Lakhasly

Online English Summarizer tool, free and accurate!

Summarize result (100%)

(Using the AI)

انتشر خبر جنون سالم بن عبدالله القافر بسرعة في القرية، قيل إنه يبحث عن ماء في صخرة صماء في قمة نجد النوح. كان سالم يثابر على ضرب صخرة بمطرقة ضخمة، يستمع إلى همس الماء في باطنها. قبل سنوات، تردّد سالم بين مواصلة طريقه المعتاد أو اتباع شغفٍ جبليّ، فاختار الأخير واكتشف مكانًا رائعًا لكنه لم يجد ماءً هناك. عاد إلى بيته ولم يجد زوجته، التي خرجت للبحث عن قوتها. انتشر الخبر رغم صمته، فجاء الشيخ حامد بن علي ليتأكد بنفسه من جنون سالم الذي أصرّ على وجود ماء تحت الصخرة. هلال ود محجان شاهد سالم ونشر الخبر، فهرعت القرية ليشهدوا الحدث. وصل الخبر لزوجة سالم، نصرا، عبر جميلة الملسونة، فهرعت إليه تبكي، وأكدت حميدة بنت خميس الخبر. سالم طمأنها قائلاً إنه سيُنشئ مزرعة هناك. واصل سالم عمله، متجاهلاً الناس، حتى ظهر سلام ود عامور الوعريّ ضاحكًا من إصراره، فأخبره سالم عن خطته. حاولت نصرا إثنائه عن عمله، خوفًا من كلام الناس، لكنه أصرّ على حلمه، مؤمناً أن كلام الناس سيتلاشى. في الليل، رأى سالم مزرعته في أحلامه. في الصباح، ذهب سالم مجددًا إلى نجد النوح، لاحظ تربة رطبة تحت شجرة قفص، وبدأ يحفر في صخور سوداء حتى وجد حفرة صغيرة. خبرته في اقتفاء الماء علّمته أن للماء مفاتيح، وأنّ هناك أنواعًا مختلفة من المياه. العين التي يبحث عنها تشبه كنزًا مدفونًا. استمر سالم في حفر الصخرة، حتى عانى من صداع شديد. دهن الصخرة بعجين ثوم، فانتشر الخبر في القرية. بعد أسبوعين، جاء محسن بن سيف، طلب من سالم أن يساعده في إصلاح فلج في قرية ميتة، مقابل حصة من البلد. استشار سالم الوعري الذي أقرّ بالاتفاق، وكتب محسن بن سيف صكًا يضمن حقوق نصرا. أخبر سالم زوجته بالخطة، فخافت من عودته لأعمال الأفلاج، لكنه طمأنها. سافرا سراً، بحثا عن عمال، وسارت شهرة سالم قبلهما. وصلوا للقرية الميتة، وجدوا كهفًا للسكن، وأنشأوا حوضًا لمياه نبع قريب. بدأوا بإصلاح الفلج، ووجدوا "خاتمًا" (مكان ضيق في القناة) لكنهم عثروا على سقف منهار سدّ القناة. أغمض سالم عينيه، مستمعًا للأصوات في باطن الأرض، ثم أبلغ رفاقه أن الماء قريب. حفر، وفي لحظة يأسه العظيم، تهشمت صخرة وانطلق الماء، فقذفه السيل إلى الأعماق.


