Lakhasly

Online English Summarizer tool, free and accurate!

Summarize result (100%)

في أواخر الخمسينيات ومطلع الستينيات كان هناك توجهان متناقضان في أبو ظبي ؛ أولهما السلبية التي أبداها الشيخ شخبوط، وثانيهما الفاعلية التي كانت السمة المميزة للشيخ زايد لقد كان الشيخ شخبوط الرجل المناسب لتهدئة الأوضاع السياسية المضطربة التي سادت إبان عشرينيات القرن العشرين، وفي الأعوام القليلة الأولى من حكمه هدأت توترات الماضي القريب. غير أن تحديات وقضايا جديدة قد بدأت في الظهور منذ منتصف ثلاثينيات القرن نفسه، وخاصة الضغوط من قبل المملكة العربية السعودية، وعلاوة على ذلك كانت هذه التحديات الجديدة مرتبطة فيما بينها ارتباطاً وثيقاً، فقد كان التحدي الخاص بالمحافظة على وحدة الأراضي يقتضي من حاكم أبو ظبي ضمان تأييد ودعم شعبه له، ومن سبل تحقيق ذلك البدء في عملية التنمية الاجتماعية والاقتصادية ولم يخرج ذلك في جوهره عن نطاق المعادلة القبلية التقليدية بعنصريها وهما الولاء والعطاء، لقد فهم الشيخ زايد هذه العلاقة بفطنته، ولكن الشيخ شخبوط لم يبد تفهماً يذكر لها . ولو أن الشقيقين الشيخ شخبوط والشيخ زايد كانا يقيمان معاً في أبو ظبي لكان من الممكن أن يؤدي التباين الواضح بين شخصيتيهما إلى حدوث خلاف بينهما، غير أن بعد المسافة بينهما – بوجود الشيخ شخبوط في أبو ظبي والشيخ زايد في العين – قد حجب لسنوات طويلة ذلك التباين بين الأسلوب السلبي وأسلوب المبادرة الإيجابية في ممارسة الحكم. وعلى الرغم من أن الخلاف السياسي بين الاثنين لم يكن ظاهراً، فإنه كان يتشكل شيئاً فشيئاً تحت سطح الأحداث الجارية. ولقد كان الشيخ زايد في العين منشغلاً بصورة متزايدة بالتأثير الذي سيتركه تعطيل الإصلاحات وبطء التنمية في إمارة أبو ظبي بأسرها ؛ وعلى سبيل المثال كان هناك تباين واضح بين سيطرته الفاعلة على الأراضي الداخلية في العين والوضع القائم في ليوا، حيث نفوذ أبو ظبي أضعف كثيراً. بكماستر، وهو ضابط سياسي في مكتب الوكيل السياسي البريطاني في الشارقة، منطقة العين قبل أن يقوم برحلة استكشافية إلى ليوا عام 1952، أعجب كثيراً بالشيخ هزاع شقيق الشيخ زايد واطلاعه الواسع على مجريات الأمور، ولكنه أضاف قائلاً: إن الشيخ زايد قد اعترف له بصورة خاصة بأنه كان متحرجاً من عدم قيام أحد أفراد أسرته من ذوي النفوذ بزيارة ليوا من قبل» . وعلى الرغم من قيام أحمد بن فضل بأعباء السلطة ممثلاً للحاكم في منطقة ليوا خير قيام، فإنها كانت سلطة محدودة إذا ما قورنت بسلطة آل نهيان في منطقة العين، حيث كان الشيخ زايد ممثلاً للحاكم فيها. وكانت عواقب هذا الأمر خطيرة، إذ بدأ نفوذ أبوظبي في ليوا والمناطق الداخلية من الإمارة يضعف تدريجياً. حسبما أوضحنا في الفصل الثالث، تحدياً خطيراً لسلطة حكومة أبوظبي . أما بكماستر الذي عثر على آثار تدل على أعمال تنقيب غير قانونية قامت بها فرق مسح تابعة لشركة أرامكو في أراضي أبوظبي فقد اعتبر ذلك تدخلاً خطيراً. * وبالمثل أشار هندرسون الذي أدرك خطورة هذا التدخل إلى أنه منذ عام 1948 فصاعداً بدأت شركة أرامكو ترسل فرق مسح توغلت في أراضي أبوظبي، وقد قابل فرقة منها عند الحدود الفاصلة بين أبوظبي ودبي، وكان الشيخ زايد يدرك أنه ما لم يفرض حاكم أبوظبي الشيخ شخبوط سلطته على أراضي إمارته كاملة وبطريقة فاعلة على غرار ما كان يفعل هو نفسه في منطقة العين، فإن الحقوق السيادية لإمارة أبوظبي ستضيع تدريجياً، وأن عدم تلبية حاكم أبوظبي لاحتياجات القبائل الموالية له سيؤدي بالضرورة إلى تراجع تأييدهم له تدريجياً. وعلى الرغم من كل الجهد الذي كان الشيخ زايد يبذله من أجل شعبه، فإن تردد الشيخ شخبوط في اتخاذ الإجراءات التي تلبي متطلبات حياة شعبه كان يضعف هيبة السلطة وقوتها مع مرور الوقت ولابد من التمييز هنا بين أمرين مختلفين: غارات القبائل وتسلل فرق العمل التابعة لشركات النفط، فبينما تؤثر الغارات التي تشنها القبائل البدوية المجاورة على نحو ما في سلطة الحاكم ونفوذه، فإن قدوم فرق دخيلة متعاقبة للقيام بأعمال المسح الجيولوجي واستكشاف مواقع توافر النفط يعد أمراً أكثر خطورة وأعمق تأثيراً. وكانالشيخ زايد مقتنعاً تمام الاقتناع من واقع تجربته الشخصية في العين بأن أعظم قوة للدولة هي مساندة شعبها وولاؤه، وكان يدرك أن الشعب ينتظر في مقابل ذلك وفاء مماثلاً من حكامه، وأن ذلك يستوجب توفير الاحتياجات المعيشية والمالية لهم. وكان الشيخ زايد قد أنفق كل موارده المتاحة لتوفير سبل الحياة المستقرة لأبناء شعبه في العين، ولم يتبق لديه ما ينفقه ويدعم به أهالي ليوا والمناطق الأخرى في أبوظبي. غير أنه سعى منذ وقت مبكر إلى تسخير الموارد المتاحة لخدمة شعبه، وبذلك فإنه قد جمع في نظرته هذه بين الإيثار والحس السياسي المتقد. لقد كان النظام السياسي التقليدي في أبوظبي قائماً على المصلحة المشتركة بين الحاكم والشعب، وكان أي اختلال بـ هذه المعادلة الجوهرية ينذر يصيب بعواقب وخيمة على الإمارة. 36 ومع بداية الستينيات كان الخطر العظيم الذي يتهدد أبوظبي هو الضيق والتذمر الذي عم سكانها . وكان من المعلوم أن الإمارات الأخرى في المنطقة تقدم لسكانها أكثر مما تقدمه أبوظبي في مجال تحسين مستوى المعيشة، ومع كون الحاكم قد عاش حياةً متواضعة، فإنه كان يتردد في استثمار دخل الإمارة في تمويل المشروعات التنموية الأساسية . 37 كما أن النزعة الانفصالية في المجتمع القبلي، والتي تدفع القبائل إلى الرحيل عن مضاربها والارتباط بشیخ آخر قد بدأت تظهر مرة أخرى. يضاف إلى ذلك أن التماسك الذي استطاع الشيخ زايد أن يحافظ عليه في العين، والذي جعل الناس جميعاً يتحدون ويرفضون الانفصال نظير عروض بتوفير الطعام والمال لهم، قد بدأ يتصدع في أبوظبي نفسها وفي ليوا وفي مناطق أخرى بعيدة عن نفــــوذ الشيخ زايد ، وأضحت أبوظبي فجأة مهددة بحالة من عدم الاستقرار . 40 واتسعت الهوة بين حجم التوقعات الشعبية وواقع الحال في آليات إدارة شؤون الإمارة، ووصل ذلك بأبوظبي إلى مرحلة حرجة؛ والمستشارون البريطانيون، وحتى الشركات التي لها مصالح تجارية في تطوير أبوظبي - أجمعت على حتمية التغيير والتطوير من أجل تحقيق التنمية الشامل، وفي فترة الخمسينيات كانت هناك مؤشرات حول حدوث تحول في بنية السلطة في الإمارة، كما تنامى الإحساس العام بالمسؤولية الجماعية فيها ؛ ففي أول اتفاقية تم إبرامها مع إحدى شركات النفط كان الحاكم هو الموقع بمفرده عن الإمارة؛ وخالد بن سلطان، وزايد بن سلطان . " وقد كان ذلك مؤشراً إلى تحول محتمل في بنية الحكم في أبوظبي، حيث أظهر الحاكم استعداداً لتفويض بعض صلاحياته إلى إخوته. وفي الحقيقة فإنه عندما حان وقت التنفيذ تردد الحاكم في تطبيق الاتفاق الخاص بالامتياز الذي سبق أن وافق على منحه من حيث المبدأ، غير أن مشاركة إخوته في إدارة شؤون الإمارة قد تنامت خلال الخمسينيات ، ولعل أهم مظاهر هذه المشاركة تمثيل أبوظبي في مجلس الإمارات المتصالحة الجديد الذي أنشئ عام 1952 ، فقد بدا واضحاً مع مطلع الخمسينيات أن العديد من الصعوبات التي تعترض طريق حكام الإمارات المتصالحة قد نتجت عن عدم الاتصال المباشر فيما بينهم. وكان المجلس المذكور أقرب إلى منتدى يلتقون فيه ويتبادلون الرأي بعيداً عن القيود الصارمة للزيارات الرسمية وقواعد الضيافة الخاصة بها . 4 وفي الأعوام اللاحقة صار للمجلس دور مهم في تطوير علاقات الشيخ زايد وتوسيع نطاق نشاطه السياسي قبل أن يصبح حاكماً لإمارة أبوظبي
وقبل إنشاء المجلس كانت الحكومة البريطانية تتباحث مع كل حاكم على حدة، ولكن تبين أن هناك فائدة سياسية من إقامة مجلس موحد للمناقشات المشتركة، وكان هذا المجلس بطابعه الاستشاري أكثر انفتاحاً وديمقراطية إذا قورن بنظام المفاوضات الخاصة السابق . والتي تتهمهم بالهيمنة والتحكم في المنطقة، وقلقهم المتزايد من اهتمام جامعة الدول العربية المتصاعد بمنطقة جنوب الخليج العربي، لذا كان الأمل معقوداً على التوصل إلى خط سياسي مشترك من خلال هذا المجلس. وكان الضابط السياسي في الشارقة هو الذي يضع جدول أعمال المجلس، دبي، وهي أمور تهم جميع الإمارات
كانت الاجتماعات الأولى متكلفة وغلب عليها الطابع الرسمي ، وقد حضر الشيخ زايد والشيخ هزاع اجتماع المجلس الذي عقد في 25 نيسان/ إبريل 1953 ولكن لم يرد في سجل الاجتماع ما يشير إلى مشاركتهما في المناقشات. وفي جلسة 5 تموز/ يوليو 1954 غير حضور الشيخ زايد من الطبيعة الرسمية التي تغلب على الاجتماعات، ومهد السبيل أمام المزيد من الصراحة والانفتاح في المناقشات. وقد تم عقد الاجتماع في قاعة الاستقبال في مقر الوكالة السياسية، والتي تحولت فيما بعد إلى قاعة مؤقتة للمجلس . وذكر الوكيل السياسي بيري جوردون أن الشيخ زايد الذي منعه العرف المتبع من التحدث في الاجتماع الرسمي في حضور حاكم إمارة أبوظبي الشيخ شخبوط، قد استغل الفرصة لاحقاً وتحدث إليه بصورة شخصية ليؤكد بكل حماسة أن إمارة أبوظبي
إلى آراء جماعية من الحكام وعلى الرغم من أن حاكم أبوظبي لم يحضر الاجتماع الأول للمجلس، فإن القضايا التي نوقشت في إطاره خلال المرحلة الأولى من إنشائه قد مهدت لأحداث لاحقة . وشملت القضايا الأساسية التي تمت مناقشتها في آذار / مارس 1952 اللؤلؤ الاصطناعي ومكافحة الجراد ومستشفى الإمارات المتصالحة في تشاطر المجلس آراءه وتحترم مداولاته وقرارات
كان للشيخ راشد دور مهم وفاعل فيما يخص إمارة دبي. وقد لاحظ جوردون أن الشيخ راشد الذي تمنعه التقاليد العربية من أن يبرز نفسه بحيث تطغى شخصيته في حضور أبيه . كان له دور ريادي في النقاش، وشهدت تلك الاجتماعات مولد علاقة دائمة من التعاون بين الشيخ زايد والشيخ راشد؛ وهي العلاقة التي عادت بالفائدة على مستقبل هذه المنطقة من الخليج العربي . وقد ذكر الوكيل السياسي الجديد جيه. بي. تريب في رسالته إلى نائب المقيم السياسي
