Online English Summarizer tool, free and accurate!
تسعى الإبستمولوجيا التكوينية إلى توضيح المعرفة، وإلى تكوينها الاجتماعي Sociogenesis وإلى الأصول السيكولوجية للأفكار والعمليات التي تعتمد عليها بصفة خاصة. ولقد استندنا في رسم الجزء الأكبر من تلك الأفكار والعمليات إلى الحس المشترك Com- Monsense وعليه فإن هذه الأصول يمكن أن تلقي الضوء على مغزاها كمعرفة ذات مستوى أعلى. كما تأخذ الإبستمولوجيا التكوينية في اعتبارها أيضاً، الصياغة المنطقية التي تنطبق على بنيات الفكر المتوازنة Equilibrated Thought وعلى حالات معينة من التحولات التي ينتقل فيها الفكر - في مجرى تطوره - من مستوى إلى آخر. وقد يصطدم الوصف الذي خلعته على طبيعة الإبستمولوجيا التكوينية بمشكلة هامة، ذلك لأن العديد من الفلاسفة والإبستمولوجين ينظرون إلى الإبستمولوجيا بوصفها دراسة للمعرفة كما هي في اللحظة الراهنة فهي في نظرهم تحليل للمعرفة استناداً إلى غايتها الخاصة، أما تتبع تطور الأفكار أو تطور العمليات فربما يكون - في رأيهم - من شأن المؤرخين أو علماء النفس وليس من شأن الإبستمولوجيين بشكل مباشر. وعليه فلا بد أن أواجه باعتراض على المحاولة التي أقوم بها هنا لتشييد الإبستمولوجيا التكوينية. أن تعزل البنيات الأساسية لكل الفروع الرياضية. One أود أن أذكر مثالاً أو مثالين عن المجالات التي يمكن أن نفهم من خلالها، فلقد طور كانتور هذه النظرية على أساس عملية أساسية جداً، هو أن نظرية المعرفة إنما تدرس بشكل أساسي مسألة صحة العلم، ومعايير هذه الصحة وتبريرها . وإذا قبلنا وجهة النظر هذه، المترجم) حيث تـ فالتزامن إذن، وإنما هو بناء عقلي. وقد ألف هنري بوانكاريه (7) Henri Poincare - قبل أينشتين بوقت طويل - العديد من المؤلفات التي تعالج تحليل فكرة التزامن، وأماط اللثام عن الكثير من تعقيداتها . وإذا قرأنا الآن مقالاته في هذا الموضوع - وهي جميعها بالمناسبة ذات أهمية قصوى - وذلك بعد أن نكون قد نظرنا في عمل أينشتين الأخير بتمعن لوجدنا أن تأملاته قد اعتمدت كلية تقريباً على الحجج السيكولوجية. بل أن أينشتين نفسه قد لمس أهمية العوامل ذلك لأنه عندما أتيحت لي فرصة مقابلته لأول مرة في عام 1928 ، أفكار التزامن ولكن ما أود الآن هو أن أذكره هو المعطيات السيكولوجية ليست مجرد عامل مساعد، فالواقع أن جميع الإبستمولوجيين يشيرون إلى العوامل السيكولوجية في تحليلاتهم، تأمليه لا تستند إلى البحث السيكولوجي. وإنني لمقتنع تماماً بأن الإبستمولوجيا تعالج موضوع المشكلات الواقعية بنفس القدر الذي تعالج به المشكلات الصورية، فإذا ما تصادمت المشكلات الواقعية ذات مرة، فستصبح الاكتشافات السيكولوجية كفيلة بمعالجة هذا الأمر، لذلك ينبغي أن تؤخذ في الحسبان، والشيء المؤسف بالنسبة للسيكولوجيا هو أن كل شخص يعتقد في نفسه أنه سيكولوجي. حتى وإن بدت من الوهلة الأولى أنها بعيدة كل البعد عن المشكلة. فعلينا - طبقاً لهم - أن نستخدم ببساطة السنتاكس العام Syntax أو السيمانطيقا العامة Semantic أو البراجماطيقا العامة (1) Pragmatic وذلك المعنى الذي قرره موريس 40Morris واعتمد الوحدة في هذه الحالة، إنما تشتق من اللغة، إذ أن المنطق والرياضيات ليسا سوى بنيات لغوية متعينة، أن المواقف النظرية في حقل الدراسات اللغوية ذاته، فلقد تمسك بلومفيلد Bloomfield في ذلك العصر وبشكل كامل، أما الآن، على أن اللغة هي التي تعتمد على المنطق، بل ويرى أن هذا العقل فطري Innate وربما يكون قد مضى بعيداً جداً بتأكيده على فطرية العقل ولكن أعود فأكرر مرة أخرى، 41هذه الأيام والتي ترى أن اللغة تعتمد على العقل، على البحث السيكولوجي، لست راغباً في أن أعطي انطباعاً بأن الإبستمولوجيا التكوينية إنما تسعى إلى الاعتماد بشكل كامل وقاطع على السيكولوجيا، نرى أن الصياغة المنطقية ضرورية تماماً في كل وقت، حينما تصادفنا بنية مكتملة ما، والصياغة المنطقية من جهة أخرى. ولكن على الرغم من إدراكنا لأهمية الصياغة في الإبستمولوجيا، إلا أننا ندرك أيضاً أن هذه الصياغة ليست كافية في حد ذاتها. وقد بذلنا محاولة لتوضيح المجالات التي يكون فيها التجريب السيكولوجي ضرورياً وذلك لكي نلقي الضوء على مشكلات إبستمولوجية معينة، وهكذا إذا التجأنا إلى منطق وحيد لكان مفتقراً إلى القوة، وإذا التجأنا إلى العديد من علوم المنطق لكانت قوية جداً، ولكنها تفتقر إلى الاتساق فيما بينها الأمر الذي يحول دون تأسيس المعرفة عليها . فأي نسق لكي يكون قوياً ومتسقاً بشكل كاف، ولكن ما هو هذا الشيء بالضبط ؟ أو ما هو ذلك الشيء الذي يصوغه المنطق؟ وهذه مشكلة غاية في الأهمية، والآن ما هو بالضبط الذي يقع تحت البديهيات التي لا يمكن البرهنة عليها والأفكار التي لا يمكن تعريفها ؟ تسمى هذه بمشكلة البنية في المنطق. غريماً قوياً للسيكولوجية بصفة عامة، فقد شرفنا بحضوره في إحدى ندواتنا التي عقدناها لمناقشة الإبستمولوجيا التكوينية، وفي نهاية الندوة وافق بت على أن وهو لم يقصد بإعلانه هذا أن ترتبط السيكولوجية بالمنطق ارتباطاً مباشراً - فهذا ما لم يقصده بالطبع - وإنما هو يؤكد أن الإبستمولوجيا تتعامل مع المنطق والسيكولوجية معاً، ولذلك ينبغي أخذهما معاً في الاعتبار، وهكذا، نستخلص من ذلك أن الإبستمولوجيا التكوينية إنما تتعامل مع كل من صورة Formation ومعنى Meaning المعرفة. ويمكننا أن نصوغ مشكلتنا في العبارات التالية : بأي معنى يمضي العقل الإنساني من حالة تكون فيها المعرفة أقل إلى حالة تكون فيها المعرف أعلى ؟ الواقع أن البت في ما هي المعرفة الأقل، وليس من اختصاص السيكولوجيين أن يحددوا ما إذا كانت حالة المعرفة أسمى من حالة أخرى أم لا . هي أن نوضح كيف يتم الانتقال من معرفة ذات مستوى أدنى إلى معرفة ذات مستوى أعلى. لأن طبيعة هذه الانتقالات تعد مسألة واقعية. رغم أنهما متكاملان المظهر الأول هو المظهر المجازي أو التشبيهي) Figurative Aspect أما الآخر فإنني أسميه المظهر الفعال Operative ويعد المظهر المجازي محاكاة لحالات لحظية واستاتيكية (سكونية). محاكاة مستدخلة Interiorized Imitation وذلك على خلاف المظهر الفعال للفكر الذي لا يتعامل مع حالات، وإنما يتعامل مع تحولات الفكر من حالة لأخرى. ولكي أعبر عن نفس الفكرة بطريقة أخرى، فإن معرفة الواقع يعني بناء اتساق فإننا نأخذ في اعتبارنا أيضاً التأثير نفسه أو العملية إن شئت، فصفها في صف واحد، فوجدها لأنه عندما يعدها، يجد عددها عشراً. وإنما إذن فالمعرفة التي جعلت هذا الطفل - الذي سوف يصبحرياضياً فيما بعد - يكتشف ذلك، الأفعال الفردية مثل القذف والدفع واللمس والاحتكاك، والشكل الرابع هو الذي يقيم نقط تقاطع Intersections بين الأفعال. كما تتطور أخيرا في الفكر،
تسعى الإبستمولوجيا التكوينية إلى توضيح المعرفة، والمعرفة العلمية بصفة خاصة وذلك استناداً إلى تاريخها، وإلى تكوينها الاجتماعي Sociogenesis وإلى الأصول السيكولوجية للأفكار والعمليات التي تعتمد عليها بصفة خاصة. ولقد استندنا في رسم الجزء الأكبر من تلك الأفكار والعمليات إلى الحس المشترك Com- Monsense وعليه فإن هذه الأصول يمكن أن تلقي الضوء على مغزاها كمعرفة ذات مستوى أعلى. كما تأخذ الإبستمولوجيا التكوينية في اعتبارها أيضاً، وبقدر المستطاع الصياغة Formaliz Ation وبصفة خاصة، الصياغة المنطقية التي تنطبق على بنيات الفكر المتوازنة Equilibrated Thought وعلى حالات معينة من التحولات التي ينتقل فيها الفكر - في مجرى تطوره - من مستوى إلى آخر.
وقد يصطدم الوصف الذي خلعته على طبيعة الإبستمولوجيا التكوينية بمشكلة هامة، أعني النظرة الفلسفية التقليدية للإبستمولوجيا . ذلك لأن العديد من الفلاسفة والإبستمولوجين ينظرون إلى الإبستمولوجيا بوصفها دراسة للمعرفة كما هي في اللحظة الراهنة فهي في نظرهم تحليل للمعرفة استناداً إلى غايتها الخاصة، ومن خلال إطارها الخاص، دونما اعتبار إلى كيفية تطورها . أما تتبع تطور الأفكار أو تطور العمليات فربما يكون - في رأيهم - من شأن المؤرخين أو علماء النفس وليس من شأن الإبستمولوجيين بشكل مباشر. وعليه فلا بد أن أواجه باعتراض على المحاولة التي أقوم بها هنا لتشييد الإبستمولوجيا التكوينية.
بيد أنه يمكنني - فيما يبدو لي - أن أضع الرد التالي على مثل هذا الاعتراض: لا شك أن المعرفة العلمية تطورية على الدوام، فهي تتغير من حين لآخر. وعليه فلا يمكننا أن نقرر من جهة أن للمعرفة تاريخاً، ثم ننظر من جهة أخرى إلى حالتها الراهنة كما لو كانت نهائية أو ثابتة. إن الحالة الراهنة للمعرفة إنما هي لحظة في التاريخ، تتغير بنفس السرعة التي
35تكون فيها حالة المعرفة في الماضي قد تغيرت، بل وفي حالات عديدة تتميز بسرعة أكبر، ومن ثم فإن الفكر العلمي ليس لحظياً، إذ أنه ليس حالة استاتيكية (سكونية)، إنما عملية A Process وبتحديد أكثر، عملية بنيان وإعادة تشييد مستمرين. ويصدق هذا غالباً على كل فرع من فروع البحث العلمي. ويطيب لي أن أذكر في هذا الصدد مثالاً أو مثالين تقريبيين.
يتعلق المثال الأول وهو معترف به غالباً في مجال الفيزياء المعاصرة أو بشكل أكثر تحديداً، بالميكروفيزياء، حيث تتغير حالة المعرفة من شهر لآخر، وفي غضون عام نجدها قد تغيرت تغيراً ذا مغزى، بل وغالباً ما تحدث هذه التغيرات من خلال عمل مؤلف واحد يكون قد عدل من نظرته الموضوع بحثه أثناء سير خطته. دعونا نتناول كمثال خاص في هذا الصدد العالم الباريسي لوي دي برولي (1) Glie Louis De Bro إذ أنه منذ سنوات قليلة خلت تبنى وجهة نظر نيلزبور Niels Bohr اللاحتمية، وتابع مدرسة كوبنهاجن (2) التي اعتقدت أن خلف الحوادث الميكروفيزيائية اللاحتمية، لا يمكن البرهنة على أسباب ضرورة هذه اللاحتمية. حسناً، وكما يحدث غالباً فإن دي برولي غير رأيه بناء على الواقع الجديدة، وأصبح يصر الآن على تبني وجهة النظر المعارضة تماماً. ولقد ذكرنا هنا مثالاً واحداً عن التحول في الفكر العلمي، واستندنا في ذلك ليس على مجرد تعميمات متتالية متعددة، وإنما على مهنة أحد رجال العلم المبدعين.
