لخّصلي

خدمة تلخيص النصوص العربية أونلاين،قم بتلخيص نصوصك بضغطة واحدة من خلال هذه الخدمة

نتيجة التلخيص (61%)

(تلخيص بواسطة الذكاء الاصطناعي)

يتناول النص وظيفة العقل في عالمي الشهادة والغيب، مستنداً إلى توجيهات قرآنية. في عالم الشهادة، يحث القرآن على النظر والتأمل في آيات الله، واكتشاف قوانين الكون وعلاقاته السببية، لتحقيق المعنى الإلهي من تسخير العالم للإنسان. يُبرز النص منهج القرآن التدريجي في هذا الأمر، متدرجاً من مستوى معرفي إلى آخر، مُختتماً غالباً بـ"لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" أو "قَوْمٍ يَعْقِلُونَ". ويُشير النص إلى آيات قرآنية كثيرة تحث على النظر في الكون، من عالم الحشرات إلى عالم الأفلاك والنبات والحيوان، وحتى الكون ككل، مع قسم القرآن ببعض هذه الآيات لبيان أهميتها. يُعتبر عمل العقل في هذا المجال واجباً شرعياً وعبادة.

يُحدد النص أركان تكليف العقل بهذه الوظيفة، بما في ذلك قدرة العقل على التعرف على العالم وقوانينه، وزيادة الله للإنسان الحواس الخمس كجنود للعقل، وكونها مناط مسؤولية أمام الله. كما يُوضح النص أن ما غاب عن الحواس الشخصية يمكن تعلمه بطرق أخرى، كعلم المعصوم أو ما تواتر من علم. أما في عالم الغيب، فيختلف الأمر، فالحواس لا تناله، ويُفرق النص بين الغيب النسبي (ما غاب عن الحواس في عالم الشهادة) والغيب المطلق (ما استأثر الله بعلمه). يُناقش النص منهجين في معرفة الغيب: منهج الاعتصام بالنصوص الشرعية، ومنهج الاعتماد على التخيل العقلي. يُؤكد النص على أن منهج السلف، القائم على الإيمان بما جاء به الوحي، هو الأصح والأكثر احتراماً للعقل، مُبرراً ذلك بعدم قدرة العقل على البحث في الغيب، مقارنةً بقدرته على اكتشاف قوانين عالم الشهادة. يُختم النص بمقارنة بين منهجي السلف والمخالفين، مُبيناً أخطاء المنهج المخالف، كاستخدام الألفاظ المجملة والتأويلات البعيدة عن النصوص، واللجوء إلى السياسة والتشنيع بدلاً من الحجة.


النص الأصلي

أولاً: وظيفة العقل في عالم الشهادة


عام الشهادة وهو المقابل الشرعي للعالم الحسي والمحسوسات لدى علماء المناهج أو المعرفة الحسية، وينطلق موقفنا هنا في تحديد علاقة العقل بعالم الشهادة من توجيهات القرآن الكريم التي تجعل النظر العقلي والتأمل في آيات الله أفقية كانت أو نفسية مطالبا شرعيا ، واحيا دنيا على سبيل الفرض الكفائي أحياناً، وقد يرقى في بعض الأحيان إلى مستوى الفرض العيني على شخص بذاته، أو على جماعة معينين بدواتهم، حيث يلزمهم ولي الأمر ويجبرهم على أداء هذه الوظيفة التي تعينت عليهم والتي لا ينهض بها سواهم، حتى تستقيم أحوال الأمة بها، ومن حق ولي الأمر أن يعاقبهم - أفرادا كانوا أو جماعة - إذا لم ينهضوا بهذه المسؤولية التي أصبحت بمثابة الدين الواجب الأداء، كما إذا تعين على جماعة ممارسة مهنة الطب أو صناعة الأسلحة للجيوش، أو فن الهندسة أو القيام بخدمات أخرى لا ينهض بها سواهم


والقرآن الكريم يحث العقل ويدفعه دفعا إلى التعرف على هذا الكون واكتشاف قوانينه، ومعرفة خصائصه والتعرف على العلاقات المتبادلة بين أنواعه وأجزائه للوقوف على خصائص العلاقات السببية الكامنة فيه، لأن ذلك كله يرتبط برسالة الإنسان في هذا الكون والهدف من وجوده، واستخلافه في الأرض وتنفيذه للأمر القرآني باستعمارها.


وهذه المهام لا تتم للمسلم إلا باكتشاف قوانين الأشياء ومعرفة العلاقات السببية فيها، ليستطيع أن يحقق فيها المعنى الإلهي المقصود من تسخير هذا العالم من سمائه إلى أرضه الصالح الإنسان.


ولقد شاع العلم بهذه الآيات القرآنية التي تأمر العقل بالنظر والتأمل، وأصبحت معروفة للعامة والخاصة، ولذلك سوف أعفى نفسي من سردها في هذا المختصر، ولكن الذي يلفت النظر وأنيه إليه أن منهج القرآن في سوق هذه الآيات كان يأخذ بمبدأ التدرج والترقي من مستوى معرفي إلى مستوى آخر أرقى وأدق، ويفتح أمام العقل مجالات للنظر وآفاقاً أرحب للتأمل كان يجهلها العقل من قبل، لتكون مسرحا لنظره العقلي وعمله الفكري، فالكون كله قد أعده الخالق سبحانه وجعله مهيأ للنظر العقلي ليجعل منه حبلاً محدوداً وسيبا موصولاً بين الإنسان العارف وموضوع المعرفة من جهة وغاية هذه المعرفة وهدفها من دهة أخرى، ولذلك كانت آيات القرآن المتصلة بهذا الموضوع تختم غالباً بقوله تعالى: وإن في ذلك لآيات لقوم يتفكَّرُونَ، أو قَوْم يَعْقِلُونَ.


