لخّصلي

(۲) النص الشعري ومستويات التأويل

قراءة في نص ( الحجر الصغير ( لإيليا أبي ماضي " ( ١٨٩٠م - ١٩٥٧م) بدءًا استطاع النقاد والأدباء العرب على مختلف الحقب أن يُجسدوا النظريات التي تترجم أفكارهم وتوجهاتهم في أعمال متعددة قدموها إلى القارئ ويعد الشاعر إيليا أبو ماضي أحد الشعراء التي جرت عليه الأقلام النقدية ، ووصفوا شعره بأنه يحوي مسحة فلسفية مشبعة بالتأمل والتدبر ، كما يتضمن جملا من المشاعر المتناقضة ما بين التشاؤم والتفاؤل إن من أبرز سمات الشعر المهجرى نزعته التأملية ، التي تحاول استبطان العالم الحسي والحياة الإنسانية لكشف أسرارها وكوامنها الخفية اعتمادًا على الحدس . بوصفه إدراكا أو إحساساً روحياً . الممتزج بالصوفية التي تضفي هالة من القداسة على الطبيعة بمظاهرها الحية والجامدة ، من حيث كونها رموزا تختزن دلالات روحية تقترب فى ماهيتها من الحقيقة الإنسانية ، ومن هنا كانت استجابة الشاعر المهجرى للطبيعة ضربا من ضروب التماهي والاندماج التي تصبح الطبيعة في إطارها كائناً مشخصاً – أنسنة الأشياء - ، يبوح له الشاعر بما في نفسه من خلجات، ويُناجيه كما يناجي العاشق الصوفي في خشوع حبه المستحيل والشاعر " إيليا أبو ماضي في طليعة الشعراء المهجريين (1) الذين حمل شعرهم تلك الملامح الفكرية التي تكاد تشمل أغلب تجربته الشعرية ، فقد جعل من الظواهر الطبيعية ، والكائنات الحية معادلات موضوعية يُجسد عبرها رؤاه الفكرية ، ومواقفه النفسية إزاء الحياة والإنسان ، ولذلك فإننا نرى أن تلك الكائنات الطبيعية الواردة في قصائده (الحجر) و (التينة الحمقاء) و (زهرة أقحوان ) و (البلبل ) و (الغراب) و (الكنار (الصامت) وغيرها ، ليست إلا رموزاً خاصة، حملها الشاعر رؤيته للعالم على نحو رمزي ، ليؤدى دلالة أعمق مما رمز : يمكن أن تؤديه اللغة المباشرة ، وهي محايثة لدلالة رموز ، مثل : (المطر) و (جيكور) عند الشاعر بدر شاكر السياب" ، و (الأفعوان) ، و السمكة العملاقة ( في قصيدة ( لعنة الزمن ) ، و (الخيط المشدود في شجرة السرو) للشاعرة نازك الملائكة ، وغيرها من الرموز الشعرية عند العديد من الشعراء العرب المحدثين وهذا ما يجعلنا نختلف مع ما يذهب إليه بعض النقاد والدارسين أمثال الدكتور محمد فتوح أحمد في كتابه الرمز والرمزية . صص: ۱۹۱، ۱۹۲ ) بأن تلك المظاهر الفنية عند إيليا أبي ماضي ليست رموزاً ، وإنما هي بمثابة استعارات ، فيقول : " إن كثيرا من شعر أبي ماضي قد يبدو للوهلة الأولى رمزيا ليس كذلك على الحقيقة ، بل هو من باب الكناية أو الاستعارة الرمزية ، وهي قالب قصصي تشير فيه الشخصيات والأشياء إلى أفكار معينة يريد الكاتب أو الشاعر تقريرها ، وهي في الغالب ذات غرض خُلُقي أو تعليمي يمكن استخلاصه بسهولة بمجرد قراءتها ، بل كثيرًا ما يعفينا الشاعر من مشقة استخلاص الفكرة بجهدنا الذاتي ، فيقررها تقريرًا مباشرًا في نهاية القصيدة على شكل حكمة أو مغزى عام " ، وهذا غير دقيق ، لأن الاستعارة تقوم على علاقة شبه موضوعية، سواء أكانت موضوعية واقعية أم نفسية ، أما الرمز ذو الدلالة الخاصة ، وحتى غيره مما يحمل دلالات أخرى ، فإنَّه موضوع شحن بدلالات خاصة لتمثيل موضوع آخر يكشف عنه سياق النص نفسه ، دون الحاجة إلى الإتكاء على مرجعية خارجية ، ولذا فإنَّ لكُلِّ شاعر رموزه الخاصة ، التي لا تفهم دلالاتها إلا في إطار نصوصه الشعرية، أو تجربته الإبداعية برمتها ، بينما نلاحظ أن الاستعارة يظل فيها المُستعار مرتبطا بمرجعية المستعار له الخارجية وإلا لم تتحقق الاستعارة . يقول " ريفاتير " في تعريفه للقصيدة : " بأنها شيء يقول شيئًا ويعني شيئا آخر " وهو لا يشير هنا إلى المعنى السطحي للنص الشعري أو الظاهري ، وإنَّما يُشير إلى معنى آخر يتجسد في الرمز .