(3) دعونا نتناول الآن مثالاً آخر، لكنه هذه المرة من مجال الرياضيات. فقد حاولت مجموعة بورياكي Bourbaki Group الرياضية منذ عدة سنوات، أن تعزل البنيات الأساسية لكل الفروع الرياضية. فتوصلت إلى تشييد ثلاث بنيات أصلية بنية جبرية وبنية ترتيب Ordering وبنية توبولوجية Topological وهي تلك التي اعتمدت عليها المدرسة البنيوية للرياضيات. والتي نظر إليها بوصفها أساساً لكل البنيات الرياضية، منها تشتق جميع البنيات الأخرى. والحقيقة أن هذا الجهد الذي بذله هؤلاء الرياضيون والذي كان مثمراً إلى هذا الحد، لم ينجز على مدى طويل، وإنما حدث ذلك التغير على الأقل، عندما طور كل من ماك لين Mclaione وآيلنبرج Eilenberg المقولات، وهي تلك الفكرة التي تؤخذ فيها مجموعة عناصر معا
36تعرف على أساسها مجموعة كل الدوال. وكنتيجة لذلك لم يتخذ البعض من مجموعة بروباكي موقفاً متزمتاً، وإنما وضعوا في اعتبارهم الفكرة الأكثر حداثة عن المقولات. نجد هنا مرة أخرى مجالاً أساسياً ابعد للتفكير العلمي الذي تغير بسرعة فائقة.
لنكرر مرة أخرى، إننا لا نستطيع أن نقول من جهة إن ثمة تاريخ للتفكير العلمي، وإن مادة الفكر العلمي من جهة أخرى لا تزال كما هي عليه إلى اليوم. بل إن هناك ببساطة تحولاً مستمراً وإعادة تنظيم مستمر. وإن هذه الحقيقة، فيما يبدو لي تتضمن أن العوامل التاريخية والسيكولوجية التي تدخل كعناصر في هذه التغيرات إنما تكون ذات أهمية بالغة في محاولتنا لفهم طبيعة المعرفة العلمية ).
One أود أن أذكر مثالاً أو مثالين عن المجالات التي يمكن أن نفهم من خلالها، وبشكل أفضل تكوين الأفكار العلمية المعاصرة، وذلك على ضوء العوامل السيكولوجية أو السوسيولوجية. يتعلق المثال الأول بتطوير كانتور Cantor لنظرية المجموعة. فلقد طور كانتور هذه النظرية على أساس عملية أساسية جداً، ألا وهي عملية تناظر واحد - لواحد To - One Correspondece ويتحديد أكثر، إذا قمنا بتأسيس عملية تناظر واحد لواحد بين سلسلة الأعداد الصحيحة وسلسلة الأعداد الزوجية، فإننا نحصل على عدد لا هو صحيح ولا هو زوجي، وإنما نحصل على عدد أو متناه يسمى ألف صفر (2) Aleph Zero ولقد مكنت هذه العملية الأولية جداً تناظر واحد - لواحد كانتور من أن يمضي خلف سلسلة العدد المتناهي والذي كان يعتبر حتى عصره، عدداً واحداً فقط. والآن من الأهمية بمكان أن نسأل: من أين أتت هذه العملية (تناظر واحد - لواحد ) ؟ إن كانتور لم يخترعها، بالمعنى الذي يخترع فيه المرء بناء جديداً بشكل جذري، وإنما قد
(1) وغالباً ما يذكر في الدوائر الفلسفية رأي آخر، هو أن نظرية المعرفة إنما تدرس بشكل أساسي مسألة صحة العلم، ومعايير هذه الصحة وتبريرها . وإذا قبلنا وجهة النظر هذه، فلا نعدم من يجادلنا في مسألة صحة العلم على هذا النحو، كواقعة غير مناسبة تماماً، إذ أن الأبستمولوجيا التكوينية، كما نراها تعكس بثبات أكثر هذه التفرقة بين المعيار والواقعة بين التقويم والوصف، ونعتقد على العكس من ذلك أنه من خلال التطور الحقيقي للعلم فقط، يمكننا أن نكتشف القيم والمعايير المضمرة التي ترشد وتلهم وتنتظم. ويبدو لنا أن أي اتجاه آخر، إنما
يختزل إلى مجرد الزام تعسفي بمعرفة وجهات نظر شخصية الملاحظ منعزل. (2) - هو التعميم على الفئات غير المنتهية لفكرة عدد العناصر بالنسبة للفئات المنتهية.
(المترجم)
37عثر عليها بتفكيره الخاص، لقد كانت بالفعل جزءاً من عتاده العقلي حتى قبل أن يشتغل بالرياضيات، وذلك لأن الملاحظة السوسيولوجية أو السيكولوجية الأولية جداً، إنما تكشف عن أن عملية تناظر واحد - لواحد تعد عملية أولية. ففي كل أشكال المجتمعات القديمة تعد أساساً للتبادل الاقتصادي، كما نجد جذورها عند الأطفال الصغار، حتى قبل مستوى العمليات العينية Concrete Operations أما المسألة التالية التي تنشأ فهي: ما طبيعة هذه العملية الأولية جداً (تناظر واحد لواحد ) ؟ تقودنا هذه المسألة على الفور إلى مسألة أخرى متعلقة بها، إلا وهي: ما علاقة عملية تناظر واحد - لواحد بتطور فكرة الأعداد الطبيعية؟ وهل يبرر الوجود الواسع الانتشار العملية تناظر واحد - لواحد أطروحة رسل وهوايتهد (4) التي تقرر أن العدد إنما هو فئة من الفئات المتكافئة وتعني أن المتكافئة تعني أن تكون عملية تناظر واحد لواحد ضمن أعضاء الفئات ؟ أو أن الأعداد الفعلية (الواقعية ) Actual Numbers إنما تعتمد على عمليات أخرى بالإضافة إلى عملية تناظر واحد لواحد؟ لواحد ؟ هذه هي المسألة التي سوف نفحصها بتفصيل أكثر فيما بعد.
وتعد هذه واحدة من الأمثلة اللافتة للنظر . حيث ترتبط معرفة الأسس السيكولوجية لفكرة ما ، بالفهم الإبستمولوجي لهذه الفكرة. وبدراسة تطور فكرة العدد عند الأطفال سيتضح لنا ببساطة ما إذا كانت تعتمد على فكرة فئات الفئات المتكافئة Classes Of Equva; Ent Glasses أم أن هناك عملية أخرى تدخل فيها أيضاً.