-1- نجد آيات القرآن في هذا الصدد تأمر الإنسان بالنظر إلى البيئة التي يعيش فيها الإنسان وما فيها من أصناف الموجودات من حيث كيفية الصنعة دقة وإتقانا، فتقول له: أفلا ينظرون إلى الإبل كيف الحلقت " وإلى السماء كيف رفعت " وإلى الجبال كيف نصبت " وإلى الأرض كيف سطحت العاشية الآيات 2017 .


والسؤال في هذه الآيات يدور حول كيفية الصنعة وليس عن وجودها، والفارق كبير بين مضمون السؤالين فالسؤال عن كيفية الصنعة لا يملك الإجابة عنها إلا صانعها أو من كان في مستواد من العلم بكيفيتها والغاية والقصد منها .. ولذلك فإن النظر العقلي هنا يدرك من مضمون السؤال حسب استطاعته فقط، فهو يدرك منها ولا يدركها، لتبقى القضية كلها في نطاق الإعجاز من جانب ومطلبا شرعيا للعقل من جانب آخر.


2 وأحياناً يطلب القرآن من العقل ألا يكتفي بمجرد النظر إلى هذا الكون بل لابد أن يخترق ظواهره ليكتشف ماذا في داخله، قال تعالى: وقل انظروا ماذا في السموات والأرض يونس: آية 101، ومعلوم أن الأمر بالنظر في الشيء أعلى درجة من مجرد النظر إلى الشيء، فليصعد الإنسان إلى القمر - إن شاء - أو إلى ما شاء من الكواكب، وليهبط - إن شاء - في باطن الأرض مكتشفا وباحثاً فإن ذلك كله مطلب شرعي في منهج القرآن، لأن رسالة الإنسان في الكون واستعمار الأرض لا تتم إلا بذلك، وحين يخاطبنا القرآن بقوله تعالى: الأهو أَنْشَأَكُمْ مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَركم فيها هود آية 61، فإنه يطلب منا بصيغة الأمر أن تعمل على عمارة الأرض بكل ما تستطيع، والتقصير في تنفيذ هذا الأمر معصية جماعية تجني الأمة ثمرتها فقرا ومرضا ومذلة وهوانا وتخلفا


وتبعية الأمم الأرض.


العقل والكون


وحين يذكرنا القرآن بأحوال الأمم السابقة وكيف جرت عليهم السنن الإلهية في الكون من ازدهار للحضارات أو الخيار لها، فإن ذلك كان على سبيل التعليم والإفادة من الدرس والعبرة من التاريخ، ليكون تاريخ الإنسان نفسه مجالاً رحبا لعمل العقل ليتعرف منه على أساس ازدهار الحضارات والخيارها، ليعي العبرة من قصص القرآن لهذه السنن وعلاقتها بالأفراد والجماعات، فالكون كله مسرح للعقل وميدان لعمله، وتاريخ الإنسان كله مسرح النظر العقل، والعقل مهيا للسيطرة الكلية على الكون واحتواء تاريخه، فكرا وتأملاً، مقدمات ونتائج، علاقات بين الأشياء، أسباب ومسببات تسخيرا وتوظيفا، وتلك مهمة العقل ووظيفته في عالم الشهادة، وذلك واجبه الشرعي الذي نديه القرآن له وحثه عليه وأمره به.


وليس من قبيل المصادفة أن يلفت القرآن نظر المسلم إلى بعض آيات بعينها من آيات الله في كونه جعلها اسما وعلما على بعض سور القرآن، وكأنه يقول للعقل في هذه اللفتة تلك قضية تحتاج إلى نظر وتدبر، وقد يقرأ المسلم هذه الآيات دون أن يعيرها حقها من النظر والتدبر مع أنها تحتاج من القارئ أن يقف أمامها طويلاً وطويلاً، لأنها جاءت بصورة شاملة لكل أنواع الموجودات غالبا.


-1- فهناك آيات تنتمي إلى عالم الحشرات جاءت علما على بعض السور للقرآن، مثل سورة النحل سورة النمل، سورة العنكبوت


-2- وهناك آيات تنتمي إلى عالم الأفلاك والطبيعة كانت علمًا على بعض سور القرآن، مثل سورة الشمس


سورة القمر، سورة الرعد.



  • وهناك آيات تنتمي إلى عالم النبات، مثل سورة التين والزيتون.
    4 وآيات تنتمي إلى عالم الحيوان، مثل سورة البقرة، سورة الأنعام.


-6 آيات تعبر عن الكون كله، سورة الملك.


-7- آيات تعبر عن أصل الإنسان في بعض مراحله، سورة الإنسان.


القسم في القرآن الكريم


ويقسم القرآن ببعض الآيات تنبيها للعقل إلى أهميتها في حياة الإنسان وإلى ضرورة الاهتمام بها فكرا وتأملاً وتوظيفا: وفلا أقسم بمواقع النجوم " وَإنَّه نقسم لوْ تَعْلَمُوْنَ عَظِيم الواقعة: الآيتان 75 76.


وفلا أقسم بما تبصرون ومالا تبصرون الحافة: آية 38


وَاللَّيْلِ إِذا عشعين " والصبح إذا النفس التكوير: الآيتان 17، 18


فلا أقسم بالشفق " والليل وما وسق " والقمر إذا الشق الانشقاق: الآيات 16 - 18


هذه بعض آيات الله في كونه التي يستحث العقل ويدفعه دفعا للنظر والتأمل فيها، وهذا الكون هو عالم العقل ومسرحه الحسي الذي يملك العقل أدوات التعامل معه، ويستطيع السيطرة عليه إن شاء على قدر استطاعته، يجعل القرآن عمل العقل فيه وتعامله مطلبا شرعيا وواجبا دينيا وعبادة يتقرب بها إلى الله يعاقب المجتمع كله على التفريط فيه أو الإعراض عنه.


