Lakhasly

Online English Summarizer tool, free and accurate!

Summarize result (50%)

توقف بنا الفصل السابق عند أثر الحُلم على تحولات البناء القصصي عند نجيب محفوظ، ممثلًا في العنوان بوصفه عتبةً من عتبات النص القصصي المحفوظي، بالإضافة إلى ما أحدثه الحلم في تشكيل النوع القصصي على مستوى "سرد الأحلام" و"الحلم السردي"، وكذلك ما دفع به الحلم من تحولات في "الرؤية القصصية" بأنماطها ومستوياتها، وعلى الدراسة بعد ذلك أن تُسائل النتاج القصصي المحفوظي عن أثر الحلم في تشكيل عناصر البنية القصصية من شخصيات وزمان ومكان، لتصل بعد ذلك إلى أثر الحلم على المضمون القصصي محاولة- وفق آليات تظهرها الدراسة في حينها- تأويل الحلم المحفوظي، وسيختص هذا الفصل ببيان ما تركه الحلم المحفوظي على الشَّخصيَّة القصصية من تحولات داخل النص القصصي سواء انتمى النص إلى "الحلم السردي" أو "سرد الأحلام". وقد زادت أهميتها في الأعمال السردية بعد تصاعد قيمة الفرد داخل المجتمع، وقد اكتسبت الشَّخصيَّة هذه الأهمية من كونها العنصر الحيوي الذي ينهض بالأفعال التي يترابط بها الحكي وبها يكتسب تكامله( )، ثمة تصورات عديدة لدراسة الشَّخصيَّة في الأعمال القصصية، وفي هذا الإطار تُشكل الشَّخصيَّة «علامة أيديولوجية لا عقلانية يعاد إنتاجها على المستوى الأدبي من خلال تصوير النظم التسلطية السائدة في المجتمع، ولا تتحقق فعاليتها إلا من خلال قراءتها داخل نسق عن طريق جملة من الروابط الشكلية والتقنيات اللغوية، فإنها تظهر في نصوصها بوصفها علامة على فئة أو طبقة معينة من الناس، إن ثراء "الأحلام المحفوظية" وغناها بالنماذج مبهر بالفعل، عبر عين محفوظ الفاحصة الممتلكة لتشريح المتأمل، لتنقلنا من رؤيا المؤمن إلى المفكر الحكيم الناقد لأوضاع البلاد وساستها، تبدو حينًا أحلامًا متنوعة الطهر وعفاف الخوف من الله، وحينًا آخر أحلام الحالة الأخرى للبشرية في اللذة، وأحيانًا أخرى أحلام المنطقة الرمادية حيث سياسة الغموض، ولا عجب أن تكون الأحلام المحفوظية بهذا الثراء والتنوع في نماذج شخصياتها، ليستمر رصده لها حتى العصر الحديث بكل تحولاته الفكرية والسياسية( ). وأمام هذا التنوع الهائل في شخصيات الأحلام المحفوظية، فإن دراسة بعض نماذجها المقدمة في الحكي لتعرف أثر الحلم على تشكلها داخل النص ودلائل ذلك يصبح من الأهمية بمكان؛ فيما يكشف عنه في نصوص الأحلام المحفوظية، كما يكشف عن رؤية نجيب محفوظ للعالم من حوله، آية ذلك أن الشَّخصيَّة النموذج في الأحلام، شخصية «تتميز بطابعها العام، والمعاناة النفسية لهذه الطبقة في إهاب تلك الشَّخصيَّة»( )، لأنها تصبح موصولة في نموذجيتها بالملامح الأساسية داخل المجتمع، «فعندما تنبع حقيقة موضوعية اجتماعية ذات قيمة عالمية من الأعماق الأصلية لشخصية ما ينبثق لدينا أدبيًّا نموذج حقيقي»( )، وعلى هذا الأساس لا بد من قراءة هذه النماذج في ضوء التركيز على الملامح التاريخية والاجتماعية المحددة لنموذجيتها، إلا أنه يبقى له خصوصية تشكله داخل الحلم، الذي يختلف بطبيعة بنائه عن الأعمال السردية الأخرى على نحو ما سيتضح في تناول الدراسة لبعض نماذج الشخصيات في الأحلام المحفوظية
تحتشد في الأحلام المحفوظية، وبخاصة في "سرد الأحلام" أعني: "أحلام فترة النقاهة" و"الأحلام الأخيرة"، وفي ثمانية أحلام من "الأحلام الأخيرة"، والنحاس باشا في "حلم 177"( )، وفي حلم 189( ) من "أحلام فترة النقاهة" وفي حلم 217( ) وحلم 248( ) من "الأحلام الأخيرة"، وجمال عبد الناصر في حلم 209( ) وتمثاله في "حلم 341"( ) من "الأحلام الأخيرة"، والرئيس السادات في حلم 6 من الأحلام التي نشرت بمناسبة عيد ميلاد محفوظ الخامس والتسعين( ). وفي حلم 180( ) من "أحلام فترة النقاهة"، وفي حلم "385"( ) من "الأحلام الأخيرة"، والأستاذ سعد الدين وهبة في حلم 159( )، والمرحوم الدكتور حسين فوزي في حلم 86( ) من "أحلام فترة النقاهة"، ومن يسميهم محفوظ الحرافيش أو أصدقاء العمر في حلم 29( )، وفي حلم 159( ) من "أحلام فترة النقاهة"، وفي حلم 342( ) من "الأحلام الأخيرة". ولا تهمل أحلام محفوظ رموز الفن والثقافة ككوكب الشرق أم كلثوم التي تحضر مع غيرها من أهل الفن في حلم 188( )، وموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب الذي يظهر مع غيره من أهل الفن في حلم 188( )، ويظهران معًا في حلم 229( ) من "الأحلام الأخيرة"، والموسيقار الشيخ زكريا أحمد في حلم 53( )، ويظهر مع غيره من أهل الفن في حلم 188( ) من "أحلام فترة النقاهة"، ومع سيدة الغناء العربي أم كلثوم في حلم 358( ) من الأحلام الأخيرة، وسيد درويش في حلم 30( )، وفي حلم ومع غيره من أهل الفن في حلم 188( )، وسعاد حسني في حلم 208( )، وصديقه الممثل أحمد مظهر في حلم 214( ) من "الأحلام الأخيرة". كما يظهر في الأحلام المحفوظية كثير من الأصدقاء كصديق الشباب وشهيد الوطنية في حلم 76( )، ش) في حلم 72( )، أ) في حلم 73( )، وصديقه المرحوم "أ" في حلم 201( )، وصديقه "ح" في حلم 256( ) وغيرهما ممن يشير إليهم كذلك بالحرف الأول من الاسم في "الأحلام الأخيرة"، كما تحضر الأسرة إلى "الأحلام المحفوظية" ممثلة في الأم التي نراها في "حلم 30"( )، وفي "حلم 112"( ) وفي غيرها من "أحلام فترة النقاهة" وفي 22 حلمًا من "الأحلام الأخيرة"، وفي غيرها من "أحلام فترة النقاهة و"الأحلام الأخيرة"، وفي غيرهما من "أحلام فترة النقاهة" وفي 14 حلما من "الأحلام الأخيرة"، في حين تذكر باسم الحبيبة القديمة دون الاسم في "حلم 27"( )، من "أحلام فترة النقاهة" وفي غيرها من "الأحلام الأخيرة". ثمة مجموعة من المناهج التي حاولت رصد اسم العلم بالتعريف والتحليل والدرس والمناقشة والتفكيك والتركيب. ويمكن حصرها في المقاربة النحوية( )، والمقاربة البنيوية السيميائية( ). وفي ضوء ما قدمته هذه المقاربات مجتمعة يمكن مقاربة أسماء الأعلام والرموز المحتشدة في أحلام نجيب محفوظ، وما أصاب الشَّخصيَّة القصصية من تحول داخل هذه الأحلام. وفي رأي الباحثة أنَّه ليس أنسب من الأحلام، ومحفوظ واحدٌ من الذين شهدوا هذا التاريخ بأحداثه وتحولاته، وإذا كان ما ورد في الأحلام من أسماء الأعلام الشَّخصيَّة قد يعبر في الغالب عن شيء مشخص ومجسم ومحسوس ومتميز فيكتسب بذلك: التعيين، وهي وافية في الدلالة عليه