Lakhasly

Online English Summarizer tool, free and accurate!

Summarize result (50%)

ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وصلاة اللّٰه وسلامه على النبي المبعوث رحمة للعالمين، من أكثر الموضوعات التي كنت -وما زلتُ - متحمسًا للكتابة عنها موضوع الحضارة الإسلامية، فإن الذي يريد أن يفهم مسيرة الإنسانية، وليس لمجرَّد أنها ربطت الحضارات القديمة بالحضارات الحديثة؛ ولكن لأن إسهامات المسلمين في مسيرة الإنسانية من الكثرة والأهمية بمكان، وبكل خصائصها ودقائقها، إنها فترة باهرة حقًّا في تاريخ البشرية! وتزداد أهمية الكتابة في هذا الموضوع مع ازدياد الهجمة الشرسة الموجَّهة إلى الإسلام والمسلمين، ووصمهم بالجمود والهمجية، وادعاء أن العنف والإرهاب من صميم أخلاقهم وصفاتهم. وحضارتنا. الذي يسيطر على مشاعر المسلمين؛ فلا شكَّ أن متابعة خريطة العالم الإسلامي السياسية تُثير في القلب الكثير من الأحزان، كما أن الحالة العلمية والثقافية والاقتصادية - بل والأخلاقية - تعاني من تخلُّف شديد لا يتناسب مع أمة كريمة كأمة الإسلام، وأن نعرف أسباب سيادتنا وريادتنا؛ وإلى ترميم الصدع، وإلى إعادة المسلمين إلى المسار الصحيح، وهذه الصعوبة تأتي من عِدَّة وجوه؛ منها: اختلاف المفكرين والمؤلفين في تعريف الحضارة، ومنها اتساع الفترة الزمنية التي نحن بصدد تحليلها، وأنتجوا فيها، إنها صعوبات كثيرة جعلت التعديل والتغيير في الكتاب متكرِّرًا جدًّا، حتى خرج في هذه الصورة، وأحسب أنني لو أعدتُ النظر فيه لقلبته رأسًا على عقب! وما تشمله من معانٍ وأُطُر. فالحضارة في تعريف الأوَّلين لم تكن تعني سوى السكنى في الحضر، والحضر عندهم هو عكس البادية، وذلك كما نصَّ عليه ابن منظور مثلاً فقال: الحضارة هي الإقامة في الحضر، والحاضرة خلاف البادية. وغير ذلك، ولكنها تُجَمِّل حياته في الحضر، بمعنى أنها ليست من ضروريات الحياة في هذا التعريف، زيادة تتفاوت بتفاوت الرقة، . ولعلَّ أصل كلمة الحضارة في المصطلحات الأوربية تعود إلى نفس المنطلق؛ حيث إن كلمة الحضارة في الإنجليزية civilization تأتي من الكلمة اللاتينية civis، والتي تعني المدني أو المواطن في المدينةِ، فهي تعني عندهم الذين يسكنون في المدينةِ، ثم تطوَّرت عندهم كما تطوَّرت عند غيرهم لتشمل أحوال الناس في داخل المدينةِ؛ ولذلك كثيرًا ما تترادف عند المفكرين كلمة الحضارة مع كلمة المدنيةِ، مع فروق طفيفة بين المعنيين. لكنَّ هذا الأصل اللغوي لم يُعَبِّر عن آراء المفكرين والفلاسفة بشكل يجتمعون عليه، بل كانت لهم اتجاهات كثيرة متباينة، لا تُعَبِّر فقط عن اختلاف لغوي، بل وعقائدي. فمن المفكرين من نظر إلى الإنسان نفسه، وهو اتجاه جميل لا شكَّ، ويهتم بالفكر والعاطفة معًا، والبحث الروحي. وقيم تصلح لقيادة البشرية». وقبلهما نحا ألكسيس كاريل منحنى مشابهًا، والعلوم الخادمة لسعادة الإنسان النفسية والخلقية والإنسانية)). وتغيُّر مشاعر الإنسان إلى الأفضل) . فهذه كلها تعريفات تدور حول الاهتمام بالإنسان ذاته داخليًّا، ومدى رُقِيِّّ أفكاره وأخلاقه. فهم لا ينظرون إلى داخل الإنسان كأصحاب الرؤية السابقة، إنما ينظرون إلى ما أنتجه هذا الإنسان في مجتمعه، وقد ينظرون إلى إنتاجه بشكل شامل في كل المجالات، أو يهتمون بجانب على حساب جانب آخر؛ لتحسين ظروف حياته، وسواء أكانت الثمرة مادية أو معنوية)(٨). فهو ينظر نظرة شاملة إلى جهد الإنسان وإنتاجه، بينما يُخَصِّص ول ديور انت(٩) الإنتاج البشري في اتجاه الثقافة والفكر، ويجعل بقية العوامل في الحياة مؤدية إلى هذا الإنتاج، ومتابعة العلوم والفنون» وهناك من ينظر نظرة مادية إلى الحضارة، ولا ينظر بذلك إلى داخل الإنسان، ولا ينظر كذلك إلى المعتقدات الفكرية، وهؤلاء أحد صنفين: إمَّا عشاق للمادة، مُغْرِقُون في إنكار المبادئ والقيم كأحد العوامل الرئيسية في تقييم أمة أو مجتمع، وهم يعتبرون الحضارة والمدنية مترادفين، والزراعة والصناعة والاختراع الآلي» . ونيتشة، وترك العِنان لطبيعتنا الحرة السافرة لتفعل ما تشاء، ). إلى أن يقولوا: ((إن الأخلاق ليست إلا اختراع الضعفاء؛ لكي يُقَيِّدوا بها سلطان الأقوياء، أمَّا الصنف الآخر من الماديين، فهم - كما يبدو من كتاباتهم - لم يقصدوا التقليل من شأن الأخلاق، إنما اعتبروا الحضارة لفظًا ماديًّا بحتًا، لا علاقة له بأخلاقيات الإنسان، ويلزم هذا التأنق صناعات كثيرة)). وما يستتبعها من تطور. وعلى هذا - فكما رأينا - هناك تعريفات كثيرة للحضارة، وهذا يعني أن الأمر ليس مُتَّفَقًا عليه بين العلماء والمفكرين، ولعلَّ هذا يرجع إلى أن الكلمة جديدة مستحدثة، ومن ثم فهي تحمل معاني مختلفةً عند كل مُفَكّر، كما يرجع - أيضًا - إلى اختلاف المناهج والأيدلوجيات لكل مدرسة من مدارس الفكر الإنساني، كل هذه التعريفات - المتناقضة أو المتكاملة - تجعل الحديث عن الحضارة أمرًا صعبًا، يحتاج إلى إعمال فكر من كل المشاركين بالبحث فيها. وكذلك البيئة بكل ما فيها من ثروات. زادت الحضارة رقيًّا وتقدُّمّا، صار الإنسان متخلِّفًا منحدرًا. فالحضارة بذلك هي ناتج التفاعل بين الإنسان وربه من ناحية، وبين الإنسان وبقية الناس على اختلاف درجاتهم وصفاتهم من ناحية ثانية، وغير ذلك من الموجودات من ناحية ثالثة. فهي ثلاث علاقات بهذا التعريف وهي مُرَتَّبة من الأعلى للأدنى، وتتفاوت درجة الحضارة من مجتمع إلى آخر بتفاوت طبيعة هذه