Online English Summarizer tool, free and accurate!
ثمّةَ عوامل جعلت من المفكِّرِ الكبيرِ عالمِ الاجتماعِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ خلدون(1332 – 1406م) – رحمه اللهُ – فيلسوفاً وعالماً اجتماعيّاً وسياسيّاً خبيراً في شؤون الدَّولة والمجتمع، فكانَ كثير المصادرِ مُتَنَوِّعَ الثّقافات والمعارف، إذْ شهِدَ عصرُ ابن خلدون صراعاتٍ اجتماعيّةً وسياسيّةً كثيرة، ولا سيِّما بعد نهاية الحروب الصَّليبيّة وما تلاها من صراعاتٍ حضاريّةٍ وتناقضاتٍ فكريّةٍ وعَقَديّةٍ عميقةٍ بين المجتمع العربيِّ الإسلاميِّ والمجتمعات المعادية للإٍسلام، فتفاقمت الصِّراعات الاجتماعيّة، وأدَّى ذلك إلى ظهورِ قُوى وإماراتٍ ودويلاتٍ عربيّةٍ صغيرةٍ، تتصارَعُ على النُّفوذ والسُّلطةِ في ظلِّ تلكَ الكيانات السياسيّة الهزيلة[1]. وشكَّلت تلكّ العوامل الخاصّة والعامّة فِكراً اجتماعيّاً وسياسيّاً مًمَيِّزاً لابنِ خلدون عن غيرِهِ من المفكِّرين العرب والمسلمين الَّذين عاصروه، واتِّجاهاً مختَلفاً ورؤيا سّياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة فيما أسماه “العمران البشريّ”، (لا كوست) يَعُدُّ مقدِّمة ابنِ خلدون “حدثاً معرفيّاً بل معجزةً عربيّةً، تتحدَّثُ عن أثر ابن خلدون وإسهاماتِهِ في الفكر الحداثيِّ، وتتناولُ مقدِّمتَه تحليلاً وتفكيكاً وتجميعاً وتركيباً، حتَّى غدت أفكارُهُ أُنموذجاً بارزاً ومثالاً حيّاً للمفكِّرين العرب والمسلمين والأوربيِّين على اختلاف توجُّهاتهم الإيديولوجيَّة واهتماماتهم المعرفيَّة. فأكثر ما اهتمَّ بهُ المعاصرون مشكلةُ التَّنظيم السِّياسيِّ للمجتمع العربيِّ والإسلاميِّ، والعلاقة مع الآخر ولا سيَّما العلاقة بالغرب، وعبَّر عنها برؤية تاريخيّة تراكميَّة بعد أن عاصرَ تلك المشكلات في تنقّله الطَّويل وعمله في بلدان مختلفة. فضلاً عن الوضع الاقتصاديِّ المتردِّي الَّذي عاشه مجتمعُهُ آنذاك بعدَ خروج العرب من الأندلس وفقدان مراكز التِّجارة البرِّيَّة والبحريَّة الّتي سيطَرَ عليها الأوربِّيُّون بعد انتزاعها من العرب، فتَحَوَّلَ العرَبُ إلى الاعتماد الكامل على الزِّراعة، فدفعت تلك الظروف مجتمعةً ابنَ خلدون إلى أن يصبَّ اهتمامَهُ كلَّهُ في مقدِّمتِهِ على نشأة المجتمع وتقدُّمه وانهيارِه والقوانين التاريخيَّة التي تحكم المسيرة المجتمعية ومظاهر التَّحَوُّل وعمليّة التّغيير الإنسانيّ والتبدُّل الحضاري[2]. كان الفكر السِّياسيُّ عندَ المفكِّرين العرب والمسلمين مُرتَبِطاً بالمُثُل على حين كان لابنِ خلدون وجهة نظرٍ واسعةٌ وطريقةٌ عميقة في التَّفكير والتَّحليل؛ وبإدراك هذا المبدأ الّذي انطلق منه ابن خلدون يُمكننا الاقتراب من السِّياق الفكريِّ لأهمِّ النَّظريَّات الَّتي وضَعَها في علم الاجتماع السِّياسيِّ في الدَّولة وحكم العائلة وظهور الحضارات والدُّول وسقوطِها