيها لأفحص تنفّسها. لكن هذه المرّة كي يرحم ا الله أمينة. الآن. ما زلت أرى أمائر الدهشة التي اعترت أخي عندما أحطته علماً بقراري. تابعت: «ما فائدة المال من دون الصحة؟» ورويتُ له بأدق التفاصيل مأساة الصغيرة أمينة. ذكرته بأن أحد أفراد عائلتنا لو مرض لأمكنه أن يسافر إلى الخارج لتلقي العلاج. أما أفراد شعبنا فلا وشخبوط نفسه ألم ينتهز فرصة وجودنا في إنجلترا لاستشارة طبيب عيون؟ لا بد أنني كنت عاقد العزم على نحو رهيب حتى وافق في الحال. طبعاً، لكن كان ما قمنا به يُعدّ تقدّماً. بيد أن المسألة الأكثر تعقيداً كانت إيجاد طبيب. كانا مُبشّرين أمريكان. أنني عرضت عليهما أن أبني لهما كنيسة صغيرة إن رغبا في ذلك. بعد ثلاث سنوات أصبح هذا المستوصف مستشفى. حتى هذه المرة قرّرت أن أذهب أبعد من ذلك. بعد بضعة أشهر على إنشاء المركز الطبي كان على شخبوط أن يذهب في زيارة رسمية إلى لندن. زيارة تليها رحلة خاصة إلى ألمانيا الشرقية تعقبها إقامة لتلقي العلاج في أمريكا، أي أنه سيغيب عن البلاد – وهذا أمر نادر – بضعة أسابيع. كانت هذه اللحظة هي الفرصة المناسبة التي لا تتكرّر أبداً. على ما في هذا الانتقال من مخاطر. يكفي خطأ واحد في التقدير حتى تغرق الناس والبهائم، أو تغوص الشاحنات في الرمال وغالباً بصورة نهائية. وربّما استغرق الوصول إلى طرف الجزيرة نصف نهار. هذا بغض النظر عن أن المبادلات التجارية بيننا وبين جيراننا تتضرر من هذا الوضع حتى أن العديد من المؤسسات التجارية تحجم عن الاستقرار عندنا. في اليوم الذي غادر فيه شخبوط البلاد ذهبت على وجه السرعة إلى قصر الحصن. الجدير بالذكر أنني كنت العضو الوحيد في العائلة الذي يُسمح له بالإقامة في القصر سواء في حضور أخي أو في غيابه. وكبار التجار، والزعماء المحليين، وأنا بحاجة إليكم جميعاً». كان جوابهم مطابقاً لجواب سكان العين عندما اقترحت عليهم بناء الصاروج كنت في الثانية والأربعين من العمر، وقد علمتني الحياة أنه لإقناع محفل ينبغي أولاً حملهم على الإصغاء، ثانياً أن تحظى بحسن انتباههم، وأخيراً أن تحصل على موافقتهم. وفي اليوم التالي كان جميع المقتدرين قد شرعوا بالعمل. تخيلت شارعاً رئيسياً عرضه أربعة أمتار تقريباً مرصوفاً بالحجارة والطين المجفّف. لا شيء يستحق المشاهدة فعلاً. لكن كانت هذه خطوة إلى الأمام قياساً على الدروب الرملية التي كانت تخترق الإمارات المتصالحة آنذاك. الشاحنتان الوحيدتان اللتان كانتا عندنا وُضعتا في خدمة المشروع - ويعلم الله كيف - مهدنا الكثبان، ونقلنا أطناناً – من الرمال بلا معدّات ولا رفّاشات ولا ملاط. وكرّست أغلب أوقاتي لمتابعة تقدّم الأشغال وحثّ الرجال ما وسعني الأمر. هكذا أنجزنا بسرعة قياسية أول طريق شقت في بلادنا. ولما لم يكن شخبوط قد عاد من سفرته المتعددة المحطات اقتطعت من الخزينة المبالغ الضرورية لإقامة مضخات للري، وبناء سوق ومنشآت تجارية في العين. ولم يتأخر. ثم سألني : جوابه حيرني: فاستطردت:

