Lakhasly

يناقش النص العلاقة بين الميتافيزيقا والشعر، مؤكداً على أن الميتافيزيقا تعتمد على الاستدلال العقلي، بينما الشعر يعتمد على الخيال والإحساس. لكن، تُبرز الكتابة أن الميتافيزيقا تتجاوز العالم الحسي المدرك بحثاً عن مبادئ أولى، وهو ما يُشبه وظيفة الخيال في الشعر. الخيال، كمصدر لا ينضب للرؤى، يُمكّن من تجاوز الواقع المعطى، وهو ما يُعد شرطاً أساسياً للتفكير الميتافيزيقي. لكن، ليس كل شعر ميتافيزيقي، فالشعر الوصفي أو السردي البسيط يختلف عن الشعر الخلاق الذي يحمل رؤى ميتافيزيقية، كأمثال الملاحم التي تجسد معاني إنسانية خالدة. يُشكل الخيال مصدراً مشتركاً للشعر والميتافيزيقا، إذ يُمكّن من مواجهة كليات العالم أو لغز الوجود، كما يتجلى في أعمال شعراء مثل ليكونت دي ليل وفيكتور هيغو. يُؤكد النص على دور "الكلي" كوسيط حاسم بين الشعر والميتافيزيقا، فالشعر، حتى في معالجة مواضيع فردية، يعبر عن كليات إنسانية عميقة، كما يرى وايت هيد، وتُعدّ هذه الكليات موضوعات الميتافيزيقا. أمثلة على ذلك، الشعر التجريدي أو الصوفي الذي يُعبّر عن الكلي دون الحاجة إلى وقائع فردية، والشعر الذي يتناول كليات إنسانية أو طبيعية. يختم النص بتأكيد أرسطو على قرب الشعر من الفلسفة لاهتمامه بالكلي، مُشيرًا إلى رأي جان فال الذي يُعتبر الشعر أخاً للميتافيزيقا.

الميتافيزيقا والشعر
فحصنا علاقة الميتافيزيقا بالأدب بصفة عامة. ولكن النظر في هذه العلاقة يصرف النظر دائماً، أو على الأغلب، الى العلاقة بين الميتافيزيقا والشعر، ولهذا لابد لنا من ان نولي هذه العلاقة اهتماماً خاصاً .
أكدنا على ما مفاده : ان العمل الميتافيزيقي إنتاج عقلي يقوم على الاستدلال البرهاني، والعمل الأدبي الشعري عمل فني يقوم على الاحساس والانفعال والتأثير وقلنا، ان الخطاب الميتافيزيقي ينبني على العقل في حين ان النص الأدبي، ومنه الشعر، ينبني على الخيال، ولكن ألا توجد علاقة بين الميتافيزيقا والخيال ؟
إن الميتافيزيقا، كما يعرف طالب هذا العلم، تبحث عن المبادئ أو العلل الأولى، وهذه المبادئ او العلل ليست معطاة في متناول اليد في العالم الظاهر المدرك بالحس، فعالم ( المُثل ) عند افلاطون و ( العلل ) عند ارسطو، و ( الواحد ) عند أفلوطين، و ( اللامادي ) عند ديكارت، و ( الجوهر الواحد ) عند سبينوزا، و ( القوى الحية ) أو " الموناد " عند لايبنتز، و ( المطلق ) عند شيلنج، و ( الفكرة المحضة ) أو ( العقل الكلي ) عند هيجل.... كلها موضوعات ميتافيزيقية ليست معطاة في عالم الظاهر المدرك بالحس. فهي تتجاوز ما هو معطى أما الى واقع أسمى فوقي ، أو الى عالم باطن يكمن وراء المعطى الظاهري.

ولهذا يصدق القول ان الميتافيزيقا جهد يبذله العقل البشري لتجاوز كل ما هو معطى، وان الميتافيزيقي هو المفكر الذي يؤمن بان عقل الإنسان يعلو على عالم الإنسان اليومي الظاهري، وبوسع الموجود البشري بوصفه موجودا ميتافيزيقيا ان يطير بأجنحة ، " أجنحة الأفكار في خلاء العقل المحض " . والميتافيزيقا الحقة أنما هي تلك التي تستطيع أن تقول" أن مملكتي ليست من هذا العالم" ، العالم المعطى الظاهري. والميتافيزيقي الحق إنما هو ذلك الإنسان الذي ينعطف برأسه نحو النجوم وإن كان يبقى مثبتّا قدميه فوق الأرض في الآن نفسه.
