Lakhasly

Online English Summarizer tool, free and accurate!

Summarize result (100%)

(Using the AI)

باب السلو: يُناقش هذا الفصل زوال متع الدنيا، وأن عاقبة الحب إما منية أو سلوٌّ (نسیان أو صبر). يُعرّف السلوّ بأنواعه: طبيعي (نسيان) قد يكون مذموماً لكونه ناتجاً عن أخلاق سيئة، أو معذوراً لعذرٍ صحيح، وتطبعي (صبر) وهو غير مذموم؛ لأنه ناتج عن سببٍ عظيم أو خطبٍ لا مرد له. يُورد الشاعر قصائد تصف حال المتصبر والناسي. ينقسم السلوّ لأسباب من المحب (ملل، استبدال، حياء) ومن المحبوب (هجر، نفار، جفاء، غدر)، وسبب من الله (اليأس). يُفصّل الكاتب كل سبب، مُميّزاً بين مذموم ومعذور. يُذكر أن الناسي ملوم في هجر المحبوب الدائم، بينما المتصبر معذور. يُبيّن الكاتب تجربته الشخصية مع حبيبته، ووصفها، وصعوبة الوصول إليها، ومراحل تطور علاقتهما، حتى نسيانها. يُذكر أسباب نسيانه لها: التغيّر في حالها، والظروف الصعبة التي مرت به، وانشغاله بالفتنة. يُضيف الكاتب قصائد أخرى تصف مشاعره، ويختم ببيان طبيعته المتناقضة بين الوفاء وعزة النفس، وكيف أنه يصبر رغم آلامه. يُورد قصة رجل آخر كمثال على صبره على خيانة صديقه. يُختم الفصل بذكر ثمانية أسباب للسلو، ثلاثة من المحب، وأربعة من المحبوب، وواحد من الله تعالى. يُؤكد الكاتب على أن المتصبر في اليأس معذور.


Original text

باب السلو


وقد علمنا أن كل ما له أول فلا بد له من آخر، حاشا نعيم الله عز وجل، الجنة لأوليائه وعذابه بالنار لأعدائه. وأما أعراض الدنيا فنافدة فانية، وزائلة مضمحلة، وعاقبة كل حب إلى أحد أمرين: إما اخترام منية، وإما سلو حادث. وقد نجد النفس تغلب عليها بعض القوى المصرفة معها في الجسد، فكما نجد نفسًا ترفض الراحات والملاذ للعمل في طاعة الله تعالى وللرياء في الدنيا، حتى تشتهر بالزهد، فكذلك نجد نفسا تنصرف عن الرغبة في لقاء شكلها للأنفة المستحكمة المنافرة للغدر، أو استمرار سوء المكافأة في الضمير. وهذا أصح السلو، وما كان من غير هذين الشيئين فليس إلا مذموما. والسلو المتولد من الهجر وطوله إنما هو كاليأس يدخل على النفس من بلوغها إلى أملها، فيفتر نزاعها ولا تقوى رغبتها. ولي في ذم السلو قصيدة، منها:


إِذَا مَا رَنَتْ فَالحَيُّ مَيْتٌ بِلَحْظِهَا كَأَنَّ الهَوَى ضَيْفٌ أَلَمَّ بِمُهْجَتِي


وَإِنْ نَطَقَتْ قُلْت السَّلَامَ رِطَابِ فَلَحْمِي طَعَامٌ وَالنَّجِيعُ شَرَابِ


ومنها:


صَبُورٌ عَلَى الْأَزْمِ الَّذِي العِزُّ خَلَفَهُ جَزُوعًا مِنَ الرَّاحَاتِ إِنْ أَنْتَجَتْ لَهُ


وَلَوْ أَمْطَرَتْهُ بِالحَرِيقِ سَحَابِ خُمُولًا وَفِي بَعْضِ النَّعِيمِ عَذَابٍ


والسلو في التجربة الجميلة ينقسم قسمين سلو طبيعي، وهو المسمى بالنسيان يخلو به القلب، ويفرغ به البال، ويكون الإنسان كأنه لم يحب قط. وهذا القسم ربما لحق صاحبه الذم لأنه حادث عن أخلاق مذمومة، وعن أسباب غير موجبة استحقاق