  • هذه الطريق التي شققتها، ألم ترها؟ كان من الضروري أن أكافئ أولئك الذين شاركوا في بنائها، بفضل أُمي العزيزة، بعد أشهر، المال. بعد أشهر، احتفلنا بتدشين مدرسة المويجعي. هنا أيضاً لا يتعلق الأمر بمأثرة تبقى محفورة في الذاكرة. على أنني ما زلت أشعر بشيء من الفخر بهذا الإنجاز. ما بعد – وقد لبّى مدرّس أردني طلبي وجاء للإقامة في العين. إرسال الأبناء إلى المدرسة قد يبدو أمراً طبيعياً. لكن ليس عندنا في تلك الأيام. كان الأهل لا يستسيغون الانفصال عن فلذات أكبادهم ولو لبضع ساعات في النهار. وغيابهم يؤدي إلى خسارة في الدخل. وكان عليّ أن أقاتل، حتّى مع صديقي فارس. عاينت فارس لبرهة وجيزة. - أنت أب لولدين، أوماً برأسه موافقاً. العالم كله، - أيهما أختار؟ أعطيهما القصر طبعاً. هذا القصر هو التعليم وآلاف الغرف التي فيه. كلّ كتاب يقرأه الصغار، سوف يفتحان عيونهم على عوالم جديدة، ففي اليوم التالي أخذ فارس ولديه إلى مدرسة المويجعي. لقلة ذات اليد، كنتُ، وبعض الروبيات لذوي التلاميذ الأكثر مواظبة على الدروس حولنا كان العالم في تطوّر مستمر. وكنت مدركاً كل الإدراك أننا بدأنا سباقاً مع عقارب الساعة. أو سلطان، الذين شجّعتهم على الالتحاق بالأكاديمية العسكرية الملكية في ساندهرست».


النص الأصلي

العين، سبتمبر 1960
ما زالت ترنّ في أُذني صرخات الأم، وأرى الأب متعلقاً كالغريق، والطفلة الصغيرة راقدة على حصير من بذراعي قصب، منطوية على نفسها، تتلوّى من الألم.
خرجت مسرعاً لأجدني في غرفة صغيرة، عاجزاً، غير ذي فائدة، موزعاً بين اليأس والسخط . الطفلة ذات السنوات العشر تتألم ألماً مبرحاً وليس من طبيب، لا هنا في العين، ولا في أي مكان آخر في البلاد، وما من مستوصف، ولا مستشفى.


قبل شهرين، عندما مرضت والدتي سلامة -رحمها الله اضطررنا إلى استدعاء طبيب إنجليزي من دبي، أمضى وقتاً طويلاً للوصول نظراً إلى عدم وجود طرق للمركبات. لا توجد لدي أية معرفة طبية بحالة الفتاة لكني أيقنت أنها معرّضة للموت إن لم تتلق العلاج على وجه السرعة.


أمرتُ الأب: «ارفعها! احملها إلى سيارتي». تمتم: «إلى أين تأخذها، يا زايد؟» إلى الشارقة». ولولت الأم: «الشارقة ؟ لماذا؟»، «لأنّ أقرب مستشفى يوجد هناك».


مائة وخمسون كيلومتراً تفصلنا عن الشارقة، والمستشفى ة المقصود هو مستشفى سارة هوسمان، على اسم الطبيبة النسائية البريطانية التي أسسته منذ عشر سنوات، في الخمسينيات بإيعاز من الشيخ صقر بن سلطان القاسمي. هناك سيكون الأطباء قادرين على علاجها.


لفت الفتاة بغطاء، ومدّدت على المقعد الخلفي للاندروفر. كيف أصف تلك اللحظات؟ مستحيل. ما من كلمة تفي بالغرض. كانت حُزمة الضوء المرتعشة الصادرة عن مصابيح السيارة تكتسح الكثبان وتضفي على الليل إحساساً بالوحدة هائلاً. شعرت كما لم أشعر من قبل بما للصحراء من حضور كُلّي، ساحر وقادر على سلب اللب. عبر واقية الريح يتسلل نور الهلال وبريق النجوم. هل دعوتُ لها؟ أظن أن نعم. من كل كياني ابتهلت لخالق الأكوان. ما عدت أذكر ماذا طلبت. لا شك في أنني طلبت أن تتم مشيئته. على نحو متقطع كنت أُلقي نظرة على مرآة الخلفيات التي تعكس لي وجه الفتاة وقسماتها التي شوّهها الألم أسمع أنينها فأطمئن. ألا يدلّ الأنين على أن جسدها الصغير ما زال يقاوم الموت؟


لا أدري لماذا كان تفكيري يتجه نحو هزّاع. لا شك في أنني ما زلت أفتقد أخي. فارقنا منذ سنتين. أذكر ذلك وكأنه
حصل البارحة.


