Lakhasly

Online English Summarizer tool, free and accurate!

Summarize result (1%)

ولعله تجدر الإشارة إلى أن الأمر يستوي بالنسة لنا في أي مكان من هذه المعمورة يسكنون». الإعصار الصحيح الأمر الذي أدى إلى منافسة أشد فقد استنكرت النقابات العمالية ومؤسسات فهي سرعان ما تأخذ هناك أيضا بإعادة هيكلة هذه المصانع وتسريح أعداد غفيرة من العاملين بها . ويقدمونها دونما كلل أو ملل


Original text

" مجتمع الخمس الثري وأربعة الأخماس الفقراء


مسيرو العالم في طريقهم لبناء صرح حضارة أخرى


إن فندق فيرمونت Fairmont - Hotel) في سان فرانسيسكو مأوى مناسب للرؤى ذات الأبعاد العالمية. فهو منشأة مهمة، وله منزلة الأيقونات إنه نزل لسكنى من اعتادوا حياة الترف والنعيم وأسطورة من أساطير الهيام بالحياة. من يعرفه يسميه تقديرا واحتراما «الفيرمونت» (The Fairmont) فقط، ومن يسكن فيه، هو بلا ريب واحد من أولئك الذين ظفروا بكل ما يمنون به أنفسهم.


إنه يتربع على المرتفعات المسماة نوب هيل Nob Hill التي تطل على وسط المدينة وقلبها التجاري (City)، كما لو كان كاتدرائية تجسد الثراء والنعيم إنه بناية تتباهى كاليفورنيا بعظمته، وهو خليط صاغه الذوق الذي ساد في مطلع القرن والثراء الذي عم بعد الحرب العالمية وينبهر زائروه ويؤخذون على حين غرة، حينما يستقلون في براح الفندق المصعد ذا الجدران الزجاجية، ليحلق بهم إلى المطعم المسمى «صالة التاج» (Crown's Room)، إذ يبدو لهم حينئذ مظهر خلاب لذلك العالم الرائع الذي تحلم به مليارات البشر فمن جسر Golden - Gate إلى سلسلة مرتفعات بركلي (Berkeley) تتوهج الأنظارهم طبقة وسطى على ثراء لانهاية له، وتتلألأ لهم تحت أشعة الشمس ومن بين أشجار الأوكالبتس أحواض السباحة التي تضمها المنازل الفسيحة التي يقف في مداخلها العديد من السيارات.


وكما لو كان علامة حدود عملاقة يشكل الفرمونت الحد الفاصل بين الحاضر والمستقبل، وبين أمريكا وبلدان المحيط الهادئ. فعلى سفوح التل بحذاء الفندق تكتظ المنازل بأكثر من مائة ألف صيني، وهناك، عن بعد في الخلف، يبدو وادي السيليكون، وهو موطن ثورة الكمبيوتر (*) : Silicon Valley .


ولقد درج الكاليفورنيون الذين عرفوا كيف يجنون الأرباح من الهزة الأرضية التي عصفت بالمنطقة عام 1906 ، وجنرالات الحرب العالمية الأمريكيون ومؤسسو الأمم المتحدة والسادة المهيمنون على مصائر مؤسسات الصناعة والمال وجميع رؤساء الجمهورية الأمريكية في هذا القرن، درج هؤلاء جميعا على الاحتفال بانتصاراتهم في الصالات الفسيحة المزركشة لهذا الفندق الذي كان قد أضفى على رواية آرثر هيلاي Arthur Haiely) الخيالية شيئا من واقعه الحقيقي، عندما اختير ليكون المسرح المناسب لتحويل الرواية إلى فيلم سينمائي، ومن ثم فليس بالأمر العجيب أن يصبح الفندق منذ ذلك الوقت كعبة السواح.


في هذا المكان الذي شهد أحداثا عالمية جساما وقف في نهاية سبتمبر


من عام 1995 ، واحد من القلة الحاضرة والذي كان هو نفسه قد حدد مسار التأريخ محييا نخبة من العالم. ولم يكن هذا الشخص سوى ميخائيل جرباتشوف. فقد كان بعض الأثرياء الأمريكيين قد تبرعوا بالمال اللازم ليؤسسوا له في البرزيديو (Presidio) بخاصة . وهو مكان يقع جنوب جسر Golden Gate وكان إلى نهاية الحرب الباردة موقعا عسكريا - معهدا تعبيرا عن شكرهم وتقديرهم لشخصه . وهكذا فقد دعا جورباتشوف الآن خمسمائة من قادة العالم في مجالات السياسة والمال والاقتصاد، وكذلك
علماء من كل القارات. وكان المطلوب من هذا الجمع المختار بعناية، والذي وصفه آخر رئيس للاتحاد السوفييتي وحامل جائزة نوبل بأنه : ماهو إلا «هيئة خبراء» (Braintrust) جديدة . نعم كان المطلوب منه هو أن يبين معالم الطريق إلى القرن الحادي والعشرين، هذه الطريق التي ستفضي إلى حضارة جديدة (1) .


وهكذا تحتم أن يلتقي هنا قادة من المستوى العالمي حنكتهم التجربة، من


أمثال جورج بوش وجورج شولتس ومارجريت تاتشر بقادة كوكبنا الأرضي


الجدد من أمثال رئيس مؤسسة CNN ، هذا الرجل الذي دمج شركته بـ Time


Warner ليجعل منهما أكبر اتحاد في مجال المعلومات في العالم، أو بعملاق


التجارة، ابن جنوب شرق آسيا، واشنطون سي سيب Washington Sy Cip .


وقد أرادوا أن يقضوا ثلاثة أيام في التفكير بعمق وتركيز، وفي حلقات عمل


مصغرة معا إلى جانب أقطاب العولمة في عالم الكمبيوتر والمال، وكذلك مع


كهنة الاقتصاد الكبار وأساتذة الاقتصاد في جامعات ستانفورد وهارفرد


وأكسفورد . كما طالب القائمون على التجارة الحرة في سنغافورة، وفي


الصين أيضا، بالطبع، بأن يصغي المؤتمرون لصوتهم، لاسيما أن الموضوع له


علاقة بمستقبل البشرية جمعاء. ولقد حاول رئيس وزراء مقاطعة سكسونيا


أن يعبر عن وجهة النظر الألمانية في هذه المناقشات.