وانتقالِها من أطوارِ التأسيس إلى أطوارِ القُوَّةِ والبناءِ ثُمَّ الضّعف والانهِيارِ، وكانَ لهذا المبدأ الأثرُ الأبرزُ في فِكر ابن خلدون الاجتماعيّ والسِّياسيّ، فقادَهُ هذا الرَّفض مباشرة إلى رفض الإسهام الفلسفيِّ الَّذي كان يجتاح الفكر السياسيَّ ولا سيِّما عند المفكِّرين في العالم الإسلاميِّ آنذاك. وبهذا الانطلاق مِنْ (الواقع) لا مِنْ (المُثُل) أصبَحَ ابن خلدون رائداً للتيَّار الواقعيِّ الذي نُسِبَ إلى مفكِّري النَّهضةِ الغربيّة الأَورُبِّيَّة، وظهرَ هذا الاتِّجاه الواقعيّ عندَ ابنِ خلدون في نَقْدِهِ وتحليله للمجتمع العربيِّ وتفسيرِهِ التطوُّر الحضاريّ الّذي يُعنى بتغيُّر المصالح الَّتي تؤثِّر فيها عوامل الزَّمن والانتقال من طَوْرِ البداوة إلى طَوْرِ التَّحضُّر، لأنَّ (العصبيَّة) عند ابن خلدون مفهومٌ رئيسي؛ فهي عندَه دالَّةٌ اجتماعيّة، واعتمدَ ابنُ خلدون المنهج التّجريبيَّ، هو: إلى أيِّ مدىً أَثّر العلاّمة ابن خلدون في الفكر السِّياسيِّ والاجتماعيِّ المعاصر؟ • كيفَ أثَّرَ الواقعُ الاجتماعيُّ والسِّياسيُّ في أفكار ابنِ خلدون وطروحاته الاجتماعيَّة؟ • كيف ربط ابن خلدون العصبيَّة بالدِّين وبناء الدولة؟ • ما مدى تأثير الطُّروحاتِ الخلدونيّةِ في الواقعِ العربيِّ والإسلاميّ المُعاصرِ؟ • ما ملامح التّأثيرِ الخلدونيِّ في رُؤى المفكِّرين الغربيّين المعاصرين وأفكارِهم؟ أولًا: تأثير الِّسياق التَّاريخيّ والاجتماعيِّ العربيِّ والإسلاميِّ في فكر ابن خلدون: أي: في المرحلةِ التَّاريخيَّة المرتبطة بالتَّراجع الإسلاميِّ وأطوار الضَّعف الأندلسيّ، فكان لهذهِ المرحلةِ وأحداثِها وظُروفِها السّياسيّة وملامحِها الاجتماعيّة العامّة أثرٌ بالغٌ في تكوين فكرِ ابن خلدون ومصادِرِهِ المعرفيّة ورُؤاه الفلسفيّة؛ ولم يكن فكرُه مرتبطاً بالدَّولة العبّاسيّة، وما مرّت بهِ من أطوارٍ مختلفة من طَورِ البدايات إلى طور انهيارِها وسقوطها على أيدي الغزاةِ المغول وزوال آثارها الثقافيّة والسِّياسيّة والاجتماعيّة. هو (العامل العائليُّ)؛ وكان لها دورٌ في تاريخ الأندلس امتدَّ لِخمسةِ قرون، وممّا زاد في إضعاف تلك الدّويلات ما كانت تتعرَّض له من الضَّغط الأوروبيِّ وهجمات البربر والبدو[8]. ومنها الطَّاعون الّذي كان جائحةً خطيرةً انتشرت في المغرب العربيَّ حتَّى وصلت إلى تونس، وثمّةَ عامل آخر، يمكن أن نُسمِّيَهُ (العامل الشَّخصِيّ) الّذي أثرى تجربة ابن خلدون وعقليَّتَه وكتاباته، فمكانة الأسرة ومستواها الاجتماعيُّ أتاحا له فرصة تلقِّي تعليمٍ رفيع المستوى، ثمَّ لمّا بلغ سنَّ العشرين عمل كاتباً في سلك القضاء في دولة الحفصيِّين بتونس، ودفعَ ضريبة ذلك التَّقلُّب في الولاءات، فزُجَّ به في السِّجن مرَّتين باتِّهامات الانقلاب على الحكَّام أو التَّآمر عليهم والكَيدِ لهم. ورَفَدتْهُ بتجارب غنيّة، حتَّى