العلاقات مجتمعة. ومن الواضح من هذا التعريف أن هناك مجتمعات متحضِّرة في جانب، بل قد تكون في قمة التحضُّر في هذا الجانب، بينما تكون مُتَخَلِّفة شديدة التخلُّف في جانب آخر من جوانب الحضارة. ويُطَوِّر الاختراعات، ويُحْسِن استخدام كل ذلك دون أن يتعرَّض لبقية عناصر البيئة بالأذى أو الضرر - هو إنسان متحضر في هذه العلاقة، وهو محور تعامل الإنسان مع البيئة، بينما يمكن أن نجد نفس الإنسان المتحضر يُنْكِر وجود الخالق جلَّ وعلا، أو يُهْمِل التوجُّه إليه والاعتماد عليه، وفق المطلوب من الإنسان لتحقيق العلاقة السوية بينه - كعبد – وبين الإله - كَرَبِّ وخالق - هذا الإنسان بهذه الصورة شديد التخلُّف في هذا الجانب. وهو من ناحية أخرى قد يُحسن إلى أولاده ووالديه وزوجته وجيرانه، لكنه قد يُسيء التعامل مع بيئته، بل إنه قد يكون متحضّرًا في أحد المحاور من شِقٍّ مُعَيَّن، إنسان متحضر، لكنه قد يسيء إلى المجتمعات الأخرى من البشر؛ فلا يتعامل معهم بالعدل الذي يتعامل به أهله، فهو في هذه الحالة متخلِّف، وبقدر ظلمه يكون تخلُّفه، وإن بلغ قمة السموً الإنساني في الاختراع والابتكار. إننا بهذه المقاييس الثلاثة سَنُغَيِّر كثيرًا من حكمنا على المجتمعات التي تحيط بنا؛ وغيرها، واستخدامها لثرواتها، وقد تكون متحضرة في تحقيق بعض جوانب الحقوق للإنسان وللحيوان، ولكنها قد تكون متخلفة في تحقيقها لبعض الضوابط الأخلاقية داخل أو خارج مجتمعاتها، فالذي يُقيم علاقات خارج إطار زواجه، والذي يُهمل والديه، ويُؤَصِّل القمار، ويوقع الظلم على الشعوب الضعيفة، ويستنزف ثروات المساكين لا يمكن أن يكون متحضرًا. ثم إن هذه الشعوب شديدة التخلف بالنظر إلى علاقتها بربها، ولا يمكن بحال أن يكون المُنكِر لفكرة الإله متحضرًا، مع وجود كل الشواهد البَيِّنَة على وجوده وقدرته وإعجازه، ولا يمكن لمن قَبِلَ أن يسجد لبشر أو لحجر أو لبقر أن يكون متحضرًا. وغير ذلك، ولكن هذا جانب من عدَّة جوانب تُؤْخَذ في الاعتبار. وبهذه المقاييس فإنني أستطيع أن أقول - وبلا تحيز أو محاباة-: إن الحضارة الإسلامية هي الحضارة الوحيدة في الكون التي حَقَّقَت التفوق في العلاقات الثلاث؛ وتفهم كيف تعبده حقَّ العبادة، وهي التي جعلت إتمام الأخلاق أجلَّ مهامها بعد عبادة اللّٰه تعالى، وتعاملتْ بهذا الخُلق الحسن مع كامل أبناء أُمَّتها من القريب والبعيد، ثم تجاوزت ذلك إلى التعامل الحسن مع كل المخالفين والمعارضين، مما يعني أن المسلمين حتى في حال حربهم، وشدة اختلافهم مع الآخرين يحترمون الضوابط الأخلاقية، ويتعاملون بالتحضُّر اللائق بهم كمسلمين، والحضارة الإسلامية هي التي شَهِدَتْ دخول امرأة النار في هِرَّة حبستها )، وهي التي شَهِدَتْ كذلك دخول الجنة لرجل سقى كلبًا، وفي رواية لبغي سقت كلبًا، وغيرها من العلوم. ومن هنا نفهم قول اللّٰه تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)، فهذا ليس أمرًا عارضًا لا أساس له، ثم إننا الوحيدون الذين نعرف الضوابط السليمة، فمعظم البشر يعبدون ما يعبدون، والمقياس الصحيح للعبادة عند المسلمين فقط، وكثير من البشر يتعاملون بأُطُر أخلاقية مُعَيَّنة، ولكن قد يختلفون في تحديد هذه الأخلاق وقياسها، قد يُعْتَبر ظلمًا في مجتمع آخر، وما يراه البعض قمة الرحمة، قد يكون في عين الآخرين قمة القسوة، حيث الشريعة التي حفظها اللّٰه للعالمين. وهذا الكلام يعني أن صلاحية الحكم على المجمعات المختلفة من حيث التحضر أو التخلف قد أُعْطِيَتْ لأمة الإسلام بالمنهج الذي أنزله اللّٰه عليها، وهذا المعنى تحديدًا هو ما نفهمه من قول اللّٰه مالى: (وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) ، فنحن نشهد أن المجتمع الروماني قد تحضَّر في كذا وتخلَّف في كذا، ونشهد كذلك على المجتمع الفارسي أو الهندي أو الصيني، ونشهد - أيضًا - على المجتمعات الأوربية والأمريكية الحديثة، ونشهد - كذلك - على المجتمعات التي ستأتي إلى يوم القيامة، وكذلك من الرسول الأكرم في السُّنَّة المطهرة، وهو ما نفهمه من الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري ، أَيْ رَبِّ. فَنَشْهَدُ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ، إنما نتحدَّث عن ((الحضارة النموذج)، التي ينبغي لكل المجتمعات أن تقيس نفسها عليها، وهو ما سندركه حتمًا عند قراءة صفحات هذا الكتاب، وفتحت بعض الأبواب؛ بحر الحضارة الإسلامية. وفيهما جاءت القوانين والتشريعات الدقيقة، التي تكفل قيام حضارة سوية راقية في كل المجالات، حتى المجالات المادية - بل والترفيهية - كانت موجودة في هذا التشريع المحكم؛ ومؤسسي أعرق حضارات الدنيا، وهو ما انتبه إليه الفاروق عمر، فأعَزَّنا اللّٰه بالإسلام، وهو: إذا كنا قد وصلنا إلى هذه الحالة الباهرة من التقدُّم والرقي، وتخلف؟! وأهملوا لقرآن والسُّنَّة، بل وأكثر من ذلك، وعن وسائل النهضة، والاعتزاز به، لا من باب الكبر والخيلاء، ولكن من باب اليقين بما في أيدينا، والشفقة على من حولنا؛ حيث إن البشر قد يتَّجِهون إلى كارثة - بل إلى كوارث - وهم لا يشعرون، ولا نجاة حينئذ إلا في حضارة المسلمين، ولعلَّ هذا المعنى كان واضحًا جدًّا في كلمات جوستاف لوبون، وإن جامعات الغرب لم تعرف لها موردًا علميًّا سوى مؤلفات العرب؛ فهم لذين مَدَّنُوا أوربا مادةً وعقلاً وأخلاقًا، والدراسة المتعمقة لهذا الكتاب، أما الإجابة عليه فأجعلها في آخر الكتاب،