ولم يكن واحد من هؤلاء قد جاء إلى هنا للثرثرة. كما لم يكن مسموحا لأحد بأن يخل بحرية التعبير. أما جمهور الصحفيين فقد تمكن المرء من الخلاص منه ومن فضوله بتكاليف لا يستهان بها (2) . وكانت القواعد الصارمة تجبر المشاركين على التخلي عن داء الخطابية والبلاغة البديعية . ولم يُسمح للمتكلم بالتحدث والتمهيد لأحد الموضوعات بأكثر من خمس دقائق، أما المداخلة فلا يجوز أن تستغرق أكثر من دقيقتين فحسب. وكانت هناك سيدات أنيقات في متوسط العمر ينبهن أصحاب المليارات والمنظرين والعلماء المشاركين في المناقشات، كما لو كانوا مشاركين في مسابقات السيارات من الدرجة الأولى، وبواسطة لوحات بينة للأنظار مكتوب عليها : تبقى من الزمن دقيقة واحدة»، «ثلاثون ثانية»، «انتهى».


وكان مدير شركة الكمبيوتر الأمريكية ميكروسيستمز جون جيج (John Gage)، قد بدأ المناقشات بتقرير حول التكنولوجيا والعمل في الاقتصاد
المعولم». وتعتبر شركته النجم الجديد في عالم الكمبيوتر، فقد طورت لغة الحاسوب الجديدة : جافا (Java)، الأمر الذي أدى إلى أن ترتفع أسهم سان سيستمز ارتفاعا حطم كل الأرقام القياسية في الوول ستريت. وفي هذا الاجتماع قال جيج: بمستطاع كل فرد أن يعمل لدينا المدة التي تناسبه، إننا لا نحتاج إلى الحصول على تأشيرات السفر للعاملين لدينا من الأجانب.


فالحكومات ولوائحها لم تعد لها أهمية في عالم العمل. إنه يُشغل من هو بحاجة إليه، وهو يفضل الآن عقول الهند الجيدة التي تعمل من دون جهد أو كلل. إن الشركة تتسلم بواسطة الكمبيوتر طلبات للعمل جيدة من كل أنحاء المعمورة . إننا نتعاقد مع العاملين لدينا بواسطة الكمبيوتر، وهم يعملون لدينا بالكمبيوتر ويطردون من العمل بواسطة الكمبيوتر أيضا».


واستمر جيج، وقد رفعت السيدة المسؤولة عن ضبط الزمن اللوحة منبهة إياه بأنه تبقى لديه 30 ثانية فقط للتحدث، واستمر يقول: «إننا وبكل بساطة نأخذ أفضل المهارات والمواهب. فبأدائنا استطعنا أن نرفع حجم مبيعاتنا منذ بدأنا العمل لأول مرة قبل 13 عاما، من الصفر إلى ما يزيد على 6 مليارات دولار. وراح جيج يستغل ما تبقى لديه من الثواني ليلتفت صوب جاره على الطاولة، ليقول له بلهجة الراضي عن نفسه، ومع ابتسامة تنم عن رغبته في توجيه وخزة رقيقة: «أليس كذلك يا دافيد؟ إنك لم تحقق مثل هذا النجاح بهذه السرعة أبدا».


لقد كان المقصود هنا دافيد بكارد (David Packard)، أحد المؤسسين لعملاق التقنية العالية هولت بكارد (Hewlett - Packard) . إلا أن الملياردير العجوز والعصامي لم يبد منقبضا لهذه الوخزة، بل فضل أن يطرح وبذهن صاف السؤال المركزي: كم هو عدد العاملين الذين أنت بحاجة إليهم فعلا يا جون؟


ورد جون ببرود : ستة، ولربما ثمانية»، فمن دون هؤلاء يتوقف عملنا بلا مراء. ولعله تجدر الإشارة إلى أن الأمر يستوي بالنسة لنا في أي مكان من هذه المعمورة يسكنون». أما الآن فقد جاء دور مدير الجلسة البروفسور رستم روي Rustum Roy من جامعة بنسلفانيا ستات Pennsylvania State University للسؤال بدقة أكثر : «وكم هو عدد العاملين الآن لدى سان سيستمز ؟ فيرد عليه جيج: 16 ألفا . وإذا ما استثنينا قلة ضئيلة منهم، فإن


جل هؤلاء احتياطي يمكن الاستغناء عنه عند إعادة التنظيم».


لم يهمس أحد ببنت شفة، فبالنسبة للحاضرين فإن الجموع الغفيرة من العاطلين عن العمل التي تلوح الآن في الأفق أمر بديهي. فلا يوجد أحد من بين هؤلاء المديرين الذين يحصلون على أعلى الرواتب في قطاعات صناعات المستقبل، وفي بلدان المستقبل يعتقد بأنه ستكون هناك فرص عمل جديدة كافية، توفر للعاملين أجورا معقولة في الأسواق النامية التي تستخدم أحدث وأغلى الأساليب التكنولوجية، في الدول التي ما زالت تعتبر حتى الآن دول الرفاهية الاقتصادية، إن هذه الحال ستعم جميع القطاعات الاقتصادية.


ويختزل البرجماتيون في فيرموفت المستقبل إلى العددين 20 إلى 80 وإلى مصطلح « Tittytainment».


فحسب ما يقولون، فإن 20 بالمائة من السكان العاملين ستكفي في القرن القادم للحفاظ على نشاط الاقتصاد الدولي. ويؤكد عملاق التجارة Washington Sy Cip هذا الرأي إذ يقول: «لن تكون هناك حاجة إلى أيد عاملة أكثر من هذا ، فخمس قوة العمل سيكفي لإنتاج جميع السلع، ولسد حاجة الخدمات الرفيعة القيمة التي يحتاج إليها المجتمع العالمي. إن هذه الـ 20 بالمائة هي التي ستعمل وتكسب المال وتستهلك . وسيكون الأمر كذلك عن أي بلد من هذه البلدان الصناعية - المترجم [ أنت تتحدث. ولربما زادت النسبة بمقدار نقطة أو نقطتين، إذا ما أضفنا - كما يقول المناقشون - الورثة الأثرياء.