غدا بحَقٍّ رائدَ الفكر الواقعيِّ الَّذي اتَّضحت معالمُهُ في عصر النَّهضة على يد (نيكولا مكيافللي)[9]. حسب رأيه[10]. ثانيًا: علاقة الدِّين والدَّولة في فكر ابن خلدون: نادى ابنُ خلدون بأنَّ العرب والبدو يمكنهم تكوين سلطة ملكيَّة ذات طابع دينيٍّ يحمل طابعاً نبويّاً أو قداسيّاً يستطيعُ أن يُخضِعَ عنصرَ الوحشيّة في البدو، ويجعل خضوعهم لسُلطةٍ واحدةٍ مُمكناً بعدَ أن كانَ هذا الخُضوعُ مستحيلاً بالفِطرة، فإذا كانت العصبيَّة تُنشئ الدَّولة، ويحافظ على استمرارها[11]، فاللّافت أنَّ ابن خلدون رأى أنَّ الحلَّ لتقوية رابطة العصبيَّة هو الدِّين[12]. وقد اعتمد في استنباط هذه القاعدة على استقرار الواقع السياسيِّ في عهدِه، وأخيراً طَوْر الإسراف والتَّبذير[13]. فإن النَّظرة الخلدونيَّة في أنَّ قوانين السياسيَّة التي تحكم النَّاس تجسَّدت في[14]: وتكون مصلحته مقدَّمة على مصالح عامَّة النَّاس. فكان هذا الرَّادع قيداً شخصيّاً وضابطاً لكلِّ فردٍ بلا حاجة للدَّولة إلى بذل جهدٍ كبيرٍ لإخضاع الرَّعيَّة وإخضاع قيادتهم أيضاً، وكذلك أجسادهم[15]؛ ففي النَّموذج الأخير – كما يرى ابن خلدون – إمكانيّةٌ مذهلة للتَّحوُّل الاجتماعيِّ. حاز الدِّينُ في الفكر الخلدونيِّ القيمةَ الكبرى، وهكذا، وأمّا دور الدّولة في الإدارة، فلم ينكر ابن خلدون دور الدّولة في التَّدبير الاقتصاديِّ رَغمَ أنّه استعرض مساوئ احتكار الدَّولة للسُّلطة والأعمال الاقتصاديّة المهمّة، ، فلم يتصوَّر العمرانَ بلا دولة ولا النُّموَّ الاقتصاديَّ بدون تنظيم سلطة، فهو لا يؤمن بانسحاب الدَّولة من المهمَّة الإشرافيّة، لأنَّ ذلك يمكن أن يعود بالعواقب الوخيمة على الدَّولة والمجتمع كلِّه[17].
المقدمة:
ثمّةَ عوامل جعلت من المفكِّرِ الكبيرِ عالمِ الاجتماعِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ خلدون(1332 – 1406م) – رحمه اللهُ – فيلسوفاً وعالماً اجتماعيّاً وسياسيّاً خبيراً في شؤون الدَّولة والمجتمع، منها عوامل شخصيّة، فكانَ كثير المصادرِ مُتَنَوِّعَ الثّقافات والمعارف، تشرَّبّ من الثّقافةَ العربيّةَ والإسلاميّة، ونهل من العلوم والمعارف الإغريقيّة والفارسيّة والهنديّة وغيرها، ومنها عوامل ومؤثّرات خارجيّة، تتعلّق بعصرهِ وأحداثِ ذلك العصر وظروفِهِ العامّة، إذْ شهِدَ عصرُ ابن خلدون صراعاتٍ اجتماعيّةً وسياسيّةً كثيرة، ولا سيِّما بعد نهاية الحروب الصَّليبيّة وما تلاها من صراعاتٍ حضاريّةٍ وتناقضاتٍ فكريّةٍ وعَقَديّةٍ عميقةٍ بين المجتمع العربيِّ الإسلاميِّ والمجتمعات المعادية للإٍسلام، فتفاقمت الصِّراعات الاجتماعيّة، وقويت النِّزاعات القبَليّة والمحَلِّيَّة، وتقلَّصَ الشُّعورُ الدِّينيُّ، وأدَّى ذلك إلى ظهورِ قُوى وإماراتٍ ودويلاتٍ عربيّةٍ صغيرةٍ، تتصارَعُ على النُّفوذ والسُّلطةِ في ظلِّ تلكَ الكيانات السياسيّة الهزيلة[1].
