لخّصلي

دبي ليست صدفة. دبي ھي ثمر ُة رحلة استمرت أكثر من 185 عاماً. دبي ھي قصةٌ طويلةٌ من الكفاح والتغلُّب على مخاطر هدّدت وجودَها واستمراريَّتها. دبي الیوم دانةُ الدنيا، وستبقى بإذن الله.

بدأت رحلة دبي مع الشیخ مكتوم بن بطي في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، وھو الحاكم الذي رسّخ الإرث الحالي للعائلة ووضع حجرَ الأساس لإمارة دبي. وكان هدفه الأول جعل دبي مكاناً آمناً لكلّ سكانها. ثم خلفه شقيقه سعيد بن بطي الذي أرسى عدالةً مطلقةً في الإمارة الناشئة . عاملٌ رئيسيٌّ في استمرارية دبي عدالتها مع القريب والبعيد، وجزءٌ أساسيٌّ من إرث الأسرة الحاكمة في دبي ھو العدالة. لا نَظلِم ولا نُظلَم. العدالةُ التامة هي الدرس الأول في دستور دبي غير المكتوب.

وجاءت سنونٌ شداد في عھد سعید بن بطي، انتشرت فیھا الحروب بین القبائل، بین أبناء الدم وأبناء العم. رسّخ الشیخ سعید الأمن الداخلي بقوة، واستطاع إبرام تحالفات مع أبوظبي وبقیة الإمارات الأخرى المجاورة، واستطاع أيضاً التعاملَ مع البريطانیین الذين حكمت علاقتنا معھم معاھدة. حفظنا حقّنا بالسیادة الفردية تحت بنود المعاھدة. وكانت لندن تشرفُ على الشؤون الخارجیة والدفاع. العلاقات المتوازنة مع الجمیع والتحالفات المستمرة ھي الدرس الثاني في دستور دبي غير المكتوب. لا نعادي أحداً ولا عذر لأحدٍ أن يعادينا.

ثم جاء الشیخ حشر بن مكتوم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حیث استمر حكمه سبعة وعشرين عاماً شھدت خلالھا دبي مزيداً من الاستقرار والتمكین، وعُرف بحكمته وحزمه، مولیاً أھمیة قصوى للالتزام بالمعاھدات التي أبرمتھا دبي مع البريطانیین ومع الإمارات المجاورة. في العام 1886، خلفه الشیخ راشد بن مكتوم الذي حكم دبي ثماني سنوات، عمد خلالھا إلى تعزيز استقرار دبي، أمنیاً واقتصادياً. ومن بعده جاء مكتوم بن حشر الذي استلم مقالید الحكم أواخر القرن التاسع عشر. وكان مكتوم صاحب نظرة اقتصادية عبقرية، حیث حقّقت دبي في عھده ازدھاراً اقتصادياً لافتاً، مرسیاً قواعد التجارة
والاستثمار فیھا.

في العام 1902، على إثر زيادة في فرض الضرائب عبر أرجاء الخلیج عند میناء لنجة، ألغى الشیخ مكتوم بن حشر جمیع الرسوم الجمركیة على الواردات، وفتح ميناء دبي للجميع، ورحّب بجميع التجار.

ونتیجة لسیاسته التحريرية ھذه، تدفّقت البضائع الهندية إلى میناء المدينة، وباتت دبي خلال فترة وجیزة مركز الخلیج لإعادة التصدير إلى الموانئ والأسواق المجاورة. وسرعان ما انتقل عددٌ كبیر من تجار الخلیج الرئیسیین إلى دبي، واتّخذوها مقرّاً إقلیمیاً لهم. وھذا ھو الدرس الثالث في دستور دبي غیر المكتوب؛ الانفتاح على الجمیع، وتحرير التجارة أمام الجميع، والترحیب بكل من يريد أن يضیف شیئاً لاقتصادنا.

بعد وفاة الشیخ مكتوم بن حشر في العام 1906، حكم الشیخ بطي بن سهيل دبي ست سنوات، قبل أن يخلفه سعید بن مكتوم، الذي انتقلت دبي في عهده إلى مرحلة جديدة تماماً أرست خلالھا نواة المدينة الحديثة.