ومن الأمور اللافتة للانتباه أن الآيات السابقة تتسع دائرتها لتشمل الكون كله من عالم الأفلاك إلى عالم النبات وعالم الجماد، فليس في الكون ما هو غريب على العقل، وليس فيه ما هو فوق مستوى الإدراك العقلي، أو يعز على العقل مثاله، فالكون كله موضوع بحثه وموضوع كده وكبده، وحين يعمل العقل ويستفرغ وسعه بحنا وفكرا وتأملاً يكون حينذاك في عبادة شرعية الله، وكلما ازداد عمله وعلمه ازداد الله خشية ومن الله قربا وإنما يخشى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء.


وينبغي أن يبدأ توظيف العقل في عالم الشهادة من هذا المنطلق القرآني، ومن خلال تحديد القرآن لوظيفته في هذا الكون: لقد نديه للنهوض بها وأتمنه عليها، وطلب منه إعمار الكون تبعاً لهذا المنهج باكتشاف القوانين والتعرف على العلاقات السببية الكامنة في الأشياء، ليسحر الكون كله الخدمة الإنسان وتحقيق مصالحه، وليحقق في ذلك معنى الاستخلاف عن الله في الأرض.


ومن جانب آخر فإن النكوص عن أداء هذه الوظيفة إهدار الطاقة العقل وضياع الرسالة الإنسان، وجريمة في حق الدين والدنيا معاً، وعلاقة العقل بعالم الشهادة على هذا النحو السابق تقوم على أسس معينة يعتبرها القرآن أركاناً لتكليف العقل بهذه الوظيفة، بحيث إذا تخلف ركن منها سقط عن الإنسان ما يقابله من التكاليف الشرعية.


1 - إن العقل يملك القدرة المؤهلة له للتعرف على هذا العالم واكتشاف قوانينه وتحديد العلاقات السببية بين أنواعه، ليجعل منه مملكته التي استخلفه الله عليها.


2- إن الله تعالى قد زود الإنسان بالحواس الخمسة، وجعلها جنودا للعقل يتعرف بها على كل محسوس، وفي الوقت نفسه هي مناط مسؤولية الإنسان أمام الله يوم القيامة، إذا أساء استعمالها أو أهمل توظيفها وإن الشمع والْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُل أولئك كان عنه منقولات الإسراء: آية 36، والتكاليف الشرعية منوطة بهذه الأدوات المعرفية وجودا وعدما، فإذا تخلف واحد منها سقط عن الإنسان ما يقابلها من التكاليف الشرعية، ولذلك كان من القواعد الأصولية: "إذا أخذ ما وهب سقط ما وجب"، وقال تعالى: ولا يُكلف الله نفسًا إلا وسعها الطلاق: آية 7.


-3- هذه الحواس هي روافد المعرفة العقلية عن عالم الشهادة هي جواسيس العقل وعيونه حسب تعبير الغزالي وبدون هذه الجواسيس لا يستطيع العقل أن يعلم شيئًا يقينيا عن عالم الشهادة، فمن فقد حاسة البصر فاته


العلم بعالم المرئيات، ومن فقد حاسة السمع فانه العلم بعالم المسموعات وهكذا شأن بقية الحواس. فكل حاسة مسلطة على عالم معين تتعرف عليه وتنقل إلى العقل أحساسها بهذا العالم المعين.


حاول - أيها القارئ - أن تتخيل معى إنساناً خلقه الله بدون هذه الحواس الخمسة. ماذا يمكن أن يتكون لديه من معلومات يقينية عن هذا العالم الحسي؟، ولذلك كان من الأصول المعرفية أن من فقد حنا فقد علما، فمن العبث أن نسأل الأعمى عن الفرق بين الأسود والأبيض، أو تسأل الأصم عن الفرق بين صوت الإنسان وصوت الحمار، وهذا المعنى يصدق على من يملك الحواس لكنها تعطلت عن العمل لوجود الآفة بها أو وجود مانع قوي كالمريض بالصفراء مثلاً فإنه قد يحس طعم العسل مرا والذي على بصره غشاوة قد يرى الأشياء على غير ماهي عليه، فيرى الصغير كبيرا والكبير صغيرا.


4- أن ما غاب عن حواس الإنسان وتجربته الشخصية، في هذا العالم فقد غاب عن العقل العلم اليقيني به عن هذا الطريق طريق التجربة الحسية، لكن قد يعلمه عن طريق آخر غير تجربته هو، كأن يعلمه عن طريق خير المعصوم صلى الله عليه وسلم مثلاً أو عن طريق ما تواتر العلم به عن الأمم السابقة.. إلى غير ذلك من طرق العلم الأخرى، فكل ما ثبت صدقه عن طريق تجريب الغير له وتم العلم به لزم الأخذ به والعمل بمقتضاه ممن لم يجرب بنفسه، وهذا في عالم الشهادة معلوم بالاضطرار من كل أحد.


فالمريض لا يسوغ له أن يمتنع عن تناول الدواء الذي وصفه الطبيب بدعوى أنه لم يجربه قبل ذلك بنفسه، والأعمى لا يسوغ له أن ينكر ضوء الشمس بحجة أنه لم يره بنفسه، وهكذا بتواتر العلم لدى العامة والخاصة بكلما ثبت صدقه مما جربه غيرنا ولم تدركه حواسنا، وأصبح العلم به، والعمل بمقتضاه لازماً لنا لزوم ما جريناه بأنفسنا


وأدركناه بحواسنا، ولا فرق في ذلك بين ما جربه.


الشخص بحواسه وما جربه غيره، فالأخذ بكل منهما ضرورة عقلية كمصدر من مصادر المعرفة.