طوق الحمامة في الألفة والألاف


النسيان - وستأتي مبينة إن شاء الله تعالى - وربما لم تلحقه اللائمة لعذر صحيح. والثاني سلو تطبعي، قهر النفس، وهو المسمى بالتصبر، فترى المرء يظهر التجلد وفي قلبه أشد لدغا من وخز الإشفى، ولكنه يرى بعض الشر أهون من بعض، أو يحاسب نفسه بحجة لا تُصرف ولا تكسر . وهذا قسم لا يُدم آتيه، ولا يُلام فاعله؛ لأنه لا يحدث إلا عن عظيمة، ولا يقع إلا عن فادحة؛ إما لسبب لا يصبر على مثله الأحرار، وإما لخطب لا مرد له تجري به الأقدار. وكفاك من الموصوف به أنه ليس بناس لكنه ذاكر، وذو حنين واقف على العهد، ومتجرع مرارات الصبر، والفرق العامي بين المتصبر والناسي أنك ترى المتصبر وإن أبدى غاية الجلد، وأظهر سب محبوبه والتحمل عليه، يحتمل ذلك من غيره. وفي ذلك أقول قطعة منها:


دَعُونِي وَسَبِّي لِلْحَبِيبِ فَإنني وَلَكِنَّ سَبِّي لِلْحَبِيبِ كَقَوْلِهِمْ


وَإِنْ كُنْتُ أَبْدِي الهَجْرَ لَسْتُ مُعَادِيَا أَجَادَ فَلَقَّاهُ الإِلَهُ الدَّوَاهِيَا


والناسي ضد هذا، وكل هذا فعلى قدر طبيعة الإنسان وإجابتها وامتناعها، وقوة تمكن الحب من القلب أو ضعفه، وفي ذلك أقول، وسميت السالي فيه المتصبر، قطعة. منها:


ناسي الأَحِيَّةِ غَيْرُ مَنْ يَسْلُوهُمْ مَا قَاصِرٌ لِلنَّفْسِ غَيْرَ مُجِيبِهَا


حُكْمُ المُقَصِّرِ غَيْرُ حُكْمِ المُقْصِرِ مَا الصَّابِرُ المَطْبُوعُ كَالْمُتَصَبِّرِ


والأسباب الموجبة للسلو المنقسم هذين القسمين كثيرة، وعلى حسبها وبمقدار الواقع منها يعذر السالي ويذم.


فمنها الملل، وقد قدمنا الكلام عليه، وإن من كان سلوه عن ملل فليس حبه حقيقة والمتسم به صاحب دعوى زائفة، وإنما هو طالب لذة ومبادر شهوة. والسالي من هذا الوجه ناس مذموم.


ومنها الاستبدال، وهو وإن كان يُشبه الملل ففيه معنى زائد، وهو بذلك المعنى أقبح


من الأول، وصاحبه أحق بالدم.


ومنها حياء مركب يكون في المحب يحول بينه وبين التعريض بما يجد، فيتطاول الأمر، وتتراخى المدة، ويبلى جديد المودة، ويحدث السلو. وهذا وجه إن كان السالي عنه
ناسيا فليس بمنصف إذ منه جاء سبب الحرمان، وإن كان متصبرا فليس بملوم؛ إذ أثر الحياء على لذة نفسه. وقد ورد عن رسول الله ﷺ أنه قال: «الحياء من الإيمان، والبذاء


من النفاق.


وحدثنا أحمد بن محمد، عن أحمد بن مطرف عن عبد الله بن يحيى، عن أبيه، عن مالك، عن سلمة بن صفوان الزرقي عن زيد بن طلحة بن ركانة يرفعه إلى رسول الله


أنه قال: لكل دين خُلق، وخلق الإسلام الحياء..