Original text

انتشر الخبر سريعًا في حارات القرية وطرقاتها ومجالسها، انتشر كما تنتشر النار في زور النخل اليابس. قيل إن سالم بن عبدالله القافر قد جُنّ تمامًا وذهب عقله وغار في الأرض السابعة.
قال حمدان بن عاشور
جن الطوي بو مشاركينه في راسه شربوا محه».
بينما هر سويلم بن عمران رأسه وابتسم ابتسامةً عميقة علقت بين شفتيه طويلا كما تعلق آثار اللبن عندما يشربه في الصباح الباكر.
تناقل الجميع خبرا مفاده أن سالم بن عبدالله يحفر صخرة صماء في قمة نجد النوح، وأنه شوهد هناك ساجدا يستمع إلى الأرض، وأن المسكين قد خُيّل إليه بعد كل هذه السنين وجود ماء في باطن تلك الصخرة بعينها.
وبالفعل كان سالم يثابر في الضرب بمطرقته الضخمة على رأس مسمار حديدي غاص حتى نصفه في الأرض، يتوقف قليلا ليريح يديه من عصا المطرقة الغليظة ثم يعاود الطرق ثانية فيما عيناه ترقبان تعمق المسمار في تلك الأرض الصلدة
يتردد الصدى في سفوح الجبال المحيطة به، تتناقل السفوح تلك الضربات فيما بينها فيستمع لصداها ذاهبًا إلى البعيد، إلى عمق تلك الوديان البعيدة حيث تبتلع الصخور والهضاب الأصوات وتخبو حدتها ثم تتلاشى.
بعد أن يدخل المسمار كله ما عدا عنقه يضربه من جوانبه لكي تتخلخل الحفرة حوله ويتفتت الصخر وتتشعب التشققات فيستطيع أن يخرجه ثانيةً وقد أحدث في الصخر ثقبا غائرًا.
وفي لحظة بعينها وضع المسمار جانبًا، أبعد المطرقة من أمامه ثم اتكأ بكفيه على الأرض وانحنى فوق الثقب. وضع أذنه عليه ليستمع إلى همس تلك الصخرة الملساء، أصغى جيدًا إلى ذلك الصوت المنبعث من بطن الصخرة، أصغى إلى خرير ماء ينساب في عمق الجبل، وكلما أرهف السمع اتضح الصوت، وكأنه يمنيه بقربه. وشوشته الخافتة تغذي يقينه، فيتابع عمله كي يصل إلى المنبع.
طيلة عمره كان يذهب صعودًا مع الوادي، لكنه لم يدخل ذلك الشغف قط، استوقفه صوت نابع من أعماق صدره، فوقف للحظات متردّدًا هل يغير طريقه ويمضي يسارًا صاعدًا إلى المكان الغريب، أم يذهب كما اعتاد مع الوادي؟
كانت الرغبة في اكتشاف الشغف الجبلي أقوى فبدأ في صعوده وما إن فعل حتى اكتشف كم هو مريح ذلك المكان، فعب أنفاسا كبيرة ومتتالية من الهواء أنعشت قلبه.
مر بمضيق صخري تقارب فيه جانبا الجبل حتى صار لا يكاد يتسع المرور شخص واحد، ثم انفتح الممر على مكان رحب مليء بأشجار الحلف والحبن مع بعض أشجار القفص على الجانبين وشجرة غاف كبيرة منتصبة في نهايته. ولما ألفى المكان واسعًا ومظللا بالأشجار تاقت نفسه إلى شرب فنجان من القهوة فيه، لكن من أين له بفنجان قهوة في تلك اللحظة ؟
صعد إلى الأعلى وجلس ليستريح قليلا عند القمة، اتكأ على صخرة ملساء كبيرة مستظلا بما بقي من ظلها قبل الظهيرة، كان هدوء المكان قد أبعد عن نفسه قلقًا خالجه، أو لعله شعر بنعاس مع تلك النسمات اللطيفة التي صعدت من الوادي.
أغمض عينيه مصغيًا إلى دقات قلبه وهي تنتظم بعد جهد صعود القمة، ثم فتحهما فجأة ليتأكد مما سمع.
خيل إليه أنه سمع صوت . ماء يسيل بالقرب منه، خرير ضئيل ولكن صوته قريب جدا، التفت يمينا ويسارًا فلم يجد ما يدل على وجود ماء هناك، لا شيء غير بعض الشجيرات أقرب إلى اليباس منها إلى الاخضرار. أغمض عينيه ثانيةً وأصغى إلى الصوت باحثاً عن الجهة التي يأتي منها، وقد استند بظهره إلى الصخرة.
بدل من وضعية جلوسه ثمّ أحنى رأسه ووضع أذنه اليسرى على الأرض هناك تمامًا، عند التقاء الصخرة بالجبل. عندئذ سمع الخرير بوضوح، ومن وضوحه وقربه بدا كأن الماء يسيل على وجه الأرض.
هذا النوع من الصخور. ولقطع الشك باليقين استكشف ما حولها باحثًا عن طريق يدلّه إلى الماء، ولكن لم يُقابل نَظَرَه شيء سوى الحجارة.
قفل راجعا، وعندما وصل إلى فسحة الأشجار الكثيفة أسفل الشغف، قال لنفسه: هنا ستكون المزرعة.
عاد مبكرًا إلى البيت، فلم يجد زوجته، وكانت قد دأبت أن تخرج في ذلك الوقت لتبحث عن قوت بقرتها بين نخيل أهل القرية، أو لتشرب القهوة عند واحدة من جاراتها، وتعود محملة بحكايات تسردها عليه بعد ذلك.
لم يخبر أحدًا بما عزم عليه، ولكن كيف انتشر الخبر سريعا في أرجاء القرية؟
فما إن عاد إلى المكان في اليوم التالي وبدأ في الحفر حتى وقف الشيخ حامد بن علي أعلى الصخرة وقد وصله الخبر وجاء من فوره ليتأكد منه بنفسه. لكن الشاب من فرط انشغاله بالطرق لم يشعر بوجود الشيخ بالقرب منه، فظل يعمل حتى تحدث إليه قاطعًا انهما كه :
هذا بو هداك عليه عقلك ؟ نهايتها تكسر حصاة صما ؟
وضع سالم المطرقة جانبًا، نظف ما حول المسمار المنغرز في الصخر ثم قال للشيخ من دون أن يرفع رأسه:
وانت تارك شغلك وأموالك وجاي تشوف بو جالس أسويه.
كل البلد عندها خبر .
كان القافر يدرك أنه يعيش في قرية لا هم لأهلها إلا رصد أخبار وتناقلها، فكاد يلزم الصمت، لكنه سرعان ما عدل عن ذلك وقال باقتضاب:
تحت هذي الحصاة ماي واجد.
ضحك الشيخ وقد بدا في صوته قلق لتلك المعلومة التي وصلت إلى سمعه.
البلاد كلها محلانه، وانت تدور عن الماي تحت هذي الحصاة؟ باغي الناس تضحك عليك؟
تناول سالم مطرقته وعاود الضرب مرة أخرى منهيا الحديث المقتضب معه.
*
منذ الساعة الأولى لانطلاق سالم في عملية الحفر، سمع هلال ود محجان صدى ذلك الضّرب وهو يمرّ أعلى النجد، فاجتذبه الفضول ليرى ما الذي يحدث، وعندما شاهد القافر في جلسته تلك التي افترش بها الأرض ومد قدميه على جانبي الصخرة، هرول راجعا ناحية البلدة ونشر الخبر . بدأ بسلطان الصوار وحميد بن غافر وانتهى إلى آخر العمران والنخل وهو يردد كلما صادف أحدهم:
شفت القافر يدق حصاة صما في نجد النوح.


وفي أقل من ساعة كانت حكاية سالم بن عبدالله القافر تلوكها الألسن في المجالس وعلى دروب القرية، مع بعض التعديلات الضرورية لإضفاء النكهة اللازمة لبقاء الحكاية طازجة وساخرة وبالأخص مثيرة.
بدأ الناس يذهبون إلى نجد النوح ليشاهدوا بأعينهم ما يحدث هناك. بعضهم وقف أعلى النجد يرقب المشهد من فوق، وبعضهم تلصص من بين الأشجار والحجارة وعاد، وبعضهم الآخر تحدث مع القافر قليلا أحاديث مقتضبة جدا ومعظمها ساخر، وكلهم حاولوا التأكد من صحة فقدان القافر عقله، كيف لا وهو يحفر صخرة صماء في أعلى الجبل ظنا منه أن في بطنها عين ماء غزيرة.
كانت العيون تراقبه من كل مكان، عيون صغيرة تيبس الحلم على حوافها عيون متعبة، عيون كبيرة، عيون خجولة، عيون تبدو جريئة وظاهرة، وعيون تأتي وتهرب وهو على حاله مستقبلا صخرته ولا يكف عن الطرق عليها.
وصل الخبر إلى زوجته، كانت تشرب القهوة عند فاطمة بنت القصير، فدخلت عليهما جميلة الملسونة وهي، تكلّم نفسها - وفقًا لعادتها فلا يفقه أحد شيئًا مما تقول. وحقيقة الأمر أنها تردّد، ولكن بلكنتها ولثغة لسانها وسرعته مشي بخير فهالدنيا ولا أحد يعلم لماذا تكرر الجملة ذاتها، ومهما يكن السبب فإنها لقبت بالملسونة فلسانها لا يكف عن الكلام حتى في نومها.
دخلت الملسونة ورأت زوجة القافر فشهقت، وقالت:
إنتيه هنا؟ مشي بخير فهالدنيا.
ردت عليها نصرا:



  • أعوذ بالله، مو مستوي فهالدنيا؟
    لم تكن زوجة القافر لتسكت عن أي إيذاء بالكلام، فخرجت عيناها من محجريهما حتى صارتا مثل فنجانين مقلوبين وقد همت بأن تردّ الصاع صاعين للملسونة، إلا أن الملسونة فعلت ما لم تفعله قط وأخرجت الكلام ببطء وهدوء لتقول لها:
    سيري.. شوفي.. زوجش يقولوا.. مختف.. عقله...
    وجالس.. يقحف .. حصاة .. صما .. في.. قمة .. جبل.
    وكالملسوع قامت زوجة القافر لتمسك الملسونة من رقبتها وتؤدبها، وكادت تفعل لولا أن حميدة بنت خميس دخلت عليهن وأكدت ما قالته الملسونة.

  • هين جالس ؟
    في نجد النوح.
    خرجت تركض في طرقات القرية، تحاول لملمة نفسها.
    وقفت خلفه مباشرةً، عيناها تدمعان وهي تعض على الحافها، بلغه نشيجها المكتوم فعرف صوتها، عندئذ توقف عن الحفر وقام فواجهها مبتسما وقال لها :
    شوفي ذاك السيح، هناك بسوي مزرعتي.