ويدخل تحت ما جربه غيرنا العلم بأخبار الأمم الماضية، والأخبار المتعلقة بالعصر الذي نعيشه مما لم يقع منه تحت حواسنا، وما جربه غيرنا منها، كالعلم بسور الصين العظيم، وأن الكعبة في مكة وأن الهرم الأكبر بالجيزة في مصر وكالعلم بنبوة الأنبياء السابقين.


ومما ينبغي أن يعلم أن هناك أمورا كثيرة يقتصر العلم بها على مجرد الإخبار عنها فقط لأن الحواس لا تنالها بسبب غيابها عن الحواس، وليس لنا طريق إلى العلم بها إلا الخير المتواتر، وهذا يشمل علمنا بتاريخ الإنسانية كله فإنه لم ينقل إلينا إلا عن هذا الطريق، ومن العبث إنكار تاريخ الأمم الماضية بدعوى عدم التجريب أو عدم السماع له .


ثانيا: علاقة العقل بعالم الغيب:


علاقة العقل بعالم الشهادة مؤسسة على إدراك كامل بطاقة العقل، وإمكاناته والعلم بوظيفته، والإنسان لو فقد حاسة من حواسيته الخمس، فانه العلم بالعالم الحسن المقابل لها، ولو تحيلنا إنساناً لحلق دون هذه الحواس، فإنه لا يعلم شيئًا عن هذا العالم على سبيل اليقين .


واليقين هنا مطلب أساسي لهذا اللون من المعرفة بعالم الغيب؛ لأن العقل قد يتخيل أمورًا وعوالم كثيرة لا نصيب لها من الواقع، والخيال العلمي له دوره المعرفي في عالم الشهادة، ولا سبيل إلى إنكاره، لكن ينبغي أن تعرف هنا أنه لما غابت الحواس عن العقل، تخلف عنه العلم اليقيني بعالم المحسوسات؛ لأن روافد المعرفة الحسية أصبحت مفقودة


بالنسبة له، فانتقل المستوى المعرفي للشخص من اليقين إلى التخيل، هذا في عالم الشهادة.


أما في عالم الغيب، فإن الأمر يختلف تماما عن ذلك؛ لأن الحواس لا تناله أصلاً، ولا سبيل لها إليه، وبالتالي فإن روافد العقل التي تزوده بالمعرفة بعالم الغيب مفقودة، والتخيل العقلي هنا ليس مطلوبا، لأن مطلوب المعرفة هنا هو اليقين الجازم الذي لا مجال فيه للتخيل، وينبغي أن نفرق هنا بين مستويين المعنى الغيب.


مستويات الغيب:


ا غيب نسي: هناك ما يسمى بالغيب النسبي، وهو ما غاب عن الحواس في عالم الشهادة، ويدخل في ذلك الماضي والمستقبل فكلاهما غيب بالنسبة للحواس، وكذلك الأمر بالنسبة للمحاضر، فهو غيب بالنسبة لمن لم يشاهده، لكنه ليس غيبا لمن عاصره وعاشه، فهناك أمور معاصرة للشخص المعين، لكنه لم يشاهدها لغيابه عنها، فتكون غيبا بالنسبة له، وليست غيبا لمن شاهدها، والشخص الواحد قد يكون الأمر غيبا لديه في وقت دون وقت، وعلاقة العقل بهذا النوع من الغيب النسبي متفرعة من علاقته بعالم الشهادة، فما غاب عنا وجربه غيرنا، لزمنا العمل بمقتضاه عند العلم به.


فما تواتر العلم به عن الأمم الماضية من أخبار الأنبياء عنهم، هو ما يلزم العلم به، وما يتنبأ به العلماء - بناء على المشاهدات العلمية المتكررة - هو من هذا القبيل؛ بناءً على اطراد السنن الإلهية في الكون؛ سواء تعلقت هذه الشئن بالظواهر الطبيعية، أو بالمجتمعات البشرية؛ لأن سنة الله في كونه لا تتخلف إذا وجد المقتضي وارتفع المانع وهذا هو محل اعتبار الإنسان الذي نديه القرآن إليه في نهاية كل قصة يقصها عن الأمم الماضية، حيث يقول - سبحانه وتعالى : فاعتبروا يا أولي الأنصار ( الحشر: 12 ولقد كان في قصصهم عبرة لأولي الْأَلْبَاب ) يوسف: 1111، وإن في ذلك الآية ) [الشعراء: 1.8


تكررت كثيرا في سورة الشعراء هذه التعقيبات القرآنية على قصص الأمم الماضية، وهي تلفت نظرنا إلى الغرض من سوق هذه القصة أو تلك؛ ليقوم العقل بوظيفته فيها - فكرا وتأملاً واعتبارا، وذلك ما نذيه الشرع له، وحله عليه.


ب الغيب المطلق:


وهو ما لا سبيل للعقل إلى العلم به عن طريق الحواس بحالي ما، أو هو ما استأثر الله يعلمه وحجبه عن جميع حلقه؛ قال الله تعالى : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو الأنعام: 159، ومن لا يعلم من في السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الغيب إلا الله ) [النمل: 1.65


ا والغيب قد يطلق في القرآن الكريم ويراد به مكنون العلم الإلهي الذي استأثر الله به عن سائر خلقه، يستوي في ذلك الرسول والنبي والولي، إلا من شاء ربك منهم، فيعيمه الله ما شاء من علمه كيف شاء؛ كما قال - تعالى :- ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ) [البقرة: 255، وعلمك ما لم تكن تعلم ) [النساء: 1.113 فهذا العلم الإلهي غيب عن الإنسان لا ينال بحسن ولا عقل، ولا سبيل إليه إلا بالتعليم الإلهي لمن شاء من عباده، عن طريق الوحي أو الرؤيا أو الإلهام، فهو ليس اكتسابا، ولكنه وهب وعطاء، لا مدخل الروافد العقل المعرفية إليه، ولكن هناك أبواب أخرى لتحصيل هذه المعرفة، يدخل منها أهلها ويسعى إليها عشاقها، كما في قوله تعالى : والقوا الله ويُعلمكم الله ﴾ [البقرة : 1282، ويُعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ) [البقرة: 1.151