وحده( ) فإن هذه الأسماء وتتبع مساراتها الواقعية لدى محفوظ الذي يمثل إبداعه «تكريسا لمقولة: حب الوطن من الإيمان»( ) يكشف عن دلالات ذات رؤى وأبعاد تحملها الأحلام بلغتها المكتنزة. ففي "حلم298" من "الأحلام الأخيرة" يستحضر محفوظ شخصية الزعيم الثائر "سعد زغلول" فيقول: «رأيتني أسير في الظلام وشبح يتحرك هنا وآخر هناك، إنَّ ورود اسم "سعد زغلول" في الحلم يدل على شخصية ذات أبعاد محددة ومعينة، يتوجه إليها الراوي الحالم بالشكر موهمًا إيانا بتعيينها، لكن الحلم لا يُفصِّل في هذه الأبعاد معتمدًا على معرفة المتلقي عن هذه الشَّخصيَّة؛ لذلك يتخير منها الحلم واحدة ويدفع بها إلى السرد، إنها صفة الزعامة للأمة التي تحمل بين طياتها توفير الحماية والذود عن كل من آمنوا بهذه الزعامة، وبهذه الصفة تُبعث الشَّخصيَّة داخل الحلم فتقوم بدورها المنتظر، فتختفي الأشباح وتعود الطمأنينة ويحل السلام، إن الحالم يريد هذه الشَّخصيَّة التي تقوم بواجبات الزعامة واقعًا ملموسًا، ولعل في ذلك إسقاط على واقع الحالم الذي لم يعد زعماؤه في صورة هذا الزعيم. كما يُحتمل أن يكون حضورُ شخصية "سعد زغلول" اعتمادًا على معرفة المتلقي بها، إشارةً إلى استحضار نمط الثائر الذي يستطيع بثورته أن يحقق الأمان لنفسه ولكل من حوله، وليس ذلك بعيدًا عن محفوظ الذي تقوم رسالة الأدب عنده فيما تقوم عليه على «تحريك الساكن وتحويل البشر عبر مساحات وعيهم في منطقة الحركة والفعل»( ). في ضوء المزاوجة بين التعيين والتحديد من جهة والدلالات ذات الرؤى والأبعاد لشخصيات الزعماء، تستحضر نصوص الأحلام المحفوظية باقي أسماء الزعماء، في "حلم 341" من "الأحلام الأخيرة" يقول محفوظ: «رأيتني عند قاعدة تمثال عالٍ للزعيم جمال عبد الناصر، ولا تخفى تيمة "التمثال" المشتركة بين هذا الحلم وحلم "سعد زغلول" السابق، إذ ليس حضورها في الحلم كيانًا قائمًا بإنسانيته ومحدوديته، بقدر ما إن هذا الحضور يأتي لدلالات ورؤى وأبعاد يريد نص الحلم الدفع بها، وهي صفة أراد الحالم، كما أراد في الحلم السابق، "حلم 177" من "أحلام فترة النقاهة" يقول محفوظ: «أقيم سرادق كبير للاحتفال بالحزب الجديد، وألقى خطابًا يشرح فيه مبادئ الحزب وفي مقدمتها الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والوحدة الوطنية، وآليات التنوير، وأخلص لها في أعماله، أو التعددية السياسية، فلا ديكتاتورية في توزيع الثروات، ولا ديمقراطية دون أن يكون هناك عدل اجتماعي وتنافس حر وتسامح ومحبة من أجل مستقبل حر لوطن حر. ويدفع نصه إلى ترسيخ تلك الدلالات، وهنا، ولكنه يمكن أن يحمل دلالات رمزيَّة أو كنائية أو مجازية إذا قاربناه في سياق نصي معين، في هذا السياق أيضًا يحضر رموز الثقافة والفن من أمثال "سعد الدين وهبة" و"الشيخ محرم" و"الشيخ مصطفى عبد الرزاق" و"الشيخ زكريا أحمد" و"كوكب الشرق أم كلثوم" وغيرهم من رموز الفن والثقافة، فيقول: «وجدتني في حفلة لأم كلثوم بصحبة الشيخ زكريا أحمد، وعند انتهاء الحفلة خرجت مع الشيخ زكريا نسير في شوارع القاهرة الفاطمية "وتميل عليه وتقول له ليه. فكوكب الشرق أم كلثوم والشيخ زكريا أحمد شخصيتان لهما أبعادهما النفسية والذاتية التي يمكن تحقيقها، وإنما يحضران بوصفهما رمزًا من رموز الإيمان بالفن الذي يؤدي إلى الصفاء والتواضع، فالحفل والاستمتاع بالطرب انتهى بهما إلى أكل "طاجن كفتة وصينية بسبوسة"، ويتأكد هذا لدينا إذا علمنا أن هذا الدور المشار إليه في الحلم وتغنت به أم كلثوم، دور "إمتى الهوى ييجي سوا" أحد أعظم الأدوار التي غنتها أم كلثوم، لكنه يحملها بكثير من الأفكار والاتجاهات والرؤى والمشاعر والرواسب الثقافية»( ). والمزاوجة نفسها بين الأبعاد النفسية والذاتية من جهة، ففي "حلم 159" من "أحلام فترة النقاهة" يقول: «تلقى بعض الحرافيش دعوة من الأستاذ سعد الدين وهبة، فذهبنا إلى مقابلته، ودعانا إلى التوقيع عليه بإمضاءاتنا فاستجبنا بحماس، وعند فجر ذلك اليوم اخترق بيوتنا زوار الفجر وساقونا معصوبي الأعين إلى المجهول»( ). فشخصية سعد الدين وهبة شخصية واقعية ذات ملامح وأبعاد نفسية ترتد إلى الواقع بسمات معروفة ومشتركة بين المتلقي ونص الحلم، ويستثمر الحلم هذه السمات المعروفة لدى المتلقي للانتقال إلى البعد الرمزي، فيصبح سعد الدين وهبة رمزًا لكل مثقف حر يسعى إلى تغيير واقع مأزوم حوله مستعينًا بمن حوله ممن يؤمنون بأفكاره، وما قد يجد من عنت السلطة إذا فكر أو أراد تغيير الواقع ونقده. والواقع أن مثل هذا النموذج الذي يسعى إلى طموح محدد والخروج عن المألوف في مجتمع ساكن لا يتحرك في أعمال محفوظ- والأمر كذلك في أحلامه- يكون عقابه أشد بكثير من نوع الجريمة التي ارتكبها أو التمرد الذي سلكه( ). وإنما يتجاوز ذلك فيصل بالشَّخصيَّة إلى حد التجريد حين يطلق عليها اسم صديق قديم أو صديق العمر أو يسميها بأول حرف من حروف الاسم، ويعني هذا أنها تصبح غير مسماة باسمٍ محددٍ يخصصها، ولا شخوصيًّا، وكائناتٍ رمزيَّة وكنائيةٍ، ش) وسررت برؤياه سرورًا كبيرًا. لكنه أخذها بلهفة ومضى دون أن ينبس بكلمة إلى باب مفتوح فدخله وأغلقه» ( ). وفي "حلم 73" يقابل الحالم زميله المرحوم (ح. أ) ليخبرني بأن الوزير أرسل في طلبي. واستأذنا ودخلت»( ). ويبلغ فيها تجريد الشَّخصيَّة مداه بتحويلها إلى كيان غير محدد أو محدد عن طريق الحرف الذي لا يشي بتعيين ولا تعريف. أما الشاعر والفنانة فسارا في الشارع الطويل الخالي ونحن في الناحية المضادة والحزن يملأ جوانحنا»( ). يَشِي سياق الحلم السابق أن «ص» رمزٌ للشاعر صلاح جاهين، و«س» رمزٌ للفنانة سعاد حسني، وربما المقصود بالدراما الشعرية هنا فيلم «خلي بالك من زوزو» الذي كتبه جاهين لسعاد حسني وأخرجه حسن الإمام، وإنما يريد حضورهما حضورًا مجردًا عن التعيين فـ«ص» و«س» رمزان قد ينطبقان على كثير من الفنانين، تبقى أيضًا دون حمولات إنسانية تميزها عن باقي الشخصيات الأخرى، ويعني هذا أن الحلم يميل إلى تجريد مثل هذه الشخصيات بدل تعريفها بأوصافها وقيمها وأحداثها بشكلٍ مطنبٍ، ومقياس التراكب. إنَّ ما تقدَّم يكشف أنَّ الحُلمَ المحفوظيَّ استخدم أسماء الرموز والزعماء والأصدقاء والأسرة ووظف طاقتها الدلالية توظيفًا فنيًّا، وجرَّدها من التعيين، وصرفَها إلى أداء وظائفها ودلالاتها ورؤاها داخل النص الحلمي تارةً أخرى،


