Lakhasly

هكذا آمن )مراد( طوال عمره.. لذا فقد خفّت حدّة االندهاش لديه وحلّلألشياء مقدمات تؤدي إىل اخلواتيم
حملّها االحساس الشديد باهلزيمة واألمل.. أدرك أن كونه ابن سفري راحل.. وأنه
جاب مع والده األرض من أقصاها إىل أقصاها.. مل يكونا سبباً كافياً لريبط
مصريه ويضع مستقبله بني يدي امرأة العامل اآلخر.. ولربام كانت والدته ـ
خرجية السوربون واملتقنة للغات مخس ـ خبرية كفاية حني أبدت اعرتاضها
الذي وصل حد الرفض الرصيح من أن يقرتن ابنها الوحيد بتلك الشقراء
الفاتنة )ليندا(.. لوال أنه أرص عىل فعلته ففعل!!
أن تتقبّل اآلخر أمر خيتلف برمتّه عن أن تقبله.. فالتقبّل حيمل صفة
االفتعال.. ومن السهل جداً أن يدرك املرء أن ثمّة فارقاً شاسعاً بني االفتعال
والفعل.. لذا فأن حيب )مراد( تلك اللذيذة )ليندا( فذلك أمر عادي جداً..
يندرج حتت بند التقبّل.. فأنت تتقبل أهنا تدخن.. وتتقبّل أهنا تستبدل البرية
باملاء.. تتقبّل أكتافها العارية وأفخاذها الالمعة وحركات جسدها املتأودة
املثرية.. فكل هذا خيتفي متاماً عندما تنطق )ليندا( بثقافتها الواسعة وخفة دمها الواضحة وتلك احلياة التي تنبض من كل حرف وكل نَفَس يندّان عنها.. لقد
دراً مملوءة بالعمالت الذهبية يف أحد طريف هذا القوس.. كان صدّق أن ثمة قِكانت تضفي عىل حياته ألواناً هي أطياف من قوس قزح ال يتوارى.. وقد
مفتوناً هبا.. واحلق أن )ليندا( كانت لتفتن أعتى الرجال..
مل يدرك )مراد( حينئذ أن هذا ملح أجاج وهذا عذب فرات.. ال خيتلطان.
ال ينكر أن عالقته بـ )ليندا( قد ساعدته يف أن يرى اجلهة األخرى لألشياء..
وأن حلظات مرح عديدة كادت تومهه أن ثمة سعادة قابلة للتحقق يف حياته..
وألن هذا كان جُلّ ما يؤمله فقد خاض جتربته بكل انبهار وشغف.. فكان
كل يوم جديد يمر عليهام بمثابة حياة أخرى مل يعشها قبالً.. وهي أيضا كانت
ترى منه ما مل يَرهُ أحد غريها.. مل جيذهبا إليه كونه رجل الرشق الساحر.. حلم
املرأة األوروبية باملرياث.. ولربام هو حلمها يف مرياثنا نحن فقط، وقد خدعنا
السابقون.. كام خيدعنا كثري ممن سبق وحلق.. وإنام كان اجلاذب هلا هو سحر
الكلامت املغلّف هبذا الغموض وتلك الرزانة التي يتسم هبام )مراد(.. فهو
روائي طموح.. ال يكتب إال بشغف.. فيكاد يموت وحييا مع وقع ما يكتب..
هو مؤمن أن األديب شبه نبي.. وأن عليه أن يقوم بدوره التارخيي جتاه اجلنس
البرشي من تنوير وتثقيف وفلسفة للحياة يف صورها املختلفة.
كان رشقياً.. كان شغوفاً.. وكان أديباً مثقفاً..
كيف ال تقع )ليندا( يف حبائل رجل كهذا ال خيتلس النظر إىل هندهيا وردفيها
فور إن تقع عليـها عيناه؟! كيف ال حتبه وغموض الرجل إغراء وكلامته املنمقة
فتنة..
لقد وجد كلٌ منهام يف اآلخر ما كان يظن أنه يفتقد...
حتى وقع الصدام األول.
هي تراه جتربة مثرية ومثرية حلياهتا..
هو رآها مرفأً لسفينته وشاطئاً تنتهي عندها رحلته....
هي أرادت حياة.. مغامرة...
هو أراد حياة... مستقرة..