فهذا العلم لا ينال بكشب عقلي، ولا يتخيله عقل، ولا يناله وهم، وإنما يتعلم من الله بطريقه المعروف ووسائله المشروعة.ب وهل يُطلق الغيب في القرآن الكريم، ويُراد به الذات الإلهية وصفاتها على ذلك كثير من المفترين في قوله تعالى : الَّذِينَ يُؤْمِنُون بالغيب ) البقرة: (3)، فقالوا: إن الغيب هنا هو الله، نقل ذلك ابن تيمية عن جماعة من الحنابلة، منهم: القاضي أبو يعلى، وابن عقيل، وابن الزاغوني [1] ، وخالفهم في ذلك جماعة آخرون، رفضوا إطلاق لفظ" الغيب على الله.


ويبدو أن الخلاف في هذه المسألة خلاف لفظي، ذلك أن الذين أجازوا إطلاق لفظ" الغيب على الله رأوا أن الخلق يغيبون عن الله في معظم أحوالهم، فلم يذكروه، ولم يعبدوه، ولم يشهدوه في أفعالهم، فهو - سبحانه - ليس بنفسه غالبا عنهم حفظاً ورزقا، ولطفا وعوناً، وإن كانوا هم غالبين عنه: إنابة وتوكلاً، وذكرا وعبادة .


فالمعنى المقصود في استعمال لفظ" الغيب على الله : أنه حاضر مع كل كائن في كونه؛ و ما يَكُونُ مِن نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا لخمسة إلا هو سَادِسُهُمْ وَلا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شيء عليمٌ ﴾ [المجادلة: 1.7


فهو - سبحانه - مع خلقه : علما ورزقا، ولطفا وإحياء وإمانة، وهو - سبحانه - لا يعرب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، فهو - سبحانه - شهيد على العباد، رقيب عليهم، ومع كل كائن في كونه بهذا المعنى، فهم الغالبون عنه، وليس هو الغالب عنهم؛ ولذلك لا يجوز إطلاق


لفظ" الغيب على الله، وهذا المعنى صحيح أيضا.


وعند التحقيق لا نجد خلافا بين أصحاب الرأيين، فأصحاب الرأي الأول يجيزون استعمال لفظ" الغيب "على الله الغياب الخلق عنه، وأصحاب الرأي الثاني يرفضون ذلك؛ لأنه - سبحانه - ليس غالبا عن الخلق - وإن كان الخلق غائبين عنه، وكلا الرأيين صحيح على هذا التفسير، فصارت المسألة خلافا لفظيا فقط.


معرفة الغيب بين منهجين:


والسؤال الذي ينبغي أن نطرحه الآن : ما موقف العقل من التعرف على عالم الغيبيات وقضاياه؟ إن العقل مطالب هنا بالإيمان بالغيب سواء استعملنا لفظ" الغيب "مرادا به معلومات الله التي لا تتناهى، والتي حمل إلينا منها أنبياء


الله ورسله، أو أردنا بها الذات الإلهية وصفاتها، واليوم الآخر والبعث، وقضايا السمعيات عموما؟


لقد سبق القول بأن الذي فقد حواسه يستطيع أن يتخيل في عالم الشهادة ما يشاء؛ لأن عالم الشهادة محسوس والعالم الذي يريد التعرف عليه هو أيضا محسوس، فالتخيل بالنسبة له ممكن، ولكن تظل معرفته بهذا العالم معرفة تخيلية لا ترقى إلى اليقين، ولا ضير أن يحدث ذلك في عالم الشهادة، بل قد يكون ذلك مطلوبا في بعض الأحيان أن يتخيل الإنسان مستقبله على نحو ما، ولكن الإيمان بالغيب لا يكفي فيه التخيل ولا الظن، بل لا بد فيه من اليقين الجازم الذي لا يخالطه شاك، ولا ترقى إليه ريب؟


والإجابة عن السؤال السابق تحمل معالم المنهج المطلوب في علاقة العقل بعالم الغيب، وفي نفس الوقت تطبع أمامنا حقيقة الخلاف بيننا وبين منهج المخالفين في الإيمان بقضايا الغيب؛ فلاسفة كانوا أو متكلمين، قدامي كانوا أو معاصرين، وهذا يفيتر لنا بالتالي سبب الحملة التي شنع بها المخالفون على منهج السلف، واتهموهم خلالها برفض العقل وأحكامه.


إن قضية الإيمان بالغيب هي محل الخلاف بين المنهجين : منهج عرف أصحابه للعقل إمكاناته وطاقاته من جانب، وعرفوا أيضا مطلب الشرع والوحى من العقل والوظيفة التي ناطه بها من جانب آخر.


أما المنهج الثاني، فأطلق أصحابه العنان لعقولهم، فلم يعترفوا بإمكاناته ولا طاقاته، بل قالوا: إن العقل قادر على أن يخضع كل شيء لسلطانه ما غاب عنه، وما حضر ما أدركته الحواس، وما غاب عنها، حتى ما أخبرت به الأنبياء عن عالم الغيب وقضاياه، يجب أن يخضع العلم به وبكيفيته لسلطان العقل، ولا مانع عندهم أن يتخيل العقل ويخلق لنفسه عالمه الغيبي الخاص به، ولا مانع أيضا عندهم من رفض هذا العالم الغيبي وإنكاره، ولم يفرقوا في ذلك بين مطلب الشرع من العقل في عالم الشهادة، ومطلبه من العقل في عالم الغيب، والخلاف بين الموقفين يكمن في المنهج أولاً.


