لخّصلي

من المصطلحات الأكثر التباسا وإثارة هو مصطلح "ما بعد الحداثة"، حيث اختلف حوله النقاد والدارسون نظرا لتعدد مفاهيمه ومدلولاته من ناقد إلى آخر. بل أن المعاني التي قدمت للمفهوم متناقضة فيما بينها ومختلفة ومتداخلة، حتى أثير حول استخدام مصطلح "ما بعد الحداثة" نقاش مستفيض. ولهذا يعتبر مصطلح "ما بعد الحداثة من أهم المصطلحات التي شاعت وسادت منذ الخمسينيات، ولم يهتد أحد بعد إلى تحديد مصدره. فهناك من يرجعه إلى المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي عام ١٩٥٤م، وهناك من يربطها بالشاعر والناقد الأمريكي تشارلس أولسون في الخمسينيات، وهناك من يحيلها إلى ناقد الثقافة ليزلي فيدلر، ويحدد زمانها بعام ١٩٦٥م. وتختلف أفكار ما بعد الحداثة عن مفاهيم الحداثة السابقة، فهو يشير، بصفة عامة، إلى تيار فكري نشأ في الأصل كرد فعل للحداثة. ولقد تم صياغة مصطلح "ما بعد الحداثة عام ١٩٤٩م، ويوصف بأنه حركة فنية أكثر من أن / يكون فترة تاريخية، وعادة ما يكون وصفا للفنون، ولكن ليس لأي حدث في التاريخ الحالي. وقد تبدل هذا عندما تمت صياغة مصطلح "ما بعد الحداثة" الوصف التغيرات المهمة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي في الاقتصاد، والاجتماع، والثقافة، والفلسفة. ونظرا لأن ما بعد الحداثة مفهوم فضفاض وغامض، فقد أدى هذا إلى تعدد صوره. فهو يتدرج من الموقف الرافض للغلو العقلاني الوضعي ورفض الاضطهاد الذي تمارسه الثقافة الغربية بأيديولوجيتها العلمية، إلى أن تصل إلى ما بعد الحداثة المتطرفة الثورية العدمية العبثية التي تدعو للثورة على العقل والعقلانية من أساسهما، وتصل إلى التشكيك حتى في البديهيات. مما حدا بأنصارها إلى الكف عن توضيح ما هي ما بعد الحداثة" والانصراف بدلا من ذلك إلى توضيح ما ترفضه ما بعد الحداثة. ولهذا يمكن باختصار أن نعرف ما بعد الحداثة بأنها اتجاه فكري، يضم خليطا من التيارات، يجمعها رفض الأسس الأنطولوجية أي الخاصة بطبيعة الوجود) والمعرفية والمنهجية التي قامت عليها الحداثة، أو على الأقل يجعلها محل شك. إذ أنه بالنظر إلى توجه ما بعد الحداثة، فإننا نجده قد قام على قواعد أساسية تستند إلى قضيتين أساسيتين الأولى وهى نفي الحقيقة المطلقة على المستوى الأنطولوجي والثانية هي نفي الموضوعية والعقلانية على المستوى الإبستيمولوجي. ولقد كان لهاتين القاعدتين، وما تفرع عنهما من قواعد أثر كبير على العلوم الاجتماعية أو الإنسانية، بعد أن أثبتت البحوث العلمية، التي كانت سلاح الحداثة الأكبر بكشوفاتها الهائلة، يوما بعد يوم ضالة ما يعرفه العقل البشري بالنسبة لما لا يعرفه. كما أكدت تلك الاكتشافات بشكل غير مباشر محدودية عقل الإنسان وأنه ليس كما كان يتصور الحداثيون أنه هو "الإله"، بل أكدت على أنه مخلوق صغير رغم كل قدراته الهائلة. بل إنه يعتريه الضعف والنقص كغيره من المخلوقات، إلى درجة قد لا يوثق فيها بحكمه في بعض الأحيان. مما أدى إلى اختلال النظرة إلى قدرة العقل، الذي كان بمثابة مصدر المعرفة المطلق لدى التيار الحداثي ولقد بينت الاكتشافات العلمية، خصوصا بعد اكتشاف مبدأ اللايفين والفيزياء الكمية بطلان الأوهام التي حيكت عن قدرة العقل والعلم وفندت حتميات القرنين التاسع عشر والعشرين. إذ أن مما لاشك فيه أن ما توصلت إليه العلوم الطبيعية الحديثة في القرن العشرين من مراجعات جذرية للصورة التي تقدمها لنا عن الكون والإنسان قد اختلفت اليوم اختلافا كبيرا عما كان يطنه العلماء في القرن التاسع عشر، وقد أدى ذلك إلى تطورات جديدة في فلسفة العلوم لم تكن تبلغنا أثارها إلى اليوم. ولهذا تلقت تلك النزعات العلمانية المادية والإلحادية والتطورية لعمات شديدة في القرن العشرين نتيجة المجموعة من التطورات الرائعة في علم الطبيعة على أيدي كل من اينشتاین و نیلز بور و هيزنبرج، إضافة إلى التقدم الكبير في علوم الأعصاب فيما يتعلق بفهم طبيعة المخ والجهاز العصبي، والتي اظهرت دور الخواص العقلية في تأثيرها على السلوك، مما أدى إلى ظهور الفلسفة الجديدة للعلم"، و"التوجه الجديد في البحث، الذي يتجاوز النزعة الوضعية التجريبية ويفتح الباب واسعا أمام إعطاء العوامل العقلية والذاتية والروحية في الإنسان مكانها الطبيعي كموضوعات للدراسة "العلمية". ولقد تنبه الباحثون إلى أن إهدار هذا القطاع الحيوي من مكونات الظاهرة الإنسانية كموضوع للبحث واستبعاد الوحي الصحيح وكل المعارف الدينية كمصدر المعرفة الإنسان هي أسباب أساسية للصعوبات التي تواجهنا اليوم في فهم الإنسان والمجتمع وفي التضارب النظري الذي يعوق تقدم العلوم الاجتماعية. ولهذا أحدثت فترة ما بعد الحداثة من حيث كونها منظومة فكرية ارتباكا في الوسط العلمي والثقافي والفني، وجاء خطاب ما بعد الحداثة ببدائل في مجال الفن والفلسفة حيث أعلن عن نهاية التقاليد الحديثة المستندة على كائط وهيجل وماركس، لتحل محلها فلسفة ما بعد الحداثة، وتعلو أفكار نيتشه دریدا، ليوتار كما أثار هذا الخطاب أفكارا في مجال العلم الاجتماعي الحديث حيث يرى فوكو وبودريلارد Boudrillard أن مكانة بل وجود العلوم الاجتماعية والإنسانية بات غير مستقر، بل أصبح يشوبه الفلق بعد الإعلان عن نهاية الاجتماعي" والواقعي، والنظرية، وبروز اللامعنى"، ولهذا يشير أنتوني جيدنز إلى أن العلم الاجتماعي أصبح يواجه مشكلات أساسية.