في العشرين من يناير 1958 كنا في نيويورك. من خلال الكوة الزجاجية في إحدى غرف المستشفى رحت أتأمل مياه نهر هادسن المنسابة ببطء تحت سماء كئيبة. عن يميني يرتسم جسر جورج واشنطن. وكانت تمطر.


عدتُ لأجلس قرب السرير. وجه هزاع صاف هادئ. المخدّر الذي حُقن به قد فعل فعله. قبل أسبوع، عندما علمت بالخبر من الطبيب برسكوت خارت ركبتاي: «سرطان متفشّ. لا أمل». لم أقل شيئاً لأخي. ما الفائدة؟ لقد فهم.


سواء أعاش المرء حياة سعيدة أم لا، وسواء أخاب أمله في الوجود أم نال ما يرضيه، يبقى متعلقاً بالحياة وهشاشة ما تبقى له من وقت يربطه بالعالم. يُحدق في باب الغرفة. يخمن خطوات الذهاب والإياب ويحلم باجتياز العتبة. حركة بسيطة، لكنها في تلك اللحظات تكتسب قيمة لا تُقدّر.


أمسكت بيد أخي. فتح عينيه ابتسم لي ابتسامة واهنة. انفرجت شفتاه لكن لم ينبس بكلمة. أحياناً كنت إخال أنه لم يعد يتنفس لفرط ما كان تنفسه ضعيفاً. من وقت إلى آخر كانت تدخل ممرضة، تقيس ضغطه. تفحص القطارة. تتبادل معي نظرة آسفة، وتخرج.


أخي الأكبر، خالد، كان هناك أيضاً، وكذلك والدتي. أصرت على مرافقتنا إلى نيويورك على الرغم من أنها قاربت السبعين من العمر. ظلت صامتة. برقعها يغطي وجهها وكانت عيناها مغرورقتين بالدمع يمكنني أن أقرأ فيهما كلّ يأس العالم واحتضار النجوم.


انقضت ساعات حوالي الثالثة بعد الظهر أسلم هزاع الروح لبارئها. انفجرت أمي بالنحيب مخفية وجهها بين ذراعي خالد. أما أنا فأشحت بوجهي ورحت احدق في المباني عبر الحاجز الزجاجي. حقدتُ على هذه المدينة التي تواصل حياتها، غير آبهة بحدادنا. تمنيت لو أن أبراجها، وشوراعها، وحدائقها، تتشح بالسواد. أن تتوقف عقارب ساعاتها. ويتحوّل النهر إلى صحراء.


كانت اللاندروفر ،تتقافز مثيرة زوبعة من الغبار الأبيض. كم كيلومتراً قطعتُ على هذا المنوال، يداي تضغطان على المقود، ورجلي على الدوّاسة؟ لا أعلم إلا أنني في لحظة ما لم أعد أسمع شكوى الفتاة. التفتُ نحوها. بدت ساكنة. أتنام حقاً؟ ناديتها باسمها: «أمينة، أمينة» لم ترد. ضغطت على المكبح توقفت السيارة فجأة على قمة كثيب. قفزت خارجاً. فتحت الباب الخلفي، قلبت المقعد إلى الأمام. انحنيت على الفتاة. أدنيت أُذني من شفتيها لأفحص تنفّسها. لا شيء وضعت راحة يدي على صدرها الصغير. كان هامداً، جامداً كحجر. قُضي الأمر. ركعتُ على الرمل. رفعتُ وجهي نحو السماء، وصلّيتُ مجدّداً، لكن هذه المرّة كي يرحم ا الله أمينة.



  • أريد أن أبني مستوصفاً في العين! أحتاج إلى مال. حالاً، الآن.