ولكن ماذا عن الآخرين؟ ماذا عن الثمانين بالمائة العاطلين وإن كانوا يرغبون بالعمل؟ إن الثمانين بالمائة من الطبقة السفلى ستواجه بالتأكيد »


كما يرى الكاتب الأمريكي جريمي ريفكن (Jeremy Rifkin)، مؤلف كتاب نهاية العمل» - مشاكل عظيمة». ويعزز رئيس مؤسسة سان هذا الرأي مستشهدا بمدير شركته سكوت مك نيلي Scoot Me Nealy)، إذ يقول إن المسألة ستكون في المستقبل هي: «إما أن تأكل أو تؤكل» (to have lunch or . (be lunch


بعد ذلك وجه المتناقشون ذوو المنازل الرفيعة في هذا العالم، اهتمامهم في الحلقة الدراسية عن مستقبل العمالة صوب أولئك الذين لن يحصلوا على فرصة للعمل. وكان الحاضرون في هذه الحلقة على ثقة تامة من أنه سيكون من جملة هؤلاء العاطلين عن العمل عشرات الملايين من جميع أنحاء المعمورة الذين ينعمون الآن بمستواهم المعاشي الذي يقترب إلى حد ما، من المستوى الرفيع السائد الآن في San Francisco Bay Area ولا يعيرون اهتماما لمعنى العيش دونما فرصة عمل مضمونة . لقد رسمت في فيرمونت الخطوط العريضة للنظام الاجتماعي الجديد : بلدان ثرية من دون طبقة وسطى تستحق الذكر. ولكن كيف كان رد فعل الحاضرين على هذه الرؤية؟ لم يعترض أي منهم عليها ولم يروا فيها ما يستحق المناقشة.


بدلا من ذلك نال اهتمامهم العريض مصطلح tittytainment» الذي طرحه زبجنيو برجنيسكي (Zbigniew Brzezinski للمناقشة. وكان هذا البولندي المولد لمدة أربع سنوات مستشارا للأمن القومي إبان إدارة الرئيس الأمريكي جيمي كارتر. أما الآن فإنه مهتم بالمسائل الجيو - ستراتيجية. وحسب ما يقوله برجنيسكي فإن Tittytainment مصطلح منحوت من الكلمتين Entertainment» (تسلية) و «Titsس (حلمة) ، الكلمة التي يستخدمها الأميركيون للثدي دلعا . ولا يفكر برجنيسكي هنا بالجنس طبعا، بل هو يستخدمه للإشارة إلى الحليب الذي يفيض عن ثدي الأم المرضع. فبخليط من التسلية المخدرة والتغذية الكافية يمكن تهدئة خواطر سكان المعمورة المحبطين.


وهكذا راح رجال الأعمال يناقشون بحصافة ورزانة المقادير المحتملة والطرائق المتاحة للخمس الثري المساعدة الجزء الفائض عن الحاجة. إن التزاما اجتماعيا من قبل المؤسسات الإنتاجية أمر غير وارد في ظل الضغوط


الناجمة عن المنافسة التي تفرضها العولمة. إن الاهتمام بأمر العاطلين عن العمل هو من اختصاص جهات أخرى. ويتوقع المناقشون أن يقع عبء الأعمال الخيرية ودمج العاطلين في جسم المجتمع، على عاتق المبادرات التي يقوم بها عادة الأفراد في مساعدة بعضهم للبعض الآخر طواعية كالمساعدات التي يقدمها الجيران لجيرانهم والمؤسسات الرياضية لأعضائها والنوادي بمختلف أنواعها لأفرادها . وحسب رأي الأستاذ الجامعي روي (Roy) فإنه بالإمكان الإعلاء من شأن هذه المساعدات، وذلك من خلال دفع مبلغ بسيط من المال نقدا حفاظا على كرامة هذه الملايين من المواطنين». وكيفما كان الحال، يتوقع المهيمنون على مصائر الاتحادات والمؤسسات الصناعية أن الأمر لن يستمر طويلا، حتى نرى في الدول الصناعية أفرادا ينظفون الشوارع بالسخرة، أو يعملون خدماً في المنازل قصد الحصول على ما يسد الرمق. ويحلل العالم المختص بشؤون المستقبل جون نايزبت (John Naisbitt) واقع المجتمعات الصناعية ويتوصل إلى نتيجة مفادها أن عصر المجتمعات الصناعية، وما أفرزه هذا العصر من مستوى معيشي مرتفع الجمهور المجتمع، ليس سوى حدث عابر في التاريخ الاقتصادي».


لقد ظن منظمو هذه الأيام الثلاثة في فيرمونت والتي ستبقى خالدة في ذاكرة التاريخ أنهم على أبواب حضارة جديدة. إلا أن الحقيقة هي على خلاف ذلك. فالاتجاه الذي تومئ إليه هذه العقول الرائدة في مجال الصناعة والمال والعلم ينتقل بنا مباشرة إلى عصر ما قبل الحداثة، إذ لم يعد مجتمع الثلثين الأثرياء والثلث الفقير ، الذي كان الأوروبيون يخافون منه في الثمانينيات هو الذي يقرر توزيع الثروة والمكانة الاجتماعية، بل سيحددهما في المستقبل، حسب ما يقوله هؤلاء النموذج العالمي الجديد القائم على صيغة %20 [يعملون و 80 [عاطلون عن العمل . لقد لاح في الأفق حسب رأيهم، مجتمع الخمس، هذا المجتمع الذي سيتعين في ظله تهدئة خواطر العاطلين فيه عن العمل بما يسمونه Tittytainment . ولكن هل كل هذه التنبؤات مجرد إسراف ومغالاة؟