Original text

توقف بنا الفصل السابق عند أثر الحُلم على تحولات البناء القصصي عند نجيب محفوظ، ممثلًا في العنوان بوصفه عتبةً من عتبات النص القصصي المحفوظي، بالإضافة إلى ما أحدثه الحلم في تشكيل النوع القصصي على مستوى "سرد الأحلام" و"الحلم السردي"، وكذلك ما دفع به الحلم من تحولات في "الرؤية القصصية" بأنماطها ومستوياتها، وعلى الدراسة بعد ذلك أن تُسائل النتاج القصصي المحفوظي عن أثر الحلم في تشكيل عناصر البنية القصصية من شخصيات وزمان ومكان، لتصل بعد ذلك إلى أثر الحلم على المضمون القصصي محاولة- وفق آليات تظهرها الدراسة في حينها- تأويل الحلم المحفوظي، وسيختص هذا الفصل ببيان ما تركه الحلم المحفوظي على الشَّخصيَّة القصصية من تحولات داخل النص القصصي سواء انتمى النص إلى "الحلم السردي" أو "سرد الأحلام".
إنَّ الشَّخصيَّة القصصية في واحد من تعريفاتها تمثل «أحد الأفراد الخياليين، أو الواقعيين الذين تدور حولهم أحداث القصة»( )، وبذلك تعد أحد أهم عناصر البناء السردي، وتكتسب أهميتها داخله من محوريتها فيه، فهي مركز الأفكار، ومجال المعاني، وإذا ما كانت مقنعة فسيكون أمام العمل فرصة للنجاح، وقد زادت أهميتها في الأعمال السردية بعد تصاعد قيمة الفرد داخل المجتمع، ورغبته في السيادة قبيل القرن التاسع عشر الميلادي، وقد اكتسبت الشَّخصيَّة هذه الأهمية من كونها العنصر الحيوي الذي ينهض بالأفعال التي يترابط بها الحكي وبها يكتسب تكامله( )، ولعل ذلك ما جعلها محط عناية الدارسين قديمًا وحديثًا، عدا (أرسطو) الذي يرى التراجيديا محاكاة للأعمال والحياة، وليست محاكاة لأشخاص( ).
ثمة تصورات عديدة لدراسة الشَّخصيَّة في الأعمال القصصية، منها تصور الشكلاني الروسي "بروب" الذي اهتم في دراسته للخرافة الروسية بشخصية البطل فقط( )، وبالوظائف التي تؤديها شخصيات القصة دون العناية بشخصيات القصة نفسها( ). وثمة تصور أو منظور آخر لدراسة الشَّخصيَّة يتلافى- في رأي الباحثة- ما سبق من خلل في نظرة "بروب" الشكلانية إلى الشَّخصيَّة الحكائية، وهذا التصور مستمد من مفهوم الوظائف في اللسانيات، ووفق هذا المنظور تكون «الشخصيات في الأساس مجرد كائنات ورقية»( ) أي لا وجود لها خارج مملكة اللغة، فهي كائن لغوي أو «بناء يقوم النص بتشييده أكثر مما هي معيار مفروض من خارج النص»( ). وفي هذا الإطار تُشكل الشَّخصيَّة «علامة أيديولوجية لا عقلانية يعاد إنتاجها على المستوى الأدبي من خلال تصوير النظم التسلطية السائدة في المجتمع، وتجسيدها إبداعيًّا، ثم إشاعتها في نماذج تخيلية قريبة من الأصل بهذا القدر أو ذاك»( )، ولا تتحقق فعاليتها إلا من خلال قراءتها داخل نسق عن طريق جملة من الروابط الشكلية والتقنيات اللغوية، ووفق هذا المنظور للشخصية القصصية، فإنها تظهر في نصوصها بوصفها علامة على فئة أو طبقة معينة من الناس، ونتعرفها داخل النص من خلال علامات معينة، يأتي في مقدمتها اللغة التي تتحدث من خلالها، أو يتحدث بها الآخرون عنها.
إن ثراء "الأحلام المحفوظية" وغناها بالنماذج مبهر بالفعل، فثمة تنوع وقدرة متأملة على التشريح للشخصية الإنسانية في مواقع السلطة والإدارة وخارجها، وفي الشوارع والحارات والريف وضباب المدن ومؤسساتها العاتية، عبر عين محفوظ الفاحصة الممتلكة لتشريح المتأمل، لتنقلنا من رؤيا المؤمن إلى المفكر الحكيم الناقد لأوضاع البلاد وساستها، المستوعب للحالات الإنسانية، تبدو حينًا أحلامًا متنوعة الطهر وعفاف الخوف من الله، وحينًا آخر أحلام الحالة الأخرى للبشرية في اللذة، وأحيانًا أخرى أحلام المنطقة الرمادية حيث سياسة الغموض، ولا عجب أن تكون الأحلام المحفوظية بهذا الثراء والتنوع في نماذج شخصياتها، وقد تميز أدب صاحبها بأنه بلور الشَّخصيَّة المصرية وبعثها عبر تاريخها المسافر عبر الزمان، ليستمر رصده لها حتى العصر الحديث بكل تحولاته الفكرية والسياسية( ).
وأمام هذا التنوع الهائل في شخصيات الأحلام المحفوظية، فإن دراسة بعض نماذجها المقدمة في الحكي لتعرف أثر الحلم على تشكلها داخل النص ودلائل ذلك يصبح من الأهمية بمكان؛ لأنه يكشف، فيما يكشف عنه في نصوص الأحلام المحفوظية، عن الدلالات الضمنية التي تعبر عن جزء من نظرة الثقافة المصرية لبعض الشخصيات، كما يكشف عن رؤية نجيب محفوظ للعالم من حوله، ورؤيته للنمط أو النموذج الذي تمثله كل شخصية. آية ذلك أن الشَّخصيَّة النموذج في الأحلام، كما هي في غيرها من الأعمال السردية كالرواية، شخصية «تتميز بطابعها العام، وجمعها لخصائص طبقة بكاملها، بحيث يجسد الكاتب القيم الفكرية، والتقاليد الاجتماعية، والمعاناة