Lakhasly

Online English Summarizer tool, free and accurate!

Summarize result (50%)

ثالثاً ـ التأزم الخلقي :
أو غير مهم؟ . المركز المحوري الذي احتلته (الروح) على مدار آلاف السنين غادرته منذ أكثر من مئة عام، وصار ينظر إليها اليـوم على أنها وهم أو خرافة من خرافات الماضي، وصار الإنسان في القرن العشرين، يقبل دون جدل بأنه لا شيء في هذا الكون إلا الطاقة والمادة المعروفتان. . . لكن يصح القـول أيضاً: إن الخطط التنموية في معظم البلدان الإسلامية، لا تعكس اهتماماً خاصاً بهذه المسألة عما ذكرناه لدى الآخرين، وما نراه من اختلاف يعود إلى جهود فردية وشعبية في أكثر الأمر . حتى السلوك الشعبي في العشرين سنة الأخيرة، وعلى المستوى النظري، . . هي الأخرى، وأعتقد أن مصادر الأزمة الأخلاقية عديدة، ولعل أهمها ثلاثة ، هي :
1 ـ المسألة الحاسمة في مجال الأخلاق، والجهـة التي ستتولى الإثابة أو العقوبة عليها في العالم الغربي ذهب معظم الفلاسفة إلى أن واضع القيم هو الإنسان، وهذا في الحقيقة يجعل الأخلاق والقيم أسيرة لأهواء البشر وملونة بألوان البرمجات المحلية ومقولات البيئات الثقافية المختلفة، والمصالح الحيوية . . . وهذا كله يحرم الأخلاق من وشاح القدسية والاحترام، ويجعل المثيب والمعاقب عليها مجهولاً في أكثر الأحيان ؛ وهذا ما يحدث في شتي
أنحاء العالم! . ه يقول (فوكوياما): «لقد غدا الأمريكيون مشغولين بصحة أبدانهم : ماذا يأكلون ويشربون، وفي أي شكل يبدون أكثر من انشغالهم بالمسائل الأخلاقية التي كانت تقض مضاجع أجدادهم». مثل الاستقامة والتواضع، والشجاعة والنزاهة، والقاعدة الذهبية : «عامل الناس كما تحب أن يعاملوك، .. أو أن ينعموا بالسعادة إلا إذا تعلموا هذه المبادئ ، قوياً أمام التقدم؛ فقد افترضت (الحداثة العربية) أنه يجب بناء كل نشاط على العلم، واعتبرت كل ما لا يخضع للمعايير العلمية جزءاً من أوهام الإنسان القديم، وعاملاً من عوامل استلابه، وهي تحث على الكسل والتعصب، وتؤكد على العاطفة والروح، وتقتل العقلانية والموضوعية، وهي على نحو عام سبب فقدان العرب مقدرتهم على استيعاب الحضارة الحديثة، ومنشأ روح العبودية فيهم . وهذا التقليص ـ كمـا يقـول د. غليون ـ للتجـربـة الإنسانية والفردية والاجتماعية، ولم تحرز التقدم المنشودا . أصحاب الفائدة من الاندماج في الحضارة الغربية، والمالكون للقـوة الغاشمة رحبوا بفكرة إنهاء المنظومة الخلقية الإسلامية ؛ لأن ذلك يسهل السبل أمام ازدهار تجارتهم ونفوذهم، ويوجد إمكانية كبيرة لاستخدام قوتهم، والوصول إلى مصالحهم دون قيد؛ كانوا ـ وما زالـوا ـ يعتقدون أن التمسك بالأخلاق والقيم الإسلامية والإنسانية ، ويحول دون تدمير المدنية الإسلامية، وجعل أهلها هامشاً ضئيلاً على متن الغرب المنتصر . - جـ ـ المصدر الثالث لتأزم الأخلاق في عصرنا هذا، وعدم
لقد أرسلت
يفقد تدريجيا قدرته على ممارسة الضغط الأدبي على المنحرفين من أبنائه ؛ لأن الذين سيمارسون الضغط، يصبحون آنذاك قلة قليلة، وموقفها نفسها يصبح موضع تشكيك ، ويتحولون من قوة نافذة إلى قوة غريبة (فطوبى للغرباء) بل إن (الفتوى) نفسها قد تتراجع حيث تكثر الضرورات، ويتضخم ما تعم به البلوى، ريتراجع المصلحون من موقع إلى موقع؛ فالمشكلات الخلقية في عالم يسوده الغني والحرية والاكتشاف، وهو بدون أي عقيدة دينية ـ لا بد أن تكون مغايرة للمشكلات الخلقية في بلد فقير ، تنتشر فيه البطالة والخرافة والعصبية القبلية والظلم . فالأفكار والعقائد والأوضاع المعيشية والسياسية . . . تنعكس على نحو مباشر على الأوضاع الخلقية، وتتنوع هذه الأخيرة بتنوعها. تختلف من بلد إلى آخر، يعاني بلد آخر من الآثار الخلقية للفقر والبطالة، . . فتأمين الحاجات الضرورية هو شغلهم الشاغل، وامتلاك بيت يؤوي الواحد منهم فيه عياله، صار يعد اليوم عبارة عن
لقد أرسلت
إن الفضيلة ـ في معظم الأحوال ـ هي شيء يقع بين رذيلتين، والكرم وضعية يحدها من أمامها السرف والتبذير، والاحتياط الشديد في التدبير ؛ وهكذا. وكثير من الشباب الذين قذفت بهم الثانويات والجامعات إلى معترك الحياة ، . . وهذا كله لا يشكل الوسط الصالح للاستقامة الخلقية، حين يعيش المرء في مجتمع يقتات معظم موظفيـه من وراء الرشوة، وحجة أن فلاناً (التقي) يفعله؛ ولذا فإنه لم يعد حراما، . . ولا يخفى أن ألفاظ الثناء في الشارع الإسلامي، فعلى حين كان الناس يقولون : فلان آدمي وابن حلال وطيب، لقد أرسلت
نصر كبير في معركة شرسة؛ وقد صار كثيرون منهم أشبه بالحيوان البري الذي يقضي حياته في حديقة حیوانات؛ بل هو معزول عن أعماق
ذاته ! . ـ يعاني السواد الأعظم من المسلمين من ضعف الإحساس بـ (الواجب) وهو المبدأ الذي يتجاوز المصلحة المباشرة والفردية؛ وقدرته على الالتزام تجاه غيره، ـ هناك فريق كبير من المسلمين ، يعاني على الصعيد الحضاري من ذبول روح المدنية لديه، . . وهو نزوع ذو أثر سلبي على الإحساس بالمصلحة الوطنية، ـ هناك سلوكات خاطئة، أخذوا يعرضون عن النقص في كينونتهم الإيمانية والأخلاقية بالاتجاه نحو المزيد من الاستهلاك البذخي والترفي، بالإضافة إلى رغبة قوية في الاكتناز بشراء العقارات والقصور وشراء السيارات الفاخرة . . . ـ على الرغم من سهولة الاتصال بين الناس، تجتاح كثيرين منهم وهناك اندفاع متزايد نحو البحث عن الخلاص الشخصي بعيداً عن خلاص الجماعة ـ المجتمع ـ مع أن الأدبيات الإسلامية في هذا الشأن، تعلمنا أن من غير الممكن الحصول على تقدم فردي حقيقي في وسط منهار . لا تقل
حيث إن التقدم الحضاري من غير قاعدة روحية وخلقية، وما يتحقق منه، موجودة، وما يتقنه ؛ مما أنتج تعاظم الملكية ونشوء مجتمعات الوفرة والخدمات والجامعات والمصانع . ولكل من تواصل معه من شعوب الأطراف . معان محايدة عقائديا وأخلاقيا، وقد تكون في اتجاه الأسوأ؛ فالبنية الجسدية في سن الكهولة، في ظل فقد المرجعية العليا، مما يجعل الإنسان منهمكا دائماً في تجارب (الصواب والخطأ) فرح بإنجاز ، ندم عليه، وخوف منه . . وهذا ما نشاهده اليوم في مسائل وقضايا كثيرة . فطر الخالق - جل وعلا ـ الأحياء عليها، حيث يتمكن الكائن الحي من التخلص من مشكلاته، وتحقيق أهدافه، وتحسين وضعيته العامة من خلال ما يمتلك من طموحات وآمال في الانتقال من طور إلى طور. وأمـة الغرب حين مجدت (التقدم) إلى حد العبادة، يحصل لدى الناس تشوق وطموح إلى تعميمه على جوانب الحياة الأخرى . ولا يخفى أن نظرية (داروين) في النشوء والارتقاء ، قد أحدثت زلزالاً في بنية الفكر الغربي، وأوجدت تياراً عميقاً من حب التغيير والتجديد، مما لا يدع مجالاً للشك في أن البشرية تسير دوماً نحو الأفضل، ما دام كل جديدها هكذا! . ليدل على التقدم المادي، ثم اختزل مرة أخرى؛ ليدل على المتقدم الاقتصادي وحده ! وهذا الاختزال المخيف كاف لتحييد المكانة الحيوية لكل جوانب الحياة الأخرى؛ الروحية والأخلاقية والاجتماعية والمعنوية . . . في سبيل التقدم الذي هو أولوية مطلقة، تصبح الراحة من أجل العمل، لقد أرسلت
ويصبح إشباع الغرائز ـ بأي وسيلة كانت ـ أمراً مشروعاً، ما دام يؤدي إلى فراغ البال من أجل مزيد من الإنتاج . الربـا يصبح عمود الاقتصاد العالمي، ما دام يسهل الاستثمار - هكذا يظن ، وتفاعل المشكلات البيتية بسبب عمل المرأة، التقدم يستلزم السحب من الرصيد البيئي والحيوي ، من أجل حركة التصنيع ، وما تستلزمه من استهلاك الموارد، وأباح بالتالي التضحية بكل أشياء المراتب الأخرى! . انطلاقاً من الرؤية الغربية في إهمال ما لا يمكن قياسه، تم إهمال الثمن الذي تدفعه البشرية لتأليه التقدم والسعي إليه مهما كانت النتيجة ؛ لأن عائد التقدم محسوس ومباشر، ويمكن قياسه؛ فهو غير محسوس، لو تم تحويل السعادة والطمأنينة والشعور بالاستنارة الداخلية والرفاهية الروحية إلى مؤشرات على التقدم، سيقال لنا: إن السعادة شيء نسبي متغير، وكذا الاستنارة والطمأنينة ؛ وهي تختلف من فرد إلى آخر، فهل هذا يعني أن التقدم شيء والسعادة شيء آخر؟ وإذا كان الأمر كذلك فما الذي ينجزه التقدم للإنسان إذن : التمدد المادي أم التحقق الإنساني؟
لقد أرسلت
سيكون أول خطوة على طريق التصحيح والبناء، وهذا ما علينا أن نفعله
خامساً ـ تغير المفاهيم :
نجد أن هناك تغيراً كبيراً قد شمل عدداً هائلاً من الأفكار والمفاهيم والأحاسيس في كل الحقول المعرفية ، وجميع مجالات الحياة
ولا يعني التغير أن تبدلاً تاماً قد حصل في كل شيء فيما سنعرضه، وإنما يعني أن التغيرات التي نتحدث عنها آخذة في التعمـق والانتشار في الأرض كلها، وبعضها سلبي، لكنها جميعاً نشأت بسبب مجمل التغيرات العلمية والحضارية، وما استجد من الصور الذهنية عن البنية الكونية الهائلة، وما حدث من أنماط وأساليب معيشية في حيـاة