Original text

مقدمة
الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وصلاة اللّٰه وسلامه على النبي المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
وبعد؛ من أكثر الموضوعات التي كنت -وما زلتُ - متحمسًا للكتابة عنها موضوع الحضارة الإسلامية، فإن الذي يريد أن يفهم مسيرة الإنسانية، لن يستطيع أن يُدرك ذلك بغير الاطلاع والتعمُّق في دراسة هذه الحضارة الراقية، ليس لأنها تمثل حلقة مهمة من حلقات التاريخ فقط، وليس لمجرَّد أنها ربطت الحضارات القديمة بالحضارات الحديثة؛ ولكن لأن إسهامات المسلمين في مسيرة الإنسانية من الكثرة والأهمية بمكان، بحيث إننا لا يمكن أن نستوعب ما وصلت إليه البشرية من تَقَدُّم في أي مجال من مجالات الحياة إلا بدراسة الحضارة الإسلامية، وبكل خصائصها ودقائقها، منذ عهد النبوة وإلى زماننا الآن.
إنها فترة باهرة حقًّا في تاريخ البشرية!
وتزداد أهمية الكتابة في هذا الموضوع مع ازدياد الهجمة الشرسة الموجَّهة إلى الإسلام والمسلمين، ومن بنود هذه الهجمة وآلياتها اتهام المسلمين بالتخلُّف والرجعية، ووصمهم بالجمود والهمجية، وادعاء أن العنف والإرهاب من صميم أخلاقهم وصفاتهم.. ويقف كثير من المسلمين أمام هذه الاتهامات مكتوفي الأيدي، معقودي اللسان، لا يستطيعون الردَّ بما يُقنع، أو الدفاع بما يُلجم، وهذا السكوت - في معظمه - بسبب جهلنا الشديد بأصولنا وتاريخنا، ومناهجنا، وحضارتنا.
وفوق الجهل الذي يُكَبِّل عقولنا هناك الإحباط واليأس، الذي يسيطر على مشاعر المسلمين؛ نتيجة عوامل شتى تمرُّ بها الأمة في زماننا الراهن، فلا شكَّ أن متابعة خريطة العالم الإسلامي السياسية تُثير في القلب الكثير من الأحزان، كما أن الحالة العلمية والثقافية والاقتصادية - بل والأخلاقية - تعاني من تخلُّف شديد لا يتناسب مع أمة كريمة كأمة الإسلام، وهذا يترك في النفس آثارًا سلبية تدفعها إلى قنوط غير مقبول، وفتور لا يليق.
في هذه الظروف يتحتَّم علينا أن نعود إلى أصولنا، وأن نقرأ تاريخنا، وأن نعرف أسباب سيادتنا وريادتنا؛ فإنه لن ينصلحٍ حال آخِرِ هذه الأمة إلا بها صلح به أَوَّلها؛ ولهذا فإننا لا ندرس هذا التاريخ، ولا نتفقّه في هذه الحضارة لمجرَّد المعرفة النظرية، أو للاستخدام في المناظرات الأكاديمية، إنما نهدف إلى إعادة البناء، وإلى ترميم الصدع، وإلى إعادة المسلمين إلى المسار الصحيح، كما نهدف إلى تعريف العالم بدورنا في مسيرة الإنسانية، وبفضلنا في حياة البشرية، ليس من قبيل المنِّ والكبر، وإنما إسناد الحق لأهله، وكذلك الدعوة إلى خير دين بَنَى خير أمة أُخْرِجت للناس.
ومع كون الموضوع شيقًا جدًّا، وعلى الرغم من حماستي للكتابة فيه، إلا أنني لا أُخْفِي على القارئ الحبيب أن الكتابة في هذا الموضوع كانت صعبة للغاية!
وهذه الصعوبة تأتي من عِدَّة وجوه؛ منها: اختلاف المفكرين والمؤلفين في تعريف الحضارة، ومنها سعة الإسهامات الإسلامية في عشرات بل مئات المجالات الإنسانية، ومنها اتساع الفترة الزمنية التي نحن بصدد تحليلها، فنحن نتكلَّم عن جهود أربعة عشر قرنّا من الزمان ويزيد، ومنها أننا نتحدَّث عن بقاع كثيرة حكمها المسلمون، وأنتجوا فيها، من الأندلس غربًا إلى الصين شرقًا.. إنها صعوبات كثيرة جعلت التعديل والتغيير في الكتاب متكرِّرًا جدًّا، وكلما وَضَعْتُ خطة لتنظيم أبواب الكتاب وفصوله غَيَّرْتُها إلى أخرى، حتى خرج في هذه الصورة، وأحسب أنني لو أعدتُ النظر فيه لقلبته رأسًا على عقب!
ولعلّ من أكثر الأمور صعوبة في هذا الموضوع هو الاختلاف البيِّن بين المفكرين حول تعريف الحضارة، وما تشمله من معانٍ وأُطُر.. فالحضارة في تعريف الأوَّلين لم تكن تعني سوى السكنى في الحضر، والحضر عندهم هو عكس البادية، وذلك كما نصَّ عليه ابن منظور مثلاً فقال: الحضارة هي الإقامة في الحضر، والحاضرة خلاف البادية.
لكنْ تَطَوَّرَ المعنى بعد ذلك ليشمل ما تستلزمه حياة الإنسان في الحضر من تطوُّر في الصناعة، والعلوم، والفنون، والقوانين، وغير ذلك، وهي أمور قد يعيش الإنسان بدونها في البادية، ولكنها تُجَمِّل حياته في الحضر، بمعنى أنها ليست من ضروريات الحياة في هذا التعريف، وهذا ما جعل ابن خلدون يُعَرِّف الحضارة بأنها: ((أحوال عادية زائدة على الضروري من أحوال العمران، زيادة تتفاوت بتفاوت الرقة، وتفاوت الأمم في القلَّة والكثرة تفاوتًا غير منحصر.).