إن أصحاب المنهج الأول وظفوا العقل فيما خلق له في التعرف على عالم الشهادة، وعزفوا له قدره وحدوده في مجال التعرف على عالم الغيب، عرفوا أن العقل في عالم الشهادة مسلّط لاكتشاف الكون وقوانينه، وهو في عالم الغيب متعلم يأخذ العلم من مصادره التي غاب عنها، أو غابت عنه، والتي جاء الخبر عنها معصوما عن معصوم عن الله - سبحانه، عرفوا أن العقل يملك البحث والتعرف على عالم الشهادة، لكنه يفقد جميع الأدوات التي يتعرف بها على عالم الغيب إلا مصدرًا واحدا هو الوحي الذي هو إخبار الله عن ذاته بذاته على لسان رسوله، هذا إذا كان للعقل أن يدعي الإيمان بما جاء به الرسول، أما إذا كان العقل رافضا الأخذ عن الرسول ابتداء، فهذا له شأن آخر، وليس لنا معه هنا من حديث.


أما أصحاب المنهج الثاني، فلم يفرقوا في ذلك بين عالم الشهادة وعالم الغيب في علاقة العقل بكل منهما، ونسوا في ذلك أن روافد المعرفة العقلية إلى عالم الشهادة، يمتلك العقل أدواتها وهي الحواس الخمس، أما بالنسبة العالم الغيب، فلا يملك من أدوات التعرف عليه إلا الجهل المطبق أو التخيل، أو التوهم أو الظن، وكل هذه المستويات المعرفية لا تغني في مجال الإيمان شيئا.


السؤال الآن : أي المنهجين أكثر احتراما للعقل؟ وأيهما أكثر عقلانية: أن نأخذ الحديث عن الغيب وعن الله مأخذ التصديق به كما جاء به الوحي، أم تتخيل له كيفيات عقلية لسنا مطالبين بها أولاً، ولا سبيل لنا إلى العلم بها بالحواس ثانيا ؟


إن القضية هنا تتعلق بتصديق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كل ما أخبر به عن عالم الغيب أو عدم تصديقه.


فإذا كان المخاطب بذلك مؤمنا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبرسالته، وأنه صادق في الحديث عن الله وبما أنزل الله، فلا شك أن كل ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن قضايا العيب يكون عنده حق لا مرية فيه، ولا يجوز للعقل أن يتدخل في ذلك بالتخيل أو التوهم لكى يتأول النص الإلهى على ما تحيله بعقله أو توهمه بطنه.


أما إذا لم يكن له من الإيمان بنيؤة الرسول - صلى الله عليه وسلم - نصيب، فيكون الحديث معه أولاً في تثبيت النبوة وعن دلائل صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر به عن الله، فإذا ما ثبت عنده صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل ما أخبر به، يكون ذلك وحده مدخلاً صحيحا لتسليم العقل بما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الغيبيات، خاصة إذا عرفنا أن قضايا الغيب لم يطلب الشرع منا أن نبحث فيها؛ لا كما ولا كيفا، ولكن طلب منا الإيمان بها على ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقط، ولذلك فإن العلماء قد دونوا معالم المنهج وأصوله، خاصة فيما يتصل بالغيبيات، وكانوا لا ينقلون من الأحاديث إلا ما صح عندهم عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا من الآثار إلا ما له نسب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو إلى أحد صحابته - رضوان الله عليهم - وإذا أرادوا شرح آية أو بيانا الحديث يتعلق بالغيبيات، شرحوا ذلك بالآثار المروية عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وليس بما يمكن أن يفهمه العقل منها؛ يقول الإمام أحمد : نؤمن بها وتصدق بها، ولا ترد منها شيئًا إذا كانت بأسانيد صحاح


وقال في موضع آخر" : أحاديث صحاح تؤمن بها وتقر ، وكل ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأسانيد جيدة تؤمن بها ونقرها "


وقال ابن عيينة : هي حق نرويها على ما سمعناها، ممن تثق به وترضى به، وقال أبو عبيد : إن هذه الأحاديث


ترويها الثقات بعضهم عن بعض. "


وحين روى السلف هذه الآثار النبوية؛ ليؤكدوا بها قضية من القضايا الإيمانية، لم يعلقوا الباب أمام العقل أن يعمل وينظر، ويتدير الأثر النبوي أو الآية القرآنية، لكن بشرط ألا يقدم نظره على الآية أو الحديث، ويجعل ذلك أصلاً له يتأول عليه الآية أو الحديث ويجعل ذلك أصلاً له يتأول عليه الآية القرآنية التوافق أصوله من المعقولات؛ لأن في ذلك أمانا من الزلل والضلال، خاصة أننا لم تكلف من الشرع في قضايا الغيب سوى الإيمان بما ورد عنه فقط.


يقول اللالكالي: "فمن أخذ في مثل هذه المحجة، وداوم بهذه الحجج على منهاج الشريعة، أمن في دينه التبعة في العاجلة والآجلة... ومن أعرض عنها، وابتغى الحق في غيرها مما يهواه أو يروم سواها مما تعداه، أخطأ في اختيار بغيته وأغواه، وسلكه شبل الضلالة وأزداد في مهاوي المهلكة، فيما يعترض على كتاب الله وسنة رسول الله يضرب الأمثال ودفعهما بأنواع المحال، والحيدة عنهما بالقيل والقال، مما لم ينزل الله به من سلطان، ولا عرفه أهل التأويل


واللسان، ولا خطر على قلب عاقل بما يقتضيه من برهان، ولا انشرح له صدر موجد عن فكر أو عيان." إن الاعتصام بالنص الصحيح في قضايا الغيب كان منهجا أقوم في منطق العقل نفسه، ذلك أن العقل مطالب بالإيمان به، وفي نفس الوقت ليس مؤهلاً للبحث فيه، كما هو شأنه في عالم الشهادة، ولم يطلب منه الشرع البحث فيه، لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، ولا يكلفها إلا ما أتاها، وسبيله الوحيد إلى التعرف على الغيب هو خير المعصوم عن الله الذي قال الصحابته : (قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا مالك. ()


وفي القرآن الكريم : وما أتاكم الرسول فخلوة ( الحشر: 17، وعن ابن مسعود : البعوا ولا تبتدعوا."