سي. إيه. جولت في آب/ أغسطس 1955 ، أن هنالك صداقة حميمة تجمع بين الشيخ راشد والشيخ هزاع والشيخ زايد ولاحظ الحكام أنفسهم في اجتماعات المجلس اللاحقة أن من بين الفوائد التي تحققها اجتماعات مجلس الإمارات المتصالحة أنها تتيح لهم أن يلتقي بعضهم بعضاً فعلياً على أرض محايدة ولو لم يلتق
الحكام لكان من الصعب عليهم أن يتجاوزوا سلبيات الماضي، ولقد أتاحت لهم اجتماعات المجلس توثيق معرفة بعضهم ببعض وتعميق صداقتهم. وقد اكتسب الشيخ زايد من خلال حضوره المنتظم لاجتماعات مجلس الإمارات المتصالحة خبرة كبيرة في التعامل مع حكام المنطقة، والأهم من ذلك أن هذه الاجتماعات قد أتاحت له فرصة التعرف إلى أولياء العهود وأبناء الحكام الآخرين. ورغم أنه لم يكن حينها حاكماً لأبو ظبي، فإن كونه ممثلاً للحاكم في العين قد منحه صفةً رسمية، مما مكنه من التدخل أحياناً بشكل حاسم في مناقشة بعض القضايا مثل الصحة والطرق. وكانت المؤازرة الإيجابية التي أبداها الشيخ زايد لمجلس الإمارات المتصالحة منذ إنشائه، وراء مساهمة الشيخ شخبوط في أعمال المجلس بصورة أكثر إيجابية والتزاماً، ففي اجتماع 17 تشرين الثاني / نوفمبر 1953 خصص حاكم أبوظبي ما نسبته %4 من عوائد النفط المستقبلية لتطوير منطقة الإمارات المتصالحة بأكملها؛ ولم يأت هذا
العرض إلا نتيجة للجهود المتواصلة والحثيثة التي بذلها الشيخ زايد لإقناع شقيقه
التحديات التي واجهت الشيخ زايد في الوقت الذي كان فيه مجلس الإمارات المتصالحة ملتقى مهماً بالنسبة إلى الشيخ زايد ظلت مشكلة التنمية والتطوير في أبوظبي قائمة، فقد استمر الشيخ شخبوط رافضاً تخصيص النفقات اللازمة لتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية في الإمارة؛ ونتيجةً لذلك أضحى التباين بين الشقيقين أكثر وضوحاً منذ بداية الستينيات، فقد كان الشيخ زايد نموذجاً للكفاءة والانضباط، وكان صريحاً ومباشراً في أسلوب تعامله وبعيداً عن التكبر والمبالغة. فقد كان حريصاً على الالتزام بكل تعهداته وقادراً على الوفاء بكل ما وعد بإنجازه. وفي مناسبات عديدة عبر الشيخ زايد عن تحفظه إزاء تصرفات شقيقه، ليس بهدف انتقاد شخصه، ولكن لما لحق بإمارة أبوظبي من ضرر مستمر. وقد تحدث الشيخ زايد في جلسة مصارحة خاصة ومطولة مع الوكيل السياسي باوستد Boustead ا عن المصاعب التي يواجهها ، وكتب باوستد إلى المقيم السياسي السير وليم لوس William Luce ما يلي : 56
أمضى الشيخ زايد ما يربو على الساعة معي في مساء يوم 5 تشرين الأول/ أكتوبر 1962 . كان مستاء من الشيخ شخبوط، وقال أيضاً إنه ما دام شخبوط يدير دفة الأمور فإن الإمارة لن تشهد أي تطور، سواء في وجود مستشار أو عدمه، وهو يعتقد أنه لن يبقى أي موظف مع شقيقه . وقال إن شقيقه مصمم على معارضة أي تنمية أو تطوير ولا ينوي تنفيذ الخطط الخاصة بالتنمية، وأضاف قائلاً إنه على الرغم من غضب أخيه بسبب النزاع حول جزيرة حالول نزاع حدودي] ، فإنه يتخذ من هذا الموضوع ذريعة لتجنب الحديث في النواحي الأخرى المتعلقة بإدارة شؤون الإمارة . وعندما سألته عن إمكانية تحسن الأوضاع عند ظهور النفط أجابني
الشيخ زايد: "لا، على الإطلاق " . ولكنه لا يرغب في القيام بأي شيء من ذلك . وكما أدرك باوستد فلابد أن شيئاً ما قد حدث ليجعل الشيخ زايد صريحاً إلى هذا الحد؛ وقد يكون أحد الأسباب المباشرة لذلك هو التدهور السريع للأوضاع المعيشية لأهالي أبوظبي، فقد عاش الشيخ زايد بين الفقراء في العين حياة الشظف والفقر، وأدرك أن هذه الأوضاع الصعبة للغاية غير مقبولة، قد مست نزعة فطرية لديه إلى فعل الخير، إيماناً منه بالمساواة بين الناس. وكذلك أدرك الشيخ زايد المخاطر التي تنطوي عليها سياسة أخيه الشيخ شخبوط تجاه قطاع التجارة والأعمال، إذ أيقن أن سياسة كهذه سوف تنفر الشركات الأجنبية من الاستثمار في الإمارة، ذلك أن أحداً لن يقدم على الاستثمار في بلد لا تسدد فيه الفواتير المستحقة للمستثمر، ويمتنع مسؤولوه عن الوفاء بتعهداتهم والتزاماتهم في العقود
المبرمة. وتزايد الشركات الأجنبية التي تقدم خططاً تستوجب إنفاق هذه الأموال عليها . وفي نيسان/ إبريل 1962 أورد الوكيل السياسي باوستد مضمون محادثة صريحة بين الشيخ زايد وسالم علي موسى، وقال الحاكم إنه يعرف جيداً أن زايد وأفراد الأسرة الحاكمة جميعاً يريدون منه المال، وأنه – أي الحاكم - سوف يسلم السلطة إليهم ليديروا شؤون البلاد بالطريقة التي
يرونها مناسبة . وقال زايد إن شخبوط كان يعني أن على زايد أن يتسلم السلطة محله، ولكن زايد أضاف : أدركت أن اقتراحه يخلو من أي نية حقيقية للتنحي، وليس إلا مزحة، لذا
رفضت عرضه رفضاً قاطعاً. بعدها قال زايد إنه أخبر شخبوط أنه لا يهمه هو ولا أي فرد في الأسرة الحاكمة أن يتحكموا بالأموال أو يتسلموا السلطة، ولكنه أضاف موضحاً لشقيقه الحاكم: هناك حالة من الفوضى التامة في عهدك، فإن الخيار الوحيد هو أن نترك الأمور بين يديك . وأخبر زايد شخبوط أنه إذا كان مهتماً بالفعل بتطوير الإمارة فإن الحل الوحيد أمامه بوصفه حاكماً لها هو أن يعين موظفين مؤهلين لتطوير نواحي الحياة فيها وإدارة شؤونها ، ولم يشاور أياً من أفراد الأسرة الحاكمة حول أي من الأمور المتعلقة بتنمية أبوظبي أو تطويرها، وأن الأمور ظلت في حالة من الفوضى التامة. وأضاف مخاطباً الشيخ شخبوط أنه من واقع معرفته له، فهو لا يتوقع أي تغيير، كما لا يتوقع أن ينجز الحاكم أي شيء». وطلب الشيخ زايد من سالم علي موسى أن ينقل محادثته مع الحاكم إلى الوكيل السياسي، ثم غادر إلى العين
دون أن يودع الحاكم . في ذلك الوقت كان ميزان القوى في أبوظبي قد تحول تماماً، كما أن شعبية الشيخ زاید قد فاقت بكثير شعبية شقيقه الحاكم، وكان معظم الناس ينظرون إلى الشيخ زايد على أنه البطل الذي أنقذ أبوظبي بمقاومته الحازمة للغزو السعودي في العين. ورغم أن أبوظبي في تلك الأيام لم تكن تعرف الهاتف، ولم يكن فيها غير عدد محدود من أجهزة المذياع، فإن تناقل الأخبار مشافهة كما هي تقاليد الصحراء كان أسلوباً فاعلاً للتواصل، وكان أهل الساحل يعرفون ما يحدث في العين والعكس صحيح. أما الحكومة البريطانية التي كان لها مصالح اقتصادية واستراتيجية مرتبطة بتطور أبوظبي فقد أدركت بعد تدخلها عسكرياً في "حماسة" أن الشيخ زايد هو الأمل الوحيد لمستقبل أبوظبي . وفي حين أظهر المسؤولون البريطانيون في فترة ما قبل عام 1947 نزعة نحو التدخل المستبد في شؤون الإمارة ، فإن الجيل الجديد من المسؤولين البريطانيين القادمين إلى أبوظبي كان أقل ميلاً إلى التدخل، فقد أدركوا أن في وسعهم أن يستفيدوا من تجربة الشيخ زايد في توجيه الأمور، وأن يحذوا حذوه وهم على اطمئنان تام إلى سلامة توجهاته، وكانوا تواقين إلى أن يتولى الشيخ زايد موقعاً أهم من موقعه الحالي، ولكن لم يكن في وسعهم أن يفعلوا شيئاً حاسماً لإنهاء حكم الشيخ شخبوط، فالدافع نحو التغيير يجب أن يأتي من الشيخ زايد وحده، لذا كان تردده في التدخل لحسم الأمر محبطاً للبريطانيين أحياناً ونستشف من سجلات وزارة الخارجية البريطانية إدراكاً متزايداً بأن الشيخ زايد سيكون حاكماً نموذجياً، حيث علق المقيم السياسي بأسلوب موضوعي على التقرير المرسل حول لقاء الشيخ زايد مع سالم علي موسى قائلاً: من حسن حظنا أن نجد في الشيخ زايد رجلاً نعتقد أنه يتمتع بعدد من الخصائص والسمات الضرورية التي يجب توافرها في شخصية حاكم أبوظبي في الحقبة الجديدة ؛ فهو محبوب ويتمتع بالاحترام الواسع بين أبناء شعبه وعند الآخرين، وهو ودود ومنفتح في علاقاته مع الآخرين ومن صفاته الشجاعة والصراحة والكرم والحرص على مساعدة شعبه، وباختصار هناك فارق كبير بينه وبين شقيقه. وليس معنى ذلك أنه سيكون حاكماً تابعاً أو سهل الانقياد ، ومن المؤكد أننا لن نستطيع نحن ولا أي جهة أخرى التأثير في قراراته، ولكن اهتمامه بتحقيق مصالح شعبه، وتفهمه حجم المشكلات التي تواجه أبوظبي، واستعداده لقبول المساعدة في معالجة هذه المشكلات وحلها، يجعلنا نعتقد أنه رجل يمكن الحكومة صاحبة الجلالة والآخرين أن يتعاملوا معه لما فيه مصلحة الإمارة، وأخيراً فإن لدينا من الأدلة ما يؤكد أن تولي الشيخ زايد مقاليد الحكم في أبوظبي سيكون موضع ترحيب من قبل
الأسرة الحاكمة وشعب إمارة أبو ظبي عموماً بما في ذلك قوة الشرطة. وبعد شهر تقريباً، وتحديداً في أيار / مايو 1962 ، وأمام هذه الضغوط الهائلة واحتمالات المواجهة مع أكثر من جهة قرر الشيخ شخبوط في بداية الأمر أن يقبل تقديم التنازلات المطلوبة منه ؛ وهي تخصيص ميزانية مناسبة للتنمية، والموافقة على تنفيذ خطط تنموية. ولكن ما إن مرت فترة وجيزة على قبوله تلك المطالب حتى تبدل رأيه مرة أخرى ؛ وعلى سبيل المثال فقد وافق على تعيين معلمين من السودان، وبمجرد إبرام الاتفاقية مع حكومة السودان بدأ الشيخ شخبوط يتحدث عن عيوب في الترتيبات المتفق عليها . وكتب الكولونيل باوستد واصفاً إحدى زياراته للشيخ زايد، أمضيت ساعة في المساء مع الشيخ زايد وأخبرته صراحة أن حكومة السودان قد بذلت كل ما في وسعها، وأنها تريد من الحاكم أن يوقع على التعيينات . قال الشيخ زايد إنه لابد من إحضار المعلمين بأي شكل كان، وإنه سيكون مسؤولاً عن ذلك بعد أسبوعين من اجتماعه مع باوستد بدأ الشيخ شخبوط يثير قضية تنحيه عن الحكم، في أعقاب تبادل لوجهات النظر بين الحاكم وشقيقيه الشيخ زايد والشيخ خالد . ويصف لنا باوستد ما جرى طبقاً لرواية الشيخ زايد قائلاً: «قال (الشيخ شخبوط) إنه قرر التنحي عن الحكم، وقال إن على زايد وخالد أن يديرا شؤون الإمارة. وأضاف أنه كان
مخلصاً في إدارته لشؤون الإمارة لما فيه مصلحة أهلها ، تاركين له معالجة كل شؤون الإمارة . رد زايد بأنهما (الشيخ زايد والشيخ خالد على استعداد تام لمساعدته في كل الأوقات في إدارة شؤون الحكم بشرط أن يسمح لهما بذلك . وقال للحاكم: إذا كنت مخلصاً في رغبتك في العمل لما فيه مصلحة أهل الإمارة، بل يتعين عليك أن تضع التوصيات التي يقدمها إليك الوكيل السياسي وسكرتيرك الخاص والموظفون المعينون للعمل في الإمارة موضع التنفيذ. ثم أضاف قائلاً إنه وشقيقه خالد على أتم الاستعداد لمساعدة الحاكم، وأن يسند إليهم مسؤوليات . أما رد الحاكم فكان انتقاد الشيخ زايد على إنفاقه أموالاً على بناء المتاجر ومضخات الري والمشروعات الزراعية وغيرها في البريمي (العين)، وأجاب الشيخ زايد بأنه إذا كان في وسع الحاكم أن يقدم أي دليل من أي ناحية على أن الأعمال التي قام بها في العين لم