النفسية لهذه الطبقة في إهاب تلك الشَّخصيَّة»( )، كما أنها قد تؤدي خدمات دلالية، أو إسقاطية تنفع كثيرًا في تعبير كل شخصية عن الفئة التي تنتمي إليها أو الطبقة التي تمثلها؛ لأنها تصبح موصولة في نموذجيتها بالملامح الأساسية داخل المجتمع، «فعندما تنبع حقيقة موضوعية اجتماعية ذات قيمة عالمية من الأعماق الأصلية لشخصية ما ينبثق لدينا أدبيًّا نموذج حقيقي»( )، ويصبح كل نموذج أو شخصية يعبر عن طبقة أو طائفة محددة سياسيًّا أو اجتماعيًّا أو طبقيًّا أو وظيفيًّا.. إلخ، وعلى هذا الأساس لا بد من قراءة هذه النماذج في ضوء التركيز على الملامح التاريخية والاجتماعية المحددة لنموذجيتها، حتى لا تخرج الشَّخصيَّة من حدود الموضوعية وتصير مجرد خطوط تجريدية «فالنموذج حين تتحقق شروطه لا بد من أن يكون موصولًا بحقائق إنسانية واجتماعية»( )، إلا أنه يبقى له خصوصية تشكله داخل الحلم، الذي يختلف بطبيعة بنائه عن الأعمال السردية الأخرى على نحو ما سيتضح في تناول الدراسة لبعض نماذج الشخصيات في الأحلام المحفوظية
الزُّعَمَاء والرُّمُوز
تحتشد في الأحلام المحفوظية، وبخاصة في "سرد الأحلام" أعني: "أحلام فترة النقاهة" و"الأحلام الأخيرة"، أسماء كثيرة تند عن الحصر، ومنها أسماء الزعماء والرموز الوطنية، فنرى أسماء من مثل الزعيم سعد زغلول الذي يحضر في حلم 73( ) من "أحلام فترة النقاهة"، وفي ثمانية أحلام من "الأحلام الأخيرة"، والنحاس باشا في "حلم 177"( )، وفي حلم 189( ) من "أحلام فترة النقاهة" وفي حلم 217( ) وحلم 248( ) من "الأحلام الأخيرة"، وجمال عبد الناصر في حلم 209( ) وتمثاله في "حلم 341"( ) من "الأحلام الأخيرة"، والرئيس السادات في حلم 6 من الأحلام التي نشرت بمناسبة عيد ميلاد محفوظ الخامس والتسعين( ).
كذلك نرى في "سرد الأحلام المحفوظي" كثيرًا من أسماء المفكرين الذين كان لهم بصمة واضحة في تاريخ مصر المعاصر كأستاذه الشيخ محرم في "حلم 6"( ) من "أحلام فترة النقاهة"، وأستاذه مصطفى عبد الرزاق في حلم 155( )، وفي حلم 180( ) من "أحلام فترة النقاهة"، وفي حلم "385"( ) من "الأحلام الأخيرة"، والأستاذ سعد الدين وهبة في حلم 159( )، والمرحوم الدكتور حسين فوزي في حلم 86( ) من "أحلام فترة النقاهة"، ومن يسميهم محفوظ الحرافيش أو أصدقاء العمر في حلم 29( )، وفي حلم 48( )، وفي حلم 92( )، وفي حلم 159( ) من "أحلام فترة النقاهة"، وفي حلم 287( )، وفي حلم 342( ) من "الأحلام الأخيرة".
ولا تهمل أحلام محفوظ رموز الفن والثقافة ككوكب الشرق أم كلثوم التي تحضر مع غيرها من أهل الفن في حلم 188( )، وموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب الذي يظهر مع غيره من أهل الفن في حلم 188( )، من "أحلام فترة النقاهة"، ويظهران معًا في حلم 229( ) من "الأحلام الأخيرة"، والموسيقار الشيخ زكريا أحمد في حلم 53( )، ويظهر مع غيره من أهل الفن في حلم 188( ) من "أحلام فترة النقاهة"، ومع سيدة الغناء العربي أم كلثوم في حلم 358( ) من الأحلام الأخيرة، وسيد درويش في حلم 30( )، وفي حلم ومع غيره من أهل الفن في حلم 188( )، من "أحلام فترة النقاهة"، وسعاد حسني في حلم 208( )، وصديقه الممثل أحمد مظهر في حلم 214( ) من "الأحلام الأخيرة".
كما يظهر في الأحلام المحفوظية كثير من الأصدقاء كصديق الشباب وشهيد الوطنية في حلم 76( )، والصديق مدير الفندق في حلم 79( ) ممن لا يذكر أسماءهم ويكتفي بذكرهم بصفة الصداقة في "أحلام فترة النقاهة"، وصديقه المرحوم (ع. ش) في حلم 72( )، وزميله المرحوم (ح. أ) في حلم 73( )، وغيرهما ممن يشير إلى أسمائهم بالحرف الأول في "أحلام فترة النقاهة"، وصديقه المرحوم "أ" في حلم 201( )، وصديقه "ح" في حلم 256( ) وغيرهما ممن يشير إليهم كذلك بالحرف الأول من الاسم في "الأحلام الأخيرة"، والهانم صاحبة الجائزة التي فاز بها في "حلم 81"( )، والآنسة ثم الأرملة "ر" في "حلم 163"( )، وصديقته الست "ح" في "حلم 164"( )، من "أحلام فترة النقاهة".
كما تحضر الأسرة إلى "الأحلام المحفوظية" ممثلة في الأم التي نراها في "حلم 30"( )، وفي "حلم 75"( )، وفي "حلم 80"( )، وفي "حلم 112"( ) وفي غيرها من "أحلام فترة النقاهة" وفي 22 حلمًا من "الأحلام الأخيرة"، وتطل الأخت من "حلم 9"( )، وفي "حلم 30"( )، وفي "حلم 35"( )، وفي غيرها من "أحلام فترة النقاهة و"الأحلام الأخيرة"، أما الحبيبة "ب" فتظهر باسمها "ب" في "حلم 162"( )، و في "حلم 187"( )، وفي غيرهما من "أحلام فترة النقاهة" وفي 14 حلما من "الأحلام الأخيرة"، في حين تذكر باسم الحبيبة القديمة دون الاسم في "حلم 27"( )، وفي "حلم 46"( )، وفي "حلم 98"( )، من "أحلام فترة النقاهة" وفي غيرها من "الأحلام الأخيرة".