حيث إن الفهم العميق هو مفتاح التعامل الراشد، وأساس اختيار الموقف الصحيح ، أ ـ كـان (الحاضر) وحده هو الذي يسير معظم حياة الناس؛ ذلك لأن معرفتهم بالماضي محدودة، لا يعني شيئاً، فهم يأكلون وينامون ويمرحون أعمال عندما يشعرون بالرغبة في ذلك . وكان معظمهم يقضون أوقاتهم في بسيطة، لا تحتاج إلى تفكير عقلي، صار علماً مهماً ـ وعند بعض المؤرخين هو علم العلوم ؛ إذ فيه جذور الحاضر ، ولا فهم للحاضر من غير فهمه . كما أن الأمم صارت اليـوم تستخدم معطياتـه العامة على أنها أدوات في تربية أجيالها . أما المستقبل ؛ فبعد أن كان غائباً عن إحساس أكثر الناس، صار هو البعد الأساسي، وصار ينظر إلى الحاضر من خلاله، حيث يسود شعور قوي بأنه لا يمكن ضبط الحاضر، بل إن هناك من المقولات ما يجعل التحقق الذاتي لكل واحد منا مرهونا بحضور بعد المستقبل في ذهنه ومشاعره، وذلك الحضور رهن بوجود ذات تتحرك نحوه؛ لكن تلك الذات ليست جوهراً ثابتاً قد تحقق مسبقاً، ولا تستطيع الذات مهما كانت عظيمة أن تحافظ على تماسكها إلا من خلال إمساكها ببعد المستقبل، فهو موزع على الماضي والمستقبل . ب ـ كان الناس في الماضي حريصين على سمعتهم حرصاً شديداً، من خلال الشائعات والمقولات المرسلة . وكان الناس سريعي التصديق لكل ما يقال . فزلة واحدة من شخص كافية لتكوين محور لنقائص كثيرة، . . لم يكن هذا على صعيد العامة، فحسب، ونتيجة لعدم معرفة أحدهما بجواب سؤال أو سؤالين، يحكم عليه شهود
وهكذا يدخل عالماً، وله بعد ذلك أن يعيش مغموماً، وملفوفاً بمشاعر الإحباط، وقد تسوء الأمور ليلقى حتفه كمداً، كما مات ـ كما زعموا - بسبب هزيمته في المسألة (الزنبورية)، ضعف الاتصال، لم يمكن الناس من إجراء الكثير من المقارنات ؛ هذا كله قد تغير اليوم، وأقل اهتماما بنقد غيرهم، حتى قل حياء كثير من الناس، وضعفت قدرة المجتمع على ضبط أفراده وردعهم ، وعلى كل حال فالتغيرات في هذه المسألة تميل إلى الصحة والإيجابية. جـ ـ اختلفت النظرة إلى كبار السن، فقد كانوا هم المرجع في حل المنازعات، كما كانوا يمثلون مستودعات الخبرة المتناقلة عن الأجيال السابقة ؛ مما أعطاهم تميزاً ظاهراً على الشباب. وتوفر الجامعات والمعاهد العليا، انعكس الأمر؛ فالجمهور من الناشئة اليوم أفضل تعلمـاً من جيل الكبار - على نحو عام ـ وقد صار احترام الكبار في السن وتقديرهم نابعاً من احترام السن، وإدارة أوضاعه، فكل ذلك صار من مهارات الأجيال الحديثة . - قال له (1) التقى سيبويه شيخ النحاة مع الكسائي مؤسس المدرسة الكوفية في النحو بحضرة البرمكي، وسأل الكسائي سيبويه : ماذا تقول العرب : كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور ، الكسائي : أخطأت العرب تقول: فإذا هو هي، وتقول فإذا هو إياها فخرج شيخ النحاة مكسور الخاطر، لقد أرسلت
فالكبار يتهمون الشباب بأنهم متهورون، . . ولعل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه ـ قد أشار إلى هذه البلبلة حين قال : «فساد الدين إذا جاء العلم من قبل الصغير استعصى عليه الكبير . وصلاح الناس إذا جاء العلم من قبل الكبير تابعه عليه الصغيرة . وتأملنا في النظرة القديمة للأشياء والماهيات ، وإلى طبيعـة نظر المفكرين والفلاسفة إلى القضايا والمسائل المختلفة ـ وجدنا ـ على نحو واضح ـ اهتماما بذات الشيء وماهيته . ولا يتفكر أصحابه في شروط الاستجابة له، ولا يتحدثون عن تلك الشروط فضلاً عن العمل على توفيرها. والإنسان والظروف التي يعيش فيها . . . دون الانتباه إلى ارتباطاته بالنظم الأخرى؛ فالباحث في علم الاقتصاد، لا يحاول استشفاف العلاقة بين علم الاقتصاد أو النظام الاقتصادي وبين النظام السياسي أو الاجتماعي أو الأخلاقي . اليوم هناك نظرة جديدة أيضاً؛ فمجموعة النظم الحياتية، تشكل في النهاية المناخ الحضاري الذي يغلف كل أنشطة الناس، إلا أنها على مستوى بناها العميقة مترابطة ومتداخلة أكثر مما يظن . مما يمكنه من تقديم رؤي كلية . لقد أرسلت
واليـوم يتجه كثيرون إلى الاشتغال بفهم العلاقة بين الثابت والمتغير، ويرون أن جوهر التطور، ويصل الأمر ببعض المفكرين إلى القول : إن (الماهيات) ما هي إلا هبة العلاقات التي تربط بينها. واكتشاف الماهيات سيكون من خلال نقد العلاقات التي تربط بين الأشياء، من خلال التركيز على ما ذكرناه يشيع الآن في الأوساط الفكريـة نوع من الرفض لكل النماذج الجاهزة والأفكار الكلية؛ وإنما عليهم أن يتجاوزوا كل ما هو موجود، لابتداع نماذج جديدة، وهذه النماذج يجب أن تكون طليقة، ومخزون الخبرة الناقصة، ونزوات الهوى خلطة عجيبة، هـ ـ في عصرنا الحاضر تم تغيير كثير من المفاهيم المتعلقة بالنفس البشرية والاجتماع الإنساني، والحياة والموت، والحقوق والواجبات؛ وجذور جذورها، ليجد الإنسان ـ في الغرب خاصة ـ نفسه بعيداً عن أي شيء مقدس ، قريباً من كل ما هو مادي وغريزي ومصلحي . فهو المخلوق في أحسن تقويم ، . . هذا الإنسان يجد نفسه فجأة ومرة واحدة مسلوباً كل ذلك، لقد أرسلت
وراجت سوق الصور العارية، وزاد استهلاك الأطعمة. المسلمين لم ينفعلوا بنظرية التطور على المستوى العقدي ، ا
وهو حل حيث لا حل، كما أنه البوابة الوحيدة للحياة السرمدية الباقية . ومهما تفاوت الناس، فإنهم أمام المـوت سـواء. ومظهرا من مظاهر العدل الإلهي المطلق ، كان الموت هو الغائب الحاضر ، ويجب على الناس أن يقاوموا أسبابه إلى آخر لحظة . . . ومقاومة الأمراض لن تأتي بالخلود، لكنها كثيراً ما تطيل أمد المعاناة . ارتباك عظيم يواجهه الوعي، وقلق عظيم يقض مضاجع الكثيرين، وكل ذلك من جراء استدبار الوحي، وانهماكهم في الملذات والشهوات وجمع المال ـ دون قيد ـ وأكل حقوق العباد . يتأكد لديك أن هؤلاء لا يفكرون في الموت، وإلا فإنك لن تعثر على أي تفسير مقبول لكل ما هم عليه . كانت رابطة القرابة والجوار والصداقة، لقد أرسلت
المشروط، ومواقف التعاون والمروءة والنخوة . . . أما اليوم فقد ضعف وجود كل هذا، أما على مستوى الشعوب والأمم، فإن كل الروابط التاريخية والجغرافية والثقافية قد تكون غير كافية عندما يقع غبن حقيقي أو استغلال مكشوف لمنع نشوب حرب أهلية، بعد أن شعر البنغلاديشيون بنوع من الغبن الاقتصادي والإداري . كثيرة جداً، ويكفي أن نعلم أننا نعيش حياة لم تتبدل، ولكن كل شيء فيها قد تغير ؛ ومن المهم أن نفكر في أبعاد ذلك التغير، سادساً العنف وإرادة القوة : يمكن القول: إن الحضارة الحديثة، لم يحدث ذلك من غير أساس، وإنما كان ثمرة طبيعية لبعض النظريات العلمية والفلسفية والأخلاقية التي ركزت في وعي الإنسان
لقد أرسلت
الحديث حتمية الصراع في العالم والذي يحتم توفير الطاقة التي يحتاجها الانتصار في معارك، لانهاية لها. أوضح (داروين) في نظريته أن المجتمع الإنساني والطبيعة البيولوجية شيء واحد. وبناء عليه لا بد أن يحكم هذا المجتمع الإنساني القوانين نفسها: قوانين المنافسة والصراع والعدوان؛ وإرادة القوة، أما الشر فهو كل ما يصدر عن الضعف . أن يساعدوا أيضاً على هذا الفناء. وأن أشد الرذائل ضرراً الشفقة على الضعفاء العاجزين. ولهذا كان أبغض شيء إلى (نيتشه) السلام. والحرب عنده أقدس شيء ، لأن الشفقة تقوم عقبة في سبيل قانون (الانتخاب الطبيعي) الذي يقضي بألا يبقى غير الصالح للبقاء! . مفهوم الصراع وإرادة القوة جديد على المجتمعات النامية ـ ولاسيما الإسلامية منها - فالقيم السائدة فيها هي الشفقة والرحمة والمحبة والعناية والتضامن بين أفراد المجتمع ، ، لكن الوضعية الحضارية العامة القائمة على تضخيم المكاسب والتمدد باستمرار - تشجع على التنافس والتصارع، وتجاوز الضعفاء والمساكين . العنف في كل مكان نتيجة انتشار النموذج الفكري والمعرفي الغربي الذي
في هذا القرن قام أكثر من (130) حرباً، من (۱۲۰) مليون إنسان
لقد أرسلت
الإنجاز الإسلامي الضخم في زمان النبي ﷺ والذي تمثل في تحرير مساحات واسعة من الأرض وإدخال أعداد كبيرة من الناس في الإسلام، ذلك الإنجاز لم يخسر فيه المسلمون سوی (٢٥٩) شخصاً؛ وكانت خسائر المشركين نحواً من (٧٥٦) شخصاً فقط ! وذلك لأن الإسلام يدعو إلى الرحمة ونشر الدين بالكلمة الطيبة والمثل الأعلى، ولا يتم إلا في حدود الحاجة . والجاهز للعدوان يعرف كيف يحقق مصالحه مع دعوته إلى سيادة الشرعية الدولية، ونصب موازين العدالة؛ تقوم على أساس تحقيق المصالح عن طريق الاعتماد على النظام والقانون والمسالمة الدولية، فإذا كان بإمكان الغرب أن يصل إلى أهدافه دون إراقة دماء، وكل شيء بقانون، القتل والنهب والسلب والدعارة . لكن دون أدنى قاعدة أخلاقية ! . لماذا استعمار البلدان المستضعفة، . . إذا كان بإمكانك جعل الآخرين يأتون إليك ، فلماذا تذهب إليهم؟ . أمـا سـيـاسـات الأمـر المواقع، من أجل إيجاد واقع معين، رهم ممكنة ، حيث يصبح المتضررون من واقع سيئ مشلولي الحركة بعد ترسخه وحاجته إلى جهود كبيرة كي يتغير ؛