تكن لصالح مواطني أبوظبي، فإنه يقبل اتهام أخيه له بأنه كان مخطئاً فيما فعل . وأشرف بنفسك على أوجه إنفاق الأموال واستغلالها لمصلحة الإمارة، وفقاً لترتيبات
مالية ملائمة ورد الحاكم بأنه إذا ما خصص ميزانية للحكومة فإن الناس سيعرفون ما يدخل خزائنه من أموال، وهو ما يشكل حرجاً ولا يمكنه أن يوافق عليه . فرد زايد بأن ذلك هو المتبع في سائر الإمارات الأخرى، وأن عوائد أي إمارة وميزانيتها من الأمور المعروفة لكل من في الإمارة، بل وتنشر في الأوراق الرسمية، 66 ومع تزايد الضغوط الرامية إلى إحداث تغيير في الإمارة أضحى الشيخ شخبوط أكثر ضيقاً بما ينشر عنه من تعليقات سلبية في الصحافة العالمية التي بدأت تلم تدريجياً بأخبار الثروة النفطية في أبوظبي . وتشكل لدى الشيخ شخبوط اقتناع راسخ بأن هناك حملة منظمة لتشويه سمعته، فمنذ ثلاثينيات القرن العشرين عايشت أجيال من المسؤولين البريطانيين عناده وتمسكه برأيه، فيما أعجب كثيرون بصلابته في الدفاع عن وجهة نظره وسعيه إلى تحقيقها، ولم يكن الشيخ شخبوط يتصرف على النحو الذي يستوجب تدخلاً مباشراً وعنيفاً، إذ كان السلم يعم أبوظبي، وكان الشيخ شخبوط - رغم كل التحفظات - هو الحاكم الشرعي الذي اختارته الأسرة الحاكمة وقبله الشعب. ولم يكن وارداً أن يتم أي تغيير لحاكم أبوظبي، إذا قدر لهذا أن يحدث، إلا بتدخل من الأسرة الحاكمة . التي كان تعيين الكولونيل باوستد بوصفه أول وكيل سياسي بريطاني في أبوظبي، الفرصة ، أتيحت أخيراً لإيصال رسالة الشيخ زايد إلى الحكومة البريطانية، والتعامل معها من خلال مسؤول كبير مثل باوستد . وأوضح الشيخ زايد أنه وأخويه الشيخ خالد والشيخ هزاع والأسرة الحاكمة وكل أفراد الشعب ينشدون تطوير أبوظبي . وقد أوضح الشيخ زايد في كل المناقشات التي جمعته مع باوستد وغيره من المسؤولين البريطانيين عدم رغبته في تولي الحكم، بل انحصر كل ما يرغب فيه حقيقة في جانب واحد، وهو أن يتحول شقيقه إلى فعل ما فيه مصلحته ومصلحة شعبه. وقد نجح الشيخ زايد في ذلك ، وشجع البريطانيين على استخدام نفوذهم لدى الشيخ شخبوط لتحقيق هذا الهدف، غير أن النتائج التي تمخضت عن تبنيهم لهذه الرؤية كانت متواضعة للغاية، قياساً على حجم تطلعاته وآماله المنشودة شهدت الفترة الفاصلة بين عام 1962 عندما تدفق النفط للمرة الأولى وعام 1966 عندما تولى الشيخ زايد مقاليد الحكم في أبوظبي، البداية التدريجية للإصلاحات التي رغب الشيخ زايد في إدخالها، على الرغم من أنه قد حاول الاستفادة من كل الفرص المتاحة في دفع مشروعات التطوير وتعزيزها، وسعى إلى توطيد علاقاته مع الحكام وأولياء العهود في إمارات الخليج الأخرى . - ومن جانبها عبرت السلطات البريطانية التي طالتها اتهامات من الدول العربية بأنها تستغل الإمارات المتصالحة عن استعدادها أخيراً للاستثمار في المنطقة وحث الحكام على فعل الشيء نفسه. فقد كان أخوه الشيخ شخبوط هو الحاكم الذي يظهر في الصدارة. وعلى الملأ ان الشيخ زايد – كعادته - يقدم كل فروض الاحترام الواجب من الأخ الأصغر لأخيه الأكبر، كما أنه ظل على وفائه بالعهد الذي قطعه على نفسه عام 1928، ولم يحنث في يمينه، على الرغم من أن الآخرين كانوا يحثونه على تسلم حكم الإمارة تجاوباً مع رغبة أغلبية الشعب فيها. وما لبثت الأمور أن هدأت في أبوظبي، فبعد أن كاد الشيخ شخبوط يتنازل عن الحكم، عاد وعدل عن قراره، وأضحى من المسلم به في أبو ظبي أن الإمارة لن تدخل عصر التطور إذا ما ظل الشيخ شخبوط على عناده وتصلبه في رفض المشروعات التنموية التي تحتاجها . كان الشيخ زايد على دراية تامة بحساسية المرحلة الانتقالية وصعوبتها، ففي المراحل السابقة كانت علاقات أبوظبي التجارية مع العالم الخارجي تتم في معظمها عبر الحكومة البريطانية، بل مع شركات بريطانية دون سواها في أغلب الأحيان، غير أن أبوظبي أصبحت في ذلك الوقت تغص برجال الأعمال الذين تدفقوا عليها من فرنسا وألمانيا الاتحادية والنمسا وإيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية. وعندما اتضحت أهمية الثروة النفطية في أبوظبي أبدت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية أيضاً مزيداً من الاهتمام بالمنطقة ؛ وقد نوقشت مسألة الاهتمام الأمريكي الرسمي بالمنطقة بشكل مباشر في وثيقة سرية صاغها القنصل الأمريكي العام في الظهران، جون إيفارتز هورنر John Evarts Horner ، وتم تداولها رسمياً على نطاق واسع لاحقاً، وكان عنوانها الوجه الخادع للإمبريالية البريطانية في الخليج العربي وقد طرحت الوثيقة تصوراً لمنطقة الخليج من دون الإشراف البريطاني، وتساءلت عن الوضع الذي يجب أن يكون للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة. وخلص هورنر إلى . ضرورة مراقبة التطورات عن كثب، لأننا لم نعد نتعامل مع مجموعة من القرى الصغيرة التي تعيش على صيد الأسماك، بل مع منطقة غنية بالمخزون الاستراتيجي من النفط»، ولم تكن مجرد مصادفة عندما وصل إلى المنطقة وقد من القنصلية الأمريكية العامة في الظهران، في نيسان/ إبريل 1964 ، وطاف بسيارة على جميع الإمارات المتصالحة آنذاك. وزار الوفد منطقة العين وقام بزيارات شخصية إلى الحكام في أنحاء المنطقة، وكان ذلك أول اتصال لدبلوماسيين
أمريكيين بالشيخ زايد في منطقته. 70 ومنذ تلك اللحظة تعمق اهتمام السلطات الأمريكية في واشنطن وتلك التي تتخذ من الظهران قاعدة لها بشؤون أبوظبي والمنطقة عموماً. وقد تزايدت متابعتهم للموقف و معرفتهم به بفضل التقارير التعريفية التي توزعها وزارة الخارجية في لندن من جهة، والمعلومات المستقاة من الخبرات الشخصية للموظفين العاملين في مقر القنصلية الأمريكية في المملكة العربية السعودية ومن قادة السفن الحربية الأمريكية التي تزور المنطقة من جهة أخرى. وقد سارع البريطانيون إلى رفض فكرة أن تفتح واشنطن قنصلية لها في الإمارات المتصالحة، كما شعروا بالقلق من تزايد عدد أفراد أطقم القوات البحرية الأمريكية في البحرين، وتمسكوا بتصميمهم على المحافظة على مكانتهم في المنطقة باعتبارهم قناة الاتصال الوحيدة مع أبوظبي. ولكن وزارة الخارجية الأمريكية، خاصة في أعقاب الفشل البريطاني الذريع في أزمة السويس، أدركت الحاجة إلى أن يكون لها دور مستقل في جنوب الخليج العربي، وبدأت تزيد من جمع معلوماتها حول المنطقة، وكان الأمريكيون يخطون في هذا الاتجاه بدقة وحذر لكي لا يغضبوا بريطانيا حليفهم المهم في حلف شمال الأطلسي، ولهذا السبب لم يقم هورنر بزيارته المشار إليها آنفاً ولم يقدم تقريره حتى عام 1964 ؛ فبحلول ذلك العام كان الأمريكيون قد أدركوا أن مستقبل
أبوظبي سوف يصنعه الشيخ زايد من الصعب تخيل حجم الضغوط الداخلية والخارجية التي تعرض لها الشيخ زايد آنذاك، فقد كانت علاقة أخويه الشيخ خالد والشيخ هزاع - وهما أكبر منه سناً - بأخيهما الشيخ شخبوط أكثر توتراً من علاقته هو نفسه بالحاكم، وقد تكرر استدعاء الشيخ زايد للتدخل بهدف التوفيق بين الطرفين وإعادة المياه إلى مجاريها. ورغم أن الحكومة البريطانية كانت تشجعه سراً على الاستيلاء على الحكم في إمارة أبوظبي، فإنه لم يستجب لهذه الضغوط ؛ فقد منعته حنكته السياسية ووفاؤه وتقديره السليم للواقع المحيط به من الإقدام على تلك الخطوة آنذاك. ورغم عدم مرضاة الشيخ زايد عن أسلوب شقيقه الحاكم في إدارة شؤون البلاد، ومجاهرته له بهذه الحقيقة في أغلب الأحيان، فإنه كان يدرك في الوقت نفسه مغبة الخروج على الأعراف والتقاليد، وذلك من خلال معايشته لفترة الاضطرابات التي شهدتها أبوظبي في مطلع شبابه، ومن خلال ما شهدته بعض الإمارات الأخرى في المنطقة في مراحل لاحقة، كان قد أقسم على الوقوف إلى جانب شقيقه، وهو قسم لا يمكن أن يحنث فيه . ولذا فقد سعى الشيخ زايد على مدى أربع سنوات في الفترة من 1962 إلى 1966 لتحسين الأوضاع في الإمارة من ناحية، والمضي قدماً بكل العزم والتصميم في تنفيذ برنامجه التنموي من ناحية أخرى. وكان الشيخ زايد هو الملاذ الذي يلجأ إليه أصحاب المشروعات والأفكار الخاصة بالتطوير، لمناقشتها معه قبل عرضها على الحاكم نفسه. وكان هناك سبب وجيه لاستشارته والتزود برأيه، مما يجعله يبذل كل ما في
وسعه بشأن المضي في إنجازه رغم تحفظات شقيقه في هذا المجال. فقد كان معروفاً منذ مطلع الستينيات أن الشيخ زايد هو القوة الدينامية المحركة للأمور في أبوظبي، ولكن ليس هناك من دليل يثبت أنه كان يطمح إلى تولي الحكم فيها، ولو كان الشيخ زايد يرغب في تولي الحكم في أبوظبي لكان في وسعه أن يفعل ذلك في أي لحظة بعد عام 1962 ، وقد كان إخوته وباقي أعضاء الأسرة الحاكمة وأهالي أبوظبي مستعدين لتأييده بمجرد
أن يقرر ذلك . إن العلاقة بين الشقيقين كانت قائمة على الاحترام المتبادل والثقة الكاملة، على الرغم من اختلافاتهما المتواصلة بشأن السياسات العامة، وكانا يشتركان في صفات عديدة؛ مثل حبهما لحياة البادية التقليدية وتربية الصقور واقتنائها وممارسة الصيد ونظم الشعر النبطي والمشاركة في حوارات المجالس . كما يتشابه الشقيقان في عزوفهما عن الحياة المترفة أو زخرف الثروة، وكانت بينهما ثقة عميقة، ونال الشيخ زايد مكانة خاصة للغاية لدى شقيقه الشيخ شخبوط لم يحظ بمثلها بقية أشقائه. وهنا نشير إلى ما ذكره الكولونيل إيدج Edge قائد الشرطة البريطاني في تقرير له عام 1962 : «لم يسمح لأي رجل من أفراد الأسرة الحاكمة بالمبيت في القصر أثناء وجود الشيخ شخبوط فيه باستثناء الشيخ زايد إذ كان ينام في غرفة تطل على مدخل القصر». وكان الشيخ
شخبوط في الواقع يثق في الشيخ زايد ويأتمنه على حياته . ورغم هذه الألفة العميقة فإن الشيخ شخبوط والشيخ زايد كانا شخصين مختلفين تماماً ؛