الإعصار الصحيح


في ألمانيا كان هناك في عام 1996 أكثر من ستة ملايين يرغبون في العمل، إلا أنهم لا يجدون فرصة دائمة للعمل. وهذا العدد هو أعلى رقم يسجل منذ تأسيس جمهورية ألمانيا الاتحادية. أما صافي متوسط مداخيل الألمان الغربيين فهو في انخفاض مستمر منذ خمس سنوات. وحسب ما يقوله الراجمون بالغيب - سواء العاملون لدى الحكومة أو في المراكز العلمية أو في الشركات - ليس هذا كله سوى بداية تنبئ بما هو أسوأ ، ففي العقد القادم ستلغى، بناء على ما يتنبأ به استشاري المشاريع المعروف في ألمانيا


رولاند برغر (Roland Berger) ، مليون ونصف المليون فرصة عمل على أدنى تقدير في القطاع الصناعي بمفرده، وهناك احتمال أن يلغى نصف السلم المتوسط في إدارة المشاريع (3) . أما زميله هربرت هتسلر (Herbert Hezler)، رئيس الفرع الألماني للشركة الاستشارية مكنزي (McKinsey)، فإنه يذهب


إلى أبعد من هذا، إذ يتنبأ بأن «الصناعة ستسلك نفس الطريق الذي


سلكته الزراعة». فالإنتاج السلعي لن يوفر إلا لنسبة ضئيلة فقط من القوة


العاملة فرصة لكسب الأجر والقوت (4) . وفي النمسا أيضا تعلن الدوائر


المختصة باستمرار تناقص عدد العاملين. ففي كل عام تلغى في الصناعة


عشرة آلاف فرصة عمل. هذا ومن المتوقع أن تصل نسبة البطالة في عام


1997 إلى 8 بالمائة، أي ضعف ما كانت عليه في عام 1994 (5) .


ويختزل الاقتصاديون والسياسيون أسباب هذا التدهور إلى كلمة واحدة


لاغير العولمة فحسب النظرية السائدة تحول العالم بفضل تكنولوجيا


الاتصالات العالية (High-Tech - Kommunikation) وانخفاض تكاليف النقل


وحرية التجارة الدولية إلى سوق واحد، الأمر الذي أدى إلى منافسة أشد


وطأة وأكثر شمولية، ليس في سوق السلع فقط، بل في سوق العمل أيضا


وأن الشركات الألمانية قد صارت تفضل خلق فرص عمل في بلدان أخرى


أدنى أجرا . وهكذا لم يعد لدى طابور القيادة، ابتداء من مدير المؤسسة


وانتهاء بوزير العمل، إلا رد واحد فقط على هذا التطور يتمثل بعبارة


التضحية هي وسيلة التكيف مع العالم الجديد». وبالتالي صار المواطنون


لا يسمعون سوى نغمة واجب التضحية بلا انقطاع . فهناك جوقة من قياديي اتحادات الصناعيين ورجالات الأعمال ومن علماء الاقتصاد والاستشاريين والوزراء، يدعون بأن الألمان . وما يقال عن الألمان من الأولى أن يقال عن النمساويين طبعا . يتميزون بساعات عمل قليلة، ويحصلون على مداخيل عالية، ويتمتعون بأيام عطل كثيرة، وأنهم كثيرا ما يتغيبون عن العمل بحجة


المرض. ويجد هذا الرأي دعما صحفيا في الجرائد والإذاعة المرئية. فعلى سبيل المثال كتبت جريدة فرانكفورتر الجمانيه Frankfurter Allgemeine Zeitung: يصطدم المجتمع الغربي كثير الرغبات بالمجتمعات الآسيوية الطموحة والمضحية»، وأن دولة الرفاهية قد غدت تهديدا للمستقبل»، وأن


شيئا من اللامساواة الاجتماعية قد أضحى أمرا لا مناص منه (6) .


وشاركت الصحيفة النمساوية الواسعة الانتشار على المستوى الشعبي


في هذه المعركة بمانشيت عريض يتعمد الإثارة قائلة: «لقد عاشت القارة عيشة لا تتناسب مع إمكاناتها : تدابير تقشف جديدة ترعب أوروبا (7) . وحتى رئيس الجمهورية الألمانية رومان هرتسوغ (Roman Herzog) نفسه، لم يترك الفرصة تمر من دون أن يقدم الدعم اللازم لهذا الرأي. فقد توجه إلي الشعب ليقول إن التحول قد أضحى أمرا لا مفر منه. إن على كل فرد أن يتحمل قسطا من التضحية».


إنه لم يفهم الأمور على حقيقتها على ما يبدو. فالنقاش لا يدور حول التضحيات الضرورية الواجب على الجميع تحمل أعبائها في عصور الأزمات والشدة. فوسائل من قبيل تخفيض الأجر في حالات المرض وإلغاء الحماية التي يتمتع بها العمال ضد الطرد التعسفي والتخفيضات الكبيرة في المدفوعات الاجتماعية وتخفيض أجور العاملين على الرغم من ارتفاع الإنتاجية باطراد، ليست وسائل القصد منها مواجهة أزمة اقتصادية عابرة. فما يطالب به الإصلاحيون لمواجهة العولمة هو في واقع الحال التخلي كلية عن العقد الاجتماعي الألماني غير المكتوب الذي أبقى - من خلال إعادة توزيع المداخيل من الفئات العليا لمصلحة الفئات الدنيا - اللامساواة الاجتماعية في حدود معقولة. إنهم يدعون بأن النموذج الأوروبي لدولة الرفاهية قد أكل الدهر عليه وشرب، وأنه قد صار مشروعا باهظ التكاليف مقارنة بما هو سائد في بلدان العالم الأخرى. أما المعنيون بهذه التوجهات فقد فهموا الأمر على حقيقته . فقد استنكرت النقابات العمالية ومؤسسات


الرعاية الاجتماعية في كل أنحاء الجمهورية الألمانية هذه التوجهات. فحتى نقابة العاملين في الصناعة الكيمياوية IG chemie المعروفة عادة باعتدالها في المطالب قد صارت تهدد بإضراب عام يعم جميع ألمانيا . كما هدد ديتر شولته، رئيس الاتحاد العام للنقابات العمالية بـ «اتخاذ مواقف ستبدو حيالها الإضرابات العمالية الفرنسية في ديسمبر من عام 1995 بداية مترددة مجهدة (8) .