فهذه الأسباب الثلاثة أصلها من المحب، وابتداؤها من قبله، والدم لاصق به في


نسيانه لمن يحب


ثم منها أسباب أربعة هن من قبل المحبوب، وأصلها عنده، فمنها: الهجر، وقد مر تفسير وجوهه، ولا بد لنا أن نورد منه شيئًا في هذا الباب يوافقه، والهجر إذا تطاول وكثر العتاب واتصلت المفارقة يكون بابا إلى السلو. وليس من وصلك ثم قطعك لغيرك من باب الهجر في شيء؛ لأنه الغدر الصحيح، ولا من مال إلى غيرك دون أن يتقدم لك معه صلة من الهجر أيضًا في شيء، إنما ذاك هو النفار وسيقع الكلام في هذين الفصلين بعد هذا إن شاء الله تعالى - لكن الهجر ممن وصلك ثم قطعك لتنقيل واش أو لذنب واقع، أو لشيء قام في النفس، ولم يمل إلى سواك، ولا أقام أحدا غيرك مقامك. والناسي في هذا الفصل من المحبين ملوم دون سائر الأسباب الواقعة من المحبوب لأنه لا تقع حالة تقيم العذر في نسيانه، وإنما هو راغب عن وصلك، وهو شيء لا يلزمه، وقد تقدم من أدمة الوصال وحق أيامه ما يلزم التذكر، ويوجب عهد الألفة، ولكن السالي على جهة التصبر والتجلدها هنا معذور، إذا رأى الهجر متماديًا، ولم ير للوصال علامة، ولا للمراجعة دلالة. وقد استجاز كثير من الناس أن يُسموا هذا المعنى عذرا؛ إذ ظاهرهما واحد، ولكن علتيهما مختلفتان فلذلك فرقنا بينهما في الحقيقة، وأقول في ذلك شعراء منه


فَكُونُوا كَمَنْ لَمْ أَدْرِ قَطُّ فَإِنَّنِي


كَاخَرَ لَمْ تَدْرُوا وَلَمْ تَصِلُوهُ


أنا كالصَّدَى مَا قَالَ كُل أُجِيبُهُ


فَمَا شِئْتُمُوهُ اليَوْمَ فَاعْتَمِدُوهُ


١٣٥


الرابع


طوق الحمامة في الألفة والألاف


وأقول أيضًا قطعة ثلاثة أبيات قلتها وأنا نائم، واستيقظت فأضفت إليها البيت


الا لله دَهْرُ كُنتُ فِيهِ


أَعَزُّ عَلَيَّ مِنْ رُوحِي وَأَهْلِي


فَمَا بَرِحَتْ يَدُ الهَجْرَانِ حَتَّى


طَوَاكَ بَنَانُهَا طَيَّ السِّجِلِّ


سقَانِي الصَّبْرَ هَجْرُكُمُ كَمَا قَدْ


سَقَانِي الحُبِّ وَصْلُكُمُ بِسَجْلِ


وَجَدْتُ الوَصْلَ أَصْلَ الوَجُدِ حَقًّا


وَطُولَ الهَجْرِ أَصْلًا لِلتَّسَلِّي


وأقول أيضا قطعة


وأقول:


لَوْ قِيلَ لِي مِنْ قَبْلِ ذَا


أَنَّ سَوْفَ تَسْلُو مَنْ تَوَد


فَحَلَفْتُ أَلْفَ قَسَامَةِ


لَا كَانَ ذَا أَبَد الأبد


وَإِذَا طَوِيلُ الهَجْرِ مَا


مَعَهُ مِنَ السُّلْوَانِ بُد


لله هجرك إنَّهُ


سَاعَ لِبرْنِي مُجْتَهِد


فَالآنَ أَعْجَبُ لِلسلو


وَكُنْتُ أَعْجَبُ لِلْجَلَد


وَأَرَى هَوَاكَ كَجَمْرَةٍ


تحتَ الرَّمَادِ لَهَا مَدَد


كَانَتْ جَهَنَّمُ فِي الحَشَا مِنْ حُبِّكُمْ فَلَقَدْ أَرَاهَا نَارَ إِبْرَاهِيمَا


ثم الأسباب الثلاثة الباقية التي هي من قبل المحبوب فالمتصبر من الناس فيها غير


مذموم لما سنورده - إن شاء الله - في كل فصل منها.


فمنها نقار يكون في المحبوب وانزواء قاطع للأطماع.