Original text

ثالثاً ـ التأزم الخلقي :


هل كان أمام العالم من سبيل يحول دون الخواء الروحي والخراب الداخلي الذي يعاني منه الإنسان الحديث بعد أن تم شطب كل أو معظم ما يقع وراء إدراكات الحواس، واعتباره شأناً غامضاً، أو غير مهم؟ .


المركز المحوري الذي احتلته (الروح) على مدار آلاف السنين غادرته منذ أكثر من مئة عام، وصار ينظر إليها اليـوم على أنها وهم أو خرافة من خرافات الماضي، وصار يعبر عن الحديث عنها بأنه رجعي، ولا علمي، وما وراثي؛ وصار الإنسان في القرن العشرين، يقبل دون جدل بأنه لا شيء في هذا الكون إلا الطاقة والمادة المعروفتان. صارت (الروح) تصور في كثير من الكتب على أنها الوعي أو الصورة الذهنية للمدركات، أو المعنى، أو المعنويات . . .


لا ريب أن العالم الإسلامي لم يصل إلى هذا الحد، لكن يصح القـول أيضاً: إن الخطط التنموية في معظم البلدان الإسلامية، لا تعكس اهتماماً خاصاً بهذه المسألة عما ذكرناه لدى الآخرين، وما نراه من اختلاف يعود إلى جهود فردية وشعبية في أكثر الأمر .


ومن الواضح أننا بدأنا نسير شيئاً فشيئاً خلف الغرب في تقديم كـل رهاناتنا للإنتاج والتقدم المادي، وتأمين حاجات الجسد . . . حتى السلوك الشعبي في العشرين سنة الأخيرة، وصار كثير من الناس ينظر إلى الأحاديث التي تدور حول تعزير البعد الروحي بأنها وعظ جميل - وأحياناً ثقيل ! - لكن الاستجابة السلوكية لتلك الأحاديث ضعيفة وبطيئة. وعلى المستوى النظري، فإن هناك انحيازاً واضحاً إلى الشكلي والمادي والحشي على حساب المعنى والمضمون والفحوى والطلاقة والتدفق الداخلي والمشاعر والأحاسيس واللمسات الشخصية . . . وهذا كله وافد على أمة الإسلام في جملة ما وفد من الشوائب والعوالق المصاحبة للتقدم المادي الأصم ! . اختلف


هذه الوضعية للروح تمثل خلفية ثقافية للوضعية الخلقية التي نشعر أنها
لقد أرسلت
هي الأخرى، أخذت تدرج في مسالك التأزم والانحطاط . وأعتقد أن مصادر الأزمة الأخلاقية عديدة، ولعل أهمها ثلاثة ، هي :


1 ـ المسألة الحاسمة في مجال الأخلاق، هي (إطارها المرجعي) بمعنى المصدر الذي نستمد منه الحكم على صفة أو قيمة بأنها حسنة أو قبيحة، والجهـة التي ستتولى الإثابة أو العقوبة عليها في العالم الغربي ذهب معظم الفلاسفة إلى أن واضع القيم هو الإنسان، ويذهب بعضهم إلى أن واضعها هو المجتمع، ومحصلة ذلك أن العقل البشري هو الأساس الذي يتشكل عليه الإطار المرجعي لجميع القيم ؛ وهذا في الحقيقة يجعل الأخلاق والقيم أسيرة لأهواء البشر وملونة بألوان البرمجات المحلية ومقولات البيئات الثقافية المختلفة، والمصالح الحيوية . . .


إن فقد مصدر الأخلاق لتعاليه ومطلقيته يجعلها تبدو هشة ومعلقة في الفراغ، ومفتقرة إلى المعيار الموضوعي، وهذا كله يحرم الأخلاق من وشاح القدسية والاحترام، ويجعل المثيب والمعاقب عليها مجهولاً في أكثر الأحيان ؛ مما يسهل مسألة الخروج عليها وتجاوزها وتطويرها، وهذا ما يحدث في شتي


أنحاء العالم! .


ه يقول (فوكوياما): «لقد غدا الأمريكيون مشغولين بصحة أبدانهم : ماذا يأكلون ويشربون، والرياضة التي يمارسون، وفي أي شكل يبدون أكثر من انشغالهم بالمسائل الأخلاقية التي كانت تقض مضاجع أجدادهم».