Original text

في أواخر الخمسينيات ومطلع الستينيات كان هناك توجهان متناقضان في أبو ظبي ؛ أولهما السلبية التي أبداها الشيخ شخبوط، وثانيهما الفاعلية التي كانت السمة المميزة للشيخ زايد لقد كان الشيخ شخبوط الرجل المناسب لتهدئة الأوضاع السياسية المضطربة التي سادت إبان عشرينيات القرن العشرين، وفي الأعوام القليلة الأولى من حكمه هدأت توترات الماضي القريب. غير أن تحديات وقضايا جديدة قد بدأت في الظهور منذ منتصف ثلاثينيات القرن نفسه، وخاصة الضغوط من قبل المملكة العربية السعودية، والتي لم تتوافر حلول سهلة لتسويتها. وعلاوة على ذلك كانت هذه التحديات الجديدة مرتبطة فيما بينها ارتباطاً وثيقاً، فقد كان التحدي الخاص بالمحافظة على وحدة الأراضي يقتضي من حاكم أبو ظبي ضمان تأييد ودعم شعبه له، ومن سبل تحقيق ذلك البدء في عملية التنمية الاجتماعية والاقتصادية ولم يخرج ذلك في جوهره عن نطاق المعادلة القبلية التقليدية بعنصريها وهما الولاء والعطاء، والتي تناولناها بالتفصيل في الفصل الأول، وإن اتخذت الآن صيغة جديدة. لقد فهم الشيخ زايد هذه العلاقة بفطنته، ولكن الشيخ شخبوط لم يبد تفهماً يذكر لها .
ولو أن الشقيقين الشيخ شخبوط والشيخ زايد كانا يقيمان معاً في أبو ظبي لكان من الممكن أن يؤدي التباين الواضح بين شخصيتيهما إلى حدوث خلاف بينهما، غير أن بعد المسافة بينهما – بوجود الشيخ شخبوط في أبو ظبي والشيخ زايد في العين – قد حجب لسنوات طويلة ذلك التباين بين الأسلوب السلبي وأسلوب المبادرة الإيجابية في ممارسة الحكم. وعلى الرغم من أن الخلاف السياسي بين الاثنين لم يكن ظاهراً، فإنه كان يتشكل شيئاً فشيئاً تحت سطح الأحداث الجارية. ولقد كان الشيخ زايد في العين منشغلاً بصورة متزايدة بالتأثير الذي سيتركه تعطيل الإصلاحات وبطء التنمية في إمارة أبو ظبي بأسرها ؛ وعلى سبيل المثال كان هناك تباين واضح بين سيطرته الفاعلة على الأراضي الداخلية في العين والوضع القائم في ليوا، حيث نفوذ أبو ظبي أضعف كثيراً. وعندما زار إم . إس. بكماستر، وهو ضابط سياسي في مكتب الوكيل السياسي البريطاني في الشارقة، منطقة العين قبل أن يقوم برحلة استكشافية إلى ليوا عام 1952، أعجب كثيراً بالشيخ هزاع شقيق الشيخ زايد واطلاعه الواسع على مجريات الأمور، ولكنه أضاف قائلاً: إن الشيخ زايد قد اعترف له بصورة خاصة بأنه كان متحرجاً من عدم قيام أحد أفراد أسرته من ذوي النفوذ بزيارة ليوا من قبل» .
وعلى الرغم من قيام أحمد بن فضل بأعباء السلطة ممثلاً للحاكم في منطقة ليوا خير قيام، فإنها كانت سلطة محدودة إذا ما قورنت بسلطة آل نهيان في منطقة العين، حيث كان الشيخ زايد ممثلاً للحاكم فيها. وكانت عواقب هذا الأمر خطيرة، إذ بدأ نفوذ أبوظبي في ليوا والمناطق الداخلية من الإمارة يضعف تدريجياً. ومثل دخول شركات النفط دون الحصول على ترخيص مسبق إلى أراضي أبوظبي، حسبما أوضحنا في الفصل الثالث، تحدياً خطيراً لسلطة حكومة أبوظبي . أما بكماستر الذي عثر على آثار تدل على أعمال تنقيب غير قانونية قامت بها فرق مسح تابعة لشركة أرامكو في أراضي أبوظبي فقد اعتبر ذلك تدخلاً خطيراً. * وبالمثل أشار هندرسون الذي أدرك خطورة هذا التدخل إلى أنه منذ عام 1948 فصاعداً بدأت شركة أرامكو ترسل فرق مسح توغلت في أراضي أبوظبي، وقد قابل فرقة منها عند الحدود الفاصلة بين أبوظبي ودبي، وكان الشيخ زايد يدرك أنه ما لم يفرض حاكم أبوظبي الشيخ شخبوط سلطته على أراضي إمارته كاملة وبطريقة فاعلة على غرار ما كان يفعل هو نفسه في منطقة العين، فإن الحقوق السيادية لإمارة أبوظبي ستضيع تدريجياً، وأن عدم تلبية حاكم أبوظبي لاحتياجات القبائل الموالية له سيؤدي بالضرورة إلى تراجع تأييدهم له تدريجياً. وعلى الرغم من كل الجهد الذي كان الشيخ زايد يبذله من أجل شعبه، فإن تردد الشيخ شخبوط في اتخاذ الإجراءات التي تلبي متطلبات حياة شعبه كان يضعف هيبة السلطة وقوتها مع مرور الوقت ولابد من التمييز هنا بين أمرين مختلفين: غارات القبائل وتسلل فرق العمل التابعة لشركات النفط، فبينما تؤثر الغارات التي تشنها القبائل البدوية المجاورة على نحو ما في سلطة الحاكم ونفوذه، فإن قدوم فرق دخيلة متعاقبة للقيام بأعمال المسح الجيولوجي واستكشاف مواقع توافر النفط يعد أمراً أكثر خطورة وأعمق تأثيراً. وكانالشيخ زايد مقتنعاً تمام الاقتناع من واقع تجربته الشخصية في العين بأن أعظم قوة للدولة هي مساندة شعبها وولاؤه، وكان يدرك أن الشعب ينتظر في مقابل ذلك وفاء مماثلاً من حكامه، وأن ذلك يستوجب توفير الاحتياجات المعيشية والمالية لهم. وكان الشيخ زايد قد أنفق كل موارده المتاحة لتوفير سبل الحياة المستقرة لأبناء شعبه في العين، ولم يتبق لديه ما ينفقه ويدعم به أهالي ليوا والمناطق الأخرى في أبوظبي. غير أنه سعى منذ وقت مبكر إلى تسخير الموارد المتاحة لخدمة شعبه، وبذلك فإنه قد جمع في نظرته هذه بين الإيثار والحس السياسي المتقد. لقد كان النظام السياسي التقليدي في أبوظبي قائماً على المصلحة المشتركة بين الحاكم والشعب، وكان أي اختلال بـ هذه المعادلة الجوهرية ينذر يصيب بعواقب وخيمة على الإمارة.
36 ومع بداية الستينيات كان الخطر العظيم الذي يتهدد أبوظبي هو الضيق والتذمر الذي عم سكانها . وكان من المعلوم أن الإمارات الأخرى في المنطقة تقدم لسكانها أكثر مما تقدمه أبوظبي في مجال تحسين مستوى المعيشة، ومع كون الحاكم قد عاش حياةً متواضعة، فإنه كان يتردد في استثمار دخل الإمارة في تمويل المشروعات التنموية الأساسية . 37 كما أن النزعة الانفصالية في المجتمع القبلي، والتي تدفع القبائل إلى الرحيل عن مضاربها والارتباط بشیخ آخر قد بدأت تظهر مرة أخرى. يضاف إلى ذلك أن التماسك الذي استطاع الشيخ زايد أن يحافظ عليه في العين، والذي جعل الناس جميعاً يتحدون ويرفضون الانفصال نظير عروض بتوفير الطعام والمال لهم، قد بدأ يتصدع في أبوظبي نفسها وفي ليوا وفي مناطق أخرى بعيدة عن نفــــوذ الشيخ زايد ، وأضحت أبوظبي فجأة مهددة بحالة من عدم الاستقرار . 40 واتسعت الهوة بين حجم التوقعات الشعبية وواقع الحال في آليات إدارة شؤون الإمارة، ووصل ذلك بأبوظبي إلى مرحلة حرجة؛ ونتيجة لذلك فإن كل الجماعات الرئيسية في الإمارة - أعيان الأسرة الحاكمة، والمستشارون البريطانيون، وحتى الشركات التي لها مصالح تجارية في تطوير أبوظبي - أجمعت على حتمية التغيير والتطوير من أجل تحقيق التنمية الشامل، وفي فترة الخمسينيات كانت هناك مؤشرات حول حدوث تحول في بنية السلطة في الإمارة، كما تنامى الإحساس العام بالمسؤولية الجماعية فيها ؛ ففي أول اتفاقية تم إبرامها مع إحدى شركات النفط كان الحاكم هو الموقع بمفرده عن الإمارة؛ بيد أن اتفاقية منح حقوق الامتياز النفطي الموقعة عام 1950 قد نصت على أن تمثل الحاكم الجنة ثلاثية تتألف من هزاع بن سلطان، وخالد بن سلطان، وزايد بن سلطان . " وقد كان ذلك مؤشراً إلى تحول محتمل في بنية الحكم في أبوظبي، حيث أظهر الحاكم استعداداً لتفويض بعض صلاحياته إلى إخوته. وفي الحقيقة فإنه عندما حان وقت التنفيذ تردد الحاكم في تطبيق الاتفاق الخاص بالامتياز الذي سبق أن وافق على منحه من حيث المبدأ، غير أن مشاركة إخوته في إدارة شؤون الإمارة قد تنامت خلال الخمسينيات ، ولعل أهم مظاهر هذه المشاركة تمثيل أبوظبي في مجلس الإمارات المتصالحة الجديد الذي أنشئ عام 1952 ، فقد بدا واضحاً مع مطلع الخمسينيات أن العديد من الصعوبات التي تعترض طريق حكام الإمارات المتصالحة قد نتجت عن عدم الاتصال المباشر فيما بينهم. وكان المجلس المذكور أقرب إلى منتدى يلتقون فيه ويتبادلون الرأي بعيداً عن القيود الصارمة للزيارات الرسمية وقواعد الضيافة الخاصة بها . 4 وفي الأعوام اللاحقة صار للمجلس دور مهم في تطوير علاقات الشيخ زايد وتوسيع نطاق نشاطه السياسي قبل أن يصبح حاكماً لإمارة أبوظبي
وقبل إنشاء المجلس كانت الحكومة البريطانية تتباحث مع كل حاكم على حدة، ولكن تبين أن هناك فائدة سياسية من إقامة مجلس موحد للمناقشات المشتركة، وكان هذا المجلس بطابعه الاستشاري أكثر انفتاحاً وديمقراطية إذا قورن بنظام المفاوضات الخاصة السابق . وزاد من أهمية هذه الخطوة حساسية البريطانيين تجاه الانتقادات الموجهة إليهم، والتي تتهمهم بالهيمنة والتحكم في المنطقة، وقلقهم المتزايد من اهتمام جامعة الدول العربية المتصاعد بمنطقة جنوب الخليج العربي، لذا كان الأمل معقوداً على التوصل إلى خط سياسي مشترك من خلال هذا المجلس. وكان الضابط السياسي في الشارقة هو الذي يضع جدول أعمال المجلس، ويدرج فيه القضايا التي يحتاج بشأنها، دبي، وهي أمور تهم جميع الإمارات
كانت الاجتماعات الأولى متكلفة وغلب عليها الطابع الرسمي ، وقد حضر الشيخ زايد والشيخ هزاع اجتماع المجلس الذي عقد في 25 نيسان/ إبريل 1953 ولكن لم يرد في سجل الاجتماع ما يشير إلى مشاركتهما في المناقشات. وفي جلسة 5 تموز/ يوليو 1954 غير حضور الشيخ زايد من الطبيعة الرسمية التي تغلب على الاجتماعات، ومهد السبيل أمام المزيد من الصراحة والانفتاح في المناقشات. وقد تم عقد الاجتماع في قاعة الاستقبال في مقر الوكالة السياسية، والتي تحولت فيما بعد إلى قاعة مؤقتة للمجلس . وذكر الوكيل السياسي بيري جوردون أن الشيخ زايد الذي منعه العرف المتبع من التحدث في الاجتماع الرسمي في حضور حاكم إمارة أبوظبي الشيخ شخبوط، قد استغل الفرصة لاحقاً وتحدث إليه بصورة شخصية ليؤكد بكل حماسة أن إمارة أبوظبي
إلى آراء جماعية من الحكام وعلى الرغم من أن حاكم أبوظبي لم يحضر الاجتماع الأول للمجلس، فإن القضايا التي نوقشت في إطاره خلال المرحلة الأولى من إنشائه قد مهدت لأحداث لاحقة . وشملت القضايا الأساسية التي تمت مناقشتها في آذار / مارس 1952 اللؤلؤ الاصطناعي ومكافحة الجراد ومستشفى الإمارات المتصالحة في تشاطر المجلس آراءه وتحترم مداولاته وقرارات