ظر جداً، حيث تـ
أود الآن أن أمضي إلى المثال الثاني وأن أطرح السؤال الثاني: كيف تسنى لأينشتين أن يعطي تعريفاً إجرائياً جديداً للتزامن عن بعد، وكيف تسنى له أن ينتقد الفكرة البنيوية للزمن الكوني دون أن يسبب أزمة عميقة داخل الفيزياء و (5) إن انتقاده قد استمد جذوره بالطبع من الاكتشافات التجريبية، مثل تجربة ميكلسون - مورلي. ومع ذلك إذا اعتبرنا هذا إعادة تعريف الإمكانية أن تكون الحوادث متزامنة في المسافات البعيدة، لكان هذا مخالفاً لمنطقنا ، لأنه ستكون هناك أزمة طاحنة داخل الفيزياء. ولن يكون في مقدورنا عندئذ إلا أن نقبل إحدى إمكانيتين: أما أن يكون العالم
38الفيزيائي غير معقول، أو أن يكون العقل الإنساني من الضعف بحيث لا يمكنه إدراك الواقع الخارجي. والحقيقة أن شيئاً من هذا لم يحدث، إذ أننا لم نواجه اضطراباً من هذا النوع. صحيح أن بعض الميتافيزيقيين أمثال برجسون أو مارتيان (0) Martin ( وأنا اعتذر للفلاسفة المعاصرين كانوا منزعجين من هذا التطور الذي حدث في الفيزياء، إلا أن الغالبية العظمى منهم، ومن ضمنهم العلماء أنفسهم، لم يعتبروا هذا الانتقاد مؤثراً. لماذا لم يكن هذا الانتقاد مؤثراً ؟ لأن فكرة التزامن ليست فكرة أولية، فهي ليست مفهوماً أصلياً، ولا حتى إدراكاً حسياً أصلياً، ولسوف أبحث هذا الموضوع بتفصيل أكثر فيما بعد، ولكن ما أود أن أذكره في هذه اللحظة هو أن اكتشافاتنا قد أظهرت أن الكائنات الإنسانية لا تدرك التزامن بدقة. فلو أننا نظرنا إلى موضوعين يتحركان بسرعات مختلفة ثم توقفا في نفس اللحظة، فلن يكون لدينا إدراك حسي كاف وسليم بأنهما قد توقفا في نفس اللحظة. وبالمثل، عندما لا يكون لدى الأطفال فكرة دقيقة عما يكون التزامن، فإنهم لا يدركون الأشياء بمعزل عن السرعة التي تتحرك بها الموضوعات، فالتزامن إذن، ليس حدساً أولياً، وإنما هو بناء عقلي.
وقد ألف هنري بوانكاريه (7) Henri Poincare - قبل أينشتين بوقت طويل - العديد من المؤلفات التي تعالج تحليل فكرة التزامن، وأماط اللثام عن الكثير من تعقيداتها . وكادت دراساته في الحقيقة، أن تقوده إلى أعتاب اكتشاف النسبية. وإذا قرأنا الآن مقالاته في هذا الموضوع - وهي جميعها بالمناسبة ذات أهمية قصوى - وذلك بعد أن نكون قد نظرنا في عمل أينشتين الأخير بتمعن لوجدنا أن تأملاته قد اعتمدت كلية تقريباً على الحجج السيكولوجية. ولسوف أبين فيما بعد أن فكرة الزمان وفكرة التزامن إنما تعتمد على فكرة السرعة Speed والتي تعد حدساً أولياً أكثر. لدينا إذن كل الدواعي - الدواعي السيكولوجية - التي تجعلنا نوضح لماذا لم يكن الانتقاد الذي مهد السبيل إلى نظرية النسبية، انتقاداً مهلكاً للفيزياء وإنما كان بالأحرى إعادة لتصويبها. ويمكن للمرء أن يعثر على جذور سيكولوجية لإعادة التصويب هذا ، يتساوى في أهميته مع الأساس التجريبي والمنطقي. بل أن أينشتين نفسه قد لمس أهمية العوامل
39السيكولوجية، ذلك لأنه عندما أتيحت لي فرصة مقابلته لأول مرة في عام 1928 ، أبدى لي اهتماماً بدراسة أصول أفكار الزمان عند الأطفال، وبصفة خاصة، أفكار التزامن
ربما لا يعدو أن يكون ما ذكرته حتى الآن سوى مجرد اقتراح بأنه ينبغي علينا أن نستفيد من المعطيات السيكولوجية بوصفها عاملاً مساعداً إذا ما أردنا أن نفكر في طبيعة المعرفة. ولكن ما أود الآن هو أن أذكره هو المعطيات السيكولوجية ليست مجرد عامل مساعد، وإنما هي أمر لا غنى عنه. فالواقع أن جميع الإبستمولوجيين يشيرون إلى العوامل السيكولوجية في تحليلاتهم، ولكن القسم الأعظم من إستشهاداتهم بعلم النفس، تأمليه لا تستند إلى البحث السيكولوجي. وإنني لمقتنع تماماً بأن الإبستمولوجيا تعالج موضوع المشكلات الواقعية بنفس القدر الذي تعالج به المشكلات الصورية، فإذا ما تصادمت المشكلات الواقعية ذات مرة، فستصبح الاكتشافات السيكولوجية كفيلة بمعالجة هذا الأمر، لذلك ينبغي أن تؤخذ في الحسبان، والشيء المؤسف بالنسبة للسيكولوجيا هو أن كل شخص يعتقد في نفسه أنه سيكولوجي. ولا نجد هذا الأمر بالنسبة لحقل الفيزياء أو الفلسفة، ولكنها الحقيقة المرة بالنسبة للسيكولوجيا، أن يظن كل إنسان أنه سيكولوجي. ويترتب على ذلك أنه إذا ما طلب من الإبستمولوجي إسهاماً سيكولوجياً ما، فإنه لا يشير إلى البحث السيكولوجي، ولا يستثير السيكولوجيين، وإنما يعتمد فقط على تأملاته الخاصة لحل مشكلة سيكولوجية قد تعترضه. ويطيب لي أن أذكر بعض الأمثلة التي توضحأهمية الاكتشافات السيكولوجية بالنسبة للإبستمولوجيا، حتى وإن بدت من الوهلة الأولى أنها بعيدة كل البعد عن المشكلة.
يتعلق مثالي الأول بالمدرسة الوضعية المنطقية، حيث يستعيد الوضعيون المناطقة إبستمولوجيتهم السيكولوجية (4) ويؤكدون أن الوحدات المنطقية والوحدات الرياضية ليست سوى بنيات لغوية Linguitic Stuctures وذلك لأننا إذا أردنا السير في إجراءات المنطق أو الرياضيات، فعلينا - طبقاً لهم - أن نستخدم ببساطة السنتاكس العام Syntax أو السيمانطيقا العامة Semantic أو البراجماطيقا العامة (1) Pragmatic وذلك المعنى الذي قرره موريس
40Morris واعتمد الوحدة في هذه الحالة، قاعدة أساسية لاستخدامات اللغة بوجه عام. وعليه فإن الصحة المنطقية والرياضية عموماً، إنما تشتق من اللغة، إذ أن المنطق والرياضيات ليسا سوى بنيات لغوية متعينة، فتصبحالبنيات هنا موافقة لفحص الاكتشافات الواقعية. وعلينا أن نتوقف هنا لنرى ما إذا كان هناك بالفعل أي سلوك منطقي عند الأطفال قبل أن تتطور اللغة عندهم. وأن نتوقف لنرى ما إذا كانت تنسيقات Coordinations أفعالهم تكشف عن منطق للفئات، أو تكشف عن نظام مرتب An Ordered System أو عن بنيات تناظر Correspondence فإذا وجدنا حقاً بنيات منطقية في تنسيقات الأطفال الصغار قبل تطور اللغة عندهم، فلن نكون في موقف من يقول إن هذه البنيات مشتقة من اللغة. وكما نرى فإن هذه المسألة تنتمي إلى الواقع، ولا ينبغي طرحها عن طريق التأمل الخالص، وإنما ينبغي معالجتها بالمنهج التجريبي الذي يزودنا باكتشافاته الموضوعية.