وكان أهل الحديث هم أحرص الناس على ذلك لاختصاصهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطول ملازمتهم له، وحفظهم العلم النبوي عنه، وشدة تمسكهم بما سمعوه وتقلوه عنه إلى الناس من بعدهم، وذلك دون واسطة بينهم وبينه، فحفظوا عنه ووعوا، واعتقدوا جميع ما سمعوا.


يقول الإمام اللالكائي في كتابه السنة عن هذا المنهج: فهذا دين أحد أوله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشافهة، لم يشبه لبس ولا شبهة، ثم نقلها العدول عن العدول من غير تحامل ولا ميل، ثم الكافة عن الكافة، والصافة عن الصافة، والجماعة عن الجماعة الحد كف بكف، وتمسك خلف يسلف، الحروف يتلو بعضها بعضا، ويتسق أخراها على أولاها - وصفا ولظما - فهؤلاء الذين تعهدت بنقلهم الشريعة، والحفظت بهم أصول السنة، فوجبت لهم بذلك المئة على جميع الأمة، فهم حملة علمه، ونقلة دينه، وسفرته بينه وبين أمته، وأمناؤه في تبليغ الوحي عنه ."


ومن أهم ما غني به أصحاب هذا المنهج حرصهم على صفاته ونقائه، فلم يتأثروا فيه بمثلك الخصوم معهم، ولا بتشنيع المخالفين عليهم، فكانوا يكرهون مناظرة أهل البدع، ويتناهون عن نقل شبهاتهم، أو عرضها على المسلمين مخافة الفتنة بها؛ يقول سفيان الثوري" : من تجمع بدعة، فلا يحكيها لجلسائه، ولا يلقها في قلوبهم." وقال الإمام ابن بطة : الشت براد عليهم بشيء أشد من السكوت."


وقال الإمام أحمد بن حنبل يعلم تلامذته ذلك المنهج، فلقد كتب إليه تلامذته يستأذنونه في أن يضع كتابا يرد فيه على أهل البدع، وأن يحضر مع أهل الكلام، فيناظرهم وتحتج عليهم، فكتب إليهم الإمام أحمد، يقول: "الذي كنا لسمع، وأدركنا عليه من أدركنا من أهل العلم، أنهم كانوا يكرهون الكلام والجلوس مع أهل الرابع، وإنما الأمور في التسليم والانتهاء إلى ما كان في كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا في الجلوس مع أهل البدع والرابع لترد عليهم، فإنهم يلبسون عليك وهم لا يرجعون، فالسلامة - إن شاء الله - في ترك مجالستهم والحوض معهم في بدعتهم


ولقد شعب أصحاب المنهج المخالف من المعتزلة وغيرهم - على أهل الحديث في منهجهم، وشنعوا عليهم. وكانوا ينتصرون عليهم بالسياسة أحيانا، كما حدث في زمن محنة الإمام أحمد، ونالوا منهم كثيرا، فنسبوهم أحيانا إلى الحشو، وأحيانا إلى الجهل ومحاربة العقل، ولا يخفى الأمر على ذي قطنة، إذا انتصرت السياسة المذهب أو رأي، فالويل للمخالفين - ولو كانوا على الحق المبين . ولقد صور كثير من علماء المذهب الموقف الفكري للمخالفين لهم، وأنه لا سند له من علم ديني ولا برهان عقلي، وأن المنهج الذي سلكوه في الغيبيات منهج أخرى، فساده أكثر من صلاحه، فقال: فهو راكض ليله ونهاره في الرق على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والطعن عليهما، أو مخاصم بالتأويلات البعيدة فيهما، أو مسلط رأيه على ما يوافق مذهبه بالشبهات المخترعة الركيكة حتى يتفق الكتاب والسنة على مذهبه، وهيهات أن يتفقا، فهذه حاله إذا نشط للمحاورة في الكتاب والسنة .


فأما إذا رجع إلى أصله وما نتى بدعته عليه، اعترض عليها بالجحود والإنكار، وضرب بعضها ببعض من غير استبصار، واستقبل أصلهما بتهت الجدل والنظر من غير افتكار، فما الغيرات أقدامهم في طلب سنة، أو عزفوا من شرائع الإسلام مسألة، فيعد رأي أصحابه حكمة وعلما، وحججا وبراهين، وبعد كتاب الله وسنة رسوله حشوا وتقليدا، وبعد حملتها جمالاً والهاء، يرمون أهل الحق بالألقاب القبيحة، ومقالتهم هذه لا تظهر إلا بسلطان قاهر، أو بشيطان معاند فاجر، يصل الناس خفيا ببدعته، أو يقهر ذلك بسيفه وسطوته، أو يستميل قلبه بماله؛ ليضله عن سبيل الله؛ حمية لبدعته، وذبا عن ضلالته.


لقد زعموا أنهم أكبر من السابقين في المحصول وفي حقائق المعقول، وأهدى إلى التحقيق، وأحسن نظرا منهم في التدقيق، وأن المتقدمين تفادوا من النظر لعجزهم، ورغبوا عن مكالمتهم نقلة فهمهم، لقد ابتدعوا من الأدلة ما هو خلاف الكتاب والسنة رغبة للعلبة وقهر المخالفين، ثم المخذوها دينا واعتقادا بعد ما كانت دلائل الخصومات والمعارضات، وضللوا من لا يعتقد ذلك من المسلمين، ومن خالفهم وسموه بالجهل والغباوة، هكذا يصور إمام السنة موقف المخالفين منهم، وتشنيعهم عليهم.