ثمة مجموعة من المناهج التي حاولت رصد اسم العلم بالتعريف والتحليل والدرس والمناقشة والتفكيك والتركيب. ويمكن حصرها في المقاربة النحوية( )، والمقاربة المنطقية( )، والمقاربة القانونية، والمقاربة الشرعية، والمقاربة الاجتماعية، والمقاربة اللسانية، والمقاربة الأسلوبية، والمقاربة البنيوية السيميائية( ). وفي ضوء ما قدمته هذه المقاربات مجتمعة يمكن مقاربة أسماء الأعلام والرموز المحتشدة في أحلام نجيب محفوظ، وما أصاب الشَّخصيَّة القصصية من تحول داخل هذه الأحلام.
إنَّ أولَ ما يُلاحظُ في هذا السِّياق هو تلك الكثرةُ لأسماءِ هؤلاء الأعلام، وفي رأي الباحثة أنَّه ليس أنسب من الأحلام، باتِّساع رؤيتها واكتنازِ لغتها، لحشد هذا الكم من الأسماء التي تُمثل، في تتبع مساراتها الواقعية، تاريخَ مصر الحديث الحافل بالأحداث، ومحفوظ واحدٌ من الذين شهدوا هذا التاريخ بأحداثه وتحولاته، وإذا كان ما ورد في الأحلام من أسماء الأعلام الشَّخصيَّة قد يعبر في الغالب عن شيء مشخص ومجسم ومحسوس ومتميز فيكتسب بذلك: التعيين، والتسمية، والتخصيص، والتحديد، والتفريد، ويصبح مقصورًا على مسماه، وشارة خاصة به، وهي وافية في الدلالة عليه وحده( ) فإن هذه الأسماء وتتبع مساراتها الواقعية لدى محفوظ الذي يمثل إبداعه «تكريسا لمقولة: حب الوطن من الإيمان»( ) يكشف عن دلالات ذات رؤى وأبعاد تحملها الأحلام بلغتها المكتنزة.
ففي "حلم298" من "الأحلام الأخيرة" يستحضر محفوظ شخصية الزعيم الثائر "سعد زغلول" فيقول: «رأيتني أسير في الظلام وشبح يتحرك هنا وآخر هناك، فامتلأت رعبًا ولجأت إلى تمثال سعد زغلول، فوثب الزعيم إلى الأرض، وأيقظ الأسد الذي راح يزأر، فإذا بالأشباح تختفي، وإذا بالطمأنينة ترجع إلى صدري، فشكرت الزعيم العظيم وعبرت الجسر في سلام»( ).
إنَّ ورود اسم "سعد زغلول" في الحلم يدل على شخصية ذات أبعاد محددة ومعينة، يتوجه إليها الراوي الحالم بالشكر موهمًا إيانا بتعيينها، لكن الحلم لا يُفصِّل في هذه الأبعاد معتمدًا على معرفة المتلقي عن هذه الشَّخصيَّة؛ لذلك يتخير منها الحلم واحدة ويدفع بها إلى السرد، إنها صفة الزعامة للأمة التي تحمل بين طياتها توفير الحماية والذود عن كل من آمنوا بهذه الزعامة، وبهذه الصفة تُبعث الشَّخصيَّة داخل الحلم فتقوم بدورها المنتظر، فتختفي الأشباح وتعود الطمأنينة ويحل السلام، وهذا ما يريد الحلم أن يقوله، إن الحالم يريد هذه الشَّخصيَّة التي تقوم بواجبات الزعامة واقعًا ملموسًا، ولعل في ذلك إسقاط على واقع الحالم الذي لم يعد زعماؤه في صورة هذا الزعيم.
كما يُحتمل أن يكون حضورُ شخصية "سعد زغلول" اعتمادًا على معرفة المتلقي بها، وبسماتها الثورية، إشارةً إلى استحضار نمط الثائر الذي يستطيع بثورته أن يحقق الأمان لنفسه ولكل من حوله، وليس ذلك بعيدًا عن محفوظ الذي تقوم رسالة الأدب عنده فيما تقوم عليه على «تحريك الساكن وتحويل البشر عبر مساحات وعيهم في منطقة الحركة والفعل»( ).
في ضوء المزاوجة بين التعيين والتحديد من جهة والدلالات ذات الرؤى والأبعاد لشخصيات الزعماء، تستحضر نصوص الأحلام المحفوظية باقي أسماء الزعماء، ومنهم "جمال عبد الناصر"، في "حلم 341" من "الأحلام الأخيرة" يقول محفوظ: «رأيتني عند قاعدة تمثال عالٍ للزعيم جمال عبد الناصر، وقد أجروا مسابقة لاختيار اسم له فاشتركت فيها، وكان الاسم الذي اقترحته "نصير الفقراء"»( ).
ولا تخفى تيمة "التمثال" المشتركة بين هذا الحلم وحلم "سعد زغلول" السابق، وكأنَّ في ذلك إشارة إلى تحول في الشَّخصيَّة، إذ ليس حضورها في الحلم كيانًا قائمًا بإنسانيته ومحدوديته، مع أن ذكر الاسم يتكفل بذلك، بقدر ما إن هذا الحضور يأتي لدلالات ورؤى وأبعاد يريد نص الحلم الدفع بها، ولعل في اختيار اسم "نصير الفقراء" ما يكشف هذه الرؤى والأبعاد، وهي صفة أراد الحالم، كما أراد في الحلم السابق، أن يجدها في من يعايش من زعماء، أضف لذلك أنه يعبر بها عن مسار من مسارات التاريخ المصري المعاصر، أعني: ما عرف عن الزعيم جمال عبد الناصر وانحيازه للفقراء وتطبيقه لقانون نزع الملكية من الأغنياء وإعطاء الأرض للفقراء، وإقراره مجانية التعليم، وغير ذلك من القرارات التي اتخذها "عبد الناصر" منحازًا إلى الفقراء على حساب الأغنياء، ولعل ذلك يؤكد أن موقف محفوظ من ثورة يوليو لم يكن رفضًا مطلقًا، وأن تقديره كان أن «المتن جيد والهوامش سخيفة، وأن الجسد الذي ينبض بالعافية لا تؤثر فيه أزمات عابرة»( ).