ويقول (ستيفن كوفي) الخبير بالإدارة والعلاقات التجارية : كان أساس النجاح في أمريكا مدة (150) عاماً قبل الحرب الأولى، يقوم على ما يمكن تسميته بـ(المزايا الأخلاقية)؛ مثل الاستقامة والتواضع، والإخلاص والاعتدال، والشجاعة والنزاهة، والصبر والمواظبة والبساطة، والقاعدة الذهبية : «عامل الناس كما تحب أن يعاملوك، ... وتعلمنا المزايا الأخلاقية بأن هناك مبادئ أساسية للحياة الفاعلة، وأن الناس لا يستطيعون تحقيق نجاح حقيقي، أو أن ينعموا بالسعادة إلا إذا تعلموا هذه المبادئ ، واستوعبوها باعتبارها أخلاقاً أساسية .
لقد أرسلت
قوياً أمام التقدم؛ فقد افترضت (الحداثة العربية) أنه يجب بناء كل نشاط على العلم، واعتبرت كل ما لا يخضع للمعايير العلمية جزءاً من أوهام الإنسان القديم، وعاملاً من عوامل استلابه، وقد حاولت أن تصور القيم الإسلامية بأنها تقليدية وبالية ومنحطة وجامدة، وهي تحث على الكسل والتعصب، وتدعم العشائرية المدمرة للفردية، وتؤكد على العاطفة والروح، وتقتل العقلانية والموضوعية، وهي على نحو عام سبب فقدان العرب مقدرتهم على استيعاب الحضارة الحديثة، ومنشأ روح العبودية فيهم .


وهذا التقليص ـ كمـا يقـول د. غليون ـ للتجـربـة الإنسانية والفردية والاجتماعية، واختصارها إلى تجربة وممارسة علمية ومعرفية ومنطقية، والحكم على التجارب الدينية والأخلاقية والجمالية بالزوال .. هو من مخلفات الوضعية الفلسفية الأولى التي تحولت إلى (علموية) و(تقنوية) لا إنسانية .


إن الفكرة التي تقول: إن المرحلة العلمية قد ألغت المطالب الروحية والنفسية والجمالية واللاعلمية ـ هي نتاج للتخبط الذي تعيش فيه المجتمعات النامية التي فقدت أسسها المعنوية والتقليدية، ولم تحرز التقدم المنشودا .


أصحاب الفائدة من الاندماج في الحضارة الغربية، والمالكون للقـوة الغاشمة رحبوا بفكرة إنهاء المنظومة الخلقية الإسلامية ؛ لأن ذلك يسهل السبل أمام ازدهار تجارتهم ونفوذهم، ويوجد إمكانية كبيرة لاستخدام قوتهم، والوصول إلى مصالحهم دون قيد؛ على حين أن الضعفاء من المسلمين، كانوا ـ وما زالـوا ـ يعتقدون أن التمسك بالأخلاق والقيم الإسلامية والإنسانية ، والاستنجاد بها ـ هو السلاح الذي يمكن أن يحد من تلك القوة، ويحول دون تدمير المدنية الإسلامية، وجعل أهلها هامشاً ضئيلاً على متن الغرب المنتصر . ويمكن القول بعد هذا وذاك : إن هناك صراعاً حقيقياً بين حماة القيم والأخلاق الإسلامية العربيـة وبين دعـاة تدميرها ؛ والعاقبة للتقوى .



  • جـ ـ المصدر الثالث لتأزم الأخلاق في عصرنا هذا، هو سوء الأحوال المعيشية التي تكتنف حيـاة كثير من الناس في بلادنا الإسلامية خاصة، وعدم
    لقد أرسلت
    يفقد تدريجيا قدرته على ممارسة الضغط الأدبي على المنحرفين من أبنائه ؛ لأن الذين سيمارسون الضغط، يصبحون آنذاك قلة قليلة، وموقفها نفسها يصبح موضع تشكيك ، ويتحولون من قوة نافذة إلى قوة غريبة (فطوبى للغرباء) بل إن (الفتوى) نفسها قد تتراجع حيث تكثر الضرورات، ويتضخم ما تعم به البلوى، ريتراجع المصلحون من موقع إلى موقع؛ ليؤكدوا في النهاية على جوهر الإيمان وأصول الأخلاق عوضاً عن الحديث عن السنن والمكروهات والواجبات والمحرمات! .


تجليات التأزم الخلقي المعاصر :


لا بد من القول: إن صور التأزم الخلقي لا يمكن أن تكون متطابقة في سائر أنحاء العالم؛ فالمشكلات الخلقية في عالم يسوده الغني والحرية والاكتشاف، وهو بدون أي عقيدة دينية ـ لا بد أن تكون مغايرة للمشكلات الخلقية في بلد فقير ، تنتشر فيه البطالة والخرافة والعصبية القبلية والظلم .


فالأفكار والعقائد والأوضاع المعيشية والسياسية . . . تنعكس على نحو مباشر على الأوضاع الخلقية، وتتنوع هذه الأخيرة بتنوعها. ومع هذا فلا ينبغي أن يفهم من هذا أنه ليست هناك اخلاق مشتركة بين الأمم ؛ فنحن ـ كما ذكرنا من قبل - نعيش زماناً واحداً وفي مكان واحد ومن المستحيل ألا تنتشر في هذه الحالة قيم مشتركة .


ويصح القول أيضاً: إنه على الرغم من القواسم المشتركة الكثيرة بين شعوبنا الإسلامية إلا أن شدة المعاناة من التأزم الخلقي، تختلف من بلد إلى آخر، فعلى حين يعاني بلد من سوء النظام الإداري وإفرازاته الخلقية، يعاني بلد آخر من الآثار الخلقية للفقر والبطالة، وهكذا . . .


ـ كثير من المسلمين اليوم يعيش دون شعور بالمثل الإسلامية العليا، ودون أهداف سامية، يسعى إلى تحقيقها؛ فتأمين الحاجات الضرورية هو شغلهم الشاغل، وامتلاك بيت يؤوي الواحد منهم فيه عياله، صار يعد اليوم عبارة عن
لقد أرسلت
ملاءمة الأجواء العامة السائدة للتفتح الخلقي، وعدم مساعدتها على الالتزام بالفضيلة . إن الفضيلة ـ في معظم الأحوال ـ هي شيء يقع بين رذيلتين، فالشجاعة وضعية تقع بين الجبن والتهور . والكرم وضعية يحدها من أمامها السرف والتبذير، ومن خلفها الشح، والاحتياط الشديد في التدبير ؛ وهذه الطبيعة تساعد الناس على امتلاك قدرة فائقة على تأويل القيم، وجعلها أشبه بالحالات الخاصة ؛ إذ من السهل على الواحد أن يقول : إن ما أفعله ليس نفاقاً، وإنما هو مجاملة ، وأن يقول آخر : إن ما أفعله ليس بخلاً ، وإنما هو تدبير، وهكذا. . .


ومن الواضح أن كثيراً من المجتمعات الإسلامية، تئن تحت مطارق الفقر والجهل والمرض والبطالة والاستبداد، كما أن شروط العيش الكريم فيها تزداد صعوبة يوماً بعد يوم، وكثير من الشباب الذين قذفت بهم الثانويات والجامعات إلى معترك الحياة ، يشعرون بالإحباط وانسداد الآفاق . . .


وهذا كله لا يشكل الوسط الصالح للاستقامة الخلقية، ولا لوضوح المثل العليا في أذهان الناس . حين يعيش المرء في مجتمع يقتات معظم موظفيـه من وراء الرشوة، والاستيلاء على المال العام، والاحتيال على النظم ـ تصبح نزاهته وعفته بمثابة عقوبة له ولأسرته، حيث إن عليه آنذاك أن يعمل غير عمل - إن وجد ـ حتى يؤمن ضروريات الحياة؛ وفي هذه الحال، فإن أقل من ٢٠٪ من الناس يحجزهم دينهم وخلقهم عن الولوغ في الحرام، أما الباقي فيسبحون مع التيار ، بحجة الضرورة، وبحجة أن هذا ليس حراماً؛ لأنه موظف وله حق الكفاية ، وحجة أن فلاناً (التقي) يفعله؛ ولذا فإنه لم يعد حراما، وهكذا . . .


ولا يخفى أن ألفاظ الثناء في الشارع الإسلامي، صارت تعكس معياراً قيمياً جديداً؛ فعلى حين كان الناس يقولون : فلان آدمي وابن حلال وطيب، صاروا يقولون : فلان (كدع) و(شاطر) ويعرف كيف يدبر نفسه . . وصارت كلمة (طيب) التي كانت كلمة مديح، ترمز إلى نوع من اللمز في نباهته وحسن تدبيره .


والأخطر من كل هذا أن (العرف) يتحور شيئاً فشيئاً لينسجم في النهاية مع الواقع الرديء . كما أن المجتمع الذي ينتشر فيه الانحراف الخلقي والسلوكي ،
لقد أرسلت
نصر كبير في معركة شرسة؛ وهذا جعل كثيراً منهم يقع تحت ضغوط المتطلبات الآنية والأشياء الصغيرة، ويقع فريسة لضروراتها . وقد صار كثيرون منهم أشبه بالحيوان البري الذي يقضي حياته في حديقة حیوانات؛ فهو ليس معزولاً عن بيئته الطبيعية فحسب، بل هو معزول عن أعماق


ذاته ! .