ولعلَّ أصل كلمة الحضارة في المصطلحات الأوربية تعود إلى نفس المنطلق؛ حيث إن كلمة الحضارة في الإنجليزية civilization تأتي من الكلمة اللاتينية civis، والتي تعني المدني أو المواطن في المدينةِ، فهي تعني عندهم الذين يسكنون في المدينةِ، ثم تطوَّرت عندهم كما تطوَّرت عند غيرهم لتشمل أحوال الناس في داخل المدينةِ؛ ولذلك كثيرًا ما تترادف عند المفكرين كلمة الحضارة مع كلمة المدنيةِ، مع فروق طفيفة بين المعنيين.
لكنَّ هذا الأصل اللغوي لم يُعَبِّر عن آراء المفكرين والفلاسفة بشكل يجتمعون عليه، بل كانت لهم اتجاهات كثيرة متباينة، لا تُعَبِّر فقط عن اختلاف لغوي، وإنما تُعَبِر عن اختلاف فكري، ومنهجي، وأخلاقي، بل وعقائدي.
فمن المفكرين من نظر إلى الإنسان نفسه، واعتبر أن رُقِيَّ الإنسان في سلوكه وأخلاقه ومعاملاته هو الحضارة، وهو اتجاه جميل لا شكَّ، يُقَدِّر قيمة الإنسان ويرفعه فوق المادة، ويهتم بالفكر والعاطفة معًا، ومن هؤلاء على سبيل المثال مالك بن نبي الذي يُعَرِّف الحضارة بقوله: ((هي البحث الفكري، والبحث الروحي. وكذلك يُرَكِّز سيد قطب على هذا المعنى بقوله: ((الحضارة هي ما تعطيه للبشرية من تصورات، ومفاهيم، ومبادئ، وقيم تصلح لقيادة البشرية». وقبلهما نحا ألكسيس كاريل منحنى مشابهًا، فَعَرَّف الحضارة بأنها: ((الأبحاث العقلية والروحية، والعلوم الخادمة لسعادة الإنسان النفسية والخلقية والإنسانية)). وقريبًا من هذا يقول جوستاف لوبون: «الحضارة هي نضوج الآراء والمبادئ والمعتقدات، وتغيُّر مشاعر الإنسان إلى الأفضل) . فهذه كلها تعريفات تدور حول الاهتمام بالإنسان ذاته داخليًّا، ومدى رُقِيِّّ أفكاره وأخلاقه.
ومن المفكرين مَنْ يعتبر الحضارة هي الإنتاج الذي يُقَدِّمه البشر لخدمة الإنسان، فهم لا ينظرون إلى داخل الإنسان كأصحاب الرؤية السابقة، إنما ينظرون إلى ما أنتجه هذا الإنسان في مجتمعه، وقد ينظرون إلى إنتاجه بشكل شامل في كل المجالات، أو يهتمون بجانب على حساب جانب آخر؛ فالدكتور حسين مؤنس- مثلاً - يرى أن الحضارة ((هي ثمرة كل جهد يقوم به الإنسان؛ لتحسين ظروف حياته، سواء أكان المجهود المبذول للوصول إلى تلك الثمرة مقصودًا أم غير مقصود، وسواء أكانت الثمرة مادية أو معنوية)(٨). فهو ينظر نظرة شاملة إلى جهد الإنسان وإنتاجه، بينما يُخَصِّص ول ديور انت(٩) الإنتاج البشري في اتجاه الثقافة والفكر، ويجعل بقية العوامل في الحياة مؤدية إلى هذا الإنتاج، فيقول: ((الحضارة هي نظام اجتماعي يُعين الإنسان على زيادة إنتاجه الثقافي بعناصر أربعة: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والعقائد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون»
وهناك من ينظر نظرة مادية إلى الحضارة، ويعتبرها من الأمور الترفيهية التي تؤدي إلى راحة الإنسان وسهولة حياته، ولا ينظر بذلك إلى داخل الإنسان، ولا ينظر كذلك إلى المعتقدات الفكرية، ولا إلى الأخلاق والمبادئ، وهؤلاء أحد صنفين: إمَّا عشاق للمادة، مُغْرِقُون في إنكار المبادئ والقيم كأحد العوامل الرئيسية في تقييم أمة أو مجتمع، وهؤلاء هم معظم اللادينيين بمن فيهم من الشيوعيين والرأسماليين، وهم يعتبرون الحضارة والمدنية مترادفين، وينقل عنهم الدكتور أحمد شلبي (٢) تعريفهم للمدنية على أنها: ((هي الرقي في العلوم العلمية والتجريبية؛ كالطبِّ، والهندسة، والكيمياء، والزراعة والصناعة والاختراع الآلي» .
ومن هذا الصنف من يُغرق في التمادي في إنكار الأخلاق؛ مثل: كليسكليس، ونيتشة، وغيرهم من الفلاسفة الذين يقولون: ((الحضارة هي القضاء على العدل والأخلاق، وترك العِنان لطبيعتنا الحرة السافرة لتفعل ما تشاء، ولو أدَّى ذلك إلى أن تسير على الجماجم...)). إلى أن يقولوا: ((إن الأخلاق ليست إلا اختراع الضعفاء؛ لكي يُقَيِّدوا بها سلطان الأقوياء، فلنكن حربًا على الأخلاق!»).
أمَّا الصنف الآخر من الماديين، فهم - كما يبدو من كتاباتهم - لم يقصدوا التقليل من شأن الأخلاق، إنما اعتبروا الحضارة لفظًا ماديًّا بحتًا، لا علاقة له بأخلاقيات الإنسان، وهذا يبدو واضحًا في كلمات ابن خلدون - مثلاً - حيث يقول: ((الحضارة هي التفنُّن في الترف، واستجادة أحواله، والكلف بالصنائع التي تُؤَنَّق من أصناف وسائر فنونه، من الصنائع المهيَّأة للمطابخ أو الملابس، أو المباني، أو الفرش، أو الأواني، ولسائر أحوال المنزل، ويلزم هذا التأنق صناعات كثيرة)).