المزاوجة نفسها تتجلى مع شخصية "مصطفى النحاس" زعيم الأمة والوفد بعد أستاذه "سعد زغلول"، ومن الأحلام التي يحضر فيها، "حلم 177" من "أحلام فترة النقاهة" يقول محفوظ: «أقيم سرادق كبير للاحتفال بالحزب الجديد، وظهر في المنصة الزعيم مصطفى النحاس، واستقبل بالهتاف، وألقى خطابًا يشرح فيه مبادئ الحزب وفي مقدمتها الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والوحدة الوطنية، ولما رجعنا إلى المكان الذي نجتمع فيه كل مساء قلت لهم إنني لما رأيتهم يحتفلون ذكرتهم بفرحتهم يوم حريق القاهرة وإقالة وزارة النحاس. فقال لي أحدهم إن تلك الفرحة هي خطيئتهم الكبرى وإنهم كفروا عنها في اجتماع اليوم»( ).
يظهر الزعيم "مصطفى النحاس" بوصفه زعيمًا للأمة وللوفد بعد "سعد زغلول" في سرادق الوطن الذي يتوسطه تعانق الهلال مع الصليب، ومصر للمصريين، وأن الدين لله والوطن للجميع، ويعلن في احتفاله عن مبادئ التقدم، وآليات التنوير، التي تربى عليها نجيب محفوظ، ورسخت في وعيه، وأخلص لها في أعماله، وظل ابنًا بارًا لتلك التعاليم فلم يغيره الزمن، أو تقلبات السياسة، ويلخص الزعيم الوفدي مبادئ الوفد التي أنارت سماء مصر وحررت الوعي ورسمت طريقًا لوطن يدرك فيه المواطن مواطنته، ويعرف مقدار وضعيته السياسية والتاريخية، فالجماهير الأحرار تنصت للزعيم الحر الذي يشرح لجماهيره المبادئ الثلاثة للوعي السياسى وأن أركان الوطنية، والمواطنة، والمواطن لا تتحقق إلا بتلك المبادئ: الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، والوحدة الوطنية، فلا وطن إلا بالحريات أو تداول السلطة، أو التعددية السياسية، أي الديمقراطية التي لا تكون إلا بتحقق العدالة الاجتماعية، فلا ديكتاتورية في توزيع الثروات، ولا ديمقراطية دون أن يكون هناك عدل اجتماعي وتنافس حر وتسامح ومحبة من أجل مستقبل حر لوطن حر. إنها الدلالات والرؤى التي يثيرها اسم العلم في الحلم، ويدفع نصه إلى ترسيخ تلك الدلالات، فيكون مفهوم العَلم في الأحلام المحفوظية كليًّا عامًّا ومجردًا غير مرتبط بدلالات ذاتية متضمنة. وهنا، أتفق مع المناطقة الذين يذهبون إلى أن اسم العلم باعتباره دالا لايحمل- دائما- دلالة المطابقة أو الإحالة أو التضمين في علاقته بمدلوله المباشر، ولكنه يمكن أن يحمل دلالات رمزيَّة أو كنائية أو مجازية إذا قاربناه في سياق نصي معين، باستعمال مشرح التأويل والفهم والتفسير.
في هذا السياق أيضًا يحضر رموز الثقافة والفن من أمثال "سعد الدين وهبة" و"الشيخ محرم" و"الشيخ مصطفى عبد الرزاق" و"الشيخ زكريا أحمد" و"كوكب الشرق أم كلثوم" وغيرهم من رموز الفن والثقافة، فنرى نجيب محفوظ في "حلم 358" من "الأحلام الأخيرة" يستدعي سيدة الغناء العربي كوكب الشرق أم كلثوم وأيضًا شيخ الملحنين الشيخ زكريا أحمد، فيقول: «وجدتني في حفلة لأم كلثوم بصحبة الشيخ زكريا أحمد، وقد بلغ الطرب منتهاه عندما غنت "وتميل عليه وتقول له ليه طاوعتني"، وعند انتهاء الحفلة خرجت مع الشيخ زكريا نسير في شوارع القاهرة الفاطمية "وتميل عليه وتقول له ليه.." حتى وصلنا إلى حارة بيت القاضي، حيث كان ينتظرنا طاجن كفتة وصينية بسبوسة»( ).
فكوكب الشرق أم كلثوم والشيخ زكريا أحمد شخصيتان لهما أبعادهما النفسية والذاتية التي يمكن تحقيقها، لكنهما لا يحضران في الحلم بهذه الصفة، وإنما يحضران بوصفهما رمزًا من رموز الإيمان بالفن الذي يؤدي إلى الصفاء والتواضع، فالحفل والاستمتاع بالطرب انتهى بهما إلى أكل "طاجن كفتة وصينية بسبوسة"، ويتأكد هذا لدينا إذا علمنا أن هذا الدور المشار إليه في الحلم وتغنت به أم كلثوم، دور "إمتى الهوى ييجي سوا" أحد أعظم الأدوار التي غنتها أم كلثوم، ولم تكن قيمته لدى الشيخ زكريا أحمد مقصورة على أنه من تلحينه فحسب، فقد بلغ اهتمام الشيخ زكريا بهذا الدور أن انخرط في سلك الكورس خلف أم كلثوم ليردد المذهب معهم، فالحلم هنا كالواقع الخارجي الذي «لا يتعامل مع الأسماء بطريقة شفافة في كثير من الأحيان، لكنه يحملها بكثير من الأفكار والاتجاهات والرؤى والمشاعر والرواسب الثقافية»( ).
والمزاوجة نفسها بين الأبعاد النفسية والذاتية من جهة، والأبعاد الرمزيَّة للشخصية التي تظهر باسمها في الأحلام المحفوظية يمكن تلمسها في تعامل الحلم المحفوظي مع شخصية "سعد الدين وهبة"، ففي "حلم 159" من "أحلام فترة النقاهة" يقول: «تلقى بعض الحرافيش دعوة من الأستاذ سعد الدين وهبة، فذهبنا إلى مقابلته، وهناك رحب بنا وأطلعنا على بيان سيرفعه إلى كبار المسئولين لتطهير الهيئة من الساسة المنحرفين، ودعانا إلى التوقيع عليه بإمضاءاتنا فاستجبنا بحماس، وعند فجر ذلك اليوم اخترق بيوتنا زوار الفجر وساقونا معصوبي الأعين إلى المجهول»( ). فشخصية سعد الدين وهبة شخصية واقعية ذات ملامح وأبعاد نفسية ترتد إلى الواقع بسمات معروفة ومشتركة بين المتلقي ونص الحلم، ويستثمر الحلم هذه السمات المعروفة لدى المتلقي للانتقال إلى البعد الرمزي، فيصبح سعد الدين وهبة رمزًا لكل مثقف حر يسعى إلى تغيير واقع مأزوم حوله مستعينًا بمن حوله ممن يؤمنون بأفكاره، ويكون المصير الذي يلقاه في الحلم إشارة إلى نقد الواقع الموجود فيه المثقف، وما قد يجد من عنت السلطة إذا فكر أو أراد تغيير الواقع ونقده. والواقع أن مثل هذا النموذج الذي يسعى إلى طموح محدد والخروج عن المألوف في مجتمع ساكن لا يتحرك في أعمال محفوظ- والأمر كذلك في أحلامه- يكون عقابه أشد بكثير من نوع الجريمة التي ارتكبها أو التمرد الذي سلكه( ).