ولكن وعلى الرغم من كل هذه التهديدات، فإن المدافعين عن دولة الرفاهية مغلوبون على أمرهم بلا مراء، وإن كان الكثير من حجج خصومهم عارية عن الصحة. فالمؤسسات الصناعية الألمانية لا تخلق في البلدان الأجنبية فرص عمل جديدة كثيرة، عندما تشتري ملكية المؤسسات الصناعية هناك بهدف تزويد هذه الأسواق بما تحتاج إليه من سلع، فهي سرعان ما تأخذ هناك أيضا بإعادة هيكلة هذه المصانع وتسريح أعداد غفيرة من العاملين بها . كذلك ليس صحيحا القول بأن التكاليف الاجتماعية قد ارتفعت ارتفاعا انفجاريا، فنسبتها إلى الناتج القومي الإجمالي، كانت في عام 1995 أدنى مما كانت عليه الحال قبل عشرين عاما . الأمر الصحيح في جملة هذه البراهين هو البرهان الذي يوجه الأنظار إلى السياسة التي ينتهجها الآخرون أو بتعبير أدق السياسة التي تنتهجها البلدان الصناعية المعاصرة. فمن السويد مرورا بالنمسا وحتى إسبانيا، فإن جوهر المنهج المتبع هو واحد : تخفيض الإنفاق الحكومي والأجور والمساعدات الاجتماعية. وإذا كان المنهاج المتبع متشابها في كل هذه البلدان فإن ردود الفعل فيها هي أيضا متشابهة في كل مكان: استنكار لا جدوى منه ومن ثم إحباط واستسلام للمقادير.


لقد صارت الأممية التي كانت فيما مضى من الزمن الشعار الذي اخترعه القادة العماليون في الحركة الاشتراكية الديموقراطية ليواجهوا به تجار الحروب الرأسماليين - صارت شعار الطرف الآخر منذ أجل ليس بالقصير. ففي الساحة العالمية هناك ما يزيد على 40 ألف شركة أممية من كل الأحجام تبتز هذا العامل بالعامل الآخر، وهذه الدولة بالدولة الأخرى. وذلك من باب: ماذا ؟ أتفرض ألمانيا 40 بالمائة ضرائب على عوائد رأس المال؟ إن هذا لكثير جدا، فإيرلندا تفرض 10 بالمائة فقط وهي راضية كل الرضا، أما ماليزيا وبعض الولايات الاتحادية الأمريكية فإنها تتخلى عن مثل هذه الضريبة في الأعوام الخمسة أو العشرة الأولى لبدء إنتاج المشروعات. وماذا عن أجر العامل الفني؟ 45 ماركا ؟ إنه أجر مرتفع جدا فالبريطانيون يعملون بما يقل عن النصف، والتشيك بعشره فقط. و 33 بالمائة فقط هو مقدار الدعم الذي تقدمه إيطاليا للاستثمارات في المصانع الجديدة؟ إنه نسبة قليلة جدا ، ففي ألمانيا الشرقية تمنح الدولة، وهي راضية كل الرضا 80 بالمائة.


ان أممية رأس المال الجديدة تقتلع دولا بمجملها ، وما تقوم عليه هذه الدول من أنظمة اجتماعية من الجذور. فمن ناحية هي تهدد مرة هنا ومرة هناك، بهروب رأس المال لكي تجبر الحكومات على تقديم تنازلات ضريبية عظيمة، ومنح تبلغ المليارات أو إقامة مشروعات بنية تحتية لا تكلفها شيئا . وحيثما لا يجدي التهديد نفعا فإنها تساعد نفسها بوضع خطط ضريبية على مستوى عال جد : فالأرباح لا تعلن إلا في تلك البلدان التي يكون فيها معدل الضريبة منخفضا فعلا . وهكذا انخفضت على المستوى العالمي النسبة التي يشارك بها أصحاب رؤوس المال والثروة في تمويل المشاريع الحكومية. أما في الناحية الأخرى فإن الموجهين للتدفقات العالمية لرأس المال يخفضون باستمرار مستوى أجور عمالهم الدافعين للضرائب الحكومية، الأمر الذي ترتب عليه انخفاض حصة الأجور من الدخل القومي على المستوى العالمي. هذا ولا توجد دولة بوسعها أن تتخلص، بمفردها ، من هذه الضغوط. أما بالنسبة للنموذج الألماني فإنه، حسب ما يقوله عالم الاقتصاد الأمريكي روديجر دورن بوش (Ruediger Dornbusch) : «سيطبخ وسيذوب شحمه بكل معنى الكلمة (9) في المنافسة الدولية للشركات عابرة القارات.


وفي حين ترتفع أسعار الأسهم وأرباح المؤسسات بنسب تبلغ عشرة بالمائة وأكثر، تنخفض أجور العاملين ورواتب المستخدمين. وفي نفس الوقت تتفاقم البطالة بشكل مواز للعجوزات في الموازنات الحكومية. وليس المرء بحاجة إلى أن يكون مطلعا على نظريات اقتصادية معقدة لفهم ما يحدث فعلا : فبعد 113 سنة من وفاة كارل ماركس تتخذ الرأسمالية ذلك المنحى الذي وصفه هذا الاقتصادي الثوري، بالنسبة لزمانه ، وصفا دقيقا فعلا حينما راح يقول: «إن الإنتاج الرأسمالي لا يميل، في العموم، إلى رفع متوسط مستوى الأجور، إنما يميل إلى تخفيضه أو إلى الضغط على قيمة العمل إلى أدنى مستوى». وهو حينما أعلن رأيه هذا أمام المؤتمر العام للدولية الأولى في لندن عام 1865 ، ما كان يعلم أن الرأسمالية في طابعها الأول ستطعم في يوم من الأيام القادمة بالروح الديموقراطية (10) . ولكن ومهما كان الحال، فبعد الإصلاحات التي تمت في قرن سادته أفكار الاشتراكية الديموقراطية، تلوح في الأفق حركة مضادة ذات أبعاد تاريخية : إنها تتمثل في رسم صورة المستقبل بالعودة إلى الماضي السحيق. وفي هذا المنظور لا عجب أن يعلن هاينرش فون بيرر (Heinrich Von Pierer) رئيس المؤسسة العالمية سيمنز، بلهجة من ربح المستقبل وانتصر: «لقد تحولت رياح المنافسة إلى زوبعة، وصار الإعصار الصحيح يقف على


الأبواب (11) .