  • كأنك ما بخير ؟

  • بخير، بخير، صحيح ما فيي عقل لكني بخير.


انتابتها نوبة بكاء شديدة، لكنها نجحت في إخراج كلماتها من بين النشيج :



  • بس هذي حصاة صما، من شار عليك بهالشور؟
    ضحك القافر فردّدت الجبال صدى ضحكته الغليظة، كانت تلك الضحكة كافية لتزيد من فزع زوجته فاستدرك قائلا لها:
    هنا عين ماي حلوة ونشيطة، وبعد ما أخوز هالحصاة بتطلع وتسيل إلين تحت.
    هزت زوجته رأسها واستدارت لتعود إلى البيت، قالت له
    وهي تمضي:
    من مات أبوك وأنت قايل ما تقفر ولا تبصر ولا تخدم عن الماي.
    انتظرت رده لكنه سكت طويلا فغادرته.
    وهي تهبط المنحدر بدرت منها التفاتة يائسة نحوه، فرأته يعانق الصخرة كأنه يحاول زحزحتها، كانت تلك اللحظة وحدها قادرة على شق قلبها وانتزاع بقايا السكينة منه ، ملأت الدموع عينيها مرةً أخرى فلم تستطع تبين دربها، لذا توقفت لتمسح دموعها وخديها
    وكل وجهها بطرف وقايتها، ثم عضت على شفتيها بقوة حتى لا تردد الجبال صدى نشيجها.
    واصل القافر عمله من غير أن يعبأ بمن جاء ومن ذهب، فاستطاع أن يحدث شقا صغيرًا في الصخرة، وكان بين الفينة والأخرى يلصق أذنه على الأرض ويُصغي إلى الماء الذي يشق طريقه في جوف المكان، وكأن لحظات الإنصات تلك تحفزه ليواصل عمله دون أن يداخله الملل أو يجرفه سيل اليأس.
    وعند الظهيرة حمل مطرقته وهبط ليستريح تحت ظل الغافة، هناك في ذلك الظل الكثيف اقتات بضع تمرات وشرب عدة فناجين من القهوة، ثم تمدّد متوسدًا عمامته الرمادية وأغمض عينيه وغفا بضع دقائق كانت كافية لتعيد له النشاط، ومع ذلك انتظر ريثما تميل الشمس قليلًا عن منتصف السماء ويتمدد ظل القمة الغربية.
    في الساعات الأخيرة من النهار، كان يحاول مرارا شق جزء صغير في الصخرة وكان المسمار في كل مرة يرتد إلى الأعلى وكأن قوة تدفعه وتمنعه من الاستقرار والغوص حيث حدد له، في تلك الساعات التي أوشك فيها أن يقوم تاركا الصخرة ويهبط، سمع صوتًا يصعد ناحيته، وإذ أصغى جيدًا إلى نبرته عرف من يكون فتهللت أساريره وتوقف عن الطرق حتى ظهر ذلك القادم.
    جلس سلام ودعامور الوعريّ، مُسندا ظهره إلى الصخرة غير مكترث بالقافر وموضع الحفر، كان يلهث تعبا من الصعود، وقد
    احتاج إلى وقت كي ينتظم نفسه ويهدأ. وحالما استرجع أنفاسه بدأ يضحك، بل استغرق في الضحك حتى بدأت الدموع تتساقط على لحيته البيضاء. وكان القافر ينظر إلى وجهه ويبتسم، وكما احتاج إلى وقت ليهدأ من آثار الصعود احتاج إلى مثله لتذهب عنه موجة الضحك. توقف محاولا قول شيء، لكن الضحك منعه، فبلع ضحكته، وبعد ذلك بقليل سكت، ثم نظر إلى عيني القافر وقال:

  • أسميك بليت البلاد كلها.
    عاد بعد قوله إلى ضحكه فارتفع أكثر، أما القافر فنكس رأسه إلى الأرض منصتًا إلى ذلك الدوي الخارج من حنجرة الوعري، وكان الوعري كلّما زفر تكاد تجزم بأنّها زفرته الأخيرة. ثم يأخذ شهيقا، فيُخيّل إليك من قوته أن صدره سينفجر لا محالة.
    لكنه لم يلبث أن توقف فجأةً وقام من موضعه ليقف بجانب
    سالم بن عبدالله القافر ويقول له :