إن هذا التحليق فوق ما هو معطى محسوس من الأشياء يعبر عن الطبيعة المميزة لملكة الخيال التي للإنسان. الخيال هو المعين الذي لا ينضب للذكريات والرؤى المعقولة والخارقة، وعالم الخيال هو عالم الإمكان الذي لا حدود له، والطاقة التي تدفع الى الخروج الى ما وراء الحس والكشف عن أفاق جديدة تفزع إليها النفس، ومن خلالها تكتسب التجربة البشرية ابعاداً لامتناهية . وهذه الابعاد هي ابعاد ميتافيزيقية لأنها تجعلنا نجتاز عالم المحسوس المعطى الى عالم الإمكانيات اللامتناهي، متحررين من قيود الزمان والمكان، وهو تحرر يُعد شرطا للتفكير الميتافيزيقي.
وهذا التحرر يجعلنا نشعر بأننا نلج الى عالم أخر، عالم أجمل من العالم المعط وابهى ، وهذا هو هو الشعور الذي يفترض أن ينتاب الميتافيزيقي وهو يفكر بعالم المثل المفارق أو عالم المعقولات المجردة أو عالم المطلق الأجمل والاسمى .
ولكن على طالب هذا العلم، علم " ما بعد الطبيعة ، أن يكون على بيّنة من أن الشعر ليس كله يمكن أن يستثمر هذه الطاقة للخيال ، ويصل الى هذه المرتبة الميتافيزيقية (المفارقة)، فشعر ( الوصف ) أي تصوير الأحداث الواقعية تصويراً صرفاً، وشعر( السرد ) الذي يقتصر على سرد أو رواية الاحداث وتسلسلها، بعيدان عن الشعر الخلاق المبدع في صوره ورؤاه المشبعة برؤى ميتافيزيقية.
إن شعر الملاحم ( وهو نوع أخر مختلف من شعر السرد) الخلاق يزخر بالصراع بين عواطف المحبة والكراهية، الغضب والنقمة، الغيرة والحقد، أو بين القيم الخلقية والروحية الحضارية كالشرف والحب والتقوى والولاء، وهذه كلها تضفي على الأحداث الخارجية معان انسانية خالدة هي التي يهتز لها القارئ ويتخذها نماذج أو معايير للعمل والسلوك في كل مكان وفي أي زمان . ولولا الخيال، خيال الشاعر ــ المؤلف، لما شهدنا هؤلاء الابطال الذين يتعاقبون على الأحداث ويجسدون هذه المعاني.
والحال، فان الخيال مصدر ومنبع للشعر والميتافيزيقا كليهما بما يمتلك من طاقة تخلق الاقتدار على تجاوز المعطى من الأشياء الظاهرة في عالم الإنسان اليومي المعتاد.
وعندما نقول ان الخيال يجعل الإنسان يتجاوز أو يتعالى على عالمة اليومي وعلى نفسه كفرد، فهو يجعله يواجه أو يكون في قبالة كل ما سواه. و الواقع أن من منتجات الخيال أن يخرج الإنسان الفرد ليواجه كلية الطبيعة أو كلية العالم أو لغز الوجود، وهذا قاسم مشترك بين الشاعر المبدع الرؤي والميتافيزيقي المتجاوز لما هو معطى.
وعلى سبيل المثال لننظر الى ما يعنيه ( ليكونت دي ليل ) في أشعاره البربرية عندما يهتف قائلا : " صِه أيها الإنسان ، فإن السماء خرساء، والأرض نفسها تزدريك) ؛ فالمؤكد أنه يعني أن ليس في العالم سوى ألية عمياء، وان الإنسان نفسه ليس سوى عرض زائل لا معنى لة. وفي مقابل ذلك ، وعلى الضد منه تماما، لننظر الى ما يعنيه ( فكتور هيجو) ، في قصيدته المشهورة ( أضواء وظلال ) عندما يقول : " أيها الإنسان لا تخش شيئا، فان الطبيعة تعرف السر العظيم، وهي تبتسم ) ؛ فالمؤكد ان هذا القول يوحي إلينا بان في الكون غاية أو مقصداً خفياً، وأن الإنسان يشارك في هذا التنظيم الغائي، إن من حيث يدري أو من حيث لايدري .
والواقع أن الموقف من الطبيعة أو العالم أو الوجود، وماذا يعني كل منها بالنسبة الإنسان، مشكلة ميتافيزيقية سواء طرحها الفيلسوف أم الشاعر ، على الرغم من الاختلاف بين الطريق الذي يتخذه الفيلسوف لبيان موقفه من العالم.. عن الطريق الذي يتخذه الشاعر لنفس الغرض.