ولا ريب أن ابن خلدون لا يقصد استبعاد الأخلاق والقيم من الحضارة؛ حيث إنه يُثبت لها دورًا أكيدًا في بناء الأمم، ولكن كما ذكرتُ فإنه كان يعتبر لفظة «الحضارة» لفظة مجرَّدة تصف الحياة في الحضر، وما يستتبعها من تطور.
وعلى هذا - فكما رأينا - هناك تعريفات كثيرة للحضارة، وهذا يعني أن الأمر ليس مُتَّفَقًا عليه بين العلماء والمفكرين، ولعلَّ هذا يرجع إلى أن الكلمة جديدة مستحدثة، ومن ثم فهي تحمل معاني مختلفةً عند كل مُفَكّر، كما يرجع - أيضًا - إلى اختلاف المناهج والأيدلوجيات لكل مدرسة من مدارس الفكر الإنساني، كل هذه التعريفات - المتناقضة أو المتكاملة - تجعل الحديث عن الحضارة أمرًا صعبًا، يحتاج إلى إعمال فكر من كل المشاركين بالبحث فيها.
أمَّا أنا فأرى أن: الحضارة هي قدرة الإنسان على إقامة علاقة سوية مع ربه، والبشرِ الذين يعيش معهم، وكذلك البيئة بكل ما فيها من ثروات.
وأرى أنه كلما ازدادت هذه العلاقة سموًّا، زادت الحضارة رقيًّا وتقدُّمّا، وكلما قَلَّتْ هذه العلاقة وضعفت، صار الإنسان متخلِّفًا منحدرًا.
فالحضارة بذلك هي ناتج التفاعل بين الإنسان وربه من ناحية، وبين الإنسان وبقية الناس على اختلاف درجاتهم وصفاتهم من ناحية ثانية، وأخيرًا بين الإنسان والبيئة بما فيها من مخلوقات كالحيوانات، والطيور، والأسماك، وكذلك من أشجار وأراضٍ ومعادن وكنوز، وغير ذلك من الموجودات من ناحية ثالثة.
فهي ثلاث علاقات بهذا التعريف
وقمة الحضارة أن يستطيع الإنسان إقامة أفضل علاقة على المحاور الثلاثة، وقمة التخلُّف أن يفشل فيها جميعًا، وهي مُرَتَّبة من الأعلى للأدنى، وتتفاوت درجة الحضارة من مجتمع إلى آخر بتفاوت طبيعة هذه العلاقات مجتمعة.
ومن الواضح من هذا التعريف أن هناك مجتمعات متحضِّرة في جانب، بل قد تكون في قمة التحضُّر في هذا الجانب، بينما تكون مُتَخَلِّفة شديدة التخلُّف في جانب آخر من جوانب الحضارة.
فالإنسان الذي يستطيع أن يُسَخِّر المادة حوله لتُحَقِّق له الراحة، وتضمن له السعادة، فيبتكر الآلة، ويخترع الأجهزة، ويُطَوِّر الاختراعات، ويُحْسِن استخدام كل ذلك دون أن يتعرَّض لبقية عناصر البيئة بالأذى أو الضرر - هو إنسان متحضر في هذه العلاقة، وهي علاقة في المحور الثالث كما ذكرتُ في التعريف، وهو محور تعامل الإنسان مع البيئة، بينما يمكن أن نجد نفس الإنسان المتحضر يُنْكِر وجود الخالق جلَّ وعلا، أو يُهْمِل التوجُّه إليه والاعتماد عليه، وفق المطلوب من الإنسان لتحقيق العلاقة السوية بينه - كعبد – وبين الإله - كَرَبِّ وخالق - هذا الإنسان بهذه الصورة شديد التخلُّف في هذا الجانب.
وهو من ناحية أخرى قد يُحسن إلى أولاده ووالديه وزوجته وجيرانه، ويتعامل معهم في داخل إطار الأخلاق الرفيعة، والقيم النبيلة، فهو إنسان متحضر في هذا المجال، لكنه قد يُسيء التعامل مع بيئته، فلا يكترث بالطيور أو الأسماك؛ فيُدَمِّر، ويُؤذي، ويُصيب ويتجاوز، فيُصبح متخلِّفًا في هذا المجال، وهكذا.
بل إنه قد يكون متحضّرًا في أحد المحاور من شِقٍّ مُعَيَّن، ومتخلِّفًا في نفس المحور من شقَّ آخر! فالإنسان الذي يُحسن العلاقة مع رحمه، ومجتمعه، وأُمَّته، إنسان متحضر، لكنه قد يسيء إلى المجتمعات الأخرى من البشر؛ فلا يتعامل معهم بالعدل الذي يتعامل به أهله، ولا يتواصل معهم بالرحمة التي يتواصل بها مع أُمَّته، فهو في هذه الحالة متخلِّف، وبقدر ظلمه يكون تخلُّفه، وبقدر فساده تكون رجعيَّته.
والإنسان الذي يخترع سلاحًا متطوِّرًا يكون متحضرًا إذا استخدمه في الدفاع عن نفسه، وفي إقرار الحق والعدل، وفي تحقيق الحرية والخير، أمَّا إذا استخدم هذا السلاح المتطوِّر في الظلم والبغي، فهو إنسان متخلف، وإن بلغ قمة السموً الإنساني في الاختراع والابتكار.