رأت فيه الصديق احلميم.. ورأى فيها الزوجة والسكن..
وملا أوشك كل شيئ أن يصل لنهايته ويتحتّم ما سبق وأن حتتّم.. رضخت..
أجل.. فتاة الغرب مل تُرد أن تفلت هذا الرشقي من يدها.. ومل ترغب له أن
يغادر حياهتا.. عىل األقل ليس بعد..
وإن كان الزواج هو ما أراد.. فليكن!!!!
مرّت الطقوس به كاحللم.. كان زواجاً مدنياً ولكنه تم يف حديقة ويف وضح
النهار... وبالرغم من رفض أمه هلذه الزجية.. إال أن هذا مل يمنعها أن تستقل
الطائرة وحترض زفاف وحيدها بل وتضطر أن تتقبل هذه الغريبة متاماً عنها كابنة
هلا مل تلدها.. بل وتوصيها برجلها الباقى خرياً وترجوها أن تساعده يف العودة
رسيعاً للديار حيث الدفء والرتحاب والكثري من القصص والذكريات عن
زوجها الراحل.. ذلك الرجل الذي مل متكّنها االقدار من أن تتعّرف عليه
وتدرك أن رجالً عظيامً كان من املمكن أن يكون جَدًّا رائعاً ألوالدها.. بل
إنه يوماً ما كان يعمل يف بلدها لذا فهي تعرف الكثري من األماكن هنا وها
هي األقدار قد غزلت شبكتها بطريقتها التي ال نعرفها ليجتمع بسببها )ليندا(
و)مراد(..
مل ختف )ليندا( عن )مراد( انبهارها بوالدته.. بل وأمنيتها يف أن تتمكّن من
أن حتبه بنفس القدر الذي أحبت به والدته زوجها.. وبعد كل هذه السنوات..
ولكن الغريب أن هذا القرب كان قريب الشبه بإيكاروس.. فقد أذابت
حرارة الشمس أجنحتهام الشمعية ومل يبق هلام من الشمس سوى محأهتا وشدة
األديب الرشقى الغامض املثري صار ذكراً متخلفاً رجعياً متزمتاً عاطالًوطأهتا..
متحكّامً وال يطاق..
واألنثى الشقية املرحة املثقفة الفاتنة صارت امرأة مستهرتة جاحمة غري
مسئولة سكّرية الهية وال يمكن معارشهتا..
وحني قررت )ليندا( ما قررت.. كانت تعلم بأهنا تدق املسامر األخري ولكن
الفتيل كان قد اشتعل ومل يكن ثمّة طريق المخاد ما بدأ بينهام من افرتاق...
واملسامر باملصادفة كان اسمه )هنرى(.. صديقها احلميم السابق قبل
الزواج بـ )مراد(.. والنعش كان رسيرها ويف بيتها...
.. فقط مل يكن مؤهالً.. ليس لديه اخلطة املناسبة للمواجهة.. يكن مندهشاًكل جتارب )مراد( مل تكن لتؤهله لتحمّل مثل هذه اللحظة القاسية.. مل
هو امتحان مل يدرس منهجه.. بل ربام مل يكتبوا مقرره بعد.. أمل شديد خيرتق
صدره كالطعنة.. وعقدت اهلزيمة لسانه فصيرّته متثاالً أخرس.. ويف حلظات
تالقت أعينهام.. )ليندا( ال يسرتها سوى جزء من مالءة و)هنري( نائم
بجوارها مفوّتاً عىل نفسه املشهد السينامئى املثري.. و)مراد( واقف بباب غرفة
النوم يتشظّى الضوء من اخلارج حول جسده املهزوم خمرتقاً ظالم الداخل
املحمّل بالقهر واألمل.. مل ينبس ببنت شفة... وهي مل حتاول أن تدافع أو تربر..
فقط قالت مجلة واحدة..
ـ )مراد(... لقد انتهى كل شيئ..
مجلة موجزة لكنها خلّصت كل يشء بال تقصري أو افرتاء..