خبر


وإني لأخبر عني أني ألفت في أيام صباي ألفة المحبة جارية نشأت في دارنا، وكانت في ذلك الوقت بنت ستة عشر عاما، وكانت غاية في حسن وجهها وعقلها وعفافها وطهارتها وحفرها ودمائتها عديمة الهزل منيعة البذل، بديعة البشر، مسبلة الستر: فقيدة الذام.
قليلة الكلام مغضوضة البصر، شديدة الحذر، نقية من العيوب دائمة القطوب حلوة الإعراض مطبوعة الانقباض مليحة الصدود رزينة العقود كثيرة الوقار، مستلذة النفار، لا توجه الأراجي نحوها، ولا تقف المطامع عليها، ولا معرس للأمل لديها، فوجهها جالب كل القلوب، وحالها طارد من أمها، تزدان في المنع والبخل ما لا يزدان غيرها بالسماحة والبذل، موقوفة على الجد في أمرها، غير راغبة في اللهو، على أنها كانت تحسن العود إحسانًا جيدا.


فجنحت إليها وأحببتها حبا مفرطاً شديدًا، فسعيت عامين أو نحوهما أن تجيبني بكلمة، وأسمع من فيها لفظة غير ما يقع في الحديث الظاهر إلى كل سامع بأبلغ الشعي: فما وصلت من ذلك إلى شيء البتة فلعهدي بمصطنع كان في دارنا لبعض ما يصطنع له في دور الرؤساء، تجمعت فيه دخلتنا ودخلة أخي - رحمه الله - من النساء ونساء فتياننا ومن لاث بنا من خدمنا، ممن يخف موضعه ويلطف محله، فلبثن صدرا من النهار ثم تنقلن إلى قصة كانت في دارنا مشرفة على بستان الدار، ويطلع منها على جميع قرطبة وفحوصها، مفتحة الأبواب.


فصرن ينظرن من خلال الشراجيب وأنا بينهن، فإني لأذكر أني كنت أقصد نحو الباب الذي هي فيه أنسًا بقربها، متعرضا للدنو منها، فما هو إلا أن تراني في جوارها فتترك ذلك الباب وتقصد غيره في لطف الحركة، فأتعمد أنا القصد إلى الباب الذي صارت إليه، فتعود إلى مثل ذلك الفعل من الزوال إلى غيره. وكانت قد علمت كلفي بها، ولم يشعر سائر النسوان بما نحن فيه لأنهن كن عددًا كثيرًا، وإذ كلهن يتنقلن من باب إلى باب لسبب الاطلاع من بعض الأبواب على جهات لا يُطلع من غيرها عليها - واعلم أن قيافة النساء فيمن يميل إليهن أنفذ من قيافة مدلج في الآثار - ثم نزلن إلى البستان فرغب عجائزنا وكرائمنا إلى سيدتها في سماع غنائها، فأمرتها، فأخذت العود وسوته بخفر وخَجَل لا عهد لي بمثله، وإن الشيء يتضاعف حسنه في عين مستحسنه، ثم اندفعت تغني بأبيات العباس بن الأحنف حيث يقول:


إِنِّي طَرِبْتُ إِلَى شَمْسٍ إِذَا غَرَبَتْ شَمْسُ مُمَثَّلَةٌ فِي خُلْقِ جَارِيَةٍ لَيْسَتْ مِنَ الإِنْسِ إِلَّا فِي مُنَاسَبَةٍ


كانَتْ مَغَارِبُهَا جَوْفَ المَقَاصِير كَأَنَّ أَعْطَافَهَا طَيُّ الطَّوَامِيرِ وَلَا مِنَ الجِنَّ إِلَّا في التصاوير


۱۳۷


طوق الحمامة في الألفة والألاف


فَالوَجْهُ جَوْهَرَةً، وَالجِسْمُ عَبْهَرَةٌ كَأَنَّهَا حِينَ تَخْطُو فِي مَجَاسِدِهَا


وَالرِّيحُ عَنْبَرَةٌ، وَالكُلُّ مِنْ نُورٍ تَخْطُو على البيض أَوْ حَد القوارير


فلعمري لكأن المضراب إنما يقع على قلبي، وما نسيت ذلك اليوم ولا أنساه إلى يوم مفارقتي الدنيا. وهذا أكثر ما وصلت إليه من التمكن من رؤيتها وسماع كلامها، وفي ذلك أقول:


وأقول:


لا تلمها عَلَى النَّفَّارِ وَمَنْع الـ هَلْ يَكُونُ الهَلَالُ غَيْرَ بَعِيدٍ


وَصْلِ مَا هَذَا لَهَا بِنَكِيرِ أوْ يَكُونُ الغَزَالُ غَيْرَ نَفُورٍ


مَنَعْتِ جَمَالَ وَجْهِكِ مُقْلَتَيًّا


وَلَفْظُكِ قَدْ ضَنَتْتِ بِهِ عَلِيًّا


أَرَاكِ نَذَرْتِ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا


فَلَسْتِ تُكَلِّمِينَ اليَوْمَ حَيًّا


وَقَدْ غَنَّيْتِ لِلعَبَّاسِ شِعرًا


هَنِيئًا ذَا لِعَبَّاسِ هَنِيًّا


فَلَوْ يَلْقَاكِ عَبَّاسِ لأَضْحَى


لِفَوْزِ قَانِيَا، وَبِكُمْ شَجِيًّا


ثم انتقل أبي - رحمه الله - من دورنا المحدثة بالجانب الشرقي من قرطبة في ريض الزاهرة إلى دورنا القديمة في الجانب الغربي من قرطبة ببلاط مغيث في اليوم الثالث من قيام أمير المؤمنين محمد المهدي بالخلافة، وانتقلت أنا بانتقاله، وذلك في جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، ولم تنتقل هي بانتقالنا لأمور أوجبت ذلك. ثم شغلنا بعد قيام أمير المؤمنين هشام المؤيد بالنكبات وباعتداء أرباب دولته، وامتحنا بالاعتقال والترقيب والإغرام الفادح والاستتار، وأرزمت الفتنة وألقت باعها وعمت الناس وخصتنا إلى أن توفي أبي الوزير - رحمه الله - ونحن في هذه الأحوال بعد العصر يوم السبت لليلتين بقيتا من ذي القعدة عام اثنين وأربعمائة.


واتصلت بنا تلك الحال بعده إلى أن كانت عندنا جنازة لبعض أهلنا فرأيتها، وقد ارتفعت الواعية، قائمة في المأتم وسط النساء في جملة البواكي والنوادب. فلقد أثارت وجدا دفينا، وحركت ساكنا، وذكرتني عهدًا قديمًا، وحبًّا تليدا، ودهرا ماضيًا، وزمنا عافيا، وشهورًا خوالي، وأخبارًا بوالي، ودهورا فواني، وأياما قد ذهبت، وآثارا قد دثرت
وجددت أحزاني، وهيجت بلابلي، على أني كنت في ذلك النهار مرزاً مصابًا من وجوه، وما كنت نسيت ولكن زاد الشجا، وتوقدت اللوعة، وتأكد الحزن، وتضاعف الأسف، واستجلب الوجد ما كان منه كامنا فلياه مجيبا، فقلت قطعة، منها:


يُبكي لِمَيتٍ مَاتَ وَهُوَ مُكَرَّمٌ فَيَا عَجَبًا مِنْ آسِفٍ لِامْرِئٍ تَوَى


وَالْحَيُّ أَوْلَى بِالدُّمُوعِ الذَّوَارِفِ


وَمَا هُوَ لِلْمَقْتُولِ ظُلْمًا بِأَسِفِ


ثم ضرب الدهر ضربانه وأجلينا عن منازلنا وتغلب علينا جند البربر، فخرجت عن قرطبة أول المحرم سنة أربع وأربعمائة، وغابت عن بصري بعد تلك الرؤية الواحدة ستة أعوام وأكثر، ثم دخلت قرطبة في شوال سنة تسع وأربعمائة، فنزلت على بعض نسائنا فرأيتها هنالك، وما كدت أن أميزها حتى قيل لي هذه فلانة. وقد تغير أكثر محاسنها. وذهبت نضارتها، وفنيت تلك البهجة، وغاض ذلك الماء الذي كان يرى كالسيف الصقيل والمرأة الهندية، وذبل ذلك النوار الذي كان البصر يقصد نحوه متنورا، ويرتاد فيه متخيرا، وينصرف عنه متحيرا.