  • خبرني، مو لقيت هنا؟
    بدأ القافر يشرح كيفية الوصول إلى الماء، وأخبره بأنه لو استطاع أن يُحدث شقًا في الصخرة حتى يصل إلى العين فإنّ الماء سيخرج وعندئذ سيعرف من أين يأتي ويتتبعه حتى منبعه.
    ولو ما لقيت ماي؟
    سأله الوعري بحرص، فمد يده اليمنى مشيرًا بإصبعه ناحية الصخرة، ثم أجابه
    الماي هناك، متأكد كما أشوفك قدامي، لكن كيف أقدر أكسر
    هذي الحصاة؟
    حتى لو كان لدينا قوة العيوب؟
    ضحك القافر ضحكة هادرة وهو يجيب:
    ولا شي، بيقولوا فقير وشوره دمير.
    كانت الشمس تميل ناحية الجبال البعيدة، هناك، حيث تغرب مخلفة كائنات وبشرًا يلتحفون العتمة حتى موعد شروقها الجديد.
    هبط الرجلان التل وذهبا إلى القرية. كان الدرب يسيل بحكايات وأحاديث سمعها الوعري في ذلك اليوم، وقصها على القافر بتفاصيل تبعث على الضحك، فلم يترك حكايةً إلَّا سردها عليه حتى أتى على كل ما استطاع أن يتذكره منذ الصباح.
    حاولت زوجة القافر نصرا بنت رمضان أن تثنيه عن عمله لعلها توقف هدير ذلك الوادي الجارف من الكلام، كلام أهل القرية
    الذي تشعر به كالشوك يخز جسمها. أخبرته بأن النساء لم يتوقفن عن الشماتة بهما، تحدثت كثيرًا ورجته أن يكف عن الحفر ويعترف للناس بأنه أخطأ لأوّل مرّة في اقتفائه الماء، رجته أن يأتي بأي عذر كي لا يكسرها أكثر، فهي وحيدة لا أبناء لها ولا عائلة سواه.
    لا يملك سالم بن عبدالله القافر شيئًا في هذه القرية، لا نخل له ولا ضواحي تُسقى بماء الفلج، ولولا زنده القوي الذي يعمل به في نخيل الآخرين لما وجد قوت يومه.
    حاول إقناعها بأنهما لن يخسرا شيئًا إن فشل الأمر، ولكن ماذا لو انبجست العيون من تحت الصخرة؟ ماذا لو جرى الماء في المنحدر إلى الأسفل ؟ ماذا لو صارت لهما مزرعة خاصة ؟ قال لها إنه سيخسر حلمه إذا توقف سيخسر شيئًا ربما يتحقق. وأضاف أن الآخرين يريدون له أن يظل فقيرًا، أما هو فيرغب في التحرر من العمل عندهم، فهل يعقل أن تحقق رغبتهم وتقمع رغبته؟
    عندئذ قالت له وهي على وشك البكاء:
    لكن كلامهم يلسع.
    ضحك ضحكته الغليظة التي خرجت من حدود البيت في ذلك الليل الساكن وقال:
    -بيلسعنا كلامهم التو، لكن بيحرقهم الماي من يخرج.
    شعرت بأن حديثها بلا جدوى، فلن يثني عزيمته شيء، وهي في قرارة نفسها مؤمنة به، لكنهما يعيشان بين الناس، ولا يمكنهما العيش خارج كلامهم.
    ها هم يتهمونه بالجنون، وينعتونه بنعوت كثيرة، سمعتها كلها في يوم واحد بأصوات وهيئات ومواضع مختلفة، أصوات شامتة وأخرى غير مصدقة أصوات ناصحة، وأخرى تتلذذ بتعذيبها، وهي وحيدة في قرية كبيرة.
    لأول مرة تمنت أن تكون غير حاضرة في المكان أو غير مرئية، تمنت أن تبتلعها الأرض وتغور بها، أو أن تعيش في مكان آخر، فيحفر زوجها حيث لا تصل إليه عيونهم.
    والقافر يدرك أنه تحت عيون الناس، وأن كل حركة من حركاته مرصودة، سواء صعد جبلا أو نزل واديًا، سعيدًا كان أو حزينا بائسا، خرج من بيته أو ظل فيه، فلا أحد في هذه القرية يتحرك خارج عيون الآخرين.
    لكنه يدرك أيضًا أن كل حكاية في القرية مهما كبرت ستخبو ذات يوم، وأن حكايات أخرى ستأتي فتنسي الناس وتشغلهم عن حكايته، ولذلك قال لها وهو يمسح دموعها بيده الضخمة:
    «إن الله مع الصابرين».
    أخبرها القافر بأنّ أهل قريته يستقوون على الضعيف، يشمتون بمصائب المساكين، لكن لو حدث ما حدث في أحد بيوت شيوخهم وَسَادَتِهم لما نبسوا بكلمة، فهناك يغدو العيب حكمة والجنون فطنة ورجاحة، فالأعمى من أصحاب الجاه بصير بمكانته، والجبان قوي بماله أو بانتمائه لبيت يعصمه، أما هم الفقراء الذين لا يجدون ظهرا يحميهم ولا مالا يرفع من شأنهم فيكونون عرضة لألسنة الناس ولتجريحهم في كل بقعة.
    وإذ سكن الليل وهدأت حركة الناس، راود النعاس عيني القافر وتراءت له مزرعته خضراء يتماوج فيها القت مع النسيم. رأى الماء ينساب من عيونه تحت الصخرة ويهبط إلى الحوض، رآه يتدفق في الساقية يحركه الشوق إلى المزرعة، هناك حيث قامات النخيل تحرس المكان وأشجار الليمون تحفه من الجنبات.
    سحبه النوم إلى عوالم وأحلام أخرى، فرأى نفسه واقفًا على حافة بئر، يحملق في قعرها كأنه ينتظر خروج شيء ما، أو كأنه شاهد حركة في البئر فأراد التحقق.
    أحلام كثيرة تذهب وتجيء، والقافر كلما استفاق من حلم بدل من وضعية نومه ومسح وجهه بيده اليمنى وهو ينطق الشهادتين ثم عاد إلى نومه في انتظار أذان الفجر.
    يقع بيت القافر على جانب منزو من الحارة، وهو بيت صغير تجاوره حظيرة فيها بقرة واحدة وثلاث شياه، وبعد الحظيرة حافة تطل على النخل مباشرة، إذ لا جيران له إلا من ناحية واحدة، وخلف البيت ينتصب الجبل.
    وقف سالم ينتظر زوجته عند مدخل الحظيرة حتى تنهي حلب بقرتها، وعندما أطلت عليه بالإناء وضع التمر فيه وخلطه بالحليب، ثم شرب المزيج كله وناولها الوعاء، وذهب في طريقه إلى حيث تنتظره عيون الماء لينقذها من سجنها الحجري.
    لم يكن نجد النوح بعيدًا عن القرية، فهو يقع على تخومها الشرقية، لذلك لم يستغرق القافر وقتًا طويلا للوصول إليه من بيته، وعندما وقف بمحاذاة الغافة أدرك أن الوقت مازال مبكرًا للحفر فقرر أن يستصلح المكان تحتها، هناك حيث سيرتاح في مقتله إن لم يعد إلى البيت.
    علق أشياءه على الغافة وصعد الجبل، لاحظ في الصباح الباكر بعض الثرى على التربة الطينية تحت شجرة قفص ضخمة،
    نكشه بأصابعه فاستمر الثرى حتى بلغ الجذور، فقدر أنه أمام أحد احتمالين: إما أن يكون ذلك مجرد بلل بسبب برودة الجو في الصباح الباكر ، أو أن يكون أثرًا للعيون التي تسيل في باطن الجبل.
    وضع أذنه بالقرب من جذور الشجرة لينصت إلى باطنها، لكنه لم يسمع شيئًا فقال في نفسه الماء ليس هنا»، لكن ذلك أيضًا غذى فيه الأمل بوجوده قريبًا، في مكان ما، وحينها وقف بجانب الصخرة بحث في الاتجاهات عن أرض رطبة فلم يبصر شيئًا.
    ثم عاين على بعد أمتار مساحة صخرية تختلف بطبيعتها عن الصخرة المصقولة الصلبة، ذلك أن صخورها سوداء غير صلبة تتخللها تربة طينية تلصق تلك الحجارة بعضها ببعض، وتمتد حتى حدود الصخرة المصقولة.
    عمل بمسماره فيها فبدأت تتفتت كانت تستجيب لحفره بسهولة جعلته يغيّر من خطته ويحفر عميقا في ذلك الاتجاه قاصدًا التوغل تحت الصخرة حتى يجد منفذا في الثرى يدله إلى طريق عين الماء.
    أخذ يطرق المسمار والصخور تواصل التفتت، حتى إذا جرف الفتات بمسحاته بانت حفرة صغيرة يحدها من الأعلى حجر الصفاة المصقول ومن الأسفل تلك الصخور السوداء بتربتها الطينية.
    وعندئذ صار يستطيع أن يحفر حفرة أوسع وأعمق في تلك النقطة، فهو يدرك ضرورة التحايل على الماء المندس في باطن
    الصخور بالالتفاف حول مخزونه والبحث في كل الجهات عن مفتاحه.
    نعم، للماء أيضًا مفاتيحه، هذا ما يعرفه القافر من خلال خبرته التي راكمها طوال سنين عمله في تتبع المياه، فهنالك -على حد قوله - مياه كريمة قريبة من السطح تسري في تربة حصوية أو رملية تقول لك تعال خذني، وهناك مياه مخادعة، تسكن التربة الرخوة والطمي، تبدو من خلال الثرى وفيرةً، وما إن تحفر الأرض وتشق المجاري لتتبعها، حتى تخسر وقتك وجهدك كله، وبعد ذلك تدرك أنك كنت تطارد قطرات شحيحة تنبجس من منبعها لتسكن ذلك الطمي لا غير. وقد يحاول البعض مطاردة منابعها لكنه كلما حفر هبطت إلى القاع بالمنسوب الضئيل ذاته، فلا هو ينال ماءها ولا هي تتدفق كما يتمنى.
    وهناك أيضًا مياه الوديان المختزنة بين الحصى والرمل، والمعتاد أن تكون وفيرة ومتدفقة تجري بها الأفلاج لري القرى، ولكنها تعتمد على الأمطار، فما إن تتوقف السماء عن الإمطار لأشهر، حتى يقل تدفقها وتجف الأرض ويعم المحل، وتبقى كما هي منتظرة الخصب أشهرا وربّما سنوات.
    لكن العيون التي تسكن الصخر هي التي تستهوي القافر، تلك الينابيع العذبة الساخنة القادمة من أعماق الأرض بتربتها الكبريتية البيضاء، تلك المياه التي لا أحد يعلم من أين تخرج عيونها الدائمة، وقد تمر عليها السنون الممحلة والسنون الخصبة ولا تبدل شيئًا من
    منسوبها، لا قليلا ولا كثيرًا، تلك العيون التي لا تعرف مسكنا لها إلا الحجر المصقول.
    وهذه العين التي يطربه خريرها في باطن الصخرة تشبه الكنز المدفون، كما يقول القافر، فهي لا تُعطيك تفاصيلها بدقة، تبدو موجودة وتسمعها لكنّ الوصول إليها ليس سهلا، ولا بد من الخبرة وإعمال العقل حتى تجتذبها لتخرج.
    توهج المكان بضوء الشمس، ويداه القابضتان على المطرقة الكبيرة تهويان بها على المسمار الذي مازال يأكل جسد الجبل قضمة قضمة، وكلما تكرّر الطرق كبرت الحفرة حتى طالت ذراعًا في عمق الجبل.