ومن نتاج ملكة الخيال عندما يواجه الشاعر كلية الطبيعة أو العالم أو لغز الوجود، أن يكون حدساً كليا ولابد. والحقيقة أن الكلي universal وسيط حاسم بين الميتافيزيقا والشعر، فمن دون الإقرار بان الشعر يعبر عن الكلي لا يمكن السبيل الى عقد الصلة بينه وبين الميتافيزيقا التي موضوعاتها عبارة عن كليات. والدليل التاريخي الواضح على تعبير الشعر عن الكلي هذه الروائع الشعرية الخالدة التي كانت، وماتزال ، تستجيب للحاجات الإنسانية الشعورية، ومازال المتلقي ( القارئ ) يجد فيها ما يعبر عن وجدانه العاطفي، بل وعن رؤيا عن الانسان وتجلياته تتجاوز مكانها وزمانها.
صحيح أن الموضوعات التي يعالجها الشعر قد تكون موضوعات فردية خاصة
كأن تكون مشكلة وجدانية ذاتية، أو مشكلة عاطفية فاشلة أو عالقة... أو.. ولكن ما يقوله الشاعر عن هذه الحالة أو تلك من حالاته الوجدانية هو، كما هو الحال في الشعر الغنائي الذاتي الخالص، بلغته الشعرية المجازية الجاذبة، ينطبق على كثير من الحالات المماثلة لها، إن لم يكن كلها. انه الكلي الذي يتجلى في حالات كثيرة أو في وقائع فردية، وقد عبر وايتهد عن هذه الحقيقة أصدق تعبير وأدقه في قوله " إن مجرد خلود الشعراء لهو الدليل المادي القاطع على أنهم يعبرون عن حدس إنساني عميق، استطاعت الإنسانية بمقتضاه أن تنفذ الى ما في الواقعة الفردية من طابع كلي شامل " .
والواقع ان هذا الطابع الكلي الكامن في الواقعة الفردية هو الذي يبحث عنه الفيلسوف في قصائد الشعراء، وهو الذي يجعلها تفسر عن دلالتها الميتافيزيقية ( وهذه الدلالة الميتافيزيقية هي التي عثر عليها وايتهد في أشعار شيلي و وردزورت، وهيدغر في أشعار هولدرلين).
هذا، وهناك أصناف من الشعر، كالشعر التجريدي أو الصوفي، ليس بحاجة الى وقائع فردية للتعبير عن الكلي، وقائع مثل البطل في ( الملحمة ) أو الشخصية الدرامية أو الحالة العاطفية الذاتية للشاعر ولغيره، فهذا الشعر لا يقرن التجارب أو الأحاسيس الروحية والعاطفية التي يعبر عنها الشاعر بأبطال أو شخصيات معينة، بل يجسدها في قوالب فنية ( من صور واستعارات وتخاييل وسواها ) قريبة من عالم الإدراك والتجربة العاديين . والقرب هذا من انجاز اللغة، الوسيط التواصلي بين القارئ والكلي الشعري.
والكلي الشعري، أعني الكلي الذي يطرحه الشاعر بطريقة شعرية، قد يكون موضوعاً خارج الذات الإنسانية مثل الطبيعة أو العالم أو الحرب أو الخير بذاته.. وقد يكون هذا الكلي كليا انسانيا خالصا كالإنسان ذاته أو ما ينتمي إليه بوصفه كذلك ( فكم من إشعار تخاطب الإنسان بما هو إنسان؛ وكم من مرات يجد فيها القارئ تعبير الشاعر عن عواطفه ومشاعره الذاتية تعبيراً عن عواطفه ومشاعره هو، وكم هؤلاء القراء...)
ولكن سواء كان الكلي الشعري طبيعياً أو إنسانياً، فانه يبقى هو الموضوع المتميز للميتافيزيقا لأن كل موضوعات الميتافيزيقا كليات كما قلنا. وكان أرسطو أول من التفت الى أهمية الكلي في الشعر ، والكشف عن سر علاقة الشعر بالفلسفة قائلا: إن الشعر أقرب الى الفلسفة (الفلسفة لأولى) منه الى التاريخ، لأن التاريخ مجرد سجل لتعاقب الحوادث في الزمان، في حين ان الشعر يهتم بما هو كلي عابر للزمن.

وما يقوله أرسطو ، استنباطاً من الشعر التراجيدي اليوناني القديم، لا يختلف عما استخلصه وايتهد من أشعار شيلي ووردزورث وعبر عنه بعبارته التي ذكرناها. وكأنما الفلسفة ، من أرسطو حتى وايتهد ، قد اجمعت على علاقة الشعر بالميتافيزيقا. بل وهناك من المفكرين من لم يفرق أصلا بين الميتافيزيقا والشعر، كما هو الحال مع ( جان فال ) الذي جعل الميتافيزيقا تخاطب الشعر قائلة : " أيها الشعر إنك لعمري أخي الوفي فليرتفع صوتك عالياً، ولتعلم إنني أنصت إليك، فإنني حينما ألقي إليك السمع، أكون أنا المتكلمة " .