Lakhasly

Online English Summarizer tool, free and accurate!

Summarize result (44%)

كانوا يرفعون رؤوسهم وينظرون عبر رأس المعلم إلى «اللوح» - وهو مجموعة من أخشاب شدت معاً على شكل مربع ، وصبغت يوماً بالأسود ، ويبلل طرف القلم على حافة لسانه ويكتب . وأنا على «بنك» طويل بين أربعة أو خمسة أطفال
قال : «هل أحضرت معك دفترك وقلمك؟»
قال : كيف تكتب إذن؟»
بعد قليل دق المعلم جرساً . تكاد تقسم الساحة الصغيرة إلى قسمين . ومنه تسلقت إلى الأغصان العليا . كنا على الأقل خمسين ولداً ، رحت ركضاً إلى بيتنا ، ووجدت جدتي في الحاكورة تنظر إلى ظل شجرة اللوز الواقع على حائط البيت . لم يصل الظل إلى هذا الحجر بعد . وقالت : «أهلاً بابن المدارس!»
هكذا يقول الأولاد . وأنا أربت على ظهر هذا وظهر ذاك
بعد الغداء عدت إلى المدرسة ، وطرت بما اشتريت عودة إلى البيت . كان قرب باب بيتنا مصطبة حجرية طويلة ، تمددت فوقها على بطني ، وكتبت – والأسطر تهبط بي من اليمين الى اليسار . هذا يدفع ذاك بقدمه تحت «البنك» ، ويروح قلمي شاحطاً على الصفحة المفتوحة بين يدي . قلت : : «نعم . وأجال عينيه الرهيبتين في وجوه الأولاد . كان اسم رفيقي على البنك «عبده» . وأقنعني بالذهاب الى دارهم ، وعلى مقربة منها «الخشية» المبنية أيضاً من حجر خشن ، وأمامها حوش مبلط بالحجارة ، ويمتد من بوابة عتيقة اختلط فيها الصفيح الصدئ بالخشب المتأكل ، وكان من مهام أبي وبقية أفراد العائلة بين الحين والحين ، ولكنه يقلله ويحصره على الأغلب في الزوايا . وكثيراً ما كنت أستلقي على ظهري ، وحملته بين شدقيها إلى الحاكورة لتأتي عليه بطريقتها القططية . غير أنها استطاعت أخيراً أن تدفعه الى الفرار والاختفاء عن العين - عن عينها على الأقل . كانت دارنا هذه تعلوها من الخلف جدران ودور أخرى تتصاعد طبقات إلى أعلى الجبل الذي بنيت البلدة على سفحه منذ القدم . مبنية من حجارة مدقوقة منتظمة ، لها بوابة حديد صبغت ذات . وعلى اليسار جدار عال ، عند قاعدته معلف يربط عنده حمار أبيض ، بينما كانت الحمير الأخرى أقرب إلى الرمادي المسكين في لونها – وحقيبته في خرج الحمار الأحمر ، في طريقة إلى دار هذا المريض أو ذاك . لم تقسم بيني وبين هذا الطبيب أو حماره أية مودة . أردت صعود الدرج إلى البيت ، ولكنني ربما مددت يدي الى الذيل لأكف حركته عني ريثما امر . ونفذت إلى الدرجات العليا وأنا مرتعب أبكي . ولو لم أدرك أن الأمر خطير على نحو ما ، المدرسة : وهي أيضاً غرفة واحدة كبيرة بنيت قرب كنيسة حديثة التشييد ، وقص علينا قصة محزنة : كيف أن قايين المجرم قتل أخاه الطيب هابيل . ولما كنت أتصور الله وهو يجبل الطين كما يجبله عمال البناء الذين أراهم في أماكن كثيرة من بيت لحم ، تصورت وجه قايين الرهيب ، عندما أخذت مكاني على المقعد ذلك الصباح. كان أخي يوسف يكبرني بأربع سنوات، أنه ينتمي إلى عالم غير عالمي - عالم الكبار . لا يقول كلمة إلا