وفي ضوء تلك الاعتبارات نرى أن الرمزية عند إيليا أبي ماضي رمزية خصبة عميقة الدلالة ، قد تصل إلى درجة الغموض أو الإيهام في بعض النصوص مثل ( زهرة إقحوان ) ، التي تطغى عليها أجواء نفسية ربما لا شعورية من الغموض ، بحيث إنها تكون عرضةً لاحتمالات عديدة من أوجه التأويل الدلالي ، ولا تكاد قصيدة ( الحجر الصغير ) تقل عُمْقاً عن تلك النصوص الرمزية، على الرغم مما يبدو على سطحها من شفافية لغوية وبنائية توهم بتمركز دلالتها في بنيتها السطحية ؛ لكن بإمعان النظر في سياقها الكلى والوقوف المتأمل عند بعض مفرداتها اللغوية والسياقية، تكشف عن الدلالات العميقة ، التي لا يبوح بها النص إلا بعد إعمال الفكر والروية ، وهو ما ستتعاطى معه هذه الدراسة ؛ بدءًا من عنوانها الذي يشي برمزية عميقة تحمل في طياتها مأساة ذلك الحجر وتتعدد رمزية الحجر اللغوية والسيميائية مما تلفت انتباه القارىء بدءًا وقبل ولوجه النص وفك شفرته والقبض على رسالته ؛ فإيليا يرمز بالحجر للإنسان الذي لا يُدرك قيمته ويستصغر نفسه في هذه الحياة - فيُقدم على الإنتحار ، إلا أنه في حقيقة الأمر جزء أساسي في بناء هذا الكون ، ولذلك عندما يتخلى عن دوره ينهار البناء كله ، وهذه الدلالة الرمزية لها أصل لغوي ؛ فالحجر يستخدم في اللغة رمزا للإنسان الداهية كما جاء في لسان العرب ، يقال : " رُمي فلان بحجر الأرض إذا رمي بداهية من الرجال ... وبالرغم من قدم الحجر - بأشكاله المختلفة في الشعر العربي إلا أنه اكتسب نوعا من الخصوصية في الشعر الفلسطيني المعاصر . أما على المستوى الفكري والفلسفي نجد الشاعر يهدم معتقد استصغار بعض الناس قيمتهم في تلك الحياة لدورهم الضئيل الذي يؤدونه في الحياة ، فهو يهدم هذا المعتقد من أساسه من خلال تلك القصة الرمزية " فلوى أعناقنا وجعلنا تراجع معتقداتنا البالية التي تكمن داخلنا ؛ فالشاعر حمل إلينا هدم ذلك المعتقد في صورة فنية أذهبت عن الفكر جفافها ولا غرو أن النص يستمد إيحاءات متنوعة وعديدة في ثنايا القراءة الفاحصة التي تُعري المسكوت عنه عبر رمزيتها المهيمنة وتكثيفها الدلالي واتساع مراميها ، وتبور ثيماتها بفعل الوعي المفهوم لها .. فنظراً لأن النص يعالج قضية إنسانية عامة ليست قصراً على المستوى الذاتي أو الفردي في الخطاب الشعري ، فقد ولد النص مجموعة من الدلالات المطروحة ، منها : ( البحث عن الذات أو الهوية - والاغتراب والفقد ) . فصار النص حمال أوجه أو هو الواحد المتعدد بحسب الاستعارة المفهومية لـ " رولان بارث " .

لقد بات استخدام الشعراء المحدثين للرمز في شعرنا المعاصر أمرًا ضروريا ، وذلك لما تحمله هذه الآلية من أبعاد دلالية وفنية ترقى بالشعر إلى مستويات عظيمة تجعله قريبا إلى نفس المتلقي ، استطاع " إيليا توظيف رموزه بإتقان وإحكام ودقة في التناول والاستعمال إذ أعطى الرمز بعدا إيحائيا بالمضمون الذي يقصده، وجعل للكلمة الشعرية طاقة إيحائية تشع بطاقات تعبيرية شتى، إذ تبدأ " مرايا المعنى من عتبات النص وحتى آخر كلمة فيه".