ـ يعاني السواد الأعظم من المسلمين من ضعف الإحساس بـ (الواجب) وهو المبدأ الذي يتجاوز المصلحة المباشرة والفردية؛ ليعكس تسامي الإنسان، وقدرته على الالتزام تجاه غيره، والتضحية في سبيله .


ـ هناك فريق كبير من المسلمين ، يعاني على الصعيد الحضاري من ذبول روح المدنية لديه، وهو ينزع باستمرار إلى نوع من الانطواء على الذات أو الأسرة أو القبيلة . . . وهو نزوع ذو أثر سلبي على الإحساس بالمصلحة الوطنية، والمصلحة العامة .


ـ هناك سلوكات خاطئة، تنم عن نوع من الخواء الروحي، حيث إن كثيراً من الناس، أخذوا يعرضون عن النقص في كينونتهم الإيمانية والأخلاقية بالاتجاه نحو المزيد من الاستهلاك البذخي والترفي، بالإضافة إلى رغبة قوية في الاكتناز بشراء العقارات والقصور وشراء السيارات الفاخرة . . .


ـ على الرغم من سهولة الاتصال بين الناس، وكثرة المناسبات التي تجمعهم، إلا أن الحقيقة أن هناك عزلة شعورية كبيرة ، تجتاح كثيرين منهم وهناك اندفاع متزايد نحو البحث عن الخلاص الشخصي بعيداً عن خلاص الجماعة ـ المجتمع ـ مع أن الأدبيات الإسلامية في هذا الشأن، تعلمنا أن من غير الممكن الحصول على تقدم فردي حقيقي في وسط منهار .


لا أريد أن أستطرد بذكر مفردات الأزمة الأخلاقية ـ وهي كثيرة ـ التي تعاني منها الأمة، وإنما أود أن أؤكد أن حاجتنا إلى التنمية الروحية والأخلاقية، لا تقل
لقد أرسلت
بحال من الأحوال عن حاجتنا إلى التنمية المعرفية أو الاقتصادية(1)؛ حيث إن التقدم الحضاري من غير قاعدة روحية وخلقية، سيكون مشكوكاً فيه، وما يتحقق منه، لن يكون مصدر سعادة حقيقية .


وخميرة التنمية الروحية، موجودة، فبالإضافة إلى المنهج والتراث الأخلاقي الغني، لدينا الملايين من الرجال والنساء الذين يعدون نماذج راقية في الطيبة والاستقامة والسمو الخلقي ! .


رابعاً ـ تقدم بلا حدود :


مما ترسخ في الوعي الأوروبي الحديث أن الإنسان حصاد ما يعرفه ، وما يتقنه ؛ وبالتالي ما يملكه . ومن هنا اندفع الغرب في الاكتشاف والتصنيع إلى أقصى حد ممكن، مما أنتج تعاظم الملكية ونشوء مجتمعات الوفرة والخدمات والجامعات والمصانع . . . وصار التقدم نحو الأفضل، والبحث في الكيفيات والوسائل التي تحقق ذلك، الهاجس اليومي لعالم الغرب كله ، ولكل من تواصل معه من شعوب الأطراف .


الحداثة والتغير والتطور والتقدم، معان محايدة عقائديا وأخلاقيا، فهي قد تكون في اتجاه الأحسن، وقد تكون في اتجاه الأسوأ؛ فالبنية الجسدية في سن الكهولة، تستمر في تطورها نحو الشيخوخة ثم الموت ؛ لكن العرف انعقد في العصر الحديث على أن (التقدم) يعني دائماً تغيـراً نحو الأفضل. في ظل فقد المرجعية العليا، يكون من الصعب في ظروف كثيرة وضع فواصل بين ما هو من قبيل التقدم، وما هو من قبيل التطور، بل إن مجرد إعطاء التغير مدلولا أخلاقياً أو إيجابياً، ساهم في إضعاف الانضباط الذي يمكن أن تصنعه المعايير الأساسية لنمو الحياة والتي يمكن أن يحاكم إليها .


إن قصور العقل البشري ، لا يمكن من رؤية الحقائق الكبرى دفعة واحدة ، مما يجعل الإنسان منهمكا دائماً في تجارب (الصواب والخطأ) فرح بإنجاز ، ثم
لقد أرسلت
ندم عليه، وخوف منه . . وهذا ما نشاهده اليوم في مسائل وقضايا كثيرة . السعي نحو الأفضل فطرة ، فطر الخالق - جل وعلا ـ الأحياء عليها، حيث يتمكن الكائن الحي من التخلص من مشكلاته، وتحقيق أهدافه، وتحسين وضعيته العامة من خلال ما يمتلك من طموحات وآمال في الانتقال من طور إلى طور. وأمـة الغرب حين مجدت (التقدم) إلى حد العبادة، لم تندفع إليه من خلال إحساسها بالملاذ والمنافع، وصنوف الراحة، وأشكال القوة التي توفرت لها بسبب التقدم فحسب، وإنما لأن من طبيعة التقدم أنه حين يحدث في جانب من جوانب الحياة، يحصل لدى الناس تشوق وطموح إلى تعميمه على جوانب الحياة الأخرى .


كما أن طبيعة العلاقات الاعتمادية بين جوانب الوجود البشري، تستدعي إحداث تقدم شامل في جميع جوانب الحياة كي يتم ضمان التناصر بين عناصر البناء الحضاري المختلفة. ولا يخفى أن نظرية (داروين) في النشوء والارتقاء ، قد أحدثت زلزالاً في بنية الفكر الغربي، وأوجدت تياراً عميقاً من حب التغيير والتجديد، بسبب ما أوحت به من مصاحبة التطور للكائنات الحية في جميع مراحل وجودها ،


إن الذي يتأمل في الإعلانات التجارية يجد أنها تُركز ـ على نحو ممجوج - على أن المنتج الفلاني جميل لأنه جديد، والمنتج الفلاني لذيذ لأنه جديد، والمنتج الفلاني قوي لأنه جديد؛ مما لا يدع مجالاً للشك في أن البشرية تسير دوماً نحو الأفضل، ما دام كل جديدها هكذا! . -


كانت كلمة المتقدم ـ في مدلولها الحديث ـ تعني التقدم الشامل الروحي والمادي، الإنساني والطبيعي، ثم تم اختزال هذا المفهوم؛ ليدل على التقدم المادي، ثم اختزل مرة أخرى؛ ليدل على المتقدم الاقتصادي وحده ! وهذا الاختزال المخيف كاف لتحييد المكانة الحيوية لكل جوانب الحياة الأخرى؛ الروحية والأخلاقية والاجتماعية والمعنوية . . .


في سبيل التقدم الذي هو أولوية مطلقة، تصبح الراحة من أجل العمل،
لقد أرسلت
ويصبح إشباع الغرائز ـ بأي وسيلة كانت ـ أمراً مشروعاً، ما دام يؤدي إلى فراغ البال من أجل مزيد من الإنتاج . الربـا يصبح عمود الاقتصاد العالمي، ما دام يسهل الاستثمار - هكذا يظن ، وإنشاء الشركات العملاقة .


لا مانع في سبيل التقدم أن تترك المرأة أسرتها وحصنها الحصين - بيتها ـ وتنخرط في الوظائف والمهن، وينبغي عليها أن تتحمل الضغوط الرهيبة التي لا تتحملها جملتها العصبية ، كما أن عليها أن تتكيف مع كل ما تتعرض له من مضايقات الجنس الآخر، فكل ذلك يجب احتماله في سبيل مزيد من التقدم والرفاه. تفكك العلاقات الأسرية، وتفاعل المشكلات البيتية بسبب عمل المرأة، أو سفر الزوج سنوات عدة ـ قد تكون متصلـة ـ كل ذلك مقبول، وعلى الإنسان أن يتحمل . . .


التقدم يستلزم السحب من الرصيد البيئي والحيوي ، من أجل حركة التصنيع ، وما تستلزمه من استهلاك الموارد، وعلى الناس أن يقبلوا بذلك، ولو أدى إلى اختناق العالم، وتصاعد أمراض الحساسية والسرطان، ففقه الأولويات، جعل التقدم في المرتبة الأولى، وأباح بالتالي التضحية بكل أشياء المراتب الأخرى! .


انطلاقاً من الرؤية الغربية في إهمال ما لا يمكن قياسه، تم إهمال الثمن الذي تدفعه البشرية لتأليه التقدم والسعي إليه مهما كانت النتيجة ؛ لأن عائد التقدم محسوس ومباشر، ويمكن قياسه؛ أما ثمنه، فهو غير محسوس، ولا يمكن قياسه. لو تم تحويل السعادة والطمأنينة والشعور بالاستنارة الداخلية والرفاهية الروحية إلى مؤشرات على التقدم، ماذا سيكون حال المجتمعات المتقدمة؟! .