يضاف إلى ذلك أن هناك علاقة ودية كانت تتبلور في إطار مجلس الإمارات المتصالحة بين أعضائه من الجيل الجديد المفعم بالحماسة والنشاط . وفي حين كان الشيخ زايد يتحدث بقوة وحماسة بشأن أبوظبي، كان للشيخ راشد دور مهم وفاعل فيما يخص إمارة دبي. وقد لاحظ جوردون أن الشيخ راشد الذي تمنعه التقاليد العربية من أن يبرز نفسه بحيث تطغى شخصيته في حضور أبيه ... كان له دور ريادي في النقاش، بحيث
[ أضحى من الأفضل مستقبلاً] أن يبقى حاكم دبي المسن غائباً عن الاجتماعات» .
وشهدت تلك الاجتماعات مولد علاقة دائمة من التعاون بين الشيخ زايد والشيخ راشد؛ وهي العلاقة التي عادت بالفائدة على مستقبل هذه المنطقة من الخليج العربي . وقد ذكر الوكيل السياسي الجديد جيه. بي. تريب في رسالته إلى نائب المقيم السياسي
سي. إيه. جولت في آب/ أغسطس 1955 ، أن هنالك صداقة حميمة تجمع بين الشيخ راشد والشيخ هزاع والشيخ زايد ولاحظ الحكام أنفسهم في اجتماعات المجلس اللاحقة أن من بين الفوائد التي تحققها اجتماعات مجلس الإمارات المتصالحة أنها تتيح لهم أن يلتقي بعضهم بعضاً فعلياً على أرض محايدة ولو لم يلتق
الحكام لكان من الصعب عليهم أن يتجاوزوا سلبيات الماضي، ولقد أتاحت لهم اجتماعات المجلس توثيق معرفة بعضهم ببعض وتعميق صداقتهم.
وقد اكتسب الشيخ زايد من خلال حضوره المنتظم لاجتماعات مجلس الإمارات المتصالحة خبرة كبيرة في التعامل مع حكام المنطقة، والأهم من ذلك أن هذه الاجتماعات قد أتاحت له فرصة التعرف إلى أولياء العهود وأبناء الحكام الآخرين. ورغم أنه لم يكن حينها حاكماً لأبو ظبي، فإن كونه ممثلاً للحاكم في العين قد منحه صفةً رسمية، مما مكنه من التدخل أحياناً بشكل حاسم في مناقشة بعض القضايا مثل الصحة والطرق. وكانت المؤازرة الإيجابية التي أبداها الشيخ زايد لمجلس الإمارات المتصالحة منذ إنشائه، وراء مساهمة الشيخ شخبوط في أعمال المجلس بصورة أكثر إيجابية والتزاماً، ففي اجتماع 17 تشرين الثاني / نوفمبر 1953 خصص حاكم أبوظبي ما نسبته %4 من عوائد النفط المستقبلية لتطوير منطقة الإمارات المتصالحة بأكملها؛ ولم يأت هذا
العرض إلا نتيجة للجهود المتواصلة والحثيثة التي بذلها الشيخ زايد لإقناع شقيقه
التحديات التي واجهت الشيخ زايد في الوقت الذي كان فيه مجلس الإمارات المتصالحة ملتقى مهماً بالنسبة إلى الشيخ زايد ظلت مشكلة التنمية والتطوير في أبوظبي قائمة، فقد استمر الشيخ شخبوط رافضاً تخصيص النفقات اللازمة لتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية في الإمارة؛ ونتيجةً لذلك أضحى التباين بين الشقيقين أكثر وضوحاً منذ بداية الستينيات، فقد كان الشيخ زايد نموذجاً للكفاءة والانضباط، وكان صريحاً ومباشراً في أسلوب تعامله وبعيداً عن التكبر والمبالغة. وقد أبدى كل من التقى الشيخ زايد إعجابه بذكائه وحنكته السياسية، فقد كان حريصاً على الالتزام بكل تعهداته وقادراً على الوفاء بكل ما وعد بإنجازه. وفي مناسبات عديدة عبر الشيخ زايد عن تحفظه إزاء تصرفات شقيقه، ليس بهدف انتقاد شخصه، ولكن لما لحق بإمارة أبوظبي من ضرر مستمر. وقد تحدث الشيخ زايد في جلسة مصارحة خاصة ومطولة مع الوكيل السياسي باوستد Boustead ا عن المصاعب التي يواجهها ، وكتب باوستد إلى المقيم السياسي السير وليم لوس William Luce ما يلي : 56
أمضى الشيخ زايد ما يربو على الساعة معي في مساء يوم 5 تشرين الأول/ أكتوبر 1962 . كان مستاء من الشيخ شخبوط، وعبر عن ذلك بأسلوب صريح لم أسمعه منه إلا نادراً فيما سبق ... وقال أيضاً إنه ما دام شخبوط يدير دفة الأمور فإن الإمارة لن تشهد أي تطور، سواء في وجود مستشار أو عدمه، وهو يعتقد أنه لن يبقى أي موظف مع شقيقه .
وقال إن شقيقه مصمم على معارضة أي تنمية أو تطوير ولا ينوي تنفيذ الخطط الخاصة بالتنمية، وأضاف قائلاً إنه على الرغم من غضب أخيه بسبب النزاع حول جزيرة حالول نزاع حدودي] ، فإنه يتخذ من هذا الموضوع ذريعة لتجنب الحديث في النواحي الأخرى المتعلقة بإدارة شؤون الإمارة ... وعندما سألته عن إمكانية تحسن الأوضاع عند ظهور النفط أجابني
الشيخ زايد: "لا، على الإطلاق " . إن الحاكم معه الآن من الأموال ما يمكنه من الإنفاق على شعبه، ولكنه لا يرغب في القيام بأي شيء من ذلك .
وكما أدرك باوستد فلابد أن شيئاً ما قد حدث ليجعل الشيخ زايد صريحاً إلى هذا الحد؛ وقد يكون أحد الأسباب المباشرة لذلك هو التدهور السريع للأوضاع المعيشية لأهالي أبوظبي، فقد عاش الشيخ زايد بين الفقراء في العين حياة الشظف والفقر، وأدرك أن هذه الأوضاع الصعبة للغاية غير مقبولة، ولابد أن الأوضاع المؤسفة السائدة
قد مست نزعة فطرية لديه إلى فعل الخير، إيماناً منه بالمساواة بين الناس.
وكذلك أدرك الشيخ زايد المخاطر التي تنطوي عليها سياسة أخيه الشيخ شخبوط تجاه قطاع التجارة والأعمال، إذ أيقن أن سياسة كهذه سوف تنفر الشركات الأجنبية من الاستثمار في الإمارة، مع أن للاستثمارات ومشروعات التحديث أهمية بالغة في تطوير أبوظبي، ذلك أن أحداً لن يقدم على الاستثمار في بلد لا تسدد فيه الفواتير المستحقة للمستثمر، ويمتنع مسؤولوه عن الوفاء بتعهداتهم والتزاماتهم في العقود
المبرمة. واقتنع الشيخ زايد اقتناعاً تاماً بأن شقيقه الحاكم سيزداد قلقاً وارتباكاً مع تدفق الأموال في خزينة أبوظبي، وتزايد الشركات الأجنبية التي تقدم خططاً تستوجب إنفاق هذه الأموال عليها .
وفي نيسان/ إبريل 1962 أورد الوكيل السياسي باوستد مضمون محادثة صريحة بين الشيخ زايد وسالم علي موسى، الموظف في مقر الوكالة السياسية البريطانية، والذي قال له :
أخبرني الشيخ زايد بن سلطان صباح اليوم أن الشيخ شخبوط استدعاه إلى قصره بعد ظهر أمس ليعبر له عن غضبه عندما علم بحضوره خصيصاً إلى أبوظبي ليأخذ أموالاً معه. وقال الحاكم إنه يعرف جيداً أن زايد وأفراد الأسرة الحاكمة جميعاً يريدون منه المال، وأنه – أي الحاكم - سوف يسلم السلطة إليهم ليديروا شؤون البلاد بالطريقة التي
يرونها مناسبة .
وقال زايد إن شخبوط كان يعني أن على زايد أن يتسلم السلطة محله، ولكن زايد أضاف : أدركت أن اقتراحه يخلو من أي نية حقيقية للتنحي، وليس إلا مزحة، لذا
رفضت عرضه رفضاً قاطعاً.
بعدها قال زايد إنه أخبر شخبوط أنه لا يهمه هو ولا أي فرد في الأسرة الحاكمة أن يتحكموا بالأموال أو يتسلموا السلطة، ولكنه أضاف موضحاً لشقيقه الحاكم: هناك حالة من الفوضى التامة في عهدك، وبما أنك لا ترغب الأخذ بالنصيحة في أي وقت،
فإن الخيار الوحيد هو أن نترك الأمور بين يديك .
وأخبر زايد شخبوط أنه إذا كان مهتماً بالفعل بتطوير الإمارة فإن الحل الوحيد أمامه بوصفه حاكماً لها هو أن يعين موظفين مؤهلين لتطوير نواحي الحياة فيها وإدارة شؤونها ،
كما هي الحال في كل الإمارات المتصالحة .
عاتب زايد شقيقه الحاكم لأنه لم يستشره إطلاقاً، ولم يشاور أياً من أفراد الأسرة الحاكمة حول أي من الأمور المتعلقة بتنمية أبوظبي أو تطويرها، وأن الأمور ظلت في حالة من الفوضى التامة. وأضاف مخاطباً الشيخ شخبوط أنه من واقع معرفته له، فهو لا يتوقع أي تغيير، كما لا يتوقع أن ينجز الحاكم أي شيء». وطلب الشيخ زايد من سالم علي موسى أن ينقل محادثته مع الحاكم إلى الوكيل السياسي، ثم غادر إلى العين
دون أن يودع الحاكم .