وعليه فإن المبدأ الأول الذي تأخذ به الإبستمولوجيا التكوينية هو أن نتعامل مع السيكولوجية تعاملاً جذرياً، ويعني هذا أنه عندما تعترضنا مسألة خاصة بواقعة سيكولوجية، فأول ما ينبغي اللجوء إليه هو البحث السيكولوجي، بدلاً من محاولة حل المسألة من خلال التأمل الشخصي.
ومما يستوجب الإشارة إليه في هذا الصدد، أن المواقف النظرية في حقل الدراسات اللغوية ذاته، قد اختلفت تماماً، وذلك منذ العصر الذهبي للوضعية المنطقية. فلقد تمسك بلومفيلد Bloomfield في ذلك العصر وبشكل كامل، بوجهة نظر الوضعيين المناطقة، وهي وجهة النظر التي كانت ترى أن المنطق مشتق من اللغة. أما الآن، فإن تشومسكي (10) Chomsky كما نعرف، يصر على الموقف المعارض. إذ يؤكد تشومسكي، ليس على أن المنطق يعتمد على اللغة ، ويشتق من اللغة، بل على العكس من ذلك تماماً، على أن اللغة هي التي تعتمد على المنطق، على العقل، بل ويرى أن هذا العقل فطري Innate وربما يكون قد مضى بعيداً جداً بتأكيده على فطرية العقل ولكن أعود فأكرر مرة أخرى، أن هذه المسألة لا يمكن تقريرها إلا بالاستشهاد بالوقائع وباللجوء إلى البحث السيكولوجي، فالسيكولوجيا وحدها هي المنوطة بحل هذه المسألة، لأن بين العقلانية التي يدافع عنها تشومسكي
41هذه الأيام والتي ترى أن اللغة تعتمد على العقل، وأن العقل فطري في الإنسان، وبين وجهة النظر اللغوية التي يتبناها الوضعيون والتي ترى أن المنطق ببساطة ليس سوى اختراع لغوي)، نجد مساحة واسعة لاختيار أحد الحلول الممكنة، وينبغي أن يعتمد هذا الاختيار على الواقعة، على البحث السيكولوجي، لأن المسألة لا تحل عن طريق التأمل.
لست راغباً في أن أعطي انطباعاً بأن الإبستمولوجيا التكوينية إنما تسعى إلى الاعتماد بشكل كامل وقاطع على السيكولوجيا، بل على العكس من ذلك، نرى أن الصياغة المنطقية ضرورية تماماً في كل وقت، لأن في مقدورنا دائماً أن نصوغ صياغة ما، حينما تصادفنا بنية مكتملة ما، وذلك في مجرى تطور الفكر، وعلينا أن نبذل مجهوداً، بالاشتراك مع المنطقيين أو المتخصصين في هذا المجال، لكي نصوغ هذه البنية. وعليه فإننا نفترض أن ثمة تناظراً بين الصورة السيكولوجية من جهة، والصياغة المنطقية من جهة أخرى. ولكن على الرغم من إدراكنا لأهمية الصياغة في الإبستمولوجيا، إلا أننا ندرك أيضاً أن هذه الصياغة ليست كافية في حد ذاتها. وقد بذلنا محاولة لتوضيح المجالات التي يكون فيها التجريب السيكولوجي ضرورياً وذلك لكي نلقي الضوء على مشكلات إبستمولوجية معينة، وحتى إذا اعتمدنا على الأسس التي يقوم عليها المنطق، فهناك عدد من الأسباب التي تحدونا إلى القول بأن الصياغة المنطقية لا يمكن أن تكون كافية في حد ذاتها. وأود أن أناقش هنا ثلاثة منها.
السبب الأول هو أن هناك علوم منطق عديدة مختلفة، وليس علم منطق واحد. ويعني هذا أننا نفتقر إلى وجود منطق واحد يكون قوياً بشكل كاف لكي يدعم البناء الكلي للمعرفة الإنسانية. ويعني هذا أيضاً أننا إذا استخدمنا علوم المنطق المختلفة معاً، فلن نجد بينها الاتساق الكافي الذي يمكننا من تأسيس المعرفة الإنسانية. وهكذا إذا التجأنا إلى منطق وحيد لكان مفتقراً إلى القوة، وإذا التجأنا إلى العديد من علوم المنطق لكانت قوية جداً، ولكنها تفتقر إلى الاتساق فيما بينها الأمر الذي يحول دون تأسيس المعرفة عليها . وهذا هو السبب الأول الذي يجعل الصياغة المنطقية وحدها غير كافية.
42أما السبب الثاني فإننا نعثر عليه في مبرهنة جودل Godel's Theorm وهي المبرهنة التي تؤكد أن ثمة حدوداً للصياغة. فأي نسق لكي يكون قوياً ومتسقاً بشكل كاف، لا بد أن يحتوي على حساب الأولي Elementary Arithmatic ولا يمكن لهذا الحساب الأولي أن يبرهن على اتساقه الخاص.
وهكذا تواجهنا على الفور المسائل التالية: المنطق صياغة، إنه تقرير حقيقة بديهية عن شيء ما، ولكن ما هو هذا الشيء بالضبط ؟ أو ما هو ذلك الشيء الذي يصوغه المنطق؟ وهذه مشكلة غاية في الأهمية، بل إننا نواجه في الحقيقة بمشكلتين: يحتوي أي نسق اكسيوماتيكي (بديهي) على قضايا أو بديهيات لا يمكن في البدء البرهنة عليها، ولكن على أساسها نتمكن من البرهنة على قضايا أخرى، كما يحتوي أي نسق على أفكار أساسية لا يمكن تعريفها، ولكن على أساسها يمكن تعريف الأفكار الأخرى. والآن ما هو بالضبط الذي يقع تحت البديهيات التي لا يمكن البرهنة عليها والأفكار التي لا يمكن تعريفها ؟ تسمى هذه بمشكلة البنية في المنطق. وهي المشكلة التي تبين عدم ملاءمة اتخاذ الصياغة بوصفها قاعدة أساسية، كما أنها تبين أن الضرورة إنما تنبع من الفكر ذاته، فهو الذي يضفيها على الأنساق المنطقية البديهية، إذن فالفكر الإنساني هو الذي يطور الأنساق المنطقية ومن ثم تظل حدسية.