وشكَّلت تلكّ العوامل الخاصّة والعامّة فِكراً اجتماعيّاً وسياسيّاً مًمَيِّزاً لابنِ خلدون عن غيرِهِ من المفكِّرين العرب والمسلمين الَّذين عاصروه، واتِّجاهاً مختَلفاً ورؤيا سّياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة فيما أسماه “العمران البشريّ”، فكَوَّنَ مجموعُ آرائِه منظومةً شاملةً قائمةً على نقدِ الأفكار السّابقة لهُ والأفكار التي عاصّرَها نقداً مبنيّاً على مفاهيمَ واقعية، فدعا إلى المنطق العقليِّ كمعيار في حلِّ مشكلات المجتمع، وكان من أكثر الرَّافضين لعلم الكلام والفلسفة؛ لأنَّهما لا يلامسان هُموم المجتمع وواقعِهِ وتحدِّياته آنئذٍ.
ويُعَدُّ عصرُ ابن خلدون (رحمه الله) من النَّاحية الفكريّة عصرَ تراجعٍ للحضارة العربيّة الإسلاميّة الَّتي ازدانت قروناً طويلة، فكانَ هذا التّراجُع من أهمِّ الدّوافع إلى طرحِهِ الواقعيِّ في عقلنة قراءة التَّاريخَينِ الإسلاميّ والعالمي، وهذا ما جعل أ. (لا كوست) يَعُدُّ مقدِّمة ابنِ خلدون “حدثاً معرفيّاً بل معجزةً عربيّةً، تجاوزت في عمقها وقوَّة حجَّتها وتأثيرِها الفكرَ اليونانيَّ والأوروبيَّ حتَّى ذلكَ الوقت”.
وهذا التّأثير الخلدونيّ الواضح والعميق ــ الّذي أسماه لاكوست بالمعجزة ــ كان سبباً لظهورِ دراساتٍ كثيرةٍ، ملأت الآفاق، تتحدَّثُ عن أثر ابن خلدون وإسهاماتِهِ في الفكر الحداثيِّ، وتتناولُ مقدِّمتَه تحليلاً وتفكيكاً وتجميعاً وتركيباً، فقد كان ابنُ خلدون جريئاً وبعيدَ النَّظَر في طُرُوحِهِ السياسية والعلميّة، حتَّى غدت أفكارُهُ أُنموذجاً بارزاً ومثالاً حيّاً للمفكِّرين العرب والمسلمين والأوربيِّين على اختلاف توجُّهاتهم الإيديولوجيَّة واهتماماتهم المعرفيَّة. فأكثر ما اهتمَّ بهُ المعاصرون مشكلةُ التَّنظيم السِّياسيِّ للمجتمع العربيِّ والإسلاميِّ، والعلاقة مع الآخر ولا سيَّما العلاقة بالغرب، وكانت تلك المشكلة التَّنظيميَّة من صميم الاهتمام الخلدونيِّ، وتناولَها ابن خلدون، وعبَّر عنها برؤية تاريخيّة تراكميَّة بعد أن عاصرَ تلك المشكلات في تنقّله الطَّويل وعمله في بلدان مختلفة. فضلاً عن الوضع الاقتصاديِّ المتردِّي الَّذي عاشه مجتمعُهُ آنذاك بعدَ خروج العرب من الأندلس وفقدان مراكز التِّجارة البرِّيَّة والبحريَّة الّتي سيطَرَ عليها الأوربِّيُّون بعد انتزاعها من العرب، فتَحَوَّلَ العرَبُ إلى الاعتماد الكامل على الزِّراعة، وضعفت البنية الاقتصاديّة، فدفعت تلك الظروف مجتمعةً ابنَ خلدون إلى أن يصبَّ اهتمامَهُ كلَّهُ في مقدِّمتِهِ على نشأة المجتمع وتقدُّمه وانهيارِه والقوانين التاريخيَّة التي تحكم المسيرة المجتمعية ومظاهر التَّحَوُّل وعمليّة التّغيير الإنسانيّ والتبدُّل الحضاري[2].
كان الفكر السِّياسيُّ عندَ المفكِّرين العرب والمسلمين مُرتَبِطاً بالمُثُل على حين كان لابنِ خلدون وجهة نظرٍ واسعةٌ وطريقةٌ عميقة في التَّفكير والتَّحليل؛ فالعلم من وجهة نظرِهِ من ثمار تطوُّر الحضارة، وليس من ثمار حضارة المُثُل الجاهزة، فانطلق ضمن إطار (علم العمران) أو (مبادئ علم الاجتماع السِّياسيِّ) مِنْ أطر الواقع. وبإدراك هذا المبدأ الّذي انطلق منه ابن خلدون يُمكننا الاقتراب من السِّياق الفكريِّ لأهمِّ النَّظريَّات الَّتي وضَعَها في علم الاجتماع السِّياسيِّ في الدَّولة وحكم العائلة وظهور الحضارات والدُّول وسقوطِها وانتقالِها من أطوارِ التأسيس إلى أطوارِ القُوَّةِ والبناءِ ثُمَّ الضّعف والانهِيارِ، وكانَ لهذا المبدأ الأثرُ الأبرزُ في فِكر ابن خلدون الاجتماعيّ والسِّياسيّ، فقد رفض المُطلق العقليَّ والإقرار بحقيقة الأشياء، فقادَهُ هذا الرَّفض مباشرة إلى رفض الإسهام الفلسفيِّ الَّذي كان يجتاح الفكر السياسيَّ ولا سيِّما عند المفكِّرين في العالم الإسلاميِّ آنذاك.