في ذلك الوقت كان ميزان القوى في أبوظبي قد تحول تماماً، كما أن شعبية الشيخ زاید قد فاقت بكثير شعبية شقيقه الحاكم، وكان معظم الناس ينظرون إلى الشيخ زايد على أنه البطل الذي أنقذ أبوظبي بمقاومته الحازمة للغزو السعودي في العين. ورغم أن أبوظبي في تلك الأيام لم تكن تعرف الهاتف، ولم يكن فيها غير عدد محدود من أجهزة المذياع، فإن تناقل الأخبار مشافهة كما هي تقاليد الصحراء كان أسلوباً فاعلاً للتواصل، وكان أهل الساحل يعرفون ما يحدث في العين والعكس صحيح. أما الحكومة البريطانية التي كان لها مصالح اقتصادية واستراتيجية مرتبطة بتطور أبوظبي فقد أدركت بعد تدخلها عسكرياً في "حماسة" أن الشيخ زايد هو الأمل الوحيد لمستقبل أبوظبي . وفي حين أظهر المسؤولون البريطانيون في فترة ما قبل عام 1947 نزعة نحو التدخل المستبد في شؤون الإمارة ، فإن الجيل الجديد من المسؤولين البريطانيين القادمين إلى أبوظبي كان أقل ميلاً إلى التدخل، فقد أدركوا أن في وسعهم أن يستفيدوا من تجربة الشيخ زايد في توجيه الأمور، وأن يحذوا حذوه وهم على اطمئنان تام إلى سلامة توجهاته، وكانوا تواقين إلى أن يتولى الشيخ زايد موقعاً أهم من موقعه الحالي، ولكن لم يكن في وسعهم أن يفعلوا شيئاً حاسماً لإنهاء حكم الشيخ شخبوط، فالدافع نحو التغيير يجب أن يأتي من الشيخ زايد وحده، لذا كان تردده في التدخل لحسم الأمر محبطاً للبريطانيين أحياناً ونستشف من سجلات وزارة الخارجية البريطانية إدراكاً متزايداً بأن الشيخ زايد سيكون حاكماً نموذجياً، فقد بدا ذلك واضحاً في الرسالة المطولة من المقيم السياسي إلى وزارة الخارجية البريطانية في 17 نيسان/ إبريل 1962 ، حيث علق المقيم السياسي بأسلوب موضوعي على التقرير المرسل حول لقاء الشيخ زايد مع سالم علي موسى قائلاً: من حسن حظنا أن نجد في الشيخ زايد رجلاً نعتقد أنه يتمتع بعدد من الخصائص والسمات الضرورية التي يجب توافرها في شخصية حاكم أبوظبي في الحقبة الجديدة ؛ فهو محبوب ويتمتع بالاحترام الواسع بين أبناء شعبه وعند الآخرين، وهو ودود ومنفتح في علاقاته مع الآخرين ومن صفاته الشجاعة والصراحة والكرم والحرص على مساعدة شعبه، وباختصار هناك فارق كبير بينه وبين شقيقه. وليس معنى ذلك أنه سيكون حاكماً تابعاً أو سهل الانقياد ، إذ يجتمع فيه كل كبرياء البدو واستقلاليتهم، ومن المؤكد أننا لن نستطيع نحن ولا أي جهة أخرى التأثير في قراراته، ولكن اهتمامه بتحقيق مصالح شعبه، وتفهمه حجم المشكلات التي تواجه أبوظبي، واستعداده لقبول المساعدة في معالجة هذه المشكلات وحلها، يجعلنا نعتقد أنه رجل يمكن الحكومة صاحبة الجلالة والآخرين أن يتعاملوا معه لما فيه مصلحة الإمارة، وأخيراً فإن لدينا من الأدلة ما يؤكد أن تولي الشيخ زايد مقاليد الحكم في أبوظبي سيكون موضع ترحيب من قبل
الأسرة الحاكمة وشعب إمارة أبو ظبي عموماً بما في ذلك قوة الشرطة.
وبعد شهر تقريباً، وتحديداً في أيار / مايو 1962 ، وأمام هذه الضغوط الهائلة واحتمالات المواجهة مع أكثر من جهة قرر الشيخ شخبوط في بداية الأمر أن يقبل تقديم التنازلات المطلوبة منه ؛ وهي تخصيص ميزانية مناسبة للتنمية، والموافقة على تنفيذ خطط تنموية. ولكن ما إن مرت فترة وجيزة على قبوله تلك المطالب حتى تبدل رأيه مرة أخرى ؛ وعلى سبيل المثال فقد وافق على تعيين معلمين من السودان، وبمجرد إبرام الاتفاقية مع حكومة السودان بدأ الشيخ شخبوط يتحدث عن عيوب في الترتيبات المتفق عليها . وكتب الكولونيل باوستد واصفاً إحدى زياراته للشيخ زايد، وكان قد أخفق في صباح يوم الزيارة نفسه في إقناع الحاكم بالعدول عن تراجعه فيما يتعلق بتلك الاتفاقية :
أمضيت ساعة في المساء مع الشيخ زايد وأخبرته صراحة أن حكومة السودان قد بذلت كل ما في وسعها، وأنها تريد من الحاكم أن يوقع على التعيينات ... قال الشيخ زايد إنه لابد من إحضار المعلمين بأي شكل كان، وإنه سيكون مسؤولاً عن ذلك بعد أسبوعين من اجتماعه مع باوستد بدأ الشيخ شخبوط يثير قضية تنحيه عن الحكم، في أعقاب تبادل لوجهات النظر بين الحاكم وشقيقيه الشيخ زايد والشيخ خالد . ويصف لنا باوستد ما جرى طبقاً لرواية الشيخ زايد قائلاً: «قال (الشيخ شخبوط) إنه قرر التنحي عن الحكم، وقال إن على زايد وخالد أن يديرا شؤون الإمارة. وأضاف أنه كان
مخلصاً في إدارته لشؤون الإمارة لما فيه مصلحة أهلها ، ثم شكا من أن أخويه إنما يستمتعان بالحياة (في العين) ويكتفيان بطلب الأموال منه ، تاركين له معالجة كل شؤون الإمارة .
رد زايد بأنهما (الشيخ زايد والشيخ خالد على استعداد تام لمساعدته في كل الأوقات في إدارة شؤون الحكم بشرط أن يسمح لهما بذلك ... وقال للحاكم: إذا كنت مخلصاً في رغبتك في العمل لما فيه مصلحة أهل الإمارة، فلا يكفي أن تبحث عن النصيحة فحسب، بل يتعين عليك أن تضع التوصيات التي يقدمها إليك الوكيل السياسي وسكرتيرك الخاص والموظفون المعينون للعمل في الإمارة موضع التنفيذ. ثم أضاف قائلاً إنه وشقيقه خالد على أتم الاستعداد لمساعدة الحاكم، بشرط أن يقبل الشيخ شخبوط ذلك، وأن يسند إليهم مسؤوليات . ثم أوضح زايد لشقيقه أنه إذا كان يريد حقيقة أن يتنحى عن الحكم فلن يكون في وسعهما منعه
أما رد الحاكم فكان انتقاد الشيخ زايد على إنفاقه أموالاً على بناء المتاجر ومضخات الري والمشروعات الزراعية وغيرها في البريمي (العين)، وأجاب الشيخ زايد بأنه إذا كان في وسع الحاكم أن يقدم أي دليل من أي ناحية على أن الأعمال التي قام بها في العين لم
تكن لصالح مواطني أبوظبي، فإنه يقبل اتهام أخيه له بأنه كان مخطئاً فيما فعل .
وأضاف زايد: إذا كنت تريد أن تكون مخلصاً لشعبك، فخصص ميزانية للإمارة، وأشرف بنفسك على أوجه إنفاق الأموال واستغلالها لمصلحة الإمارة، وفقاً لترتيبات
مالية ملائمة ورد الحاكم بأنه إذا ما خصص ميزانية للحكومة فإن الناس سيعرفون ما يدخل خزائنه من أموال، وهو ما يشكل حرجاً ولا يمكنه أن يوافق عليه . فرد زايد بأن ذلك هو المتبع في سائر الإمارات الأخرى، وأن عوائد أي إمارة وميزانيتها من الأمور المعروفة لكل من في الإمارة، بل وتنشر في الأوراق الرسمية، وأن ذلك أمر عادي 65
66 ومع تزايد الضغوط الرامية إلى إحداث تغيير في الإمارة أضحى الشيخ شخبوط أكثر ضيقاً بما ينشر عنه من تعليقات سلبية في الصحافة العالمية التي بدأت تلم تدريجياً بأخبار الثروة النفطية في أبوظبي . وتشكل لدى الشيخ شخبوط اقتناع راسخ بأن هناك حملة منظمة لتشويه سمعته، ولم يكن ذلك الهدف جديداً عليه؛ فمنذ ثلاثينيات القرن العشرين عايشت أجيال من المسؤولين البريطانيين عناده وتمسكه برأيه، فيما أعجب كثيرون بصلابته في الدفاع عن وجهة نظره وسعيه إلى تحقيقها، وأعجب آخرون بلطفه . ولم يكن الشيخ شخبوط يتصرف على النحو الذي يستوجب تدخلاً مباشراً وعنيفاً، إذ كان السلم يعم أبوظبي، وكان الشيخ شخبوط - رغم كل التحفظات - هو الحاكم الشرعي الذي اختارته الأسرة الحاكمة وقبله الشعب. ولم يكن وارداً أن يتم أي تغيير لحاكم أبوظبي، إذا قدر لهذا أن يحدث، إلا بتدخل من الأسرة الحاكمة .
التي كان تعيين الكولونيل باوستد بوصفه أول وكيل سياسي بريطاني في أبوظبي، الفرصة ، أتيحت أخيراً لإيصال رسالة الشيخ زايد إلى الحكومة البريطانية، والتعامل معها من خلال مسؤول كبير مثل باوستد . وأوضح الشيخ زايد أنه وأخويه الشيخ خالد والشيخ هزاع والأسرة الحاكمة وكل أفراد الشعب ينشدون تطوير أبوظبي . وقد أوضح الشيخ زايد في كل المناقشات التي جمعته مع باوستد وغيره من المسؤولين البريطانيين عدم رغبته في تولي الحكم، بل انحصر كل ما يرغب فيه حقيقة في جانب واحد، وهو أن يتحول شقيقه إلى فعل ما فيه مصلحته ومصلحة شعبه. وقد نجح الشيخ زايد في ذلك ، وشجع البريطانيين على استخدام نفوذهم لدى الشيخ شخبوط لتحقيق هذا الهدف، غير أن النتائج التي تمخضت عن تبنيهم لهذه الرؤية كانت متواضعة للغاية، قياساً على حجم تطلعاته وآماله المنشودة شهدت الفترة الفاصلة بين عام 1962 عندما تدفق النفط للمرة الأولى وعام 1966 عندما تولى الشيخ زايد مقاليد الحكم في أبوظبي، البداية التدريجية للإصلاحات التي رغب الشيخ زايد في إدخالها، غير أن ذلك تم بوتيرة بطيئة وبجرعات محدودة قياساً على طموحات الشيخ زايد وآماله العريضة، على الرغم من أنه قد حاول الاستفادة من كل الفرص المتاحة في دفع مشروعات التطوير وتعزيزها، وسعى إلى توطيد علاقاته مع الحكام وأولياء العهود في إمارات الخليج الأخرى .



