Lakhasly

ت
العربيةQ وا/ناهج التدريسية على ما يراه البعض صـالحـا مـن الأعـمـالQ أو
صادقا في النوايا والأهداف.
ورKا تجدر الإشارة هنا إلى أن عددا كبيرا من الرحالة الأوروبيT قد
أسهموا !سهاما إيجابيا بتقدz معلومات مفـيـدة ومـعـرفـة بـالـشـعـوب غـيـر
الأوروبية لم تكن متوفرة من قبل. وقد قرأنا في تقدz الشيخ حمد الجاسر
لترجمة كتاب «اكتشاف جزيرة العرب»Q للكاتبة الفرنسية جـاكـلـT بـيـريـنQ
برازه للنتائج الإيجابية لعدد من الرحلات الأوروبية في الجزيرة العـربـيـة.
يقول في هذا الصدد: «وقد لا يحتاج القـار’ إلـى الـسـيـر مـعـهـا-فـي ثـنـايـا
الكتاب-لإدراك الجوانب ا/همة من نتائج تلك الرحلاتQ كالكشف عن آثـار
الحضارة العربية القدxة في جـنـوبـي الجـزيـرةQ والـوصـول إلـى حـل رمـوز
الأبجدية الحميرية (خط ا/سند) حلا أضاف معلومات جديدة عـن حـلـقـة
كانت مجهولة لدى العرب أنفسهمQ من تاريخ ذلك الجزء من بلادهمQ فبرزت
بفضل معرفة قراءة «ا/سند» في آثارهQ من محافذ وسدود و دول تعـاقـبـت
. (٢) الحكم فيهQ كالدولة «ا/عنية» و«السبئية» و «القتبانية»Q و «ا لحميرية»Q
وأيا كانت دوافع الرحالةQ ا/علنة منهـا والخـفـيـةQ فـقـد اتـصـف أغـلـبـيـة
الرحالة-ولو بدرجات متفاوتة-بدقة ا/لاحظة والوصف والتقصي في تسجيل
مشاهداتهم بأمانة وصدقQ كما حرص معظمهم على التفرقة بT ا/شاهدة
والرواية عند تسجيل معلوماتهم. هذه كلها سمات قد أصبحت الآن Kثابة
قواعد أساسية من منهجية البحث الحقلـي فـي الـدراسـات الإثـنـوجـرافـيـة
با/عنى الحديثQ الأمر الذي يجعلنا نعالج هذا ا/وضوع في الفصل الثانـي
بالنظر في أعمال بعض الـرحـالـة-الـقـدامـى مـنـهـم والمحـدثـT-بـاعـتـبـارهـم
إثنوجرافيT وإن كانوا غير متخصصT أو مدربT أساسـا هـذا الـنـوع مـن
الدراسة في وضعه الحديث. إن بعض الرحالة الذين نتناول أعمالـهـم فـي
هذا الكتاب مثل ا/قدسي والبيروني لم يكن هدفهم الرئيس الرحلة في حد
ذاتها قدر اهتمامهم بوضع مؤلف في تقوz الـبـلـدانQ كـمـا فـعـل ا/ـقـدسـي
مثلاQ أو وصف حضارة غير إسلامية كما جاء في دراسة البيروني للثقافة
الهندية. إننا نرى في هذه الأعمالQ وما قدمت من مادة ثريةQ دليـلا بـارزا
على قيمة رحلاتهم في تزويدهم مباشرة با/علومات ا/ستمدة من ا/لاحظة
ا/باشرةQ وا/عاينة الشخصية عن الأحوال السياسة والاجتماعية والثقافية
13
هيد ابحث الأول
للبلدان التي زاروها أو أقاموا فيهاQ وعن طبائع أهلها ومعالم حـضـارتـهـمQ
وهذا يشكل جوهر العمل الإثنوجرافي.