إننا بهذه المقاييس الثلاثة سَنُغَيِّر كثيرًا من حكمنا على المجتمعات التي تحيط بنا؛ فالدول التي يُطلق عليها اليوم الدول المتحضرة؛ مثل: أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا، وغيرها، قد تكون متحضرة فعلاً في تطويرها للبيئة، واستخدامها لثرواتها، وقد تكون متحضرة في تحقيق بعض جوانب الحقوق للإنسان وللحيوان، ولكنها قد تكون متخلفة في تحقيقها لبعض الضوابط الأخلاقية داخل أو خارج مجتمعاتها، فالذي يُقيم علاقات خارج إطار زواجه، وينتج عنها فساد كبير في المجتمع، وإباحية، واختلاط أنساب، وضياع الأولاد، لا يمكن أن يكون متحضرًا، والذي يُهمل والديه، ويقطع أرحامه لا يمكن أن يكون متحضرًا، والذي يشرب الخمر، ويتعامل بالربا، ويتعاطى المخدرات، ويُؤَصِّل القمار، ويُقَنِّن الدعارة لا يمكن أن يكون متحضرًا، والذي يكيل بمكيالين، ويوقع الظلم على الشعوب الضعيفة، ويستنزف ثروات المساكين لا يمكن أن يكون متحضرًا..
ثم إن هذه الشعوب شديدة التخلف بالنظر إلى علاقتها بربها، ولا يمكن بحال أن يكون المُنكِر لفكرة الإله متحضرًا، مع وجود كل الشواهد البَيِّنَة على وجوده وقدرته وإعجازه، ولا يمكن لمن قَبِلَ أن يسجد لبشر أو لحجر أو لبقر أن يكون متحضرًا.. وليس معنى هذا أننا نُنكر عليهم تحضُّرَهم في جوانب أخرى من الحياة؛ كابتكار النظم النافعة، والآلات المفيدة، وغير ذلك، ولكن هذا جانب من عدَّة جوانب تُؤْخَذ في الاعتبار.
وبهذه المقاييس فإنني أستطيع أن أقول - وبلا تحيز أو محاباة-: إن الحضارة الإسلامية هي الحضارة الوحيدة في الكون التي حَقَّقَت التفوق في العلاقات الثلاث؛ فهي التي تمتلك تصوُّرًا صحيحًا عن الخالق، وتفهم كيف تعبده حقَّ العبادة، وهي التي جعلت إتمام الأخلاق أجلَّ مهامها بعد عبادة اللّٰه تعالى، وتعاملتْ بهذا الخُلق الحسن مع كامل أبناء أُمَّتها من القريب والبعيد، ثم تجاوزت ذلك إلى التعامل الحسن مع كل المخالفين والمعارضين، بل إنها أَوَّل من أدخل تعبير (أخلاق الحروب)) إلى الإنسانية؛ مما يعني أن المسلمين حتى في حال حربهم، وشدة اختلافهم مع الآخرين يحترمون الضوابط الأخلاقية، ويتعاملون بالتحضُّر اللائق بهم كمسلمين، والحضارة الإسلامية هي التي شَهِدَتْ دخول امرأة النار في هِرَّة حبستها )، وهي التي شَهِدَتْ كذلك دخول الجنة لرجل سقى كلبًا، وفي رواية لبغي سقت كلبًا، وهي الحضارة التي أسهمت إسهامًا مباشرًا في تَقَدُّم العديد من العلوم الحياتية؛ كالطب، والهندسة، والفلك، والكيمياء، والفيزياء، والجغرافيا، وغيرها من العلوم.
إن الحضارة الإسلامية بهذا المنظور هي الحضارة الوحيدة التي بلغت قمة الرقي في كل الجوانب، وغيرها من الحضارات منقوصٌ؛ إمَّا في جانبٍ، وإمَّا في جوانب، ومن هنا نفهم قول اللّٰه تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)، فهذا ليس أمرًا عارضًا لا أساس له، بل لأننا بالمنهج الإسلامي الحكيم وصلنا إلى هذه الحالة المتطورة المتحضرة، التي أسعدت المسلمين وغير المسلمين، واستفاد منها أهل الأرض جميعًا؛ فصرنا بذلك خير الأمم.
ثم إننا الوحيدون الذين نعرف الضوابط السليمة، التي نحكم بها على تطور أحد العوامل أو تخلفه، فمعظم البشر يعبدون ما يعبدون، والمقياس الصحيح للعبادة عند المسلمين فقط، وكثير من البشر يتعاملون بأُطُر أخلاقية مُعَيَّنة، ولكن قد يختلفون في تحديد هذه الأخلاق وقياسها، فما يُسَمَّى عدلاً في أحد المجتمعات، قد يُعْتَبر ظلمًا في مجتمع آخر، وما يراه البعض قمة الرحمة، قد يكون في عين الآخرين قمة القسوة، والمقياس الصحيح لذلك لا تجده إلا في الإسلام؛ حيث الشريعة التي حفظها اللّٰه للعالمين.
وهذا الكلام يعني أن صلاحية الحكم على المجمعات المختلفة من حيث التحضر أو التخلف قد أُعْطِيَتْ لأمة الإسلام بالمنهج الذي أنزله اللّٰه عليها، وهذا المعنى تحديدًا هو ما نفهمه من قول اللّٰه مالى: (وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) ، فنحن نشهد أن المجتمع الروماني قد تحضَّر في كذا وتخلَّف في كذا، ونشهد كذلك على المجتمع الفارسي أو الهندي أو الصيني، ونشهد - أيضًا - على المجتمعات الأوربية والأمريكية الحديثة، ونشهد - كذلك - على المجتمعات التي ستأتي إلى يوم القيامة، بل إننا - وهذا من عجيب الأمور - نشهد على المجتمعات التي سبقت أمة الإسلام! وهذه المجتمعات- وإن لم نرها رأي العين - الا أننا عرفنا أخبارها من رب العزة في القران الكريم، وكذلك من الرسول الأكرم في السُّنَّة المطهرة، وهو ما نفهمه من الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري ، وقال فيه: قال رسول الله (يجِيءُ نُوحٌ وَأُمَّتُهُ، فَيَقُولُ اللّٰهُ تَعَالَى: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نعمْ، أَيْ رَبِّ. فَيَقُولُ لأُمّتِهِ: هَلْ بَلَّغكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: لا، مَا جَاءَنَا مِنْ نَبِيٍّ. فَيَقُولُ لِنُوحٍ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ صل الله عليه وسلم وَأُمَّتُهُ. فَنَشْهَدُ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ، وَهُوَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُه: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًّا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ).
إننا إذن في هذا الكتاب لا نتحدَّث عن حضارة عادية لها مثيلات أو أشباه، إنما نتحدَّث عن ((الحضارة النموذج)، التي ينبغي لكل المجتمعات أن تقيس نفسها عليها، وهو ما سندركه حتمًا عند قراءة صفحات هذا الكتاب، الذي لم أحرص فيه على الحصر - فهذا مستحيل - وإنما ذكرت بعض المداخل فقط، وفتحت بعض الأبواب؛ لكي نلج منها إلى البحر الذي لا ساحل له، بحر الحضارة الإسلامية.
ولعله من الواضح تمامًا في قصة الحضارة الإسلامية أن السرَّ الأكبر في تفوُّقها ونجاحها كان الارتباط الوثيق بكتاب اللّٰه وسُنَّة الرسول صل الله عليه وسلم حيث إن هذين المصدرين هما اللذان دفعا في اتجاه تقوية العلاقة بين المسلم وبين ربه ومجتمعه وبيئته، وفيهما جاءت القوانين والتشريعات الدقيقة، التي تكفل قيام حضارة سوية راقية في كل المجالات، حتى المجالات المادية - بل والترفيهية - كانت موجودة في هذا التشريع المحكم؛ فتاريخ العرب قبل الإسلام لا يشير بأي صورة من الصور أنهم سيصبحون قادة العالم، ومؤسسي أعرق حضارات الدنيا، ولا يوجد أي مبرّر منطقي لتفوقهم وإبداعهم إلا تمسُّكهم بالإسلام وقواعده، وهو ما انتبه إليه الفاروق عمر، فقال: ((إنَّا كنا أذل قوم، فأعَزَّنا اللّٰه بالإسلام، فمهما نطلب العزَّ بغير ما أعزنا اللّٰه به أذلنا الله». ومن هنا نستطيع أن نُجِيب عن السؤال الذي سيتردَّد في أذهان جميع من يقرأ هذا الكتاب، وهو:
إذا كنا قد وصلنا إلى هذه الحالة الباهرة من التقدُّم والرقي، فلماذا وصلنا إلى وضعنا الآن، بكل ما فيه من أزمات، ومشاكل، وانحدار، وتخلف؟!
والإجابة الواضحة عن هذا السؤال هو أن المسلمين تركوا أسباب قوتهم، وأهملوا لقرآن والسُّنَّة، بكل ما فيهما من قوانين مُحُكَمة، وتشريعات خالدة، بل وأكثر من ذلك، لقد فُتِنَ المسلمون بالغرب فتنةً جعلتهم يبحثون في الحضارة الغربية عن أسباب القوة، وعن وسائل النهضة، وما أدركوا أنها وإن علت في مجال فقد سقطت في مجالات أخرى كثيرة، وأنها في النهاية نتاج بشر يُصيبون ويخطئون، أمَّا الإسلام فهو شرع مُحُكَم، لا باطل فيه ولا أخطاء.
إننا يجب أن نثق بديننا وشرعنا ثقة عملية تدفعنا إلى الافتخار بالإسلام، والاعتزاز به، وتدفعنا كذلك إلى التسامي على حضارات البشر، لا من باب الكبر والخيلاء، ولكن من باب اليقين بما في أيدينا، والشفقة على من حولنا؛ حيث إن البشر قد يتَّجِهون إلى كارثة - بل إلى كوارث - وهم لا يشعرون، ولا نجاة حينئذ إلا في حضارة المسلمين، ولعلَّ هذا المعنى كان واضحًا جدًّا في كلمات جوستاف لوبون، وهو يُذْلِي بشهادته عن الحضارة الإسلامية، فيقول: (إن حضارة العرب المسلمين قد أدخلت الأمم الأوربية الوحشية في عالم الإنسانية، وإن جامعات الغرب لم تعرف لها موردًا علميًّا سوى مؤلفات العرب؛ فهم لذين مَدَّنُوا أوربا مادةً وعقلاً وأخلاقًا، والتاريخ لا يعرف أُمَّة أنتجت ما أنتجوه.
والسؤال الذي يجب أن يشغلنا بعد الاطلاع الدقيق، والدراسة المتعمقة لهذا الكتاب، هو: ماذا علينا أن نفعل بعد أن قرأنا هذه الصفحات، وفقهنا هذا الجهد المبارك، الذي بذله سلفنا الصالح في كل هذه المحاور والمجالات؟!
إنه سؤال مهم، بل في غاية الأهمية، ولعلَّ الإجابة عنه هي أول الطريق لعودتنا إلى مكانتنا التي أرادها اللّٰه لنا.
أما الإجابة عليه فأجعلها في آخر الكتاب، بعد أن تكونوا قد استمتعتم برحلتكم في أعماق التاريخ الإسلامي!
فإلى صفحات الكتاب، والله الموفق إلى سواء الصراط.