  • ومن جانبها عبرت السلطات البريطانية التي طالتها اتهامات من الدول العربية بأنها تستغل الإمارات المتصالحة عن استعدادها أخيراً للاستثمار في المنطقة وحث الحكام على فعل الشيء نفسه. وكان الشيخ زايد يدفع هذه الأمور محتفظاً بموقعه بعيداً عن دائرة الضوء، فقد كان أخوه الشيخ شخبوط هو الحاكم الذي يظهر في الصدارة. وعلى الملأ ان الشيخ زايد – كعادته - يقدم كل فروض الاحترام الواجب من الأخ الأصغر لأخيه الأكبر، كما أنه ظل على وفائه بالعهد الذي قطعه على نفسه عام 1928، ولم يحنث في يمينه، على الرغم من أن الآخرين كانوا يحثونه على تسلم حكم الإمارة تجاوباً مع رغبة أغلبية الشعب فيها. وما لبثت الأمور أن هدأت في أبوظبي، فبعد أن كاد الشيخ شخبوط يتنازل عن الحكم، عاد وعدل عن قراره، وأضحى من المسلم به في أبو ظبي أن الإمارة لن تدخل عصر التطور إذا ما ظل الشيخ شخبوط على عناده وتصلبه في رفض المشروعات التنموية التي تحتاجها .
    كان الشيخ زايد على دراية تامة بحساسية المرحلة الانتقالية وصعوبتها، ففي المراحل السابقة كانت علاقات أبوظبي التجارية مع العالم الخارجي تتم في معظمها عبر الحكومة البريطانية، بل مع شركات بريطانية دون سواها في أغلب الأحيان، غير أن أبوظبي أصبحت في ذلك الوقت تغص برجال الأعمال الذين تدفقوا عليها من فرنسا وألمانيا الاتحادية والنمسا وإيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية. وعندما اتضحت أهمية الثروة النفطية في أبوظبي أبدت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية أيضاً مزيداً من الاهتمام بالمنطقة ؛ وقد نوقشت مسألة الاهتمام الأمريكي الرسمي بالمنطقة بشكل مباشر في وثيقة سرية صاغها القنصل الأمريكي العام في الظهران، جون إيفارتز هورنر John Evarts Horner ، وتم تداولها رسمياً على نطاق واسع لاحقاً، وكان عنوانها الوجه الخادع للإمبريالية البريطانية في الخليج العربي وقد طرحت الوثيقة تصوراً لمنطقة الخليج من دون الإشراف البريطاني، وتساءلت عن الوضع الذي يجب أن يكون للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة. وخلص هورنر إلى ... ضرورة مراقبة التطورات عن كثب، لأننا لم نعد نتعامل مع مجموعة من القرى الصغيرة التي تعيش على صيد الأسماك، بل مع منطقة غنية بالمخزون الاستراتيجي من النفط»، ولم تكن مجرد مصادفة عندما وصل إلى المنطقة وقد من القنصلية الأمريكية العامة في الظهران، في نيسان/ إبريل 1964 ، وطاف بسيارة على جميع الإمارات المتصالحة آنذاك. وزار الوفد منطقة العين وقام بزيارات شخصية إلى الحكام في أنحاء المنطقة، وكان ذلك أول اتصال لدبلوماسيين
    أمريكيين بالشيخ زايد في منطقته.
    70 ومنذ تلك اللحظة تعمق اهتمام السلطات الأمريكية في واشنطن وتلك التي تتخذ من الظهران قاعدة لها بشؤون أبوظبي والمنطقة عموماً. وقد تزايدت متابعتهم للموقف و معرفتهم به بفضل التقارير التعريفية التي توزعها وزارة الخارجية في لندن من جهة، والمعلومات المستقاة من الخبرات الشخصية للموظفين العاملين في مقر القنصلية الأمريكية في المملكة العربية السعودية ومن قادة السفن الحربية الأمريكية التي تزور المنطقة من جهة أخرى. وقد سارع البريطانيون إلى رفض فكرة أن تفتح واشنطن قنصلية لها في الإمارات المتصالحة، كما شعروا بالقلق من تزايد عدد أفراد أطقم القوات البحرية الأمريكية في البحرين، وتمسكوا بتصميمهم على المحافظة على مكانتهم في المنطقة باعتبارهم قناة الاتصال الوحيدة مع أبوظبي. ولكن وزارة الخارجية الأمريكية، خاصة في أعقاب الفشل البريطاني الذريع في أزمة السويس، أدركت الحاجة إلى أن يكون لها دور مستقل في جنوب الخليج العربي، وبدأت تزيد من جمع معلوماتها حول المنطقة، وكان الأمريكيون يخطون في هذا الاتجاه بدقة وحذر لكي لا يغضبوا بريطانيا حليفهم المهم في حلف شمال الأطلسي، ولهذا السبب لم يقم هورنر بزيارته المشار إليها آنفاً ولم يقدم تقريره حتى عام 1964 ؛ فبحلول ذلك العام كان الأمريكيون قد أدركوا أن مستقبل
    أبوظبي سوف يصنعه الشيخ زايد من الصعب تخيل حجم الضغوط الداخلية والخارجية التي تعرض لها الشيخ زايد آنذاك، فقد كانت علاقة أخويه الشيخ خالد والشيخ هزاع - وهما أكبر منه سناً - بأخيهما الشيخ شخبوط أكثر توتراً من علاقته هو نفسه بالحاكم، وقد تكرر استدعاء الشيخ زايد للتدخل بهدف التوفيق بين الطرفين وإعادة المياه إلى مجاريها. ومع تنوع الضغوط وكثرتها كان الشيخ زايد مهموماً بحالة الفقر المدقع الذي يعانيه أبناء شعبه في العين والقبائل الأخرى وسكان المناطق المختلفة في إمارة أبوظبي . ورغم أن الحكومة البريطانية كانت تشجعه سراً على الاستيلاء على الحكم في إمارة أبوظبي، فإنه لم يستجب لهذه الضغوط ؛ فقد منعته حنكته السياسية ووفاؤه وتقديره السليم للواقع المحيط به من الإقدام على تلك الخطوة آنذاك. ورغم عدم مرضاة الشيخ زايد عن أسلوب شقيقه الحاكم في إدارة شؤون البلاد، ومجاهرته له بهذه الحقيقة في أغلب الأحيان، فإنه كان يدرك في الوقت نفسه مغبة الخروج على الأعراف والتقاليد، وذلك من خلال معايشته لفترة الاضطرابات التي شهدتها أبوظبي في مطلع شبابه، ومن خلال ما شهدته بعض الإمارات الأخرى في المنطقة في مراحل لاحقة، والأهم من ذلك أنه
    كان قد أقسم على الوقوف إلى جانب شقيقه، وهو قسم لا يمكن أن يحنث فيه .
    ولذا فقد سعى الشيخ زايد على مدى أربع سنوات في الفترة من 1962 إلى 1966 لتحسين الأوضاع في الإمارة من ناحية، والمضي قدماً بكل العزم والتصميم في تنفيذ برنامجه التنموي من ناحية أخرى. وكان الشيخ زايد هو الملاذ الذي يلجأ إليه أصحاب المشروعات والأفكار الخاصة بالتطوير، لمناقشتها معه قبل عرضها على الحاكم نفسه. وكان هناك سبب وجيه لاستشارته والتزود برأيه، إذ إن إبلاغ الشيخ زايد وإقناعه بأي مقترح صائب في مجال التنمية والتطوير كان يضمن تأييده وتحمسه له، مما يجعله يبذل كل ما في
    وسعه بشأن المضي في إنجازه رغم تحفظات شقيقه في هذا المجال.
    من الخطأ أن ننظر إلى العلاقة بين الشقيقين الشيخ شخبوط والشيخ زايد على اعتبار أنها علاقة تضاد بين طرفين، فقد كان معروفاً منذ مطلع الستينيات أن الشيخ زايد هو القوة الدينامية المحركة للأمور في أبوظبي، ولكن ليس هناك من دليل يثبت أنه كان يطمح إلى تولي الحكم فيها، وكان غاية ما يطمح إليه الشيخ زايد هو أن يعمل مع شقيقه الأكبر لتطوير أبوظبي والدخول بها إلى العصر الحديث. ولو كان الشيخ زايد يرغب في تولي الحكم في أبوظبي لكان في وسعه أن يفعل ذلك في أي لحظة بعد عام 1962 ، وقد كان إخوته وباقي أعضاء الأسرة الحاكمة وأهالي أبوظبي مستعدين لتأييده بمجرد
    أن يقرر ذلك .
    إن العلاقة بين الشقيقين كانت قائمة على الاحترام المتبادل والثقة الكاملة، على الرغم من اختلافاتهما المتواصلة بشأن السياسات العامة، وكانا يشتركان في صفات عديدة؛ مثل حبهما لحياة البادية التقليدية وتربية الصقور واقتنائها وممارسة الصيد ونظم الشعر النبطي والمشاركة في حوارات المجالس . كما يتشابه الشقيقان في عزوفهما عن الحياة المترفة أو زخرف الثروة، وكانت بينهما ثقة عميقة، ونال الشيخ زايد مكانة خاصة للغاية لدى شقيقه الشيخ شخبوط لم يحظ بمثلها بقية أشقائه. وهنا نشير إلى ما ذكره الكولونيل إيدج Edge قائد الشرطة البريطاني في تقرير له عام 1962 : «لم يسمح لأي رجل من أفراد الأسرة الحاكمة بالمبيت في القصر أثناء وجود الشيخ شخبوط فيه باستثناء الشيخ زايد إذ كان ينام في غرفة تطل على مدخل القصر». وكان الشيخ
    شخبوط في الواقع يثق في الشيخ زايد ويأتمنه على حياته .
    ورغم هذه الألفة العميقة فإن الشيخ شخبوط والشيخ زايد كانا شخصين مختلفين تماماً ؛ ومن أوجه الاختلاف الأساسية بين شخصيتيهما ميل الشيخ زايد إلى التفاؤل، إذ كان إيجابياً وواثقاً من أن المستقبل سوف يكون أفضل من الماضي. أما الشيخ شخبوط فقد كان في قرارة نفسه حزيناً لانتهاء حقبة زمنية ورحيل عالم كان مألوفاً لديه، على الرغم من قسوة العيش التي عاناها إبان تلك الحقبة . وإذا نظرنا الآن إلى ما كانت عليه الحال في ذلك الوقت فمن الممكن أن نخلص إلى بعض الاستنتاجات المتعلقة بالعواقب السياسية التي ترتبت على هذا التمايز بين الشقيقين فبالنسبة إلى الشيخ زايد كان الحل الأمثل هو أن يغير شقيقه الشيخ شخبوط مواقفه وأن يشرع في تنفيذ الإصلاحات اللازمة، وقد سعى جاهداً في سبيل مساعدة الشيخ شخبوط على تحقيق ذلك الهدف، ولكن الشيخ زايد كان يدرك بمرور الوقت تضاؤل ذلك الاحتمال ؛ وبناء عليه تعين على الشيخ زايد أن يواجه في لحظة ما التفكير في الأمر الذي طالما حاول تجنبه كثيراً؛ ألا وهو أن يقنع شقيقه الشيخ شخبوط بالتنحي عن الحكم، وأن يتولى بنفسه مسؤولية الحكم في أبوظبي لما فيه مصلحة الشعب والوطن.