على أنَّ أثرَ الحُلم على الشَّخصيَّة الوارد اسمها فيه عند نجيب محفوظ لا يتوقف عند حد المزاوجة بين تعريفها وما تحمله من دلالاتٍ ورؤًى وأبعادٍ داخل الحلم، وإنما يتجاوز ذلك فيصل بالشَّخصيَّة إلى حد التجريد حين يطلق عليها اسم صديق قديم أو صديق العمر أو يسميها بأول حرف من حروف الاسم، فتكون عوامل أو فواعل رئيسية أو ثانوية أو عابرة في النص الحلمي لا تحمل اسمًا يحددها، أو علمًا معرفًا يميز مواصفاتها فتنتفي صفة التعيين عنها، ويعني هذا أنها تصبح غير مسماة باسمٍ محددٍ يخصصها، وغير معرفة على مستوى التركيب السردي لا صرفيًّا، ولا نحويًّا، ولا شخوصيًّا، بل تتحول هذه الشخصيات إلى عوامل مجهولةٍ، وشخصياتٍ مُطلقةٍ ومُجردةٍ، وكائناتٍ رمزيَّة وكنائيةٍ، ويبقى لها ما تحمله من رؤى وأبعادٍ ودلالاتٍ وما تؤديه من وظائف داخل نص الحلم( ).
نرى ما تقدَّم على سبيل المثال في "حلم 76" الذي يحضر فيه صديق الشباب وشهيد الوطنية، ويقول في مفتتحه: «هذه شجرة مورقة يجلس تحتها صديق الشباب وشهيد الوطنية.. وعلى الرغم من مرور عشرات السنين على رحيله فإنه بدا أنيقًا في صحة وعافية»( ). وفي "حلم 79" يحضر الصديق مدير الفندق فيقول الرَّاوي في مفتتحه: «جلست في شرفة الفندق الصغير المطلة على البحر. غاب عني المنظر الجميل لشدة استغراقي في انتظار فتاتي. ولما طال الانتظار جاءني مدير الفندق وهو أيضا صديق صباي واقترح علي أن أعالج حالتي بالمشي»( ). أما في "حلم 72" فيظهر الصديق المرحوم (ع. ش) خارجًا من مطعم الأسماك بالعباسية: «وخرجت من المطعم فرأيت على بعد ذراع صديقي المرحوم (ع. ش) وسررت برؤياه سرورًا كبيرًا. وعلى سبيل المجاملة قدمت له اللفافة، لكنه أخذها بلهفة ومضى دون أن ينبس بكلمة إلى باب مفتوح فدخله وأغلقه» ( ). وفي "حلم 73" يقابل الحالم زميله المرحوم (ح. أ) في بهو متعدد الحجرات والأشخاص يوحي منظره بأنه مصلحة حكومية، فيقول: «وأكد ذلك- كون البهو مصلحة حكومية- مجيء زميلي المرحوم (ح. أ) ليخبرني بأن الوزير أرسل في طلبي. وذهبت من فوري إلى حجرة الوزير. واستأذنا ودخلت»( ). وهو الأمر الذي يتكرر في غير ذلك من الأحلام، ويبلغ فيها تجريد الشَّخصيَّة مداه بتحويلها إلى كيان غير محدد أو محدد عن طريق الحرف الذي لا يشي بتعيين ولا تعريف.
إن الشَّخصيَّة في مثل هذه الأحلام تتحول إلى مجرد كائناتٍ رمزيَّةٍ وكنائيةٍ تحمل رؤًى وأبعادًا ودلالاتٍ ووظائفَ داخل النص الحُلمي، لعل بعضها ينكشف بالوقوف أمام "حلم 387" من "الأحلام الأخيرة" الذي يقول فيه: «وجدتني مع بعض الحرافيش في مسكن المرحوم الشاعر "ص" ومعه المرحومة "س" فتصافحنا بحرارة وسألته: هل أنت تؤلف لها دراما شعرية؟ فقال: إن الذي يجمعني بها الآن الانتحار الذي ارتكبناه ضيقًا بالحياة، وأخذنا نتسامر حتى الهزيع الأخير من الليل، وغادرنا المسكن، أما الشاعر والفنانة فسارا في الشارع الطويل الخالي ونحن في الناحية المضادة والحزن يملأ جوانحنا»( ).
يَشِي سياق الحلم السابق أن «ص» رمزٌ للشاعر صلاح جاهين، و«س» رمزٌ للفنانة سعاد حسني، وربما المقصود بالدراما الشعرية هنا فيلم «خلي بالك من زوزو» الذي كتبه جاهين لسعاد حسني وأخرجه حسن الإمام، لكن الحلم لا يريدُ حضور الفنانيَن بوصفهما كيانًا متعينًا، وإنما يريد حضورهما حضورًا مجردًا عن التعيين فـ«ص» و«س» رمزان قد ينطبقان على كثير من الفنانين، بما يعني أنَّ الشَّخصيَّة مع هذا التجريد داخل الحلم تتحول إلى كائنٍ مجردٍ دون هويةٍ تُحددها، ولا كينونةٍ وجوديةٍ تُخصصها عن باقي الذوات التخييلية الأخرى. ومن ثَمَّ، تبقى أيضًا دون حمولات إنسانية تميزها عن باقي الشخصيات الأخرى، ويعني هذا أن الحلم يميل إلى تجريد مثل هذه الشخصيات بدل تعريفها بأوصافها وقيمها وأحداثها بشكلٍ مطنبٍ، بما يتناسب مع بعض المقاييس الأخرى المنسجمة التي تلائم الحلم باكتناز لغته، مثل: مقياس الانتقاء في الأوصاف، ومقياس التكثيف، ومقياس التسريع، ومقياس الحذف والإضمار، ومقياس الاختزال، ومقياس التراكب.
إنَّ ما تقدَّم يكشف أنَّ الحُلمَ المحفوظيَّ استخدم أسماء الرموز والزعماء والأصدقاء والأسرة ووظف طاقتها الدلالية توظيفًا فنيًّا، فجعلها تُزاوج بين التعيين وما تحمله من رؤًى ودلالاتٍ حين تكونُ محددةً ويمكنُ تعيينُها في الواقع تارةً، وجرَّدها من التعيين، وصرفَها إلى أداء وظائفها ودلالاتها ورؤاها داخل النص الحلمي تارةً أخرى، بما يجعلُ الشَّخصيَّةَ من هذا النَّمط تتوافقُ مع مقاييس الأحلام الفنيَّةِ من اتساعِ الرُؤى واكتنازِ العبارةِ.