سيقال لنا: إن السعادة شيء نسبي متغير، وكذا الاستنارة والطمأنينة ؛ وهي تختلف من فرد إلى آخر، وقياسها صعب . فهل هذا يعني أن التقدم شيء والسعادة شيء آخر؟ وإذا كان الأمر كذلك فما الذي ينجزه التقدم للإنسان إذن : التمدد المادي أم التحقق الإنساني؟


في هذه اللحظـة يكشف مفهوم التقدم عن وجهه المادي الحقيقي؛ فبدلاً من مؤشرات من عالم الإنسان، نسقط في مؤشرات من عالم السلع والمؤشرات
لقد أرسلت
سيكون أول خطوة على طريق التصحيح والبناء، وهذا ما علينا أن نفعله


خامساً ـ تغير المفاهيم :


عند النظر في المفاهيم التي يزداد انتشارها بين الناس اليوم، نجد أن هناك تغيراً كبيراً قد شمل عدداً هائلاً من الأفكار والمفاهيم والأحاسيس في كل الحقول المعرفية ، وجميع مجالات الحياة


ولا يعني التغير أن تبدلاً تاماً قد حصل في كل شيء فيما سنعرضه، كما لا يعني ما سنذكره أن الشعوب والمجتمعات قد نالها أقدار متساوية من ذلك التغير؛ وإنما يعني أن التغيرات التي نتحدث عنها آخذة في التعمـق والانتشار في الأرض كلها، وهي تغيرات بعضها إيجابي، وبعضها سلبي، لكنها جميعاً نشأت بسبب مجمل التغيرات العلمية والحضارية، وما استجد من الصور الذهنية عن البنية الكونية الهائلة، وما حدث من أنماط وأساليب معيشية في حيـاة


المجتمعات المختلفة


ومعرفة تغير هذه المفاهيم والأفكار مهمة جداً في موضوع فهم عصرنا وإدراك توجهاته الآنية والمستقبلية، حيث إن الفهم العميق هو مفتاح التعامل الراشد، وأساس اختيار الموقف الصحيح ، ولعلنا نجمل الحديث عن تلـك التغيرات في المفردات التالية :


أ ـ كـان (الحاضر) وحده هو الذي يسير معظم حياة الناس؛ ذلك لأن معرفتهم بالماضي محدودة، وهي ترتكز على نحو أساسي على ذكريات تجاربهم الشخصية أو تجارب ذويهم وأصدقائهم، أما المستقبل فلا يعنيهم كثيراً. وكان (الوقت) بالنسبة إلى معظم الناس، لا يعني شيئاً، فهم يأكلون وينامون ويمرحون أعمال عندما يشعرون بالرغبة في ذلك . وكان معظمهم يقضون أوقاتهم في بسيطة، لا تحتاج إلى تفكير عقلي، ودون أن يبدو عليهم أي شعور بالملل. اليوم كل ذلك قد تغير، فالتاريخ ـ الذي هو سجل حياة الماضين .. صار علماً مهماً ـ وعند بعض المؤرخين هو علم العلوم ؛ إذ فيه جذور الحاضر ،
لقد أرسلت
ولا فهم للحاضر من غير فهمه . كما أن الأمم صارت اليـوم تستخدم معطياتـه العامة على أنها أدوات في تربية أجيالها .


أما المستقبل ؛ فبعد أن كان غائباً عن إحساس أكثر الناس، صار هو البعد الأساسي، وصار ينظر إلى الحاضر من خلاله، حيث يسود شعور قوي بأنه لا يمكن ضبط الحاضر، والاستفادة منه على نحو جيد إلا من خلال الضغط عليه بأمال مستقبلية؛ بل إن هناك من المقولات ما يجعل التحقق الذاتي لكل واحد منا مرهونا بحضور بعد المستقبل في ذهنه ومشاعره، وذلك الحضور رهن بوجود ذات تتحرك نحوه؛ لكن تلك الذات ليست جوهراً ثابتاً قد تحقق مسبقاً، ولكنها حركة فاعلة، وتحقق مستمر من خلال صيرورة يحكمها تشوف وانتظـار للمستقبل .


ولا تستطيع الذات مهما كانت عظيمة أن تحافظ على تماسكها إلا من خلال إمساكها ببعد المستقبل، وذلك الإمساك، هو الذي يمكنها من استمرار التجاوز إلى ما هو أحسن وأفضل . وهكذا فقد صار الحاضر الذي كان كل شيء لا شيء ، فهو موزع على الماضي والمستقبل .


ب ـ كان الناس في الماضي حريصين على سمعتهم حرصاً شديداً، وكان يدفعهم إلى ذلك سهولة الإساءة إليها، من خلال الشائعات والمقولات المرسلة . وكان الناس سريعي التصديق لكل ما يقال . أما الذين يساء إليهم، فإنهم لا يستطيعون تكذيب ما يقال عنهم ؛ فهم لا يملكون وسائل ذلك . أضف إلى هذا أن الحكم على مكانة المرء وعلمه وتوجهه، كان يتم وفق معايير جزئية جداً، فزلة واحدة من شخص كافية لتكوين محور لنقائص كثيرة، يتم توليدها وإلصاقها به . وكثير أولئك الذين غادروا قراهم فراراً من سوء الأحدوثة، وما تلوكه الألسنة . . . وكل ذلك كان بسبب سيادة التفكير النمطي والجزئي لدى الناس .


لم يكن هذا على صعيد العامة، فحسب، بل ابتلي به كثير من الدوائر العلمية؛ فقد كان من المألوف أن يدخل عالمان ـ يعتقد أنهما ندان ـ في مناظرة ، ونتيجة لعدم معرفة أحدهما بجواب سؤال أو سؤالين، يحكم عليه شهود
لقد أرسلت
سیبویه المناظرة بالهزيمة، وضآلة المعرفة. وهكذا يدخل عالماً، ويخرج وهو نصف عالم، أو نصف جاهل . . . وله بعد ذلك أن يعيش مغموماً، وملفوفاً بمشاعر الإحباط، وقد تسوء الأمور ليلقى حتفه كمداً، كما مات ـ كما زعموا - بسبب هزيمته في المسألة (الزنبورية)، لأنه لم يجب على سؤال الكسائي ) . ضعف الاتصال، لم يمكن الناس من إجراء الكثير من المقارنات ؛ مما يجعلهم غير ماهرين في التفريق بين ما هو من قبيل الحقائق المستقرة، وما هو من قبيل الآراء الاجتهادية، وهذا ما كان يزيد في سهولة تشويه الأشخاص والآراء والأعمال .


هذا كله قد تغير اليوم، فمعايير الحكم صارت أكثر شمولاً، والنـاس صاروا أكثر جرأة، وأقل اهتماما بنقد غيرهم، بل إن هذا تجاوز حدوده ، حتى قل حياء كثير من الناس، وضعفت قدرة المجتمع على ضبط أفراده وردعهم ، وعلى كل حال فالتغيرات في هذه المسألة تميل إلى الصحة والإيجابية.


جـ ـ اختلفت النظرة إلى كبار السن، فقد كانوا هم المرجع في حل المنازعات، كما كانوا يمثلون مستودعات الخبرة المتناقلة عن الأجيال السابقة ؛ مما أعطاهم تميزاً ظاهراً على الشباب. بعد انتشار المعرفة، وتوفر الجامعات والمعاهد العليا، انعكس الأمر؛ فالجمهور من الناشئة اليوم أفضل تعلمـاً من جيل الكبار - على نحو عام ـ وقد صار احترام الكبار في السن وتقديرهم نابعاً من احترام السن، فحسب. أما المعارف والمعلومات وفهم العصر، والقدرة على التأثير فيه، وإدارة أوضاعه، فكل ذلك صار من مهارات الأجيال الحديثة .



  • قال له (1) التقى سيبويه شيخ النحاة مع الكسائي مؤسس المدرسة الكوفية في النحو بحضرة البرمكي، وسأل الكسائي سيبويه : ماذا تقول العرب : كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور ، فإذا هو هي أو فإذا هو إياها؟ قال سيبويه العرب تقول فإذا هو هي . الكسائي : أخطأت العرب تقول: فإذا هو هي، وتقول فإذا هو إياها فخرج شيخ النحاة مكسور الخاطر، وخرج الكسائي منتصراً وإماماً في العربية 1 ويقولون إن سيبويه كمداً بعد ذلك بمدة يسيرة من جراء هزيمته في تلك المناظرة مات
    لقد أرسلت
    وهذا أوجد نوعا من الصراع بين الأجيال ؛ فالكبار يتهمون الشباب بأنهم متهورون، ولا يعطون الاهتمام المطلوب للقيم المتوارثة، ولا يستفيدون من خبرات من سبقهم . . . أما الشباب فيتأففون من عدم استيعاب الكبار للتحديات الجديدة، وما تفرضه من قيم ومفاهيم جديدة . ولعل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه ـ قد أشار إلى هذه البلبلة حين قال : «فساد الدين إذا جاء العلم من قبل الصغير استعصى عليه الكبير . وصلاح الناس إذا جاء العلم من قبل الكبير تابعه عليه الصغيرة .


د ـ إذا عدنا بالنظر إلى الوراء، وتأملنا في النظرة القديمة للأشياء والماهيات ، وإلى طبيعـة نظر المفكرين والفلاسفة إلى القضايا والمسائل المختلفة ـ وجدنا ـ على نحو واضح ـ اهتماما بذات الشيء وماهيته . بعيداً عن علاقاته وظروفه؛ فالخطاب الدعوي والإصلاحي ـ مثلاً ـ خطاب فردي ، يركز على ما ينبغي على الناس أن يفعلوه، ولا يتفكر أصحابه في شروط الاستجابة له، ولا يتحدثون عن تلك الشروط فضلاً عن العمل على توفيرها. واليوم يشيع مصطلح (الإصلاح)، وشيوعه تعبير عن أن اهتماماً جديداً، قد بدأ في التفكير في العلاقة بين الذات والموضوع، والإنسان والظروف التي يعيش فيها . . .