ما زلت أرى أمائر الدهشة التي اعترت أخي عندما أحطته علماً بقراري. تابعت: «ما فائدة المال من دون الصحة؟» ورويتُ له بأدق التفاصيل مأساة الصغيرة أمينة. ذكرته بأن أحد أفراد عائلتنا لو مرض لأمكنه أن يسافر إلى الخارج لتلقي العلاج. أما أفراد شعبنا فلا وشخبوط نفسه ألم ينتهز فرصة وجودنا في إنجلترا لاستشارة طبيب عيون؟ لا بد أنني كنت عاقد العزم على نحو رهيب حتى وافق في الحال. في غضون الأشهر الستة التالية فتح مركز طبي أبوابه في العين. مركز الواحة. طبعاً، كنا لا نزال على بُعد آلاف الفراسخ من مستشفى سانت توماس، أو البرسبيتريان في نيويورك. لكن كان ما قمنا به يُعدّ تقدّماً. بيد أن المسألة الأكثر تعقيداً كانت إيجاد طبيب. أفلحت أخيراً في إقناع اثنين، كانا مُبشّرين أمريكان. أنني عرضت عليهما أن أبني لهما كنيسة صغيرة إن رغبا في ذلك. بعد ثلاث سنوات أصبح هذا المستوصف مستشفى.


حتى هذه المرة قرّرت أن أذهب أبعد من ذلك.


بعد بضعة أشهر على إنشاء المركز الطبي كان على شخبوط أن يذهب في زيارة رسمية إلى لندن. زيارة تليها رحلة خاصة إلى ألمانيا الشرقية تعقبها إقامة لتلقي العلاج في أمريكا، أي أنه سيغيب عن البلاد – وهذا أمر نادر – بضعة أسابيع.


كانت هذه اللحظة هي الفرصة المناسبة التي لا تتكرّر أبداً.


هل يجب التذكير بأنّ عاصمتنا كناية عن جزيرة؟ يتعيّن على من يريد القدوم إليها أن ينتظر حصول أقصى الجزر ليجتاز الرصيف الرملي، على ما في هذا الانتقال من مخاطر. يكفي خطأ واحد في التقدير حتى تغرق الناس والبهائم، أو تغوص الشاحنات في الرمال وغالباً بصورة نهائية. وربّما استغرق الوصول إلى طرف الجزيرة نصف نهار. هذا بغض النظر عن أن المبادلات التجارية بيننا وبين جيراننا تتضرر من هذا الوضع حتى أن العديد من المؤسسات التجارية تحجم عن الاستقرار عندنا.


في اليوم الذي غادر فيه شخبوط البلاد ذهبت على وجه السرعة إلى قصر الحصن. الجدير بالذكر أنني كنت العضو الوحيد في العائلة الذي يُسمح له بالإقامة في القصر سواء في حضور أخي أو في غيابه. في ذلك اليوم استدعيت إلى البرزة أهم مالكي الأسواق، وكبار التجار، والزعماء المحليين، وأبلغتهم: «سوف نشق طريقاً، وأنا بحاجة إليكم جميعاً». كان جوابهم مطابقاً لجواب سكان العين عندما اقترحت عليهم بناء الصاروج كنت في الثانية والأربعين من العمر، وقد علمتني الحياة أنه لإقناع محفل ينبغي أولاً حملهم على الإصغاء، ثانياً أن تحظى بحسن انتباههم، وأخيراً أن تحصل على موافقتهم. في غضون ساعات نجحت خطتي. وفي اليوم التالي كان جميع المقتدرين قد شرعوا بالعمل.


تخيلت شارعاً رئيسياً عرضه أربعة أمتار تقريباً مرصوفاً بالحجارة والطين المجفّف. لا شيء يستحق المشاهدة فعلاً. لكن كانت هذه خطوة إلى الأمام قياساً على الدروب الرملية التي كانت تخترق الإمارات المتصالحة آنذاك.