)مراد(.. لقد انتهى كل شيئ... أفِقْ يا عزيزي.. لقد خرست.. لكنه مل ينطق.. ارتعش وتأمل كام مل يتأمل من قبل.. أحس بقبضة قاهرة قادرة
.. مل ينهر ويسقط أرضاً.. ظل واقفاً شاخماً صامداً ولكنه مهزوم.. مل يبكِتعترص قلبه حتى تنتزع منه الروح أو تكاد ولكنه مل ينطق.. مل يرصخ.. مل هياجم..
)مراد(.. لقد انتهى كل شيئ..
لذا فإنه سيعود.. سيشارك والدته احلزن واهلزيمة واألمل.. وهل تبقى له من
حطام الدنيا غريها؟!
العمر حلظة ال تكدر صفوها إن سمحت لك األقدار
هذا ما تعلمته )إيناس( من رفيق درهبا وحبيبها وزوجها ووالد ابنها
الوحيد.. وهذا ما داومت عليه حتى بعد أن تركها وحيدة رحلتها بال سابق
انذار.. كان لفقده بعد سنوات عرش من زواجهام تأثري قاهر لكأنام اختارها
املوت هي ومل خيرته هو.. ولكن سنوات عرش مع والد )مراد( كانت تكفي
لتدرك أهنا قد عاشت حياة كاملة معه.. ليس فقط لعمله يف السلك الدبلوماسى
وكثرة أسفارمها معاً... فالسفر يف حد ذاته مل يكن لينقص الفتاة األرستقراطية
التميز يف نصف رحلتها الثاين أهنا كانت رفيقة والد )مراد(.. ذاك املاهر متاماًالتي جابت نصف العامل قبل أن تلتقيه لتسافر معه نصف الكون اآلخر.. كان
يف صنع حلظات حياته.. يشهد عىل ذلك كمّ الصور والقصاصات الورقية
وبطاقات اإلهداء واملئات من األشياء التي ال يعرف معناها ومغزاها سواها..
هذه الثروة التي ال تقدر بثمن احتفظت هبا داخل صندوق صغري من الصدف
واملصنوع يدوياً بشكل زخريف أخّاذ يمثل حورية فاتنة تستعرض مجاهلا عىل
صخرة بجوار شاطئ بحر.. هبذه الكيفية حتتفظ لنفسها بوجوده ودفئه كلام
عنّ هلا ذلك.. فتستخرج من كنز ذكرياهتا ملمحاً.. حلظة خملدة.. تعود اللحظة
طازجة حية كأهنا حدثت للتوّ.. ال تغالبها الدموع ولكن يتسلل هلا االبتسام
فتجرت اللذّة اخلالصة عوضاً عن مرارة الفقد وأمل الفراق...
غريبة هي طرق معاجلتنا لألشياء.. فيبدو املختلف دوماً أقرب ما يكون
للمجنون.. حتى لو كان املختلف عىل حق.. ترى نفسها املبرصة الوحيدة يف
جزيرة العميان.. وبدالً من أن يؤملها هذا أو يشعرها بخزي أو عار تظل ـ هي
ـ حمتفظة بألواهنا دافئة وبترصفاهتا اخلاصة وأفكارها التي ترشّبتها منه هو..
)فتحي(... تبتاع لنفسها زهرات اليوم األربع والعرشين... كل ساعة من ّز.. فها هي اليوم ـ ككل يوم ـ متر بمحل العم فال يمر عليها يوم بال عمل ممي
ساعات اليوم بزهرة.. وألن عمر الزهر قصري.. تدرك دوماً أن العمر ـ أيضاً ـ
قصري ويستحق منا احلياة.. تستمتع بتوزيع زهراهتا األربع والعرشين يف أرجاء
شقتها الواسعة يف حي املعادي اجلميل اهلادئ..
وحيدة هي.. زوج فارقها وابن اختار لنفسه االغرتاب.. جتهز إفطارها
الشبيه بإفطار الفنادق.. وختتتم تدليل نفسها بقدح )النسكافيه( الساخن وال
تنسى أن تتشمم رحيقه كأنه زهرة من زهورها اليانعات..
نشيطه كطائر مبكّر تذهب للنادي.. متارس رياضتها اليومية.. تقابل
صديقاهتا.. تساعد أعضاء النادي يف أعامل خريية.. فاليوم جيلب أعضاء
النادي بعض من مالبسهم التي ما عادوا يرغبوهنا ليتربعوا هبا لألقل حظاً..