في الماضي كان التركيز ينصب على كل نظام من النظم الحياتية على حدة ، دون الانتباه إلى ارتباطاته بالنظم الأخرى؛ فالباحث في علم الاقتصاد، لا يحاول استشفاف العلاقة بين علم الاقتصاد أو النظام الاقتصادي وبين النظام السياسي أو الاجتماعي أو الأخلاقي .


اليوم هناك نظرة جديدة أيضاً؛ فمجموعة النظم الحياتية، تشكل في النهاية المناخ الحضاري الذي يغلف كل أنشطة الناس، وهي وإن تبدت منفصلة، إلا أنها على مستوى بناها العميقة مترابطة ومتداخلة أكثر مما يظن . وهذه الرؤية الجديدة هي التي ساهمت في طرح مصطلح (المفكر) والذي من أهم خصائصه فهم طبائع الأشياء وجوهر العلاقات التي تربط بينها ، والمؤثرات التي تتبادلها ؛ مما يمكنه من تقديم رؤي كلية .
لقد أرسلت
جرت في الماضي محاولات كثيرة مـن أجـل الفصـل بيـن الثـوابـت والمتحولات انطلاقا من الاعتقاد أن كلا منهما متمايز عن صاحبه إلى حد بعيد . واليـوم يتجه كثيرون إلى الاشتغال بفهم العلاقة بين الثابت والمتغير، ويرون أن جوهر التطور، لا يقوم على التخلي عن الثابت ، وإنما على توفير العلاقة الحية والخصبة التي تربط بينه وبين المتغير .


ويصل الأمر ببعض المفكرين إلى القول : إن (الماهيات) ما هي إلا هبة العلاقات التي تربط بينها. واكتشاف الماهيات سيكون من خلال نقد العلاقات التي تربط بين الأشياء، ومحاولة اكتشاف علاقات جديدة إلى ما لا نهاية. وكأن هؤلاء يقتربون من أن يصبحوا (لا أدريين) حيال كثير مما يتطلب فهماً ناجزاً! .


من خلال التركيز على ما ذكرناه يشيع الآن في الأوساط الفكريـة نوع من الرفض لكل النماذج الجاهزة والأفكار الكلية؛ إذ ليس أمام الناس شيء يسعون إلى تمثله أو التحقق به، وإنما عليهم أن يتجاوزوا كل ما هو موجود، لابتداع نماذج جديدة، وهذه النماذج يجب أن تكون طليقة، وغير محكومة بأي معايير سابقة أو معقولة! وهذا التوجه سيوجد من إبداعـات العقل، ومخزون الخبرة الناقصة، ونزوات الهوى خلطة عجيبة، لا ندري بأي اسم نسميها؟!


هـ ـ في عصرنا الحاضر تم تغيير كثير من المفاهيم المتعلقة بالنفس البشرية والاجتماع الإنساني، والحياة والموت، والحقوق والواجبات؛ وتم البحث في جذور هذه المسائل، وجذور جذورها، كما تم نزع كثير من أردية التقديس والاحترام عنها؛ ليجد الإنسان ـ في الغرب خاصة ـ نفسه بعيداً عن أي شيء مقدس ، قريباً من كل ما هو مادي وغريزي ومصلحي . . .


كانت النظرة إلى الإنسان عامة قائمة على الاحترام؛ فهو المخلوق في أحسن تقويم ، وهو المخلوق الذي سخرت له جميع الأشياء التي حوله . . .


هذا الإنسان يجد نفسه فجأة ومرة واحدة مسلوباً كل ذلك، فنظرية (داروین) ركزت في حس كثير من الناس انعدام الفواصل بين الإنسان والحيوان ؛
لقد أرسلت
صحيح أن فالكل أنواع في مغامرة الحياة الكبرى؛ وكان ذلك ـ كما عبر أحدهم ـ عبارة عن محرض لعملية (إعادة حيونة)، فأخذ الناس يعوضون عن فقدهم (مركزهم الروحي) بالعودة إلى حيوانيتهم في جو من الصخب والابتهاج؛ وارتفع شأن الجسد، وراجت سوق الصور العارية، وزاد استهلاك الأطعمة. المسلمين لم ينفعلوا بنظرية التطور على المستوى العقدي ، لكن مسهم الكثير مما أحدثته في المجال الحضاري ! . ا


كان الموت مظهرا من مظاهر استسلام الناس لرب العالمين، وهو حل حيث لا حل، كما أنه البوابة الوحيدة للحياة السرمدية الباقية .


ومهما تفاوت الناس، فإنهم أمام المـوت سـواء. ومهما طابت الحيـاة أو قست، فإن الموت سيضع حداً لها، وكان هذا يشكل عامل توازن نفسي على المستوى المجتمعي، ومظهرا من مظاهر العدل الإلهي المطلق ، كان الموت هو الغائب الحاضر ، وكان كثير من الناس يعد كفنه ويهيء قبره ويكتب وصيته .


أما اليوم فإن النزعة الدنيوية التي تصبغ الوجدان والشعور والسلوك لدى معظم الناس، جعلت النظرة إلى الموت على أنه شيء لا معقول ولا يمكن هضمه أو استيعابه، وصار ينظر إليه على أنه مصدر تحد غير محدود، ويجب على الناس أن يقاوموا أسبابه إلى آخر لحظة . . . لكن هناك يقين بأنها معركة خاسرة، وأن أشكال الاحتياطات الصحية، ومقاومة الأمراض لن تأتي بالخلود، لكنها كثيراً ما تطيل أمد المعاناة .


ارتباك عظيم يواجهه الوعي، وتواجهه الفلسفة والخطط الصحية، وقلق عظيم يقض مضاجع الكثيرين، وكل ذلك من جراء استدبار الوحي، والإعراض عن ذكر الله، وحين تنظر في سلوك بعض الناس، وانهماكهم في الملذات والشهوات وجمع المال ـ دون قيد ـ وأكل حقوق العباد . . . يتأكد لديك أن هؤلاء لا يفكرون في الموت، ولا فيما بعد الموت، وإلا فإنك لن تعثر على أي تفسير مقبول لكل ما هم عليه .


كانت رابطة القرابة والجوار والصداقة، تعني دائماً نوعاً من العطاء غيـر
لقد أرسلت
المشروط، كما تعني وجود فائض اجتماعي، يزيت العلاقات بين الناس، ويضفي على الحياة بعض المعاني السامية. المقابل لذلك، هو لمسات الحب والحنان والتقدير ، ومواقف التعاون والمروءة والنخوة . . .


أما اليوم فقد ضعف وجود كل هذا، وصارت العلاقات قائمة في الدرجة الأولى على نوع من توازن المصالح، وحين يتم التأكد من انعدام المصلحة، فإن كل أسس القرابة والمعرفة والصداقة تصبح غير كافية لإقامة علاقات دائمة ووثيقة، وصار من غير الطبيعي أن تضحي في سبيل الآخرين دون أن تلقى منهم تضحيات مماثلة .


أما على مستوى الشعوب والأمم، فإن كل الروابط التاريخية والجغرافية والثقافية قد تكون غير كافية عندما يقع غبن حقيقي أو استغلال مكشوف لمنع نشوب حرب أهلية، أو تفكك دولة أو قبيلة؛ وكلنا يذكر الحرب الأهلية التي وقعت بين بنغلادش والباكستان حيث انتهت بتمزق الدولة الواحدة إلى دولتين، بعد أن شعر البنغلاديشيون بنوع من الغبن الاقتصادي والإداري .


المفاهيم التي أصابها التغير والتطور ، كثيرة جداً، وحصرها عسير، ويكفي أن نعلم أننا نعيش حياة لم تتبدل، ولكن كل شيء فيها قد تغير ؛ ومن المهم أن نفكر في أبعاد ذلك التغير، وتأثيره في إبعادنا عن أصولنا الحضارية والأخلاقية .


ومهمة هذا الكتاب استهداف إضاءة ذلك وتعظيم الوعي به


سادساً العنف وإرادة القوة : يمكن القول: إن الحضارة الحديثة، نزعت من الإنسان قلبه، فأصبح من غير مشاعر، وأضعفت لديه سلطان الضمير، والخوف من عقوبة الآخرة، وأحلت محله الأعداد الهائلة من القوانين والعقوبات والجند ، ذلك فأعمال العنف والجرائم المختلفة في تزايد مستمر .


لم يحدث ذلك من غير أساس، ولا من فراغ، وإنما كان ثمرة طبيعية لبعض النظريات العلمية والفلسفية والأخلاقية التي ركزت في وعي الإنسان
لقد أرسلت
الحديث حتمية الصراع في العالم والذي يحتم توفير الطاقة التي يحتاجها الانتصار في معارك، لانهاية لها. أوضح (داروين) في نظريته أن المجتمع الإنساني والطبيعة البيولوجية شيء واحد. وبناء عليه لا بد أن يحكم هذا المجتمع الإنساني القوانين نفسها: قوانين المنافسة والصراع والعدوان؛ وبالتالي لابد أن تتقاتل الأمم بعضها مع بعض من أجل البقاء، مثل الكائنات العضوية، وإلا فسوف تتعرض للفناء ! .