ولقد تناهي السلف فيما بينهم عن منازلة خصومهم في محاورة أو مناظرة، أو ما أشبه ذلك؛ خوفًا من استعمال الألفاظ المجملة التي يطلقونها في النفي والإثبات، والتي يلبسون بها الحق بالباطل؛ ليخدعوا بها جمال الناس .


ولقد أشار الإمام أحمد إلى ذلك الخطأ المنهجي عندهم في أول كتابه الرد على الجهمية"، فقال: "الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى ... إلى أن قال: ينفون عن كتاب الله ترجيف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا الوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على مخالفة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، يخدعون جهال الناس بما يشتهون، فنعوذ بالله من فتن المضلين."


وعند تأمل هذين النصين، نجد أن كلا منهما يحمل نفس الأخطاء المنهجية التي يسلكها الخصم في موقفه من السلف، إن القضية عندهم ليست انتصارا للعقل وأحكامه، بقدر ما هي رفعة لمنهج القرآن والاعتصام به ..


ومن أبرز هذه الأخطاء المنهجية عندهم: استعمال الألفاظ المجملة التي قد يلتبس فيها الحق بالباطل، فإن في نفيها نفيا لبعض الحقي، وفي إثباتها إثباتا لبعض الباطل.


2 يتركون المحكم ويتكلمون بالمتشابه من الكلام ليخدعوا جهال الناس بأنهم أصحاب النظر العقلي بما يشبهون عليهم من الكلام.


3 لجوؤهم إلى التأويل لم يكن طلبا للحق في ذاته، وإنما كان انتصارًا للمذهب، وإبطالاً لرأي الخصم.


4 التنفير من رأي المخالف، باستعمال الألقاب المذمومة، والتشنيع عليهم بالأكاذيب، كالحشوية، والعجز


والجهل، ومحاربة العقل، ورفض أحكامه.


الاستعانة على المخالف بالسلطان وسيفه، بدلاً من الرجوع إلى الحق وأهله.


وهذه الأخطاء السابقة التي أشرنا إليها ليست من باب الرد على الباطل بباطل مثله، وإنما هي تبيان لما في الموقف الآخر من أخطاء في المنهج الذي ينسبه أصحابه إلى العقل، وينسبون إلى منهج غيرهم محاربة العقل.


ويتبين من هذه الأخطاء التي أشرنا إليها مدى الخلاف بين المنهجين في قضايا الغيب : منهج التعامل مع عالم الشهادة ودور العقل في ذلك المنهج، وكيفية التعامل مع عالم الغيب، ودور العقل في ذلك، وموقف العقل الذي اعتصم بالنص من منطق العقل نفسه، ورأى أنه أكثر أمانا وإيماناً فيما لا سبيل للعقل إليه بذاته، وموقف العقل المخالف الذي رأى أن التخيل العقلي، أو التوهم أو الفنون التي يصلون إليها بالتأويلات العقلية، كافية في تحقيق معنى الإيمان بالغيب .


تلخيص النصوص العربية والإنجليزية أونلاين

تلخيص النصوص آلياً

تلخيص النصوص العربية والإنجليزية اليا باستخدام الخوارزميات الإحصائية وترتيب وأهمية الجمل في النص

تحميل التلخيص

يمكنك تحميل ناتج التلخيص بأكثر من صيغة متوفرة مثل PDF أو ملفات Word أو حتي نصوص عادية

رابط دائم

يمكنك مشاركة رابط التلخيص بسهولة حيث يحتفظ الموقع بالتلخيص لإمكانية الإطلاع عليه في أي وقت ومن أي جهاز ماعدا الملخصات الخاصة

مميزات أخري

نعمل علي العديد من الإضافات والمميزات لتسهيل عملية التلخيص وتحسينها


آخر التلخيصات

Mears (2014) A ...

Mears (2014) A system of justice that could both punish and rehabilitate juvenile criminals was the ...

تراجع مكانة الق...

تراجع مكانة القضية الفلسطينية في السياسة الدولية فرض على الجزائر تحديات كبيرة، لكنه لم يغيّر من ثواب...

أيقونة الكوميدي...

أيقونة الكوميديا والدراما بقيمة 100 مليون دولار. قابل عادل إمام ولد عام 1940 في المنصورة، مصر، وبدأ ...

أتقدم إلى سموكم...

أتقدم إلى سموكم الكريم أنا المواطن / أسامة سلطان خلف الله الحارثي، السجل المدني رقم/١٧٣٧٣٨٣ ، بهذا ا...

[1] الحمد لله ...

[1] الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا أخذه ورسوله صلى ...

ad يترقب المقيم...

ad يترقب المقيمون في دول مجلس التعاون الخليجي بدء تفعيل التأشيرة الخليجية الموحدة بعد مرور أكثر من ع...

Bullying is a r...

Bullying is a repeated aggressive behavior that involves an imbalance of power between the bully and...

فاللغة العربية ...

فاللغة العربية ليست فقط لغة المسلمين، ووسيلة لتحقيق غاية أخرى وهي تعديل سلوك التلاميذ اللغوي من خلال...

1-تعتبر أسرة مح...

1-تعتبر أسرة محمد آل علي الإبداع والإبتكار هي أول نقطة في الإنطلاق إلى التحسين في شتى المجالات حيث ق...

يعتبر فول الصوي...

يعتبر فول الصويا من المحاصيل الغذائية والصناعية الهامة على المستوى العالمي نظراً لاحتواء بذوره على ن...

Traffic Padding...

Traffic Padding: inserting some bogus data into the traffic to thwart the adversary’s attempt to use...

السلام عليكم ور...

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته اليوم ذهب إلى دورة القرآن وتعلمت القرآن ثم عدت إلى منزلي ومكتبي قلي...