لخّصلي

يعتبر العمل العسكري من أهم جوانب الثورة، بل هو أهمها؛ لأنه يهيئ موازين القوى للمفاوضات، فالنجاح السياسي هو ثمرة النجاح العسكري.وللوقوف على جزء من هذه الحقيقة قامت هذه دراسة المتواضعة بتتبع جل العمليات العسكرية، في إحدى مناطق الثورة الخمس عند انطلاقها وهي المنطقة الثانية، إلى غاية مؤتمر الصومام. إن بساطة عمليات الفاتح من نوفمبر من حيث القوة والانتشار_ فقد كانت محدودة جدا_ أفرز ركودا، ما لبث أن تعمق هذا الركود بعد استشهاد قائد الناحية الرابعة " باجي مختار "؛ ثم استشهاد قائد المنطقة " ديدوش مراد " وإصابة القائد الجديد " زيغود يوسف " ، في نفس المعركة. غير أن هذا الوضع لم يدم طويلا، فقد ظهرت العمليات بشكل أقوى من جديد مع نهاية الثلاثي الأول من سنة55، ومن أهم تلك العمليات : العملية الفدائية بقسنطينة أمام الكازينو البلدي في 30 أفريل55، التي كان لها صدى واسعا، لأنها أدخلت المنطقة في المعركة من جديد من قلب عاصمتها. لقد كانت العمليات دقيقة ومركزة، حققت جملة من الأهداف: _ فالعمليات التخريبية، جعلت من الجماهير الشعبية تنجذب للثوار، لأنهم رأوا فيهم المخلص لهم من ظلم المعمرين؛ وفي نفس الوقت كان فيها ترهيب للمعمرين، وحملهم على التفكير في المغادرة، وفعلا قرر كثير منهم المغادرة، فقد كتبت البصائر في جانفي 56 بعنوان: الركنية بلدة 232 للبيع؛ فأغلب المعمرين بها عرضوا الدور والأراضي للبيع. أما العمليات الفدائية فقد أعطت الثقة لمن يريد الانضمام إلى الجبهة بأن الثورة قادرة على تطهير الصفوف ، وبثت الرعب في نفوس المناوئين والذين يفكرون في الانحياز للاستعمار، لأن الثورة قادرة على تصفية الخصوم، أينما كانوا؛ وفي مثال على ذلك : عملية كازينو قسنطينة الثانية في 30 جوان 1956 ، فقد أحدثت رعبا حقيقيا لوجود لبار المسئولين لحظة الانفجار، وعلى رأسهم " موريس بابان " لقد انحازت الجماهير كلية لما ضرب الثوار بقوة في ناحية الميلية، في ذكرى 08ماي 45 ، وأحسوا أن الثورة ثورتهم، وأنها تعبر عن حقيقة ما في صدورهم. فكانت النتيجة أن الميلية وما جاورها، صارت مركزا حقيقيا للثوار. لقد أدى نجاح هذه العمليات إلى التطور السريع للثورة وهياكلها التنظيمية، وانتشارها في كامل تراب المنطقة؛ فما كانت تنتهي سنة 55 حتى كان التنظيم قد وصل إلى سطيف والعلمة جنوب الناحية الأولى كما أدى نجاحها إلى ازدياد الثقة في النفس وبروز قيادات ميدانية ذات كفاءة عالية، كان لها الدور البارز في تغيير مسار الأحداث، وفرض الحقيقة الواقعية على جيش الاستعمار، من أمثال هؤلاء القادة: زيغود يوسف مهندس أحداث 20 أوت 55 ، وبن طوبال وصالح بوبنيدر ومسعود بوجريو ...وغيرهم من الذين لم يدخلوا الكليات العسكرية العالمية الكبرى، ولا حتى المدارس الثانوية، ولكنهم تعلموا من العمليات 233 العسكرية في الميدان، وصقلتهم التجربة الميدانية، وطور حسهم الأمني إخلاصهم لوطنهم، وللجماهير الشعبية التي وضعت كل ماتملك في كفة، ونجاح الثورة في الكفة الأخرى. لقد أصبحت المنطقة الثانية بحلول سنة 1956 مثالا في التنظيم، وقوة في الانضباط، ولذلك لم تعرف المنطقة، أي صراع داخلي على شكل ما وجد في المنطقة الأولى، ولا الصراع مع الحركات المناوئة، كالمصالية في المنطقة الثالثة وغيرها؛ إلا ما عرف عن الثلاثة الذين أعدموا بتهمة خيانة الثورة بالانتماء إلى MNA ، ومحاولة خلخلة الصفوف، وهم: إسماعيل زيغاد، الشريف زادي، وعبد السلام بخوش. وقد ازدادت المنطقة تنظيما بتأسيس المجالس الشعبية في المناطق المحررة بعد هجومات أوت 55، ثم صار هذا التنظيم معمولا به في الولايات الأخرى بعد أن اعتمده مؤتمر الصومام. لقد أصبحت المنطقة الثانية تشكل خطرا حقيقيا على الاستعمار، فقد أنستها في منطقة الأوراس، ولذلك عمدت الادارة إلى إحداث منصب جديد خاص بالمنطقة الثانية دون غيرها، أسند إلى " بابان" تحت اسم _ مفتش عام للإدارة مكلف بمهمة خاصة في عمالتي قسنطينة وعنابة" كما يجدر بنا أن نشير إلى عمليات 20 أوت 1955 التي كان لها الأثر البالغ على المناطق الأخرى، فكثفت عملياتها ضد الاستعمار ومؤسساته وقطعت الشك باليقين، إذ أدركت الإدارة الاستعمارية أنها الحرب، وأن ملف تسوية أحداث عيد القديسين عبر الإصلاحات قد طوي نهائيا. 234 لقد أقنعت العمليات العسكرية المختلفة العالم الحر، بعدالة القضية الجزائرية، وبينت الوجه الحقيقي للثوار كونهم أصحاب حق، وليسوا خارجين عن القانون_كما تدعي سلطات الاحتلال_فكان ذلك نصرا إعلاميا. لقد لمست من خلال هذه الدراسة المتواضعة، أن كل فصل من هذه الفصول، يتطلب دراسة مستقلة، وبحثا منفصلا، للإحاطة بالموضوع من جميع جوانبه. كما لايفوتني أن أنبه المهتمين بالبحث في قضايا الثورة التحريرية، أنه ثمة مواضيع تحتاج إلى بحث ودراسة، منها: العمل الفدائي في عنابة وقسنطينة، التنظيم العسكري والسياسي للثورة في الشمال القسنطيني، هجومات 20أوت وأثرها على تطور الثورة، المجاس الشعبية في الدواوير أثناء الثورة، التضامن الدولي بعد هجومات 20أوت...، وغيرها من المواضيع، فالثورة لاتزال مادة خام تحتاج إلى أقلام من المدرسة الجزائرية، لتجلية الحقائق وتفنيدها. وإنني لأرجوا أن أوفق لتناول أحد هذه المواضيع في المستقبل، فق تفاعلت معها كثيرا. 235