Summarize English and Arabic text online

Summarize text automatically

Summarize English and Arabic text using the statistical algorithm and sorting sentences based on its importance

Download Summary

You can download the summary result with one of any available formats such as PDF,DOCX and TXT

Permanent URL

ٌYou can share the summary link easily, we keep the summary on the website for future reference,except for private summaries.

Other Features

We are working on adding new features to make summarization more easy and accurate


Latest summaries

1. **Infrastruc...

1. **Infrastructure as a Service (IaaS)**: Through the Internet, this strategy offers virtualized co...

و “سلامة وبناته...

و “سلامة وبناتها” عبارة عن جزر تنتشر في هذا المضيق ، ويعود سبب تسميتها إلى أن هناك بحارة عرب تعرضوا ...

الموجودات: 1. *...

الموجودات: 1. *مصدر الطاقة*: يوفر مصدر الطاقة الجهد والتيار اللازمين لتنشيط الدائرة. يقوم عادةً بتحو...

stablishment of...

stablishment of the foundation represents a successful story of the UAE in very many aspects and it...

INTRODUCTION E...

INTRODUCTION ELECTRIC CARS ARE A GREAT WAY TO REDUCE DEPENDENCE ON FOSSIL FUELS AND GAS-EMITTING SE...

تبدأ القصة بتقد...

تبدأ القصة بتقديم الراوي ، يتذكر رسم صورة عندما كان في عمر السادسة - ل صورة لأفعى مضيق وهو يبتلع ف...

المرحلة الرابعة...

المرحلة الرابعة العصر الحديث ابتداء من القرن الرابع عشر بعد كتاب الزيادة والإحسان فترت الهمم عن التأ...

While the smart...

While the smart home offers convenience and cost savings, there are still challenges. Security risks...

قراءة مهمة ا...

قراءة مهمة القراءة : القراءة هي مهمة رائعة وضرورية في حياتنا. إنها تمنحنا فرصة للتعلم والترفيه ف...

Zone electropho...

Zone electrophoresis is similar to moving boundary electrophoresis in that it uses a homogeneous buf...

المورفولوجية لل...

المورفولوجية للصحراء الشرقية تقع بين وادي والدلتا في الغرب والبحر األحمر وخليج السويس وقناة السويس ...

The visual repr...

The visual representation of the materials in figure 3, showed the brownish colours of the prepared ...