وهذا (نيتشـه) يرى في جملة ما يراه في مبادئ الأخلاق أن الخير كل ما يعلو في الإنسان بشعور القوة، وإرادة القوة، والقوة نفسها. أما الشر فهو كل ما يصدر عن الضعف . ويرى أن الضعفاء العجزة يجب أن يفنوا : هذا أول مبدأ من مبادئ حبنا للإنسانية ؛ أن يساعدوا أيضاً على هذا الفناء. وأن أشد الرذائل ضرراً الشفقة على الضعفاء العاجزين. أول صفات الإنسان الأعلى هي البطولة والنضال في سبيل مستوى أعلى باستمرار . ولهذا كان أبغض شيء إلى (نيتشه) السلام. والحرب عنده أقدس شيء ،


لاشيء أخطر على المجتمـع مـن الشفقة على المنحليـن والضعفـاء العاجزين؛ لأن الشفقة تقوم عقبة في سبيل قانون (الانتخاب الطبيعي) الذي يقضي بألا يبقى غير الصالح للبقاء! .


ولا تختلف فلسفة (سبنسر) في هذه المسألة عن مفهوم (نيتشه). مفهوم الصراع وإرادة القوة جديد على المجتمعات النامية ـ ولاسيما الإسلامية منها - فالقيم السائدة فيها هي الشفقة والرحمة والمحبة والعناية والتضامن بين أفراد المجتمع ، ، لكن الوضعية الحضارية العامة القائمة على تضخيم المكاسب والتمدد باستمرار - تشجع على التنافس والتصارع، وتجاوز الضعفاء والمساكين . في خضم القرن العشرين - قرن التقدم والرقي وغزو الفضاء . ـ ينفجر


العنف في كل مكان نتيجة انتشار النموذج الفكري والمعرفي الغربي الذي


يمجد القـوة وأسبابها. في هذا القرن قام أكثر من (130) حرباً، وقتل فيها أكثر


من (۱۲۰) مليون إنسان
لقد أرسلت
الإنجاز الإسلامي الضخم في زمان النبي ﷺ والذي تمثل في تحرير مساحات واسعة من الأرض وإدخال أعداد كبيرة من الناس في الإسلام، ذلك الإنجاز لم يخسر فيه المسلمون سوی (٢٥٩) شخصاً؛ وكانت خسائر المشركين نحواً من (٧٥٦) شخصاً فقط ! وذلك لأن الإسلام يدعو إلى الرحمة ونشر الدين بالكلمة الطيبة والمثل الأعلى، ويرى أن استخدام القوة هو آخر الحلول ، ولا يتم إلا في حدود الحاجة .


العالم الغربي المشـبـع بـروح التنافس والعنف، والجاهز للعدوان يعرف كيف يحقق مصالحه مع دعوته إلى سيادة الشرعية الدولية، ونصب موازين العدالة؛ من خلال ما يمكن أن نسميه بسياسات المفتح السلمي وسياسات الأمر الواقع .


سياسات الفتح السلمي، تقوم على أساس تحقيق المصالح عن طريق الاعتماد على النظام والقانون والمسالمة الدولية، في إطار فلسفة تقليل الخسائر البشرية إلى أدنى حد ممكن. فإذا كان بإمكان الغرب أن يصل إلى أهدافه دون إراقة دماء، تصبح الحروب شيئاً لا معنى له ؛ فالصيد اليوم دائما بشباك من حرير . والرصاص المستخدم هو رصاص الرحمة فقط . وكل شيء بقانون، القتل والنهب والسلب والدعارة . . . لكن دون أدنى قاعدة أخلاقية ! .


لماذا استعمار البلدان المستضعفة، وقد أثبتت التجارب العديدة أن الدول المستعمرة التي نالت استقلالها، صارت شعوبها أكثر تعلقاً بالمستعمر وأكثر حاجة إليه من قبل؛ فالسياحة لأبنائها في بلاده، والآلات تستورد من عنده ، والطلاب يبتعثون إلى جامعاته . . . إذا كان بإمكانك جعل الآخرين يأتون إليك ، فلماذا تذهب إليهم؟ .


أمـا سـيـاسـات الأمـر المواقع، فهـي مـن إفرازات الفلسفات (النفعية) و(البراجماتية) التي تشربها الغرب. وتلك السياسات تقوم على العمل الدائب المتدرج والمتخفي، من أجل إيجاد واقع معين، ومحاولة تثبيته بكل وسيلة
لقد أرسلت
رهم ممكنة ، ومعطيات (مرور الزمن) تخدم هذه السياسات، حيث يصبح المتضررون من واقع سيئ مشلولي الحركة بعد ترسخه وحاجته إلى جهود كبيرة كي يتغير ؛ لا يستطيعون بذل تلك الجهود؛ لأن الواقع الصعب نفسه، يحول دون التمكن من القيام بالأعمال الكبيرة .


في البوسنة ترك الغرب الصرب يفترسون المسلمين هناك ، حتى إذا أنهكت الضحية، وشرد مئات الألوف، ودمرت البيوت والمصانع، جاء الغرب ليأخذ الواقع بعين الاعتبار ، ويفضل اتفاقية (دايتون) على قامة الواقع البوسني المأساوي! ويعيد الكرة اليوم في (كوسوفو) أيضاً. وهذا ما يفعله اليهود في فلسطين السليبة ؛ فقد أصمُوا آذانهم عن كل القرارات الدولية إلى أن أوجدوا واقعاً يصعب جدا معه تنفيذ تلك القرارات : فأين يذهب مئات الألوف من المهاجرين اليهود وذراريهم وما الذي يمكن عمله حيال ترسانة نووية هائلة، وكيف يستطيع مئات الألوف من الفلسطينيين الاستغناء عن العمل لدى اليهود، وهم لا يرون أي بديل يلوح في الأفق؟ .


وهكذا فروح (العنف) تتغلغل في كل شرايين حياتنا المعاصرة، لكن الجسد الذي يحمل تلك الروح أكثر نعومة ورقة ، وأكثر مراعاة للقوانين والأعراف الدولية السائدة ! .


إن تنبه المسلمين المعاصرين لهذه الأمور، يوجب عليهم التسلح باليقظة الدائمة، والحذر من (التغيرات البطيئة) التي تتراكم آثارها على نحو خفي؛ حتى إذا صارت إزالتها مستحيلة، تبدت على حقيقتها وندم الناس حيث لا ينفع الندم )
اكتب إلى


Summarize English and Arabic text online

Summarize text automatically

Summarize English and Arabic text using the statistical algorithm and sorting sentences based on its importance

Download Summary

You can download the summary result with one of any available formats such as PDF,DOCX and TXT

Permanent URL

ٌYou can share the summary link easily, we keep the summary on the website for future reference,except for private summaries.

Other Features

We are working on adding new features to make summarization more easy and accurate


Latest summaries

Volcanic hazard...

Volcanic hazard mapping: This technique assists authorities in developing evacuation plans and zonin...

3 حيث في إطار ...

3 حيث في إطار هادف ومتفاعل هم فهو يتأثر بهم معهم فهو أن الفرد لا يعمل بمعزل عن الآخرين، بل يعمل وق...

الساعة الكبرى :...

الساعة الكبرى : هي التي يعقبها قريبًا قيام الساعة، ويكون لها تأثيرٌ كبير، ويَشعر بها جميع الناس السا...

نقول أن المجتمع...

نقول أن المجتمع المتجانس يتكون من جماعة واحدة منصهرة اجتماعية وثقافيا فتتوحد الهوية الخاصة والهوية ا...

مجلت عكمىت للضع...

مجلت عكمىت للضعاؾاث ؤنمامُت اتالجطالُت املجلض ) 0201( 1 4، الهضص 0 4، ص 02 - 20 الصراع الكمي الكي...

على الرغم من أن...

على الرغم من أن الموارد المالية Financial Resources محدودة للأفراد، فإن احتياجاتهم ورغباتهم غير محدو...

aktivitet har o...

aktivitet har olika syftar. Det kan tex. vara att träna förmågor, minnesträning, en stund för samvar...

Causes of the E...

Causes of the Explosions: The explosions were triggered by the ignition of approximately 2,750 tons ...

خَلْفَ الْأَشْج...

خَلْفَ الْأَشْجَارِ تَارَةً وَيَظْهَرانِ تارَةً أُخْرى ، وَبَعْدَ أَنْ أَخَذَ . شَرَعًا يَعْدُوانِ ه...

الخطوة 1 - أثنا...

الخطوة 1 - أثناء الاستشفاء في المستشفى، أثناء المرض الحاد (الخطوة 5.1 - بعد الخروج من المستشفى وقبل ...

تحتاج عممية تقو...

تحتاج عممية تقويـ النشاط التسويقي إلى قياس النتائج النيائية المتحققة فعلبً بعد الخطة، وتمجأ إدارة ال...

المهنة )الدور ا...

المهنة )الدور الاجتماعي أب، أم، أخت(. كل ذلك يؤدي إلى تشكيلالتربية الاجتماعية الثقافية للفرد. التر...