ولا ريب في أن بيرر وغيره من رافعي راية العولمة، إنما يحاولون بما يختارون من عبارات وصور الإيحاء بأن الأمر يتعلق بحدث شبيه بالأحداث الطبيعية التي لا قدرة لنا على ردها والوقوف بوجهها ، أي أنها نتيجة حتمية لتطور تكنولوجي واقتصادي ليس بوسعنا إلا الإذعان له. والواقع أن هذا ليس إلا ثرثرة. فالتشابكات الاقتصادية ذات الطابع العالمي ليست حدثا طبيعيا بأي حال من الأحوال، إنما هي نتيجة حتمية خلقتها سياسة معينة بوعي وإرادة. فالحكومات والبرلمانات هي التي وقعت الاتفاقيات وسنت القوانين التي ألغت الحدود والحواجز، التي كانت تحد من تنقل رؤوس الأموال والسلع من دولة إلى دولة أخرى. فرجالات الحكم في الدول الصناعية الغربية هم الذين خلقوا ، ابتداء من تحريرهم المتاجرة بالعملات الأجنبية وعبر السوق الأوروبية المشتركة، وانتهاء بالتوسع المستمر لاتفاقية التجارة العالمية المسماة «الجات بانتظام الحالة التي يعجزون الآن عن معالجتها .


الديموقراطية في المصيدة


يتزامن التكامل العالمي مع انتشار نظرية اقتصادية ينصح بها عدد كبير


من الخبراء والاستشاريين الاقتصاديين، ويقدمونها دونما كلل أو ملل


للمسؤولين عن إدارة دفة السياسة الاقتصادية على أنها النهج الصحيح


إنها الليبرالية الجديدة (Neolibera Lismus) . والمقولة الأساسية لهذه النظرية


الجديدة هي ببساطة : «ما يفرزه السوق صالح، أما تدخل الدولة فهو طالح.


وانطلاقا من أفكار أهم ممثل لهذه المدرسة الاقتصادية، الاقتصادي الأمريكي


وحامل جائزة نوبل ملتون فريدمان Milton Friedman ، اتخذت في الثمانينيات


الغالبية العظمى من الحكومات الغربية هذه الليبرالية النظرية منارا تهتدي


به في سياساتها . وهكذا صار عدم تدخل الدولة (Deregulierung) إلى جانب


تحرير التجارة وحرية تنقل رؤوس الأموال، وخصخصة المشروعات والشركات


الحكومية، أسلحة استراتيجية في ترسانة الحكومات المؤمنة بأداء السوق


وفي ترسانة المؤسسات والمنظمات الدولية المسيرة من قبل هذه الحكومات


والمتمثلة في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي (IMF) ومنظمة التجارة


العالمية (WTO) . فقد غدت هذه المؤسسات الوسائل التي تحارب بها هذه


الحكومات في معركتها الدائرة رحاها حتى الآن من أجل تحرير رأس المال.


فسواء تعلق الأمر بالملاحة الجوية أو الاتصالات ذات التقنية العالية أو بالمصارف وشركات التأمين، أو بصناعة البناء وتطوير برامج الكمبيوتر، لا بل حتى بالقوة العاملة، فإن هذه كلها وكل شيء أو شخص سواها لابد أن يخضع لقانون العرض والطلب.


وأعطى انهيار دكتاتورية الحزب الواحد، في أوروبا الشرقية، هذه العقيدة دفعة إضافية، ومنحها القدرة لتصبح ذات أبعاد عالمية. فمنذ نهاية خطر الدكتاتورية البروليتارية، فإن العمل جار على قدم وساق وبكل جدية وإصرار على تشييد دكتاتورية السوق العالمية. وهكذا تبين فجأة أن الرفاهية التي تنعم بها جمهور عريض من العاملين، لم تكن سوى تنازل اقتضته ظروف الحرب الباردة وحتمته الرغبة في عدم تمكين الدعاية الشيوعية من كسب موقع قدم.


)12( )Turb - Kapitalismus( )1( ولكن ومع هذا فإن «الرأسمالية النفاثة


التي تبدو الآن كما لو كان انتصارها على المستوى العالمي قد صار أمراً حتميا، إنما هي في طريقها لهدم الأساس الذي يضمن وجودها : أعني الدولة المتماسكة والاستقرار الديموقراطي. فالتغير وإعادة توزيع السلطة والثروة يقضيان على الفئات الاجتماعية القديمة بسرعة لا تعطي الجديد فرصة لأن يتطور على نحو متزامن معها . وهكذا أخذت البلدان التي تعتبر حتى الآن بلدان الرفاهية تستهلك رأسمالها الاجتماعي، الذي ضمن لها حتى الآن الوحدة والتماسك بخطى سريعة جدا تفوق حتى الخطى التي تدمر بها البيئة . ويدعو الاقتصاديون والسياسيون الليبراليون الجدد العالم للاقتداء بـ «النموذج الأمريكي»، إلا أن واقع هذه الدعوة مريب وشبيه بالدعاية التي كانت تطلقها حكومة ألمانيا الشرقية، حينما كانت تقول عن نفسها، إنها ستبقى تتعلم الانتصار من الاتحاد السوفييتي دائما وأبدا .