أما السبب الثالث الذي يجعل الصياغة المنطقية غير كافية، فهو أن الإبستمولوجيا تشرع في توضيح المعرفة كما هي بالفعل، وذلك من داخل نطاق العلم، لذلك فإن هذه المعرفة، في الواقع، لا تعد صورية خالصة، بل إن هناك جوانب أخرى لها. ويطيب لي في هذا السياق أن استشهد بصديقي المرحوم ايفرت و بت Evert W. Beth الذي كان، ومنذ وقت طويل، غريماً قوياً للسيكولوجية بصفة عامة، وللعناصر السيكولوجية في حقل الإبستمولوجيا بصفة خاصة، ولذلك فقد اتخذ موقفاً عدائياً من أعمالي الخاصة، لأنها اعتمدت بشكل أساسي على السيكولوجيا . ومع ذلك فإنه كان مغرماً بالمواجهات العقلية، فقد شرفنا بحضوره في إحدى ندواتنا التي عقدناها لمناقشة الإبستمولوجيا التكوينية، وبدا أنه قد أقترب أكثر من المسائل التي كنا نطرحها للمناقشة. وفي نهاية الندوة وافق بت على أن
43يشاركني التأليف، رغم تخوفه من السيكولوجيين. وكان ثمرة هذا الكتاب الذي أسميناه الأبستمولوجيا الرياضية والسيكولوجية Mathematical And Psychological Epistemology وقد صدر هذا الكتاب في فرنسا وترجم إلى اللغة الإنجليزية وفي ختام هذا الكتاب كتب بت يقول: تسعى مشكلة الإبستمولوجيا إلى توضيح كيف يتمكن التفكير الإنساني الصحيح من إنتاج المعرفة العلمية. ولكي نحقق ذلك علينا أن نقيم رباطاً معيناً بين المنطق والسيكولوجية). وهو لم يقصد بإعلانه هذا أن ترتبط السيكولوجية بالمنطق ارتباطاً مباشراً - فهذا ما لم يقصده بالطبع - وإنما هو يؤكد أن الإبستمولوجيا تتعامل مع المنطق والسيكولوجية معاً، ولذلك ينبغي أخذهما معاً في الاعتبار، لأن من الأهمية بمكان أن نتعامل مع كل الجوانب الصورية والجوانب الأمبيريقية للمعرفة الإنسانية.
وهكذا، نستخلص من ذلك أن الإبستمولوجيا التكوينية إنما تتعامل مع كل من صورة Formation ومعنى Meaning المعرفة. ويمكننا أن نصوغ مشكلتنا في العبارات التالية : بأي معنى يمضي العقل الإنساني من حالة تكون فيها المعرفة أقل إلى حالة تكون فيها المعرف أعلى ؟ الواقع أن البت في ما هي المعرفة الأقل، وما هي المعرفة الأعلى إنما يعود بالطبع إلى الجوانب الصورية والمعيارية، وليس من اختصاص السيكولوجيين أن يحددوا ما إذا كانت حالة المعرفة أسمى من حالة أخرى أم لا . فتقرير ذلك يعود إلى المناطقة أو إلى المتخصصين في حقل ما من حقول العلوم. ففي حقل الفيزياء مثلاً، يقرر الفيزيائيون المتخصصون وحدهم ما إذا كانت نظرية ما اكثر تقدماً من نظرية أخرى أم لا . ومشكلتنا، من وجهة نظر السيكولوجية ومن وجهة نظر الإبستمولوجيا التكوينية، هي أن نوضح كيف يتم الانتقال من معرفة ذات مستوى أدنى إلى معرفة ذات مستوى أعلى. لأن طبيعة هذه الانتقالات تعد مسألة واقعية. فأما أن تكون الانتقالات تاريخية أو سيكولوجية أو أحياناً بيولوجية، فهذا ما سوف أحاول توضيحه فيما بعد.
أما الافتراض الأساسي الذي تأخذ به الإبستمولوجيا التكوينية، فهو أن ثمة توازياً بين التقدم الذي يتم في التنظيم المنطقي والعقلاني للمعرفة، وبين العمليات السيكولوجية المعيارية المتناظرة. حسناً، والآن، إذا
44كان هذا هو افتراضنا، فما عسى أن يكون حقل دراستنا ؟ سيكون حقل الدراسة المثمر أكثر والواضح أكثر بالطبع، هو إعادة تأليف التاريخ الإنساني - أي تاريخ التفكير الإنساني لإنسان ما قبل التاريخ. ولسوء الحظ فإننا لا نعلم سوى القليل عن سيكولوجيا الإنسان النياندرتالي (11) Neaderthal Man أو عن سيكولوجيا إنسان سينيانسيز اف تلهارد دي شاردان Homo Siniensis of Teilhard De Chardin لأن هذا الحقل من التكوين البيولوجي Biogenesis متاح لنا، ولسوف نفعل كما يفعل البيولوجيين ( علماء الأحياء) ونعود إلى الانطوجينيا (12) Ontogenesis إذ لا يمكن أن يكون هناك شيء أكثر ألفة بالنسبة لنا، من دراسة انطوجينيا هذه الأفكار، حيث يتواجد الأطفال جميعاً من حولنا، ومع الأطفال، تتاح لنا أفضل فرصة لمعرفة تطور المعرفة المنطقية، والمعرفة الرياضية، والمعرفة الفيزيائية، وهلم جرا. وتلك هي الأشياء التي سوف يدور حولها النقاش فيما بعد في هذا الكتاب.
ولا شك أن هناك الكثير الذي يمكن تقديمه لهذا الحقل من الدراسة. بيد أنني أود أن أعود الآن إلى بعض الصفات النوعية، وأن أبدأ بتطور البنيات المنطقية عند الأطفال، ولسوف ابدا بوضع تمييز بين مظهرين للتفكير، يبدو أنهما مختلفان، رغم أنهما متكاملان المظهر الأول هو المظهر المجازي أو التشبيهي) Figurative Aspect أما الآخر فإنني أسميه المظهر الفعال Operative ويعد المظهر المجازي محاكاة لحالات لحظية واستاتيكية (سكونية). فالوظائف التشبيهية - في الحقل المعرفي - هي أولاً وقبل كل شيء إدراك حسي، ومحاكاة، وتخيل عقلي، أو هي الواقع، محاكاة مستدخلة Interiorized Imitation وذلك على خلاف المظهر الفعال للفكر الذي لا يتعامل مع حالات، وإنما يتعامل مع تحولات الفكر من حالة لأخرى. فهو يشتمل مثلاً على أفعال في حد ذاتها، تحول الموضوعات أو الحالات، كما يشتمل أيضاً على عمليات عقلية، تعد انساقاً جوهرية للتحويل. وهذه الأفعال يمكن مقارنتها بأفعال أخرى، ولكن بطريقة عكسية، إذ يمكن أن تتحقق في كلا الاتجاهين بمعنى أن نتائج الفعل (أ) يمكن أن نستبعدها بنتائج الفعل الآخر (ب)، أي بعكسها، ولكن تؤدي نتائج (أ) و (ب) معاً إلى وحدة العملية، نعود إلى الحالة الأولى وكأنها لم تتغير). أي أنها تعبر عن
45وجود المستدخل Interiorized الذي لا يتحقق فيه الفعل من خلال التصرف الخارجي الفعلي، وإنما يتحقق من خلال التمثل Representation والآن لابد أن تكون المظاهر التشبيهية تابعة للمظاهر الفعالة فلا يمكن أن تفهم حالة إلا بوصفها نتيجة لتحولات معينة، أو عند النقطة التي تنتقل فيها إلى تحولات أخرى، وبكلمات أخرى، فإنني اعتقد أن المظهر الجوهري للفكر هو فعاليته، لا مظهره التشبيهي.