وبهذا الانطلاق مِنْ (الواقع) لا مِنْ (المُثُل) أصبَحَ ابن خلدون رائداً للتيَّار الواقعيِّ الذي نُسِبَ إلى مفكِّري النَّهضةِ الغربيّة الأَورُبِّيَّة، ومنهم (ميكيا فيلي). وظهرَ هذا الاتِّجاه الواقعيّ عندَ ابنِ خلدون في نَقْدِهِ وتحليله للمجتمع العربيِّ وتفسيرِهِ التطوُّر الحضاريّ الّذي يُعنى بتغيُّر المصالح الَّتي تؤثِّر فيها عوامل الزَّمن والانتقال من طَوْرِ البداوة إلى طَوْرِ التَّحضُّر، فكان في نَقْدِهِ وتحليلِهِ وتفسيرِهِ للظَّواهر والتَّحَوُّلاتِ الاجتماعيّةِ ينطلق من مفهوم (العصبيَّة) الّتي يرى أنَّ لها ارتِباطاً وثيقاً بقاعدة (العوائد)؛ لأنَّ (العصبيَّة) عند ابن خلدون مفهومٌ رئيسي؛ لأنَّها تعني شمول جميع الأفراد، فهي عندَه دالَّةٌ اجتماعيّة، تؤكِّد حقيقةَ انتماءِ الفرد إلى مجتمع.
ووصَل إلى نتيجة رئيسيةٍ تمثَّلت في شروحِهِ في كتابِه الكبير “المقدمة”، هيَ أنَّ المجتمعات العربيَّة لم تتراجَع حضاريّاً بسبب التَّنازع حول السُّلطان بقَدْرِ ما كان بسببِ نسيانِ أبناءِ تلك المجتمعات أو تغافلهم عن الغاية والهدف من السُّلطان، فهم لم يعودوا يُبدون أيَّ تطلُّعاتٍ ثقافيَّة، تحفظ استمرار المجتمع الحضاري[3].
واعتمدَ ابنُ خلدون المنهج التّجريبيَّ، فانطلق من واقعٍ عمليٍّ اكتسبه بالمعايشة، وكشف إشكالاته ومساوئه ونقاط ضعفه وحلّل دور الإنسان والتغيرات المادية والتغير الثقافي[4]. ولذلك، فإنَّ الإشكال البحثيِّ يتمثُّل في سؤال رئيس، هو: إلى أيِّ مدىً أَثّر العلاّمة ابن خلدون في الفكر السِّياسيِّ والاجتماعيِّ المعاصر؟
ويتفرَّع من هذا السؤال الرئيسي مجموعة من التساؤلات، وأهمها:
• كيفَ أثَّرَ الواقعُ الاجتماعيُّ والسِّياسيُّ في أفكار ابنِ خلدون وطروحاته الاجتماعيَّة؟
• ما ملامحُ العمرانِ البشريِّ في كتاب (المقدِّمة) لابن خلدون؟
• كيف ربط ابن خلدون العصبيَّة بالدِّين وبناء الدولة؟
• ما مدى تأثير الطُّروحاتِ الخلدونيّةِ في الواقعِ العربيِّ والإسلاميّ المُعاصرِ؟
• ما ملامح التّأثيرِ الخلدونيِّ في رُؤى المفكِّرين الغربيّين المعاصرين وأفكارِهم؟
أولًا: تأثير الِّسياق التَّاريخيّ والاجتماعيِّ العربيِّ والإسلاميِّ في فكر ابن خلدون:
ولد ابن خلدون في تونس عام 1332م؛ أي: في المرحلةِ التَّاريخيَّة المرتبطة بالتَّراجع الإسلاميِّ وأطوار الضَّعف الأندلسيّ، فكان لهذهِ المرحلةِ وأحداثِها وظُروفِها السّياسيّة وملامحِها الاجتماعيّة العامّة أثرٌ بالغٌ في تكوين فكرِ ابن خلدون ومصادِرِهِ المعرفيّة ورُؤاه الفلسفيّة؛ فالفِكرُ الخلدونيُّ نِتاجُ عوامل مرتبطةٍ بالأندلس وما طرأ على الحكم العربيِّ فيها مِنْ تَحَوُّلات، ولم يكن فكرُه مرتبطاً بالدَّولة العبّاسيّة، وما مرّت بهِ من أطوارٍ مختلفة من طَورِ البدايات إلى طور انهيارِها وسقوطها على أيدي الغزاةِ المغول وزوال آثارها الثقافيّة والسِّياسيّة والاجتماعيّة.