فليس هناك مكان آخر يبدو فيه التدهور بينا للعيان كما هو بين في الموطن الأصلي للثورة الرأسمالية المضادة : الولايات المتحدة الأمريكية. فالجريمة اتخذت هناك أبعادا بحيث صارت وباء واسع الانتشار. ففي ولاية كاليفورنيا - التي تحتل بمفردها المرتبة السابعة في قائمة القوى الاقتصادية العالمية . فاق الإنفاق على السجون المجموع الكلي لميزانية التعليم (13) . وهناك 28 مليون مواطن أمريكي، أي ما يزيد على عشر السكان قد حصنوا أنفسهم في أبنية وأحياء سكنية محروسة. ومن هنا فليس بالأمر الغريب أن ينفق المواطنون الأمريكيون على حراسهم المسلحين ضعف ما تنفق الدولة على الشرطة (14) .


لكن أوروبا واليابان، وكذلك الصين والهند، هي الأخرى تتفتت وتنقسم إلى قلة قليلة من الرابحين وأغلبية ساحقة من الخاسرين. فما تفرزه العولمة من تقدم ليس من منظور مئات الملايين، تقدما . ولا مراء في أن الأمر قد بدا لهم مدعاة للسخرية عندما لاحظوا أن رؤساء حكومات مجموعة الدول الاقتصادية الكبرى السبع، قد جعلوا من شعار : لتكن العولمة انتصارا لمنفعة الجميع المنار الذي يهتدون به في اجتماعهم في نهاية شهر يونيو من عام .1996


وهكذا ينصب استنكار الخاسرين على الحكومات، والسياسيين الذين تتاكل باستمرار سلطتهم وقابليتهم على إحداث التغيرات المطلوبة. فسواء تعلق الأمر بتحقيق العدالة الاجتماعية أو بحماية البيئة أو بالحد من سلطة وسائل الإعلام المتحيزة - المترجم أو بمكافحة الجريمة العابرة للحدود صارت الدولة، إذا ما أرادت تحقيق هذا أو ذاك بمفردها مرهقة مثقلة الكاهل، وإن أرادت تحقيقه بمشاركة وتعاون دوليين فإن حصيلة ذلك هو الفشل والإخفاق دائما. وإذا ما ظلت الحكومات تتحجج في كل المسائل المستقبلية الجوهرية بما يمليه عليها الاقتصاد المعولم من مواقف لا قدرة لها على التحكم بها ، فعندئذ تصبح السياسة برمتها مسرحا يضم حشدا من رجال مسلوبي الإرادة، وتفقد الدولة الديموقراطية شرعيتها، وتصبح العولمة مصيدة للديموقراطية.


إن المنظرين السذج والسياسيين قصيري النظر فقط، هم الذين يعتقدون أن بإمكان المرء أن يُسرح سنويا ملايين من العاملين من عملهم ويحجب عنهم وسائل التكافل الاجتماعي . وهذا هو ما يحدث في أوروبا حاليا - من دون أن يدفع في يوم من الأيام ثمن هذه السياسة. إن سياسة من هذا القبيل عرجاء بلاريب. فخلافا لمنطق راسمي خطط المؤسسات الصناعية الكبرى، هذا المنطق الذي لا ينظر للأمور إلا من منظار المشروع، لا يوجد في المجتمعات القائمة على أسس ديموقراطية مواطنون فائضون عن )Surplus People الحاجة


فالخاسرون يتمتعون بحق التصويت، وهم سيستغلون هذا الحق بلاريب. ومن هنا فليس هناك ما يدعو للطمأنينة، فالهزة الاجتماعية ستلحق بها نتائج سياسية، والاشتراكيون الديموقراطيون والمسيحيون الاجتماعيون لن يحتفلوا بانتصارات جديدة في المستقبل المنظور. فالأمر الواضح بجلاء الآن هو أن الناخبين لم يعودوا يأخذون الدعاوي التقليدية التي يتذرع بها دعاة العولمة مأخذ الجد . لقد بات المواطن يسمع في كل ثاني نشرة أخبار من أفواه أولئك الذين ينبغي عليهم أن يدافعوا عن مصلحته . أن سبب محنته لا يقع على عاتقهم بل يقع على عاتق المنافسة الأجنبية. ولا مراء في أن ثمة خطوة قصيرة واحدة فقط تقود من هذا التبرير - الخطأ من وجهة النظر الاقتصادية - إلى العداء المكشوف لكل ما هو غريب. وهكذا نلاحظ أن هناك ملايين من أبناء الطبقة الوسطى الخائفة قد صاروا منذ أمد ليس بالقصير ، يعتقدون أن خلاصهم يكمن في كراهية الغرباء وفي الانكفاء على الذات والعزلة عن السوق العالمية. وبالتالي فقد صار رد فعل المعزولين يتجسد في عزل الآخرين.


ومن هنا فلا عجب أن يحصل روس بيرو (Ross Perot) ، ذو النزعة القومية التسلطية والروح المتظاهرة بالشعبية، على 19 بالمائة من أصوات الناخبين عندما رشح نفسه لأول مرة لانتخابات الرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1992 . كما حصل على نسب مشابهة كل من واعظ البعث القومي الفرنسي لوبين (Jean - Marie Le Pen) واليميني المتطرف النمساوي يورغ هايدر (Joerg Haider) . وهكذا فمن كيبك مرورا بإسكوتلندا وحتى لومبارديا يحصل الانعزاليون أيضا على إقبال متزايد باستمرار . فهؤلاء يتممون قائمة كراهية الغرباء بالسخط على الحكومات المركزية، وبإغلاق الحدود بوجه القادمين من البلدان الفقيرة، خوفا من أن يعيش هؤلاء على حسابهم. وفي نفس الوقت يتزايد في كل أرجاء المعمورة عدد الجمهور الراغب في الهجرة هربا من البؤس والحرمان.