ولكي أعبر عن نفس الفكرة بطريقة أخرى، أقول إن المعرفة الإنسانية فعالة بشكل جوهري. فأن نعرف يعني أن نستوعب كيف انتقل الواقع من حالة إلى أخرى وطبقاً لوجهة النظر هذه أجد نفسي معارضاً لوجهة النظر التي ترى أن المعرفة ليست سوى نسخة أصلية A Copy أو هي نسخة أصلية سلبية للواقع ولو تفحصنا هذه الفكرة من المنظور الواقعي، لوجدنا أنها تقع في الدور الفاسد : فلكي تنسخ نسخة أصلية، علينا أن نعرف النموذج الذي ننسخه، ولكن - طبقاً لنظرية المعرفة هذه فإن الوسيلة الوحيدة المعرفة النموذج هي أن ننسخه. وبهذا نكون قد وقعنا في مصيدة الدور الفاسد، فلا نستطيع أن نعرف ما إذا كانت نسختنا للنموذج هي مثل النموذج أم لا، وفي اعتقادي أن معرفة موضوع ما لا يعني استنساخه، وإنما يعني التأثير فيه أو هو يعني بناء انساق للتحولات يمكن أن تؤثر على) أو (تتأثر بـ) هذا الموضوع، أو بدقة أكثر، فإن معرفة الواقع يعني بناء اتساق
للتحويلات تناظر كثيراً أو قليلاً هذا الواقع، أو تتطابق كثيراً أو قليلاً مع هذا الواقع. إذن فالبنيات التحويلية التي تتكون منها المعرفة ليست نسخاً للواقع، وإنما هي ببساطة نماذج متساوية الشكل بقدر الإمكان، ومن ضمنها الخبرة التي تمكننا من أن نختار. فالمعرفة، إذن، نسق من التحويلات التي تصبح متطابقة بشكل متزايد.
وبصدد هذه البنيات المنطقية والرياضية المجردة، فإن المعرفة الفيزيائية - وهي تلك التي تستند إلى التجربة بوجه عام - تكون متعينة أو مشخصة وإذا تساءلنا من أين تأتي المعرفة المنطقية والرياضية؟ لقلنا إن هناك إمكانيتين: الأولى هي أننا عندما نؤثر في موضوع معرفتنا نشتق من الموضوع نفسه. وهذه هي وجهة النظر الأمبيريقية Empiricism بصفة
46عامة، وتعد وجهة النظر هذه قوية في حالة المعرفة التجريبية أو الأمبيريقية أو بالنسبة للقسم الأعظم منها. ولكن هناك إمكانية ثانية وهي أننا عندما نؤثر في موضوع، فإننا نأخذ في اعتبارنا أيضاً التأثير نفسه أو العملية إن شئت، لأن التحويل هنا يمكن أن يتحقق عقلياً. وفي هذا الافتراض لا يشتق التجريد من الموضوع المؤثر به، وإنما من الفعل ذاته. ويبدو لي أن هذا هو أساس التجريد المنطقي والرياضي.
أما في الحالات التي يشتمل عليها العالم الفيزيائي، فإن التجريد يكون تجريدا من الموضوعات ذاتها . فالطفل - على سبيل المثال - يمكنه أن يرفع الأشياء بيديه، وأن يفطن إلى أن لها أوزاناً مختلفة - ذلك أن للأشياء الكبيرة عادة وزناً أكبر من الصغيرة ، ولكن في بعض الأحيان يكون وزن الأشياء الصغيرة الحجم أكبر من الكبيرة. وهو يكتشف هذا تجريبياً، وتصل معرفته إلى مرحلة التجريد من الموضوعات ذاتها. ولكنني أود أن أعطي مثالاً آخر يكون أولياً مثل المثال السابق، فيه تتجرد المعرفة من الأفعال وليس من الموضوعات. وبعد هذا المثال، أحد الأمثلة التي قد درسناها بإتقان كامل مع العديد من الأطفال، اقترحه على أحد الرياضيين الأصدقاء والذي سبق أن استشهدت به في النقطة المتعلقة بانقطاع اهتمامه
بالرياضيات. ففي أحد الأيام وهو طفل صغير - قرر أن يعد الحصوات التي
جمعها، فصفها في صف واحد، وعدها من اليسار إلى اليمين، فوجدها
عشر. وعندئذ، ويدافع اللهو، قرر أن يعدها من اليمين إلى اليسار ليرى ما
هو العدد الذي يمكنه الحصول عليه، وأصيب بالدهشة عندما وجدها عشر
مرة أخرى. فوضع الحصى في دائرة وعدها، فكانت عشر مرة أخرى. فدار
حول الدائرة من الجهة الأخرى، فوجدها عشر مرة أخرى. إذن لا أهمية
لكيفية وضع الحصاة، لأنه عندما يعدها، يجد عددها عشراً. وقد اكتشفت
هنا ما يعرف في الرياضيات بالتبادلية Commutativity التي تعني المجموع
المستقل عن الترتيب ولكن كيف اكتشف هذا ؟ وهل تعد التبادلية خاصية
للحصى ؟ صحيح أن الحصى، كما رأينا، جعلته يرتبها بطرق مختلفة، ولا
يمكنه أن يفعل نفس الشيء مع قطرات الماء مثلاً. وبهذا المعنى هناك مظهر
فيزيائي لا بد من معرفته. وعليه، فإن الترتيب لم يكن في الحصى، وإنما
47كان الترتيب فيه هو، فهو الذي يضع الحصى في خط، ثم في دائرة. وأكثر من ذلك، لم يكن المجموع هو الحصاة في حد ذاتها، وإنما كان المجموع من توحيده لها. إذن فالمعرفة التي جعلت هذا الطفل - الذي سوف يصبحرياضياً فيما بعد - يكتشف ذلك، لم تكن مشتقة من الخواص الفيزيائية للحصاة، وإنما من الأفعال أو المؤثرات التي مارسها على الحصى. وأطلق على هذه المعرفة اسم المعرفة الرياضية، وليس المعرفة الفيزيائية.