هذا ولا يقتصر الأمر على كون هؤلاء الرحالة إثنوجرافيQT وإJا نجدهم-
أو نجد بعضهم على الأقل-قد برزوا أيضا كأدباءQ وأن مـادة رحـلاتـهـم قـد
زخرت بالعناصر الأدبية. هذا وقد درج الكتاب العرب على استخدام عبارة
«أدب الرحلات» للإشارة إلى كتابات الرحالة ا/سلمT وغيرهم التي يصفون
فيها البلدان والأقوامQ والتي يذكرون فيها أيضا أحداث تجوالهمQ و دوافـع
رحلاتهمQ وما قد يصاحب ذلك من بلورة لانطباعات شخصيةQ أو إصـدار
أحكام تقوxية /ا شاهدوه أو سمعوه. ونظرا لارتقاء الوصف في كثير من
أعمال الرحالة وبلوغه حدا كبيرا من الدقةQ علاوة على عـمـلـيـة الأسـلـوب
القصصيQ السلسQ وا/شرقQ أدخلت أدبيات الرحلات ضمـن فـنـون الأدب
العربيQ وأصبحت قراءة أدب الرحلات متـعـة ذهـنـيـة كـبـرى. ومـع أن مـادة
الرحلات-كما يرى الكاتب حسني حسT-قد لا تـرتـقـي إلـى مـسـتـوى الـفـن
القائم بذاته كفن القصةQ أو الشعرQ أو ا/سرحيةQ أو ا/قالة الأدبية مثلاQ إلا
أنه في أدب الرحلات تجتمع أساليب هذه الفنون وموضوعاتها كلها دون أن
(٣) تضبطه معاييرهاQ أو أن يخضع /قاييسها.
ومع أننا نركز في هذا الكتاب على التحليل الإثنوجرافي لكتابات الرحالةQ
فإننا نرى أن نشير في هذا التمهيد إلى أن مادة الرحلة كثـيـرا مـا تحـتـوي
على العناصر الأدبية جنبا إلى جنب مع ا/علومات الإثنوجرافية. إن الأمثلة
لعديدةQ ولنكتف هنا بالإشارة إلى دراسة عثمان موافي الـذي تـنـاول فـيـهـا
رحلة ابن جبيرQ ورأى أن هذا الرحالة قد نقل لنا صورا حية وصادقة عن
ا/دن واجملتمعات الإسلامـيـة فـي ا/ـشـرق الـعـربـيQ وعـن عـادات الـسـكـانQ
وتقاليدهمQ ونظمهم الاجتماعيةQ وأحوالهم النفسيةQ وذلك في القرن السادس
الهجريQ وفي فترة من أدق وأحرج الفتراتQ التي مر بهـا ا/ـشـرق الـعـربـي
الإسلاميQ وهي فترة الجهاد ا/قدس ضد الصليبيT بقيادة القائد صلاح
الدين الأيوبي. كان وصف ابن جبير وتـصـويـره الاجـتـمـاعـي يـصـدران عـن
عاطفة قوية جياشة نحو ما يصفQ وما يصور سواء أكانت هـذه الـعـاطـفـة
مبعثها الحب والإعجابQ أم البغض والكراهية. ويظهر هذا التلون العاطفيQ
وبشكل واضحQ في وصفه لبعض ا/دن التي استردها ا/سلمون من الصليبيT.
14
أدب الرحلات
وتلك التي بقيت في حوزتهم. ولا شك أن عاطفته نحـو ا/ـدنQ الـتـي كـانـت
بأيدي ا/سلمQT تخـتـلـف عـن عـاطـفـتـه نـحـو ا/ـدن الـتـي بـقـيـت فـي حـوزة
الـصـلـيـبـيـQT الأولـى عـاطـفـة حـب وإعـجـابQ أمـا الـثـانـيـة فـعـاطـفـة بـغـض
. (٤) وكراهية
وفي وصفه للمدنQ تبرز القيمة ا/نهجيةQ فنجد-كما يشير بذلك حسT
نصار في دراسته للرحلة نفسها-أن ابن جبير كـان يـعـنـى فـي وصـف ا/ـدن
بثلاث نواح: ا/رافقQ وا/شاهدQ والأرباضQ وتضم ا/رافق في خلدة: الأسوارQ
والحصونQ وا/ساجدQ وا/دارسQ والحماماتQ وا /ياهQ والأسواقQ وا/ارستانانQ
وا/نازلQ والشوارعQ والأبوابQ وتضم ا/شاهد ا/قابرQ وا/والدQ وآثار الأنبياء
والعلماء والأوليـاءQ وا/ـواقـع الإسـلامـيـةQ وا/ـعـابـد والـكـنـائـس والآثـار غـيـر
الإسلامية. وتضم الأرياض الأحياء والضـواحـي. هـذاQ وإن لـم يـصـف ابـن
جبير كل مدينة وفق هذه العناصر إلا أنه تعرض لبعضها تارة وأهمل البعض