وإلى جانبِ هذا العامل العامِّ هناكَ عاملٌ آخر مرتبِطٌ به، هو (العامل العائليُّ)؛ فقد كانت الأندلس في تلك المرحلة مَقَرّاً ومركزاً لِنشاط عائلةِ ابن خلدون الّتي كانت من أشهر العائلات في إشبيليّة، وكان لها دورٌ في تاريخ الأندلس امتدَّ لِخمسةِ قرون، وقد عاصرت تلك العائلة دولةَ الموحِّدين الّتي انقسمت نتيجة التَّناحر على السُّلطة والنًّفوذ إلى ثلاثِ دويلاتٍ تحكمُها أُسَرٌ مختلفةٌ، هي الحفصيُّون الّذين حكموا تونس[5]، والأسرة الزِّيانيّة في الجزائر[6]، والأسرة المَرِينيّة في المغرب[7]. وممّا زاد في إضعاف تلك الدّويلات ما كانت تتعرَّض له من الضَّغط الأوروبيِّ وهجمات البربر والبدو[8].
وكانت الأحداث الاجتماعيَّة منَ المُؤثِّرات في فكر ابن خلدون، ومنها الطَّاعون الّذي كان جائحةً خطيرةً انتشرت في المغرب العربيَّ حتَّى وصلت إلى تونس، وكان ابنُ خلدون آنذاك في السَّادسةَ عشرةَ من عُمره.
وثمّةَ عامل آخر، يمكن أن نُسمِّيَهُ (العامل الشَّخصِيّ) الّذي أثرى تجربة ابن خلدون وعقليَّتَه وكتاباته، فمكانة الأسرة ومستواها الاجتماعيُّ أتاحا له فرصة تلقِّي تعليمٍ رفيع المستوى، ثمَّ لمّا بلغ سنَّ العشرين عمل كاتباً في سلك القضاء في دولة الحفصيِّين بتونس، وأخذَ يترقَّى في مجال العمل السِّياسيِّ الَّذي ظلَّ يعمل فيه مدَّةَ ثلاثين عامًا، تقلَّبَ فيها في المناصب، فكان وزيراً للدّويلات الثلاث الحفصيِّة والزّيانيّة والمرينيّة، ولبعض إمارات غرناطة، وتبدَّلت مواقفُه السِّياسيّة وولاءاتُه أكثرَ من مرَّة، ودفعَ ضريبة ذلك التَّقلُّب في الولاءات، فزُجَّ به في السِّجن مرَّتين باتِّهامات الانقلاب على الحكَّام أو التَّآمر عليهم والكَيدِ لهم.
كونت تلكَ العواملُ العامّةُ (السّياسيّةُ والاجتماعيّةُ) والعواملُ الخاصّة (الشَّخصيَّةُ والعائليّةُ) فكر ابن خلدون، ورَفَدتْهُ بتجارب غنيّة، ومنحتْهُ فرصةً متميِّزة لدراسة التَّفاعل الاجتماعيِّ والتغيُّرات في ملامح المجتمع، حتَّى غدا بحَقٍّ رائدَ الفكر الواقعيِّ الَّذي اتَّضحت معالمُهُ في عصر النَّهضة على يد (نيكولا مكيافللي)[9]. وجعلت تلك الرؤيةُ الَّتنويريّةُ عندَ ابن خلدون المفكِّرَ الفرنسيَّ المعاصر كلود هوروت يعتبر – في كتابه “ابن خلدون: هل يمثِّل إسلام التّنوير؟” – هذا المفكِّر أنموذجاً يُقتدى به لدى المفكِّرين وعلماء الاجتماع العرب والمسلمين في قوانين الاجتماع البشريّ، وهو ما جعله مفكِّراً مستنيراً وعقلانيّاً وفقيهاً وفيلسوفاً في آن واحد، حسب رأيه[10].