ولسوف أطلق على النمط الأول - نمط التجريد من الموضوعات - اسم التجريد البسيط. أما النمط الثاني فسوف أطلق عليه اسم التجريد المنعكس Refective Ab Stryction مستخدماً هذا المصطلح بمعنى مزدوج. أو أن (المنعكس) هنا له معنيان معنى المنعكس في الفيزياء حيث يشير إلى ظاهرة تشبه انعكاس الضوء من سطح إلى سطح آخر. وبالمعنى السيكولوجي الأول، يكون التجريد هو الانتقال من مستوى العمل Operation ويشير الانعكاس Reflection بالمعنى السيكولوجي الثاني إلى عملية انعكاس عقلية، وهو على مستوى الفكر، عادة التنظيم .Reorganization الذي يسب
الأفعال.
من جهة أود الآن أن أضع تمييزاً بين نمطين من هناك . الأفعال الفردية مثل القذف والدفع واللمس والاحتكاك، وتسبب معظم هذه الأفعال الفردية، التجريد من الموضوعات، وهي نمط بسيط للتجريد سبق أن أشرت إليه من قبل. ومع ذلك لا يعتمد التجريد على الأفعال الفردية، وإنما يعتمد على الأفعال المتساوية الرتبة Coordinatedactions إذ يمكن للأفعال أن تتساوى من عدة وجوه مختلفة، كان تنضم معنا، ويمكننا أن نطلق عليها اسم التنسيق المجموعي Additive Coordination أو يمكن أن يعقب كل منها الآخر في ترتيب زمني، حيث يمكننا أن نطلق عليها اسم التنسيق الترتيبي Ordinal أو التتابعي Sequential ويكون هذا من قبل ومن بعد، في أفعال مرتبة لنيل هدف مثلاً، وذلك عندما تكون الأفعال ضرورية كوسائل للحصول على هذا الهدف. أما شكل تنسيق الأفعال الآخر فهو الذي يقيم تناظراً بين فعل وآخر. والشكل الرابع هو الذي يقيم نقط تقاطع Intersections بين الأفعال. والآن، فإن لكل هذه الأشكال من
48التنسيقات متوازيات Parallels في البنيات المنطقية، وهي مثل التنسيق في مستوى الفعل الذي يبدو لي أنه أساس البنيات المنطقية، كما تتطور أخيرا في الفكر، وهكذا، يمكن إيجاز افتراضنا على النحو التالي: لا توجد جذور الفكر المنطقي في اللغة وحدها، وحتى برغم أهمية تنسيقات اللغة، وإنما توجد أكثر، وبصفة عامة، في تنسيق الأفعال التي تعد أساساً للتجريد المنعكس. وحتى نستكمل موضوعاتنا . يجدر بنا أن نضيف إلى ما سبق أن التمييز بين الأفعال الفردية، والأفعال المنسقة لا ينبغي أن يكون متدرجاً فحسب، وإنما ينبغي أيضاً الا ينقطع انقطاعاً حاداً، إذ أن للدفع، واللمس والاحتكاك نمطاً بسيطاً لتنظيم الأفعال الفرعية الأصغر
Smaller Subactions
وتعد هذه المحاولة بداية ففقط للتحليل المرتد Regressive Analysis بحيث يمكننا أن نمشي إلى أبعد من ذلك كثيراً. ففي الإبستمولوجيا، كما هو الحال في علم النفس التطوري، لا توجد أبداً بداية مطلقة، ولا يمكننا أبداً أن نصل إلى النقطة التي نعلن فيها هنا البداية المؤكدة للبنيات المنطقية). لأننا حالما نبدأ الحديث عن التنسيق العام للأفعال، فإننا نجد أنفسنا بالطبع، نمضي أبعد حتى من مجرد التوقف عند نطاق علم الأحياء، بل نجد أنفسنا ندخل في الحال منطقة التنسيقات من داخل الجهاز العصبي، وشبكة الخلية العصبية Neuron Network كما ناقشها كل من ماك كالوش وبيتز Mc Culloc And Pitts فإذا ما بحثنا عن جذور منطق الجهاز العصبي كما هو مناقش في مؤلفاتهما، نجد أنفسنا، مرة أخرى، قد مضينا إلى خطوط أبعد، حيث نعثر على تنسيقات عضوية أساسية أكثر. وهكذا إذا مضينا أبعد فأبعد إلى منطقة علم الأحياء المقارن، فلسوف نعثر في كل مكان على بنيات احتواء تناظر الترتيب، ولا أنوي الخوض في علم الأحياء، ولكن ما أسعى إليه هو العودة بالتحليل المرتد إلى بداياته الأولى في علم النفس، وأن أؤكد مرة أخرى على أن تكوين البنيات المنطقية والرياضية في التفكير الإنساني لا يمكن تفسيره باللغة وحدها، وإنما تكمن جذوره في التنسيق العام للأفعال.
49
Summarize English and Arabic text using the statistical algorithm and sorting sentences based on its importance
You can download the summary result with one of any available formats such as PDF,DOCX and TXT
ٌYou can share the summary link easily, we keep the summary on the website for future reference,except for private summaries.
We are working on adding new features to make summarization more easy and accurate
المؤرخون الجدد والرواية الفلسطينية ظهرت في أواخر القرن العشرين، مجموعة من الباحثين الإسرائيليين، تُ...
ترجع الجذور الفكرية للمدرسة الحديثة إلى التحولات الاقتصادية التي شهدها العالم منذ أواخر القرن التاس...
ها 1-الجذور التاريخية لنشأة المدرسة الحديثة ترجع الجذور الفكرية للمدرسة الحديثة إلى التحولات الاقتص...
ها 1-الجذور التاريخية لنشأة المدرسة الحديثة ترجع الجذور الفكرية للمدرسة الحديثة إلى التحولات الاقتص...
Literary devices are techniques that writers use to enhance their storytelling and communicate deepe...
لخصلي اهم عناصر الفصل في شكل مطات لكل عنوان مهم ممكن ؟ المبحث الأول: مفهوم الصيرفة الإسلامية وأسسه...
5. أنواع الحسابات المصرفية تنقسم الحسابات المصرفية إلى صنفين: أ. حسابات الودائع الجارية: وهي الحسابا...
حوالي العام 900، قاد أبو سعيد الحسن الجنابي ثورة القرامطة، وهي تمرد نُظّم من قِبَل طائفة إسماعيلية ن...
1-الجذور التاريخية لنشأة المدرسة الحديثة التقليدية قادرة على تفسيرها أو التعامل معها بفعالية. في هذ...
00:00:01 بقوللك ايه لو قلت لك يعني ايه نمو اقتصادي هيجي على طول في بالك ان الفلوس هتزيد طب لو قلتلك ...
خطوات حل االستشارة القانونية يتطلب لحل االستشارة القانونية مرحلتين مهمتين تتمثالن في المرحلة التحضير...
النص 1. طَرَبْتُ وَمَا شَوْقًا إِلَى البِيضِ أَطْرَبُ وَلَا لَعِبًا مِنِّي وَذُو الشَّيبِ يَلْعَ...