تارة أخرى. ومن وجهة النظر الإثنوجرافية فإنها في مجملها تشكل إطـارا
. (٥) دقيقا لوصف ا/دن والبلدان
هذاQ ولم يقتصر وصف ابن جبير للمـدن عـلـى المحـتـوى الإثـنـوجـرافـي
وا/نهجQ وإJا برز أيضا العنصر الأدبي متمثلا فـي جـمـال الـلـفـظ وحـسـن
التعبير على النحو الذي ورد مثلا في وصفه مدينة دمشق:
«جنة ا/شرقQ ومطلع حسنه ا/ؤنق ا/شرقQ وهـي خـا2ـة بـلاد الإسـلام
التي استقريناهاQ وعروس ا/دن التي اجتليناهاQ قد تحلت بأزاهير الرياحQT
وتجلت في حلل سندسية من البساتQT وحلت من موضوع الحسن با/كـان
ا/كQT وتزينت في منصتها أجـمـل تـزيـQT وتـشـرفـت بـأن آوى الـلـه تـعـالـى
ا/سيح وأمهQ صلى الله عليهماQ إلى ربوة فيها ذات قرار ومعQT ظل ظليلQ
وماء سلسبيلQ تنساب مذ انبه انسياب الأراقم بكل سبيـلQ وريـاض يـحـيـي
النفوس نسيمها العليلQ تتبرج لناظراها Kختلى ثقيلQ وتناديهم هلموا إلى
معرس للحسن ومقيلQ قد سئـمـت أرضـهـا كـثـرة ا/ـاءQ حـتـى اشـتـاقـت إلـى
إظماء فتكاد تناديك بها الصم الأصلاب: «اركض برجلك هذا مغتسل بارد
وشراب ; قد أحدقت البساتT بها إحداق الهالة بالقمرQ واكتنفتها اكتناف
الكمامة للزهرQ وامتدت بشرقها غوطتها الخضـراء امـتـداد الـبـصـرQ فـكـل
موضع لحظته بجهاتها الأربع نضرته اليانعة قيد النظرQ ولله صدق القائلT
15
هيد ابحث الأول
عنها: إن كانت الجنة في الأرض فدمشق لا شك فيهاQ وإن كانت في السماء
. (٦) فهي بحيث أسامتها و تحاذيها»
نحن نرى في الرحلة نوعـا مـن الحـركـةQ وهـي أيـضـا مـخـالـطـة لـلـنـاس
والأقوامQ وهنا تبرز قيمة الرحلات كمصدر لوصف الثقـافـات الإنـسـانـيـةQ
ولرصد بعض جوانب حياة الناس اليوميـة فـي مـجـتـمـع مـعـT خـلال فـتـرة
زمنية محددة. لذا كان للرحلات قيمة تعليمية من حيث إنها أكثر ا/دارس
تثقيفا للإنسانQو إثراء لفكره وتأملاته عن نفسه وعن الآخرين. إن الرحلة
قدxة قدم الإنسان ذاته إذ عرفها منذ العصور الغابرة حتى وقتنا هذاQ وإن
اختلفت دوافع الرحيلQ وتباينت وسائل السفرQ وتنوعت مادة الرحلة. ومـع
ذلك فإن كتابات الرحالةQ أيا كانت توجهاتهم الفردية ونزعاتهم الشخصيةQ
تصور إلى حد كبير بعض ملامح حضارة العـصـر الـذي عـاشـوا فـيـهQ كـمـا
تصف الكثير من عناصر ثقافة البلدان التي ذهبوا إليهاQ وأحوال الشعوب
التي اختلطوا بهاQ سواء كانت الرحلة فعليه أو من نسج قصص الخيال مثل
رحلات السندباد البحري السبع التي وردت في حكايات ألف ليلة وليلة.
لقد قرأنا عبارة للفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون كان قد ذكرها
في مقال له بعنوان «السفر»Q وفيها يقول: «إن السفر تعليم للصغيرQ وخبرة
. قرأنا أيضا قول الإمام الشيـخ حـسـن الـعـطـارQ شـيـخ الجـامـع (٧) للكـبـيـر»
الأزهر في عصر محمد علي باشاQ» أن السفر مرآة الأعاجيبQ وقسطاس
.. ونجده يستطرد القول في تعليقـه عـلـى كـتـاب رفـاعـة رافـع (٨) التجـارب»
الطهطاوي عن رحلته إلى فرنسا (١٨٣١-١٨٢٦م) فيكتب: «وقد أودع في هذه
الرحلة مؤلفها الأديب الأريبQ والفاضل الذكي اللبيب ما شاهده من عجائب
تلك البلادQ وأحوال هؤلاء العبادQ ما يحرص العاقل على الأسفارQ والنـقـل
في الأمصارQ حتى يزداد بذلك علما يقيناQ ويفوق بالإحاطة بأحوال عباده
. (٩) ف