ثانيًا: علاقة الدِّين والدَّولة في فكر ابن خلدون:
نادى ابنُ خلدون بأنَّ العرب والبدو يمكنهم تكوين سلطة ملكيَّة ذات طابع دينيٍّ يحمل طابعاً نبويّاً أو قداسيّاً يستطيعُ أن يُخضِعَ عنصرَ الوحشيّة في البدو، ويجعل خضوعهم لسُلطةٍ واحدةٍ مُمكناً بعدَ أن كانَ هذا الخُضوعُ مستحيلاً بالفِطرة، وهي دعوةٌ مبنيّةٌ على رؤيةِ ابن خلدون أنَّ الدِّعاية الدِّينيَّة لا يمكنُ أنْ تصبحَ فعَّالة بلا شُعُورٍ بروح المجموعة العصبيَّة، فالدّينَ والعصبيَّة عُنصران مُتلازمان في تكوين الدُّول؛ فإذا كانت العصبيَّة تُنشئ الدَّولة، فإنَّ الدِّين يكوِّن السُّلطة الملكيَّة، ويحافظ على استمرارها[11]، فاللّافت أنَّ ابن خلدون رأى أنَّ الحلَّ لتقوية رابطة العصبيَّة هو الدِّين[12].
واستند ابن خلدون في نظريته السياسيَّة إلى قاعدة شهيرة: العصبيَّة أساس الملك، ولا يقوم الملك إلا على شوكة من عصبيَّة القوم الَّذين يؤسِّسون الملك، وقد اعتمد في استنباط هذه القاعدة على استقرار الواقع السياسيِّ في عهدِه، وبَيَّن أنَّ أطوار الدَّولة خمسة؛ فهي تبدأ بطَوْر الظَّفَر بالبُغية ومن ثّمَّ طَوْر الاستبداد وطّوْر الفراغ والدَّعة وجني ثمار المُلك وطَوْر المُسالمة والقُنوع، وأخيراً طَوْر الإسراف والتَّبذير[13].
وبهذا يبدو أنَّ من أهمِّ الأسُس الخلدونيَّة في فلسفة السِّياسة أنَّ الدُّول لا تنشأ إلَّا إذا توفَّرت لها قوَّة قوميَّة عرقيَّة أسماها ابن خلدون (العصبيَّة) للفِرقة وللقوم وللقبيلة. فوجود رابط قوميٍّ بين مجموعة من البشر يخلق فرصة تكوين دولة جديدة كبيرة جدّاً.
وهكذا، فإن النَّظرة الخلدونيَّة في أنَّ قوانين السياسيَّة التي تحكم النَّاس تجسَّدت في[14]:
• قوانين تعتمد منهج السياسة العقليّة؛ تهتم بأمور الدًّنيا، ومن ثَمَّ تخضع لغايات الحاكم المستبدِّ، وتكون مصلحته مقدَّمة على مصالح عامَّة النَّاس.
• قوانين تعتمد على السياسة المدنيّة؛ وتسمَّى المدينة الفاضلة، وهي سياسة تخيُّليَّة وصعبة التَّحقيق؛ لأنّها تستند إلى إرادة الفرد في إدارة الحكم.
• قوانين سياسيّة دينيّة: ومعناها الحكم وفق شرع الله (مفهومي الإمامة والخلافة).
والنَّموذج الأخير ارتبط بحكم النُّبوَّة حين هُذِّبَت رغباتُ الرَّعايا الدُّنيويَّةُ، واقتَنَعوا بضرورة ضبطِ رغباتهم وآمالهم والحدِّ منها؛ لأنَّ حياتهم – وَفْقَ هذا النَّموذج – لم تَعُد مُرتَبطةً بالعالم الماديِّ الفاني وحدَه، فكان هذا الرَّادع قيداً شخصيّاً وضابطاً لكلِّ فردٍ بلا حاجة للدَّولة إلى بذل جهدٍ كبيرٍ لإخضاع الرَّعيَّة وإخضاع قيادتهم أيضاً، ففي هذه الحالة تمتلك الدَّولة إيمانَ الأفراد أي قلوبَهم وعقولَهم، وكذلك أجسادهم[15]؛ ففي النَّموذج الأخير – كما يرى ابن خلدون – إمكانيّةٌ مذهلة للتَّحوُّل الاجتماعيِّ.