ولا مراء من أن مجتمع الـ (20) إلى الـ (80) ، أي مجتمع الخمس [الثري] الذي تتخيله النخبة المجتمعة في فندق فيرمونت، ينسجم مع المنطق التكنولوجي والاقتصادي الذي باسمه يعمق قادة المؤسسات الصناعية والحكومات العولمة. إلا أن الأمر الذي لاشك فيه هو أن التسابق العالمي على تحقيق أعلى جدارة وأدنى أجور يفتح أبواب السلطة على مصاريعها أمام اللا معقول. ولعله تجدر الإشارة هنا إلى أن التمرد لا يتأتى من قبل المعوزين فعلا، بل يتأتى بكل ما يشتمل عليه من انفجار سياسي غير محسوب من الخوف من الخسران والهزيمة الذي أخذ يدب ويتسع في أوساط المجتمع.


ولقد أبطل المنطق الاقتصادي في يوم من الأيام السياسة برمتها . ففي عام 1930، أي بعد عام واحد من انهيار البورصات، علقت مجلة The Economist الاقتصادي) المعروفة بتبنيها الدائم لمصالح رأس المال قائلة: إن المعضلة العظمى التي تواجه جيلنا تكمن في أن نجاحاتنا في المجال الاقتصادي تتفوق على نجاحنا في المجال السياسي، على نحو جعل الاقتصاد والسياسة لا يسيران بخطى موحدة. فاقتصاديا أصبح العالم يتحرك كما لو كان وحدة واحدة شاملة، أما سياسيا فإنه ظل مقسما ومجزأ . ولقد تسببت التوترات الناجمة عن هذا التطور غير المتكافئ في عدد لا يحصى من الهزات والانهيارات في تعايش المجتمع الإنساني.


هذا وإن كان التاريخ لا يعيد نفسه، إلا أنه مع هذا لا تزال الحرب - ولو بصيغة الحرب الأهلية ضد أقلية قومية أو مقاطعات انفصالية . هي التنفيس الأكثر احتمالا حينما تصل التناقضات الاجتماعية حدا لا يحتمل. إن العولمة لا تؤدي بالضرورة إلى صراعات عسكرية، إلا أنها يمكن أن تؤدي إلى ذلك إذا ما عجز المرء عن تحقيق الترويض الاجتماعي لقوى الاقتصاد المعولم الهائجة. وإذا كانت ردود الفعل السياسية على ما تم حتى الآن من تشابك اقتصادي عالمي تنفي إمكان السيطرة على هذا التطور، إلا أننا نعتقد أن هناك وسائل وطرقا تتيح للحكومات المنتخبة ومؤسساتها أن تأخذ زمام المبادرة، وتوجه هذا التطور من دون محاباة هذه الفئة من الأمة على حساب الفئة الأخرى. إننا سنعرض في هذا الكتاب بعضا من هذه الوسائل والطرق ونناقشها .


وسيكون من أهم الواجبات التي يتحتم على السياسيين المنتخبين ديموقراطيا النهوض بها - كفاتحة لبداية قرن جديد - إصلاح الدولة وإعادة أولوية السياسة (Primat der Politik على الاقتصاد. أما إذا أهمل تحقيق هذا المطلب، فسيتحول، في وقت ليس ببعيد التشابك الدرامي السريع الذي صار، اعبر التكنولوجيا والتجارة، يعم الإنسانية جمعاء) إلى النقيض مفضيا إلى انهيار ذي طابع عالمي. وعندئذ لن تتبقى لأطفالنا وأحفادنا سوى ذكرى لتلك التسعينيات الذهبية، حينما كان العالم لايزال منظما


تنظيما قابلا للتكيف، وكان أخذ زمام المبادرة والتوجيه أمرا ممكنا. "


Summarize English and Arabic text online

Summarize text automatically

Summarize English and Arabic text using the statistical algorithm and sorting sentences based on its importance

Download Summary

You can download the summary result with one of any available formats such as PDF,DOCX and TXT

Permanent URL

ٌYou can share the summary link easily, we keep the summary on the website for future reference,except for private summaries.

Other Features

We are working on adding new features to make summarization more easy and accurate


Latest summaries

أكد موقع " cons...

أكد موقع " construction business news " في أحد تقاريره عزم الشركات اليابانية والصينية على استهداف ال...

This paragraph ...

This paragraph is a description about ... The relation).. I am ... (name of the person)....•• is thi...

عام. يمكن القول...

عام. يمكن القول إن نظام المعلومات يعزز شفافية السوق من خلال توفير المعلومات اللازمة ويعزز تداولية ال...

In this present...

In this presentation, I will focus on main points: First, I will provide a definition of the concep...

في خسائر فادحة ...

في خسائر فادحة للذرة، والمحاصيل السكرية، والأعلاف النجيلية، والكينوا. لمواجهة هذه التحديات بفعالية،...

أدى الإنترنت وا...

أدى الإنترنت والتطور الرقمي إلى إحداث تحول جذري في أساليب التواصل وتبادل المعلومات بين الأفراد. فنحن...

تم في هذا المشر...

تم في هذا المشروع تطبيق مكونات الواجهة الأمامية (Front-end) والواجهة الخلفية (Back-end) الشائعة لضما...

تُعد عدالة الأح...

تُعد عدالة الأحداث من أهم القضايا التي تشغل الأنظمة القانونية والاجتماعية في مختلف دول العالم، نظرًا...

كان تحالف ديلوس...

كان تحالف ديلوس في البداية قوة دفاعية ناجحة، لكنه تحول مع الوقت إلى أداة للسيطرة الأثينية، مما أدى إ...

--- ### **التع...

--- ### **التعريف:** عوائق التعلم التنظيمي هي **عوائق إدراكية، أو ثقافية، أو هيكلية، أو شخصية** تم...

أولا شعر الحزب ...

أولا شعر الحزب الزبيري بدا يتنصيب عبد الله بن الزبير نفسه خليفة على الحجاز، واستمر تسع سنوات، وانته...

ث‌- الصراع: يع...

ث‌- الصراع: يعتبر من المفاهيم الأقرب لمفهوم الأزمة، حيث أن العديد من الأزمات تنبع من صراع بين طرفين...