تنهمك )إيناس( ـ التي تبدو أكرب املتطوعني ـ يف تصنيفها واكتشاف بعض
العيوب التي قد ال تكون ظاهرة للعني غري اخلبرية.. وال تتوقف عند هذا احلد
بل إهنا خترج من حقيبتها عدّة خياطة كاملة فتعمل عىل إصالح ما تقدر عليه..
وما ال تقدر عليه تضعه جانباً.. لتأخذه بنفسها لعم )صدقي( الرفّا العجوز..
فيعود كل شيئ جديداً أنيقاً مجيالً كالكون يف عينيها..
بعد النادي ترسع اخلطو حثيثاً لتلّقي درس اللغة اإلسبانية التي تود أن
تضمها إىل لغاهتا اخلمس الاليت تتقنهن وال يعرف أحد عىل وجه اخلصوص
ما الذي ستستفيده هذه املرأة الستينية من تعلم لغة جديدة؟!
تتشعب وتتفرع نشاطات )إيناس( اليومية... وختتلف يوماً عن يوم..
فيكاد يكون اليوم ضيقاً عليـها وعىل ما ترغب يف فعله.. فبعد درس اإلسباين..
سيأتيها جمموعة من األطفال لتعطيهم دروساً يف عزف البيانو.. ثم اجتامع
لنادي الروتارى.. ثم سهرة مع صديقاهتا للعبة الربيدچ األسبوعية..
ربام ستمر بملجأ األيتام القريب من بيتها تعطيهم جزء املالبس الذي
انتهت من فرزه وتصنيفه لو اتسع الوقت لذلك..
وبالطبع ستختيل بنفسها وصندوقها األثري غري ذات مرة خالل هذا اليوم
العادي من أيام حياهتا.. تستمد من هذه اخللوات طاقة إجيابية ال تنتهي.. ربام
هي الشيئ الذي يساعدها عىل احلياة هبذا النسق وهذه الكيفية...
اليوم بالذات هي فَرِحة أكثر من أى يوم.. فغداً ستستعيد أحد جناحيها
املقصوصني.. سيأتيها احلبيب الغايل )مراد(.. تعرف أنه مهزوم متأمل.. تعرف
أنه ليس )مراد( الذي غادرها واألحالم أنفاسه التي يتنفسها والسعادة هي
األمل الذي كان يراه يف األفق القريب ويؤمن بوجوده.. تعرف أيضاً أهنا
قادرة عىل إخراجه رسيعاً من نكسته ففي البداية والنهاية هو جزء منها.. وال
يمكن للجزء أن يتمرّد عىل إرادة الكل.. وإذا كانت الشجرة صلبة مورقة يانعة
الثمر.. فالبد للفرع أن يستعيد عافيته رسيعاً..
استخرجت من صندوقها صورة قديمة جتمع ثالثتهم... هي و)مراد(
والوالد الراحل.. وكأهنا امتطت صهوة آلة زمن عاودهتا اللحظة حيّة ملبّية..
إهنا صورة عيد ميالد )مراد( الثامن.. حيث اشرتى له الوالد الدراجة التي
كان يرغبها.. وأعدّت هي كعكة عيد امليالد بنفسها... مغطاة بالكرز األمحر
كام حيبها )مراد(.. وبينام اجلميع مشغول بأغانى عيد امليالد إذا بوالد )مراد(
يميل عىل أذهنا فيهمس يف خفوت:
أحبك..
ابتسمت )إيناس( متذكرة تساؤل )مراد( الصغري الواقف بينهام عام حيدث
خصوصاً بعد ما الحظ وجنتي والدته املتوردتني خجالً.. تضاحكت ـ ووالده
ـ مدعّية ألاّ شيئ ..
غدا سيعود )مراد(.. وستخربه مرة أخرى:
ـ حبيبى )مراد(.. مل حيدث شيئ ..
وهكذا سينتهي كل شيئ ..
اعرتهتا لوهلة غصة يف حلقها ـ ونادراً ما حيدث هلا هذا ـ متذكّرة أن ثمة
مشكلة أخرى ستضطر للتعامل معها لدى عودة قرّة العني إىل أحضاهنا..
وأدت الغصة يف إرادة حديدية.. مذكّرة نفسها أن املشاكل األخرى
موعدها..
أوقاتٌ أخرى..