فلم يبق إلا البعض المنبئ عن الكل، والخبر المخبر عن الجميع، وذلك لقلة اهتبالها بنفسها، وعدمها الصيانة التي كانت غذيت بها أيام دولتنا وامتداد ظلنا، ولتبذلها في الخروج فيما لا بد لها منه مما كانت تصان وترفع عنه قبل ذلك. وإنما النساء رياحين متى لم تتعاهد نقصت وبنية متى لم يهتبل بها استهدمت ولذلك قال من قال: إن حسن الرجال أصدق صدقا وأثبت أصلا، وأعتق جودة الصبره على ما لو لقي بعضه وجوه النساء لتغيرت أشد التغير مثل الهجير والسموم والرياح واختلاف الهواء وعدم الكن، وإني لو يلتُ منها أقل وصل، وأنست لي بعض الأنس الخواطت طربًا، أو لمن فرحا، ولكن هذا النقار الذي صبرني وأسلاني.


وهذا الوجه من أسباب السلو صاحبه في كلا الوجهين معذور وغير ملوم؛ إذ لم يقع تثبت يوجب الوفاء، ولا عهد يقتضي المحافظة، ولا سلف تمام، ولا فرط تصادف يلام على تضييعه ونسيانه.


ومنها جفاء يكون من المحبوب، فإذا أفرط فيه وأسرف وصادف من المحب نفسا لها بعض الألفة والعزة تسلى، وإذا كان الجفاء يسيرًا منقطعًا، أو دائما، أو كبيرا منقطعا: احتمل وأغضى عليه، حتى إذا كثر ودام فلا بقاء عليه، ولا يلام الناسي لمن يحبُّ في مثل هذا.


۱۳۹


طوق الحمامة في الألفة والألاف


ومنها الغدر، وهو الذي لا يحتمله أحد، ولا يغضي عليه كريم، وهو المسلاة حقا، ولا يلام السالي عنه على أي وجه كان، ناسيًا أو متصبرا، بل اللائمة لاحقة لمن صبر عليه، ولولا أن القلوب بيد مقلبها لا إله إلا هو، ولا يكلف المرء صرف قلبه، ولا إحاطة استحسانه لولا ذاك لقلت إن المتصبر في سلوه مع الغدر يكاد أن يستحق الملامة والتعنيف. ولا أدعى إلى السلو عند الحر النفس وذوي الحفيظة والسري السجايا من الغدر، فما يصبر عليه إلا دنيء المروءة، خسيس النفس، نذل الهمة ساقط الأنفة، وفي ذلك أقول قطعة، منها:


هَوَاكِ فَلَسْتُ أَقْرَبُهُ غَرُورٌ


وَأَنْتِ لِكُلِّ مَنْ يَأْتِي سَرِير


وَمَا إِنْ تَصْبِرِينَ عَلَى حَبِيبٍ


فَحَوْلَكِ مِنْهُمْ عَدَدٌ كَثِيرٍ


فَلَوْ كُنت الأمير لَمَا تَعَاطَى


لِقَاءَكَ خَوْفٌ جَمْعِهِمُ الْأَمِيرُ


رَأَيْتُكِ كَالْأَمَانِي مَا عَلَى مَنْ


يُلِمُّ بِهَا وَلَوْ كَثِرُوا غُرُورٍ


وَلَا عَنْهَا لِمَنْ يَأْتِي دِفَاعٌ


وَلَوْ حُشِدَ الْأَنَامُ لَهُم نَفِيرٍ


ثم سبب ثامن، وهو لا من المحب ولا من المحبوب، ولكنه من الله تعالى: وهو اليأس وفروعه ثلاثة: إما موت، وإما بين لا يُرجى معه أوبة، وإما عارض يدخل على المتحابين بعلة المحب التي من أجلها وثق المحبوب فيغيرها.