يا لهذا الخرير الذي يُعذِّبه ، ويا لهذه الصخرة الكبيرة التي تقف عائقا في درب النبع.
يكاد وهو ساجد في صلاته يسمع تلك النغمة فيهيم كمن تذكر معشوقه لحظةً ففاض به الوجد، وكلما استسلم للنعاس يرى الماء يجري في الصخرة شاقًا طريقه ناحية المنحدر، فيتقلب في فراشه يمنة ويسرة كمن يبيت على شوك يخز جسده ولا يأتيه النوم إلا من إعياء وتعب، ولا يفتح عينيه إلا ويسبقهما لحن موسيقى يفيض من جدران البيت ليجتاح أحلامه وصباحه.
وبينما كان ذات مرّةٍ ملتصقًا بالأرض منصتًا إلى صوت الماء في أعماق الصخرة اعتراه فجأةً صداع شديد كاد يعمي عينيه من
شدته، فأغلقهما حتى يزيح ذلك الألم الذي بدأ يعاني منه في الفترة الأخيرة، وصار يحتل كامل رأسه ويتنقل فيه من جانب إلى آخر .
ظل عاجزا عن فتح مسار صغير لذلك الماء الذي يملأ خريره كل رأسه، فما إن يقترب من المكان حتى يتسلّل إلى أذنيه، مثل موسيقى خافتة تنهش فؤادًا موجوعًا بالفقد، لكنه كان أشد عنادًا من الصخرة، وزادته سخرية من حوله عنادًا فوق عناده، فهؤلاء أنفسهم كانوا يستعينون بقدرته على اقتفاء أثر الماء، ثم صاروا يهمزون ويلمزون كلّما مر ذاهبًا إلى الصخرة أو عائدًا من عندها، كأن قفره لماء يخصّه وحده أَوْجَعَهُم، فما انفكوا يتحايلون على وجعهم بالسخرية منه.
دله صوابه على محاولة فلق الصخرة من قمتها، فقرر أن يعتليها ولكن قبل ذلك احتاج إلى ما يساعده في تفكيك صلابتها من الداخل قليلا، فصخرة مثل تلك لا تنفع معها القوة، وعليه النفاذ إليها باللين والطراوة، فطلب من زوجته أن تدق له عشرين رأسًا من الثوم وتعجنها جيدًا ثم صعد الصخرة وبدأ يدهن سطحها الأملس بذاك العجين.
ظل سالم بن عبد الله يجدد دهان الصخرة بالثوم مرة كل يومين، واستمر في ذلك حتى لم يبق فص واحد في بيته.
وتناقل أهل القرية خبر الثوم فيما بينهم، فقال أحد الشبان ساخرًا من الخبر :



  • غبنا، بينكسر الجبل كله.
    وقال آخر عندما رآه عائدًا وهو يحمل وعاء الثوم الفارغ:
    بكم من الثوم ؟
    أما النساء فلقد وجدن ما يجعل صباحاتهن ألذ من التمر مع القهوة، فتدفقت منهنّ الحكايات، وهنّ يطلقن ضحكات طويلة كأنها شلالات ماء تسقط من الأعالي.
    وبعد انقضاء أسبوعين جاء اليوم الذي رأى فيه القافرُ الصخرة جاهزة لمسماره ومطرقته، فهم بالصعود إليها متحديا صلابتها، لكنه قبل أن يفعل ذلك سمع صوتًا يناديه باسمه من المنحدر، فتوقف كي يرى ذلك المتطفل على خلوته.
    أمسك المطرقة بيد والمسمار بيد وظل واقفا مكانه ينظر إلى ذلك الغريب الصاعد نحوه، وبين لحظة وأخرى يطرق بالمسمار على المطرقة وينصت إلى تردّد الرنين الذي يحدثه وكأنه يقيس مدى توغل الماء في الحجر، يطرق ويستمع إلى الرنين ويرقب في الوقت ذاته الرجل وهو يقترب.
    وإذا هو شاب في الثلاثين من عمره متوسط الطول، يلبس دشداشة بيضاء ويعتمر مصرًا أزرق اللون مزركشا وفي أطرافه بعض الكشاكش الصوفية، ويضع حول وسطه حزاما مملوءا بالرصاص ويعلق بندقية على كتفه اليسرى. حياه وقدم له التمر والقهوة ودخل معه في نقاش عن المحل والجفاف والقرى التي ماتت وهجرها أصحابها.
    وبعد احتساء القهوة قال الزائر لسالم بن عبدالله :
    أنت القافر.
    هيه.