بدأ جدّي الشیخ سعید بن مكتوم فترة حكمه التي استمرت نحو خمسة عقود في العام 1912. فشهد عدد سكان دبي في عهده زيادةً كبیرة، وازدھرت التجارة البحرية في مجال الأقمشة والأعشاب والبخور وغیرھا، واستمر الشیخ سعید في تبنّي سیاسات الاقتصاد المفتوح وتحرير التجارة من جمیع أشكال الرسوم، بما في ذلك الرسوم الجمركیة المفروضة مسبقاً على تصدير اللؤلؤ الذي كان يشكّل أكبر قطاع للتجارة حتى ذلك الوقت، إلى أن حلّت الكارثة في ثلاثینات القرن العشرين بانهيار تجارة اللؤلؤ. توقفت حركة الحیاة الاقتصادية، لكن دبي لم تتوقف عن البحث عن مستقبلھا. تعمَّقت أزمتنا الاقتصادية مع الحرب العالمیة الثانیة، وتعمَّق معھا الإصرار لدينا للبحث عن بدائل. وقّع الشیخ سعید في مايو من العام 1937 اتفاقیةً للتنقیب عن النفط مع شركة الامتیازات النفطیة البريطانیة، حیث تم تحويل الامتیاز إلى شركة تطوير نفط الساحل المتصالح، وھي فرع من شركة نفط العراق. واستغرقت الاتفاقیة 20 شهراً من المفاوضات، ونصّت على منح الشركة حقوق التنقیب لمدة 75 عاماً لقاء رسوم امتیاز سنوية بقیمة 30 ألف روبیة هندية. علّقت دبي آمالاً كبیرة على اكتشاف النفط في مناطقھا، خاصة عندما وعدت الشركة بدفع 200 ألف روبیة لحكومة دبي خلال شهرين من اكتشاف كمیات تجارية من النفط، فضلاً عن ثلاث روبیات عن كل برمیل مصدَّر من النفط. بید أن الشركة أخفقت في العثور على النفط، ولكن دبي استمرت في البحث عن البدائل.

"تنويع المصادر هو وصيّةٌ تتوارثها الأسرة الحاكمة، هو الضمان أن ما وصلنا إليه بعد رحلة الكفاح لا يمكن أن نتخلّى عنه بالاعتماد على مصدر واحد فقط للحياة"

واصلت دبي رحلة كفاحھا ورحلة البحث عن مستقبلھا. واصلنا التركیز على ما نجید فعله أكثر من أي شيء آخر: التجارة بشكل عام، وإعادة التصدير على وجه الخصوص. اعتاد التجّار أن يستوردوا بضائع من مختلف الأسواق إلى دبي بكمیات كبیرة وبأسعار منافسة، وإعادة تصديرھا من دون ضريبة إلى أسواق المنطقة. وكان الذھب أھم سلعة يُعاد تصديرھا من دبي، خاصة بعد الحرب العالمیة الثانیة. لكن ھذه التجارة توقفت فجأة عندما منعت العديدُ من دول المنطقة استيرادَ الذهب لأسباب اقتصادية. جلبت إعادة تصدير الذھب معها شائعاتٍ لا أساس لها، تقول إن حكومة دبي كانت تُشجّع تهريب الذهب إلى شبه القارة الهندية. بید أن الذھب كان يتم استیراده إلى دبي بشكل قانوني تام، ووفق الاتفاقيات المبرمة بین البنوك والشركات التي تبیع الذھب إلى التجار المحلیین، وكان يُعاد تصديره بشكل قانوني كذلك. أمّا ما يحدث للذھب بعد مغادرته حدود الإمارة فهو لیس من مسؤولیتھا. تحرّكت بريطانیا ضد دبي في موضوع الذھب، وبدأت في إجراء تحقیقات كثیرة حول شكاوى تهريب الذھب، لكنھا لم تجد أيّ حجّة لوقف تجارته لأنها تأكدت من قانونیّتھا. لعب الذھب دوراً حیوياً في إنعاش تجارة إعادة التصدير بدبي في الخمسینات والستینات، لكنه لم يكن البضاعة الوحیدة التي يُعاد تصديرھا، فقد شُحنت مئات الأنواع من السلع والبضائع الأخرى إلى دول الخلیج وإيران والعراق وشبه القارة الھندية وشرق أفريقیا.

وصيّةُ جدي لنا ھي التنوع الاقتصادي وعدم الاعتماد على مصدر واحد؛ وھو ما سار علیه أبي الشیخ راشد من خلال بناء الموانئ، وتوسیع الخور، وتطوير المناطق الحرة والمطار، وإطلاق الشركات الكبرى.

كثیراً ما يسألني الناس بانبهار لماذا تطلق دبي باستمرار مشاريعَ جديدةً ومختلفة؟ مناطق للإعلام، ومدينة للإنترنت، ومسرعات للتقنیة، وموانئ في كافة أنحاء العالم، ومطارات جديدة، وشركات في قطاع الطیران والألمنیوم والعقارات والتقنیات المتقدمة والصیرفة الإسلامية والتقليدية وغیرھا؟ لماذا كل هذا؟ الإجابة ھي في دستور دبي غیر المكتوب؛ تنويع المصادر ھو القاعدة الرابعة لنجاح دبي، هو وصيّةٌ تتوارثها الأسرة الحاكمة، ھو الضمان أن ما وصلنا إلیه بعد رحلة كفاح استمرّت أكثر من 185 عاماً لا يمكن أن نتخلّى عنه بالاعتماد على مصدر واحد للدخل، ومصدر واحد فقط للحیاة.