وكل هذه الوجوه من أسباب السلو والتصبر، وعلى المحب الناسي في هذا الوجه المنقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة من الغضاضة والذم واستحقاق اسم اللوم والغدر غير قليل، وإن لليأس لعملا في النفوس عجيبا، وثلجا لحر الأكباد كبيرا، وكل هذه الوجوه المذكورة أولاً وآخرا فالتأني فيها واجب، والتربص على أهلها حسن، فيما يمكن فيه التأني ويصح لديه التربص، فإذا انقطعت الأطماع، وانحسمت الآمال، فحينئذ يقوم العذر


والشعراء فن من الشعر يذمون فيه الباكي على الدمن، ويثنون على المثابر على اللذات وهذا يدخل في باب السلو. ولقد أكثر الحسن بن هانئ في هذا الباب وافتخر به وهو كثيرا ما يصف نفسه بالغدر الصريح في أشعاره تحكما بلسانه، واقتدارًا على القول. وفي مثل هذا أقول شعرا، منه:


خَلْ هَذَا وَبَادِرِ الدَّهْرَ وَارْحَلْ


فِي رِيَاضِ الرُّبَى مَطِيَّ القِفَارِ


وَاحْدُهَا بِالبَدِيعِ مِنْ نَعْمَاتِ الـ


سعودِ كَيْمَا تُحِبُّ بِالْمِزْمَارِ
إِنَّ خَيْرًا مِنَ الوُقُوفِ عَلَى الدَّا وَبَدَا النَّرْجِسُ البَدِيعُ كَصَبٌ لَوْنُهُ لَوْنُ عَاشِقٍ مُسْتَهَامٍ


رِ وُقُوفُ البَنَانِ بِالْأَوْتَارِ حَائِرِ الطَّرْفِ مَائِلًا كَالمَدَارِ وَهُوَ لَا شَلَّ هَائِمٌ بِالبَهَارِ


ومعاذ الله أن يكون نسيان ما درس لنا طبعًا، ومعصية الله بشرب الراح لنا خلقا، وكساد الهمة لنا صفة، ولكن حسبنا قول الله تعالى - ومن أصدق من الله قيلا - في الشعراء: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ. فهذه شهادة الله العزيز الجبار لهم، ولكن شذوذ القائل للشعر عن مرتبة الشعر خطأ. وكان سبب هذه الأبيات أن حفنى العامرية، إحدى كرائم المظفر عبد الملك بن أبي عامر، كلفتني صنعتها فأجبتها، وكنت أجلها، ولها فيها صنعة في طريقة النشيد والبسيط رائقة جدا. ولقد أنشدتها بعض إخواني من أهل الأدب فقال سرورًا بها: يجب أن توضع هذه في


جملة عجائب الدنيا.


فجميع فصول هذا الباب كما ترى ثمانية منها ثلاثة هي من المحب، اثنان منها يذم السالي فيهما على كل وجه؛ وهما الملل والاستبدال وواحد منها يذم السالي فيه ولا يذم المتصبر؛ وهو الحياء، كما قدمنا، وأربعة من المحبوب، منها واحد يذم الناسي فيه ولا يذم المتصبر؛ وهو الهجر الدائم، وثلاثة لا يذم السالي فيها على أي وجه كان، ناسيا أو متصبرا وهي النفار والجفاء والغدر، ووجه ثامن، وهو من قبل الله عز وجل؛ وهو اليأس إما بموت أو بين أو آفة تزمن والمتصبر في هذه معذور.


وعني أخبرك أني جبلت على طبيعتين لا يهنئني معهما عيش أبدا، وإني لأبرم بحياتي باجتماعهما، وأود التثبت من نفسي أحيانًا لأفقد ما أنا بسببه من النكد من أجلهما، وهما: وفاء لا يشوبه تلون قد استوت فيه الحضرة والمغيب، والباطن والظاهر تولده الألفة التي لم تعزف بها نفسي عما دريته، ولا تتطلع إلى عدم من صحبته، وعزة نفس لا تقر على الضيم، مهتمة لأقل ما يرد عليها من تغير المعارف، مؤثرة للموت عليه. فكل واحدة من هاتين السجيتين تدعو إلى نفسها، وإني لأجفى فأحتمل، وأستعمل الأناة الطويلة، والتلوم الذي لا يكاد يطيقه أحد، فإذا أفرط الأمر وحميت نفسي تصبرت وفي القلب ما فيه. وفي ذلك أقول قطعة، منها:


لِي خُلَّتَانِ أَذَاقَانِي الأَسَى جُرَعًا


وَنَغْصَا عِيشَتِي وَاسْتَهْلَكَا جَلَدِي


١٤١


طوق الحمامة في الألفة والألاف


كِلْتَاهُمَا تَطْبينِي نَحْوَ جِباتِهَا وَفَاءُ صِدْقٍ فَمَا فَارَقْتُ ذَا مِقَةٍ وَعِزَّةٌ لَا يَحُلُّ الضَّيمُ سَاحَتَهَا


كَالصَّيْدِ يَنْشَبُ بَيْنَ الذِّئْبِ وَالْأَسَدِ فَزَالَ حُزْنِي عَلَيْهِ آخِرَ الْأَبَدِ صَرَامَةً فِيهِ بِالْأَمْوَالِ وَالوَلَدِ


ومما يُشبه ما نحن فيه، وإن كان ليس منه، أن رجلا من إخواني كنتُ أحللته من نفسي محلها، وأسقطت المئونة بيني وبينه، وأعددته ذخرًا وكنزا، وكان كثير السمع من كل قائل، فدب ذو النميمة بيني وبينه، فحاكوا له وأنجح سعيهم عنده، فانقبض عما كنت أعهده، فتربصت عليه مدة في مثلها أوب الغائب، ورضى العاتب، فلم يزدد إلا انقباضا؛ فتركته وحاله.


Summarize English and Arabic text online

Summarize text automatically

Summarize English and Arabic text using the statistical algorithm and sorting sentences based on its importance

Download Summary

You can download the summary result with one of any available formats such as PDF,DOCX and TXT

Permanent URL

ٌYou can share the summary link easily, we keep the summary on the website for future reference,except for private summaries.

Other Features

We are working on adding new features to make summarization more easy and accurate


Latest summaries

أكد موقع " cons...

أكد موقع " construction business news " في أحد تقاريره عزم الشركات اليابانية والصينية على استهداف ال...

This paragraph ...

This paragraph is a description about ... The relation).. I am ... (name of the person)....•• is thi...

عام. يمكن القول...

عام. يمكن القول إن نظام المعلومات يعزز شفافية السوق من خلال توفير المعلومات اللازمة ويعزز تداولية ال...

In this present...

In this presentation, I will focus on main points: First, I will provide a definition of the concep...

في خسائر فادحة ...

في خسائر فادحة للذرة، والمحاصيل السكرية، والأعلاف النجيلية، والكينوا. لمواجهة هذه التحديات بفعالية،...

أدى الإنترنت وا...

أدى الإنترنت والتطور الرقمي إلى إحداث تحول جذري في أساليب التواصل وتبادل المعلومات بين الأفراد. فنحن...

تم في هذا المشر...

تم في هذا المشروع تطبيق مكونات الواجهة الأمامية (Front-end) والواجهة الخلفية (Back-end) الشائعة لضما...

تُعد عدالة الأح...

تُعد عدالة الأحداث من أهم القضايا التي تشغل الأنظمة القانونية والاجتماعية في مختلف دول العالم، نظرًا...

كان تحالف ديلوس...

كان تحالف ديلوس في البداية قوة دفاعية ناجحة، لكنه تحول مع الوقت إلى أداة للسيطرة الأثينية، مما أدى إ...

--- ### **التع...

--- ### **التعريف:** عوائق التعلم التنظيمي هي **عوائق إدراكية، أو ثقافية، أو هيكلية، أو شخصية** تم...

أولا شعر الحزب ...

أولا شعر الحزب الزبيري بدا يتنصيب عبد الله بن الزبير نفسه خليفة على الحجاز، واستمر تسع سنوات، وانته...

ث‌- الصراع: يع...

ث‌- الصراع: يعتبر من المفاهيم الأقرب لمفهوم الأزمة، حيث أن العديد من الأزمات تنبع من صراع بين طرفين...