الشاحنتان الوحيدتان اللتان كانتا عندنا وُضعتا في خدمة المشروع - ويعلم الله كيف - مهدنا الكثبان، ونقلنا أطناناً – من الرمال بلا معدّات ولا رفّاشات ولا ملاط. وكرّست أغلب أوقاتي لمتابعة تقدّم الأشغال وحثّ الرجال ما وسعني الأمر. هكذا أنجزنا بسرعة قياسية أول طريق شقت في بلادنا. ولما لم يكن شخبوط قد عاد من سفرته المتعددة المحطات اقتطعت من الخزينة المبالغ الضرورية لإقامة مضخات للري، وبناء سوق ومنشآت تجارية في العين. ولم يبق إلا انتظار رد فعل أخي. ولم يتأخر.


بعد ثمان وأربعين ساعة على عودته استدعاني إلى مكتبه. تبادلنا التحية كالمعتاد. أمعن النظر إلي طويلاً، ثم سألني :




  • لماذا؟




  • لا أفهم. لماذا؟
    جوابه حيرني:




  • لماذا أخذت أموالاً نقدية من الخزائن دون أذني؟




  • يبدو لي أنك منحتني هذا الحق في غيابك، هل كنت مخطئاً.
    لم يرد، فاستطردت:




  • هذه الطريق التي شققتها، ألم ترها؟ كان من الضروري أن أكافئ أولئك الذين شاركوا في بنائها، وأن أدفع أُجرة استئجار الشاحنتين. كما أنني أنشأت مضخات للري في العين




  • والآن سوف نبني مدرسة ابتدائية، هنا، في العين.




هذه المرة تمكنت، بفضل أُمي العزيزة، سلامة، من إنجاز هذا المشروع الجديد. فقد عرضت عليّ من تلقاء نفسها أن تضع في تصرفي مبلغاً من المال. بعد أشهر، المال. بعد أشهر، احتفلنا بتدشين مدرسة المويجعي. هنا أيضاً لا يتعلق الأمر بمأثرة تبقى محفورة في الذاكرة. على أنني ما زلت أشعر بشيء من الفخر بهذا الإنجاز. كانت المدرسة عبارة عن مبنى من خشب قادر على استيعاب أربعين تلميذاً من الصبيان – وضع سوف يتغير في. ما بعد – وقد لبّى مدرّس أردني طلبي وجاء للإقامة في العين.


إرسال الأبناء إلى المدرسة قد يبدو أمراً طبيعياً. لكن ليس عندنا في تلك الأيام. كان الأهل لا يستسيغون الانفصال عن فلذات أكبادهم ولو لبضع ساعات في النهار. ذلك لسبب وجيه كان الأولاد في نظرهم . يداً عاملة في الحقول أو رعي الماشية، وغيابهم يؤدي إلى خسارة في الدخل. وكان عليّ أن أقاتل، حتّى مع صديقي فارس.



  • هل تعلم القراءة والكتابة يجعلنا أذكى أو أفضل؟ ما فائدة التربية؟ التعليم؟ انظر إلى نفسك! أتظن أنك لو كنت تلقيت تعليما عالياً لكنت رجلاً أكثر تألقاً مما أنت عليه؟ إن ما لديك من قوة وطاقة ما كان لأي مدرسة أن تغرسهما فيك.


عاينت فارس لبرهة وجيزة.



  • أنت أب لولدين، أليس كذلك؟


أوماً برأسه موافقاً.



  • لو خيرت بين أن تعطيهما بيتاً صغيراً من بضعة أمتار مربعة مع إطلالة وحيدة على بستان نخيل وجمل، أو أن تعطيهما قصراً بآلاف الغرف من حيث يمكنهما أن يتأملا
    العالم كله، فأيهما تختار؟


ضحك فارس




  • أيهما أختار؟ أعطيهما القصر طبعاً.




  • هو ذاك. فهمت كلّ شيء. هذا القصر هو التعليم وآلاف الغرف التي فيه. كلّ كتاب يقرأه الصغار، وكلّ معلومة جديدة، سوف يفتحان عيونهم على عوالم جديدة، وانفعالات جديدة، ومشاهد طبيعية لا متناهية، ولسوف يُبدعون هم أيضاً بدورهم. أنت لا تريد أن تحرم ولديك من هذه الثروة طبعاً.




كان كلامي مقنعاً، ففي اليوم التالي أخذ فارس ولديه إلى مدرسة المويجعي.