حاز الدِّينُ في الفكر الخلدونيِّ القيمةَ الكبرى، فاعتبره المحرِّكَ للجماعة والباعثَ على اجتماعها الفاعل، والمنتجَ للعمران وفق منظومة قيميّة إسلاميّة، وهذه الحقيقة اّلتي غابت عن الفلاسفة وعلماء الاجتماع السِّياسيِّ الوضعيِّين والمادّيِّين الَّذين غيَّبوها عمداً لفصل العمران الإنسانيِّ عن الرُّؤية التّوحيديّة الكونيّة، وهكذا، تدور الفكرة الخلدونية في علم الاجتماع، حول مهمّةِ الإنسانِ في الاستخلاف وتعمير الأرض، ونشر قيم الخير والحقِّ، وهذه هي وظيفته الوجوديّة[16].
وأمّا دور الدّولة في الإدارة، فلم ينكر ابن خلدون دور الدّولة في التَّدبير الاقتصاديِّ رَغمَ أنّه استعرض مساوئ احتكار الدَّولة للسُّلطة والأعمال الاقتصاديّة المهمّة، ، فلم يتصوَّر العمرانَ بلا دولة ولا النُّموَّ الاقتصاديَّ بدون تنظيم سلطة، فعالج مسألة تدخل الدَّولة في الشَّأنِ الاقتصاديِّ من منظور متعدِّد العلاقات والتَّشابكات، فهو لا يؤمن بانسحاب الدَّولة من المهمَّة الإشرافيّة، ولا يوافق على تسلُّطها على الأمور الفكريّة والاقتصاديّة؛ لأنَّ ذلك يمكن أن يعود بالعواقب الوخيمة على الدَّولة والمجتمع كلِّه[17].
إذن، نجد عند ابن خلدون أنَّ العمرانَ أو الحضارة حصيلةُ تنظيمٍ ناجحٍ في استخدام السُّلطة، فتزدهر المدنيّة مع الاستقرار والرَّفاهية الّتي تعتمد الحفاظ على الخير المشترك وتطبيق الأوامر الإلهية التي تكسب الحكم شرعيّةَ الاستمرار بسهولة بناءً على تعميق الرّابطة الدّينيّة، لكنَّه تحدَّث كذلك عن الرَّوابط العضويّة “العصبيّة”، الّتي يمكن أن تؤدِّي إلى الاستحواذِ على السُّلطة، وهي حاضرة عند البدو بقوَّة، لكنّها مع ذلك لا تقيم دولاً مستقرّة؛ لأنَّها ستظلُّ في حالة تنافس مع العصبيّات الأخرى[18].
Summarize English and Arabic text using the statistical algorithm and sorting sentences based on its importance
You can download the summary result with one of any available formats such as PDF,DOCX and TXT
ٌYou can share the summary link easily, we keep the summary on the website for future reference,except for private summaries.
We are working on adding new features to make summarization more easy and accurate
اسهم وجود نهر النيل وخصوبة التربة وتفر الامن والاستقرار في اهتمام مصر القديمة بالزراعة، فأقيمت السدو...
لا أحد يذكر أن الأطفال التوحديون لديهم مشكلات معرفية شديدة تؤثر على قدرتهم على التقليد والفهم والمرو...
جرى الحديث حتّى الآن عن شكل الحرّيّة، والحرّيّة المحضة الخاوية، وهذا ما عرضناه تحت عنوان البعد الأوّ...
The Social Comparison Theory posits that people assess their own ability, opinions, and physical at...
The Social Comparison Theory posits that people assess their own ability, opinions, and physical at...
Asana is a robust project management app that helps you track tasks, collaborate with your team, and...
رسوطالطعن ب ي فالقرارات ي االستئناف فالقضائية اإلستعجالةآجال قصبة جدا ً مقارنة باآلجال ال ي المحددة ...
Introduction to Microorganism Prokaryote Eukaryote Pro = before EU = True Size Smaller Larger Develo...
Anxiety refers to excessive fear and worry and encompasses various dis...
الفصل الخامس أولا: تمهيد حول المصرفية الالكترونية • يقصد بعبارة المصرفية الالكترونية الخدمات المصر...
Write a persuasive essay to answer the question: Is beauty important? Beauty means looking nice. ...
لمعلوماتٍ أكثر: [[:هندسة وراثية، نقل الجينات الأفقي]] يتضمن التعديل الوراثي إدخالا أو حذفا للجينات، ...