  • قاصدنك، دلوني عليك اسمي محسن بن سيف، هناك بلاد ميتة، ما باقي من أصحابها غيري، وأريدك تشوف الفلج.
    رفع القافر رأسه ونظر بتمعن شديد في عيني محدثه وبعد برهة
    أجاب:
    من زمان عاهدت نفسي ما أقفر .
    ثم حدث الرجل الغريب عما حدث لأبيه، وعن قراره التوقف نهائيا عن القفر، وعن السنين التي تلت ذلك، والناس الذين جاؤوا إليه حتى يقتفي لهم أثر الماء في قراهم الميتة، وختم كل ذلك بالقول:
    ايش الفايدة، الماي فهذي الأرض فاسد ويخلق نفوس فاسدة.
    تأمل الرجل وجه القافر وتقاسيمه القاسية التي تشكلت عبر السنين، فرأى في عينيه وهجا ضئيلا ربما خبا مع الحياة، لكنه أدرك وجوده، ثم تأمل أذنيه الكبيرتين والشعر النابت على حوافهما فأحس بأن كل شيء فيه يشي بغرابة ما. وبعد ذلك قال له :
    ما تقدر تغيّر فساد الناس، لكن تقدر تبتعد عنه.
    هز القافر رأسه، التفت إلى الصخرة ومسح عليها بيده، ثم دار ناحية الرجل وابتسم وهو يقول:
    كل شيء يغيب الناس والبلاد، أخبار التي عرفناهم وحكاياتهم، كل شيء يغيب وما يبقى لنا إلا الوجع.
    وضع محسن بن سيف يده على كتف القافر، وهو يقول له:

  • تقدر توقف كل هذا الوجع. بلاد ما تبغاك اتركها، دور بلاد تعيش فيها بكرامتك لو غريب، ولا تعيش فبلاد كل همها ترميك بأمراضها.

  • وين أروح ؟
    تشتغل الفلج، والشرط إذا خرج الفلج حالك نص البلد.
    عقد القافر حاجبيه ونظر في وجه صاحبه لعله يكتشف فيه لوثة أو جنونا، فإذا هو يقطع عليه تأمله ويقول له:
    أنا ما مجنون هذا اتفاقي معك، تروح معي وتقفر الماي وتشتغل الفلج وأجيبلك من يشتغل معك، ومن يطلع لك نص البلد كما وعدتك.
    التفت القافر إلى صخرته وربت عليها متفكرا، هل سيتركها بعد أن أنفق كل ذلك الوقت محاولا كسرها ؟ هل سيرحل ببساطة بعد أن تحمل كل ذلك الكلام؟ لكن كيف له أن يرفض عرضًا كالذي قدم إليه ؟ لو أنه وجد الماء فله نص البلد، سيرحل عن تلك البلدة ويستريح في بلاد لا يعرفه فيها أحد. وماذا عن زوجته؟ هل ستوافق أم ستحذره من مغبة رجوعه عن وقف القفر؟ وهل سيتوقف عن حفر الصخرة وهو يود أن يرى مفعول الثوم فيها؟
    كانت الساعة تقارب وقت الظهيرة، فعرض القافر على الرجل أن يتغديا معًا، فوافق الضيف بلا تردّد، ثم نزلا عن التلة متجهين إلى بيت القافر.
    بعد الغداء ذهب سالم بن عبدالله القافر إلى سلام ود عامور الوعري وطلب منه أن يأتي معه إلى منزله، وكرر عليه الرجل الرواية التي قالها للقافر. وكان هم سالم أن يستشير صاحبه المسن في أمر تلك القضية الحاضرة، ولكن الوعري نفض يديه من التراب في المجلس السعفي بحوش بيت القافر، وتنهد طويلا وصمت.
    فلما نظر إليه سالم بن عبدالله نظرة استفهام، ابتسم له، ثم سأل
    الضيف:

  • هذا لو اشتغل سالم الفلج وطلع الماي، لكن لو ما طلع شي؟
    أجاب محسن بن سيف وهو يمسح شيئًا ظن أنه عالق في وجهه :
    له عن كل يوم أجرة قرشين ونص.
    أعجب الوعري بدقة الرجل وسرعته في تحويل الأمور لصالحه، ثم سأل القافر ضيفه:
    لو نزلت وطاح الفلج، ايش يستوي ؟
    دهش محسن بن سيف من هذا الاحتمال الغريب

  • ليش يطيح فيك الفلج ؟ ليش تقدم الشر على الخير ؟
    كان القافر يجلس منكسًا رأسه فرفعه ونظر في وجه ضيفه :
    كل شيء يستوي وفي غمضة عين.
    عندئذ أجاب الرجل وقد حوّل نظره ناحية الوعري:
    كل فلوسك توصل لزوجتك، وأموالك تبقى لها.
    فاقترح الوعري كتابة صك توضح فيه هذه الأمور كلها، وقال:

  • تتكاتبوا الدنيا فيها حياة وموت، ولازم نضمن كل شيء.
    وتبعا لذلك كتب محسن بن سيف الكتب المطلوب وأشهد عليه الوعري.
    قص على زوجته حكاية الرجل وبلدته، وأعلمها بنيته العمل في فلج الغبيرة، وبالاتفاق الذي عقده مع الرجل بحضور الوعري، لكنها عجزت عن الكلام، وظلت تحملق في وجهه طويلا.
    أخافتها ذكرى عودته منذ سنوات والفقد يثقل كاهله والحالة التي كان عليها عندما انهار الفلج على أبيه، وجعلتها تتوجس من فكرة أن يعود إلى خدمة الأفلاج والبحث عن الماء. لقد كانت عقب كل صلاة تدعو ربها ألا يعود إلى كل ذلك، وأن يهدأ ويعيش كما هو، مادام لديهما ما يكفي ليعيشا مستورين. وعندما عاد إلى فلق الصخرة شعرت بأنّ كل السنين التي مرت لم تزل الفكرة من رأسه، وأن أدعيتها لم يستجب لها .
    انحدرت دموعها على وجنتيها، فأخذ كفيها بين كفيه، وأخبرها بهدوء أنه سيعود، وسوف يأخذها معه ويخرج من هذه القرية إلى الأبد، ليعمرا معا نصيبهما من ضواحي القرية الجديدة
    تسرب هدوء صوته إلى نفسها، وهو يشرح لها ثانية ما وقع الاتفاق عليه والفرصة العظيمة التي انبثقت من المجهول.
    اتفق القافر مع محسن بن سيف على أن يسريا قبل أذان فجر اليوم التالي كي لا يعرف الآخرون الجهة التي سيذهب إليها، وأخبر زوجته بأن تبقي الأمر سرا بينهما، مستعينا بالكتمان في مواجهة الكلام الذي لا ينتهي في بلدته. وإنّما فعل ذلك مخافة أن يتدخل أحدهم في الأمر فيقلق زوجته في غيابه.
    خرج القافر مع محسن بن سيف من قرية المسفاة، ذاهبين إلى
    مجهول لا أحد يعرف مداه. وفي تلك المرّة فقط شعر بأنه يذهب
    إلى مكان بدافع المصلحة وحدها، من دون أن تحركه رغبة في اقتفاء
    الماء. فظل سمعه متعلقا بتلك الصخرة في قمة الجبل وبذلك الخرير
    الذي استمر لحنه يسيل في جمجمته. لكنه بعدما تقدم في سفره صار ينصت إلى الأصوات الآتية من كل الجهات، ليتعرف عليها صوتًا تلو آخر، فيتمهل في مشيه حينا وراء الرجل، ويُسرع تارة أخرى فيتجاوزه، أو يحاذيه كأنه بلغ مرحلة تناغم الحركة مع الصوت.
    انقضت أيام وهما يمشيان إلى القرية الميتة، وتوقفا مرات عديدة بحثًا عن عمال في القرى التي مرا بها. كان التفاوض يأخذ وقتا طويلا حتى يقتنع الشخص الذي يتحدث إليه محسن بن سيف. وكان محسن يحب أن يبدأ كلامه بتقديم القافر، وقد شاعت سيرته وامتد ذكره فوصل إلى القرى البعيدة، وصار الناس يجتمعون حوله ليروه، ويسألوه عن الماء والقرى التي زارها، والحكايات
    التي سمعوها عنه، فيؤكد بعضها وينفي معظمها، وقد لحقها من التحريف ما يجعلها لا تصدق.
    وإحدى تلك الحكايات تزعم أنه ظل زمنا طويلا يبحث عن الماء في قرية الوضيحي بلا جدوى، حتى كاد يجن وبدأ يضرب رأسه بحجرين من حجارة الوادي. تناقل البعض أن الجن عاقبوا القرية وسحبوا ماءها إلى الأرض السفلية. وادّعى آخرون أن ساحرًا مر على قرية الوضيحي وأُعجب بفتاة وطلبها للزواج لكن أهلها رفضوه، فقرأ عليهم تعويذة سحب بها الماء وطواه بيده كما يطوي السجادة، ثم رفعه على ظهره وذهب خارجًا من القرية حتى اختفى بين الجبال، وعندما تبعوه لم يجدوا له أثرًا.
    وفي كل قرية مرّ الرجلان بها كان محسن بن سيف يتفاوض مع أهلها، فيخرج أحيانًا بشخص أو شخصين، ويستعصي ذلك في أغلب المحاولات، ولكن لم يكن ذلك ما يقلق القافر فخمسة أنفار يكفون لخدمة الفلج، ما كان يُقلقه حقا هو أنه لم يقف حتى ذلك الوقت على موضع الفلج ولا يعرف ماهية الأرض ولا طبيعة الحصى والتراب، ولا كيف هي القناة القديمة للفلج. أمازالت صامدة مثلما هي أم اندثرت ؟ وهل هناك قرى قريبة منها يستعينون بها إن قل الزاد أو الماء؟
    في الطريق، كانت الحكايات تتناسل من أفواه الرفاق، عن الخصب الذي كان في مقابل ما حلّ بالقرى من المحل، عمن سافروا بعيدًا إلى أصقاع الأرض ولم يعودوا، وعن الجوع والحروب
    التي يولّدها الجفاف. حكايات تتكاثر وتنتشر فتسافر إلى أمكنة لا حصر لها. والدرب الطويل يحتاج إلى الحكايات حتى يقصر.
    عند وصولهم إلى القرية الميتة، رأى القافر المكان المغبر وأطلال البيوت وبقايا الضواحي وقد تناثرت حجارة جدرانها وانهارت سواقيها. لم يكن في المكان مسكن واحد يأوون إليه، في ذلك الوقت من السنة وقد حلّ الشتاء، وزاد عصف الرياح الباردة التي تشتد في الليل فتخرق الجلد واللحم وتستقر في العظم، لكنهم عثروا على كهف واسع يُطل على القرية، فنظفوا أرضه وهيؤوه للمقام.
    بحثوا عن مصدر للماء، فانتشروا في الوديان القريبة حتى عثروا على نبع صغير يخرج من كومة حصى، فيختلط ماؤه بالتراب ويغور في الأرض. فجهزوا له حوضًا صغيرًا من الطين ساعد في احتجاز مياهه، وضمنوا بذلك ماءً لشربهم وطهي طعامهم، في وادٍ قريب من كهفهم، لا يفصله عنهم سوى عقبة جبلية من يتجاوزها ينته إلى النبع.
    عندما استقر بهم المقام، خرجوا مع القافر متتبعين قناة الفلج، فدخل أحدهم الفلج من بدايته، وكانت القناة منخفضة، لكنها تكفي للولوج. أخذ معه مطرقة وتوغل في الداخل فلما وصل إلى الفرضة الأولى طرق على الجدار وصرخ حتى سمعوا طرقه وصراخه فبدؤوا في إزاحة الحصى والركام عن الفرضة إلى أن بلغوا سقفها وأزاحوه. عندئذ انفتح المكان وعبر الضوء إلى الداخل وأنار
    جزءا من الفلج فاستطاع الرجل أن يرى الساعد الرئيسي وهو يمتد في الأرض مع علو الوادي.
    ثم صرخ الرّجل مفزوعا لسماعه صوتًا هادرًا يتعالى من عُمق القناة، وما هي إلا لحظات حتى هاجمه سرب من الخفافيش التي داهمها الضوء فاستيقظت من سباتها. وكان رد فعله الغريزي أن استدار والتصق بجدار القناة وغطّى رأسه بذراعيه، تاركًا إياها تخرج من فتحة الفرضة وتحلّق بعيدًا إلى أعالي الجبال. مكتبة
    وحينما اتسعت القناة، وارتفع سقفها، نزل رجل آخر ليرافق صاحبه، وغابا في العتمة باحثين عن الفرضة الثانية حتى عثرا عليها، وفتحاها فاندلق الضوء والهواء واتضحت أبعاد الجدران وتفاصيلها.
    تعاقبت الأيام واستمر العمل القناة تشق الوادي والرفاق يفتحون الفرضات، وبعد الفرضة الحادية والعشرين علقوا في الداخل، لأن ثقب القناة الذي كان الماء في ما مضى يمر منه لا يكفي لدخول أي واحد منهم. فصرخ أحدهم على الموجودين في الخارج:

  • هذا الفلج فيه خاتم.
    وعمال الأفلاج يُدركون معنى الخاتم في قناة فلج ما، ذلك المكان الذي لا يستطيعون ولوجه فيتركون ثقبا دائريا واسعا في الصخر يسهل للماء الخروج منه، ثم يتعدونه ويدخلون من الفرضة التالية. ولقد حاول الجميع الزحف عبر الخاتم لكن أجسامهم كانت
    أعرض من الثقب فخرجوا باحثين عن طريقة أخرى للوصول إلى الفرضة التالية.
    وبواسطة العصا التي كان محسن بن سيف يحملها دوما في يده، قاس القافر المسافة بين الفرضات فوجدها متساوية، واكتشف بذلك موقع الفرضة الثانية والعشرين وبدؤوا يبحثون عنها ويحفرون حتى عثروا على سقفها، وعندئذ ولج العمال إلى الداخل مكملين توغلهم في الفلج، باحثين عن نقطة النهاية.
    حتى ذلك الوقت لم يصغ القافر إلى الأعماق، ولم يترك لأذنيه السبيل لاختراق الطبقات بحثًا عن عروق الماء في ذلك الوادي العظيم الممتلئ بالحصى والصخور والأتربة. كان معهم، يعمل في اختراق الأرض والكشف عن مكمن السواعد القديمة للفلج، يزيح الحصى والتراب ويدخل إلى الأعماق. يمشي بظهر منحن أحيانًا، وأحيانًا يستقيم جسده فيمشي منتصبًا، وفي بعض الأحيان يضطر إلى الحبو والزحف على بطنه حتى يجتاز منطقة منخفضة جدا.
    وبعد شهر من العمل استطاعوا الكشف عن فرضات الفلج والدخول إلى قناته. كان كلّ شيء على حاله مصونًا وقويا. وهو ما جعلهم يعتقدون أنهم لم يبق لهم من العمل سوى البحث عن مكمن الماء، لكنهم قبل أن : يصلوا إلى أم الفلج وجدوا السقف منهارًا على القناة وبذلك غاب أثرها. فقد ملأت الصخور الفلج وشكلت جدارًا قويا يحول بينهم وبين بحثهم عن ذلك الجدول الممتد في غور الأرض.
    قاسوا المسافة كما فعلوا في الفرضات السابقة لعلهم يجدون سقف أمّ الفلج، لكنّهم لم يعثروا عليه. ولما حفروا في الزوايا كلها بشكل دائري ولم يصلوا إلى نتيجة، بدأ اليأس ينخر قلوب العمال، وحدثوا أنفسهم بأن لا جدوى من الاستمرار في البحث، فكل شيء قد طمر ولم يعد له وجود.
    أغمض القافر عينيه، تاركًا أذنيه تستعيدان ملكتهما التي عمل على كبتها منذ زمن بعيد. سافر مع الأصوات في باطن الأرض، وفي تلك اللحظات كان رفاقه يرحلون وقد أنهوا مهمتهم لذلك المساء عائدين إلى مسكنهم في الكهف. سمع أقدامهم وهي ترحل، تركوه في مكانه غير مدركين ما يفعله، اعتقدوا أنه يستريح قليلا من جهد العمل وأنه سيلحق بهم فيما بعد. وكان يحتاج إلى ذلك الصمت، إلى ذلك الرفيق الذي لطالما تسربت الأصوات الخفية من خلاله. ولم يلبث أن بدأ يُصغي ويتعرّف على أصوات الكائنات من حوله تماما كما كان يفعل في الماضي.
    عاد الصداع إليه مجددًا، ثقل رأسه واحمرت عيناه من شدّة الألم، وتذكر حكايات كاذية بنت غانم عن الصداع الذي كانت أمه تعاني منه . لم بدا له في تلك اللحظة بالذات أن كل تلك المطارق التي ظلت تدق في رأسها هي نفسها التي تدق في رأسه وقتئذ، وأن كل ما يشعر به قد ورثه عنها ؟
    في اليوم التالي أخبر الرفاق بأنّ بينهم وبين الماء مسافة أمتار بسيطة، وأفهمهم أن أمّ الفلج التي يبحثون عنها تحت أقدامهم،
    وأن ذلك الردم قد حبس منبع الماء وباستطاعتهم أن يصلوا إليه قريبا.
    منذ ذلك الصباح حتى الليلة الأخيرة التي قرر فيها الجميع أن يتوقفوا عن الحفر لم يعثروا على قطرة ماء واحدة ولا عن بلل في الأرض يوحي لهم بأنّ هناك ماءً قريبًا منهم. حفروا نفقا طويلا امتد لأمتار بلا فائدة. كان صوت الخرير يطغى على أذني القافر كلما دخل المكان، فيسمع الصوت ولا يرى أثرًا للماء.
    قال له أحدهم:

  • ما هو القافر بو نعرفه
    وقال له آخر :

  • أظن أنك شيبت.
    وبدأت كلمات السخرية تتهاطل من أفواههم.
    وفي صباح اليوم الموالي أخذ أشياءه وعدته وقد قرر الرجوع قبل الجميع، وعندما وصل إلى أمّ الفلج نزل إلى بطنه، وعمل بمطرقته ضربًا في المكان الذي يسمع فيه صوت الماء قريبا منه.
    قرر الجميع مغادرة المكان ولم يتأخروا في جمع أمتعتهم، فقد اكتشفوا بأنّ القافر قد رحل عنهم، ولم تعد لهم أهمية تذكر، لذلك غادروه دون رجعة.
    حفر بقوته كلها. كان ساعده يهوي على الحجر ويفتته ثم يزيح الركام إلى خلفه ويحفر النفق. حفر بأصابعه، تتبع ذلك الصوت
    الذي يملأ رأسه ويعذبه، تذكّر حكايته مع الصخرة في تل النوح وأيقن أن لا ماء في تلك الصخرة، لقد كان كل ذلك في جمجمته فحسب. أيقن أن الأصوات لا حقيقة لها، وفي لحظة يأسه العظيمة تلك، هوى بقوته كلها على صخرة كبيرة في وسط النفق فتهشمت وتدفق الماء منها سيلا هادرًا يملأ القناة. حينئذ لم يجد القافر ما يتشبث به، فجرفته المياه إلى الأعماق.


Summarize English and Arabic text online

Summarize text automatically

Summarize English and Arabic text using the statistical algorithm and sorting sentences based on its importance

Download Summary

You can download the summary result with one of any available formats such as PDF,DOCX and TXT

Permanent URL

ٌYou can share the summary link easily, we keep the summary on the website for future reference,except for private summaries.

Other Features

We are working on adding new features to make summarization more easy and accurate


Latest summaries

تواصل مليشيا ال...

تواصل مليشيا الحوثي الإرهابية حملة ميدانية موسعة منذ أكثر من أسبوعين، استهدفت خلالها الباعة المتجولي...

"النمنم" حسب قص...

"النمنم" حسب قصص الجدات والأهل، شخصية الرعب الأخطر، وهو يظهر بين آونة وأخرى، آكل لحوم بشرية من طراز ...

يهدف قسم بحوث أ...

يهدف قسم بحوث أمراض الفاكهة والأشجار الخشبية إلى النهوض بإنتاجية محاصيل الفاكهة وحمايتها، وذلك عبر إ...

Introduction Gl...

Introduction Global warming is one of the most pressing environmental issues of our time. It refers ...

في إيطاليا، سبق...

في إيطاليا، سبق عصر النهضة الأصلي "نهضة ما قبل النهضة" الهامة في أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن...

لاحظات هامة: • ...

لاحظات هامة: • لا تنقضي شركة التوصية البسيطة بوفاة أحد الشركاء الموصين (غير المتضامنين) أو بالحجر عل...

يطلق مصطلح الفن...

يطلق مصطلح الفن الإسلامي على جميع الفنون التي تم إنتاجها في البلدان التي كان الإسلام فيها هو الدين ا...

This rule place...

This rule places minimum responsibility on the seller, who merely has to make the goods available, s...

Macbeth, set pr...

Macbeth, set primarily in Scotland, mixes witchcraft, prophecy, and murder. Three "Weïrd Sisters" ap...

يشارك القسم بشك...

يشارك القسم بشكل فعال مع مكون تربية الأرز بمعهد المحاصيل الحقلية في تطوير أصناف أرز متحملة للأمراض، ...

(٣) أسرار نجاح ...

(٣) أسرار نجاح العمل أما نجاح العمل فيتوقف على بذل القوى في محالِّها وأوقاتها الملائمة بالحكمة وحسن ...

بدايات سورة الح...

بدايات سورة الحج تتحدث عن من يصد عن سبيل الله تتحدث عن من جعل أهم هدف وغاية له الصد عن سبيل الله سبح...