لقلة ذات اليد، كنتُ، على سبيل التشجيع، أقدم البلح، أو الفاكهة، وبعض الروبيات لذوي التلاميذ الأكثر مواظبة على الدروس حولنا كان العالم في تطوّر مستمر. وكنت مدركاً كل الإدراك أننا بدأنا سباقاً مع عقارب الساعة.


لم تتح لي يا للأسف فرصة الالتحاق بالجامعات الكبيرة، بخلاف أبنائي خليفة، أو سلطان، أو محمد، الذين شجّعتهم على الالتحاق بالأكاديمية العسكرية الملكية في ساندهرست». وليس بمستبعد أن يكون هذا النقص هو الذي دفعنى طوال حياتي إلى أن أجعل من التعليم أولوية. التعليم مرادف للتقدّم أيضاً. على العكس من أخي، لم أفكر يوماً أنّ التقدّم كان فأساً في يد مجنون. في المقابل، أُدرك تماماً أن التنمية إذا كانت على حساب هوّيتنا فقد تكون ضارّة. في الحقيقة، علينا أن نكون أشبه بالعَجَلة. إنها تدور، لكن مركزها بلا حراك.


تلخيص النصوص العربية والإنجليزية أونلاين

تلخيص النصوص آلياً

تلخيص النصوص العربية والإنجليزية اليا باستخدام الخوارزميات الإحصائية وترتيب وأهمية الجمل في النص

تحميل التلخيص

يمكنك تحميل ناتج التلخيص بأكثر من صيغة متوفرة مثل PDF أو ملفات Word أو حتي نصوص عادية

رابط دائم

يمكنك مشاركة رابط التلخيص بسهولة حيث يحتفظ الموقع بالتلخيص لإمكانية الإطلاع عليه في أي وقت ومن أي جهاز ماعدا الملخصات الخاصة

مميزات أخري

نعمل علي العديد من الإضافات والمميزات لتسهيل عملية التلخيص وتحسينها


آخر التلخيصات

بدينا تخزينتنا ...

بدينا تخزينتنا ولم تفارقني الرغبة بان اكون بين يدي رجلين اثنين أتجرأ على عضويهما المنتصبين يتبادلاني...

خليج العقبة هو ...

خليج العقبة هو الفرع الشرقي للبحر الأحمر المحصور شرق شبه جزيرة سيناء وغرب شبه الجزيرة العربية، وبالإ...

فرضية كفاءة الس...

فرضية كفاءة السوق تعتبر فرضية السوق الكفء او فرضية كفاءة السوق بمثابة الدعامة او العمود الفقري للنظر...

‏@Moamen Azmy -...

‏@Moamen Azmy - مؤمن عزمي:موقع هيلخصلك اي مادة لينك تحويل الفيديو لنص https://notegpt.io/youtube-tra...

انا احبك جداً ت...

انا احبك جداً تناول البحث أهمية الإضاءة الطبيعية كأحد المفاهيم الجوهرية في التصميم المعماري، لما لها...

توفير منزل آمن ...

توفير منزل آمن ونظيف ويدعم الطفل عاطفيًا. التأكد من حصول الأطفال على الرعاية الطبية والتعليمية والن...

Le pêcheur et s...

Le pêcheur et sa femme Il y avait une fois un pêcheur et sa femme, qui habitaient ensemble une cahu...

في التاسع من ما...

في التاسع من مايو/أيار عام 1960، وافقت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية على الاستخدام التجاري لأول أقر...

أهم نقاط الـ Br...

أهم نقاط الـ Breaker Block 🔹 ما هو الـ Breaker Block؟ • هو Order Block حقيقي يكون مع الاتجاه الرئي...

دوري كمدرب و مس...

دوري كمدرب و مسؤولة عن المجندات ، لا اكتفي باعطاء الأوامر، بل اعدني قدوة في الانضباط والالتزام .فالم...

سادساً: التنسيق...

سادساً: التنسيق مع الهيئة العامة للزراعة والثروة السمكية وفريق إدارة شؤون البيئة لنقل أشجار المشلع ب...

I tried to call...

I tried to call the hospital , it was too early in the morning because I knew I will be late for ...