Summarize English and Arabic text online

Summarize text automatically

Summarize English and Arabic text using the statistical algorithm and sorting sentences based on its importance

Download Summary

You can download the summary result with one of any available formats such as PDF,DOCX and TXT

Permanent URL

ٌYou can share the summary link easily, we keep the summary on the website for future reference,except for private summaries.

Other Features

We are working on adding new features to make summarization more easy and accurate


Latest summaries

اسمي كامل عمري ...

اسمي كامل عمري 13 سنه اعيش بالرامه انا ثصتي اني انولدت في الرامه وبره حياتي كثير اكره كوني من اسائيل...

ولد عبد الرحمن ...

ولد عبد الرحمن بن خلدون في تونس 1332 ميلادي توفي بالقاهره سنه 1406 ميلادي ينتمي الى عائله اندلسيه جا...

الصدقات، والهبا...

الصدقات، والهبات، والأوقاف والتبرعات . - العوائد الاستثمارية من أموال الجمعية . ه - ما يقرر لها من...

المقدمة تُعدّ ...

المقدمة تُعدّ أسطورة الكهف عند أفلاطون من أكثر الرموز الفلسفية عمقًا وتأثيرًا في الفكر الإنساني، إذ...

يقصد به التراجع...

يقصد به التراجع العالم الاسلامي لسبب تطور العالم الاوروبي وتاخر الامه الاسلاميه في مجله العلميه والس...

الفصل التاسع ا...

الفصل التاسع الرؤية الصهيونية / الإسرائيلية للصراع وللحكم الذاتي الإستيطانية الصهيونية تعبر عن نف...

الفصل المرن يعت...

الفصل المرن يعتبر هذا النوع سلطات الدولة مقسمة إلى ثلاثة هيئات، لكل واحدة وظيفة متميزة إلا أن هذا لا...

فالتزكية تخلية ...

فالتزكية تخلية وتحلية نماذج من القيم الإنسانية: قيمة التزكية 186 تخلية للقلب من الحقد والحسد والكب...

النص يوضح الفرق...

النص يوضح الفرق بين المتغيرات المستمرة والمتغيرات المنفصلة باستخدام مثال طول الطلاب في مدرسة معينة. ...

أظهرت الدراسات ...

أظهرت الدراسات النقدية أن الوظيفة الرمزية التي يتناولها الشاعر المعاصر تتجلى في الصراع بين وجوده وعا...

The translated ...

The translated answer in English: The text explains that children do not learn language through dir...

When scientists...

When scientists say the genetic code is “universal,” they mean that almost all living organisms use ...