Summarize English and Arabic text online

Summarize text automatically

Summarize English and Arabic text using the statistical algorithm and sorting sentences based on its importance

Download Summary

You can download the summary result with one of any available formats such as PDF,DOCX and TXT

Permanent URL

ٌYou can share the summary link easily, we keep the summary on the website for future reference,except for private summaries.

Other Features

We are working on adding new features to make summarization more easy and accurate


Latest summaries

تقبل واقعك : لك...

تقبل واقعك : لكي تتمكن من التكيف مع المتغيرات ،عليك أن تتقبل واقعك كما هو بدلاً من أن تحزن وتكتئب ، ...

بحث تخرج بعنوان...

بحث تخرج بعنوان أثر تطبيق تحليل البيانات الضخمة على الأداء المصرفي في فلسطين المقدمة تحليل البيانا...

ومتى شَعَرَ الر...

ومتى شَعَرَ الرَّجلُ من آخر بإنكار شيء من فضله، أو بتعسفه في معارضة رأيه رآه غير موضع للصحبة والمعا...

يرتبط مفهوم الق...

يرتبط مفهوم القدرة لدى كثيرين بمفهوم الاستعداد للقيام بفعل معيّن .لكن الاختلاف يكمن في كون الأولى مك...

Stratégie et po...

Stratégie et politique générale de l’entreprise : Toute entreprise est plus ou moins orientée par un...

رسل هولاكو بينم...

رسل هولاكو بينما كان سيف الدين قطز منشغلاً بإعداد الجيش، جاءته رسالة من هولاكو يحملها أربع رسل من ال...

وتعد القراءة من...

وتعد القراءة من أكثر مصادر العلم والمعرفة وأوسعها، حيث حرصت الأمم المتيقظة على نشر العلم وتسهيل أسبا...

دور الذكاء الاص...

دور الذكاء الاصطناعي في صناعة التحولات الحديثة في مجال الاتصالات لا شك أننا في زمن أبطاله التواصل وا...

نعيش اليوم في خ...

نعيش اليوم في خضم مجتمع المعرفة والمعلومات، مجتمع الويب والإتصال الشبكي،أين أصبح التدفق المعلوماتي أ...

When you add a ...

When you add a hydrochloric acid (HCl) solution to a solution of sodium carbonate (Na2CO3), the hydr...

كثر الناس يعيشو...

كثر الناس يعيشون في نفوس الناس أكثر مما يعيشون في نفوسهم؛ أي إنهم لا يتحركون ولا يسكنون ولا يأخذون و...

Angel Reese is ...

Angel Reese is Shining like a Diamond at the Met Gala 2024.It's Angel Reese's year, and the Met Gala...