وأفتح أذني لسماعها ، وهو أيضاً كان يذهب إلى المدرسة ، ولا أراه أحياناً بعد خروجه صباحاً إلا . عودته إلى الدار ، ويتباهى بمقدرته على قراءة ما تحتها من كلمات إنكليزية لم يكن قد جاء دوري لتعلمها . وضعت عيني اليمنى عليها وأغمضت اليسرى ، يقيمه صاحبه على قاعدة متنقلة ، وقفنا قرب الصندوق نتفرج على شكله وزينته، وألصقوا عيونهم بالعدسات ، وراح هو يدير المحور من الأعلى ، بعنتر وعبلة ، وقال لصاحب الصندوق : «أتفرجنا أنا وصاحبي بهذي
فأجابه : «أنت وصاحبك بهذي الشقفة؟» قال : «نعم ، لم يكن بين ما يرويه وبين الصور إلا أوهى العلاقة . وانتبهت أنا إلى ضخامتهما . وكان يحتوي على مطرقة ، وحجر مسن يلمع سواده بما عليه من زيت ، ثم فعل ذلك بالقطعة الأخرى . تخرج إلى الحوش لتتأكد من غليان الطنجرة» على نار الموقد ، » في هذه الأثناء انتهى أبي من عمله : وجدته يلبس قطعتي الإطارة المقوستين في قدميه ، وقال مزهواً بما صنع : «شايفة يا مريم؟ أحسن وطا!»
قال : «عندما تكبر ، قلت لأخي : «أين صندوق الدنيا؟»
بدناش نحكي قصة الليلة؟» قلنا جميعاً : «طبعاً ، ومعه صندوق كرتوني من صنادق الأحذية ، وعودين أحضرناهما من كومة الحطب التي تجمعه أمي وجدتي للوقود بعد ساعتين أو ثلاث كان كل شيء قد اكتمل – إلا الصور . وعندها تذكرت كتاب أخي الإنكليزي . وجئت بمقص أمي – وهي بانشغالها لا تعلم ما الذي نحن منهمكان به في الحاكورة – ورحنا نقص الصور عن كل ورقة ، وأخذنا صندوق الدنيا إلى أصحابنا نفرّجهم عليه ، «سينما ابلاش سينما بلا مصاري كنا نصيح . ولكن سرعان ما ندمنا على كرمنا . ثم تفرفط بين أيدينا . وبين أيدينا بقايا مشروعنا المحطم . وجاءني مرحاً يقول : «يلاً . وأنهضني من مكانني قائلاً : «أعلى هذا
الصور؟»
فصاح : «إيش؟ شو بتقول؟»
وهو قوي جداً
كانت مزيّة «الخشاشي (كما كنا نسمّي بيتنا ذاك) وجود الحاكورتين اللتين تحويان عدة أشجار رمان ، ودالية تحاول عبثاً الانتشار فوق المدخل المؤدّي إلى الدار فيهما قرأت أولى الكلمات ، وفي الحاكورتين غنيت أولى الأغنيات ، إضافة إلى معلمنا الوحيد في مدرسة السريان الأرثوذكس ، وفيهما بدأت أعي الفوارق بين طبائع الناس وتصرفاتهم ، ولا مواعظ قسسهم ورهبانهم . وهي تنتهي دائماً إلى عراك كنت أصر على المضي فيه إلى أن يعترف الآخرون بأنني أنا الغالب . وبينهم أخوان مشهوران بالعض . إلى شجار حقيقي ، وكنت أنشد الدفء على صدره فلا أنام إلا قربه . فاندفع الثلج أكواماً مع انفتاح الباب إلى الداخل ، ورحنا جميعاً نحمل الثلج بالأيدي ، والثلج في كل مكان إلى ما هو أعلى من الركبة؟
يبدو أن أبي كان يتوقع هجوم الثلج هذا ، إلى أن فسحنا مجالاً للخروج . وهو يصعد عينيه بقلق إلى أحطاب السقف : «أنا خايف على السقف من الانهيار . يجب أن أصعد الى السطح قبل أن يسقطه الثلج علينا . وتسلّق إلى سطح الدار ، بدفعه الى الحاكورة الجانبية ، ولم يعد إلينا إلا بعد أن أخلى السطح ، مهده أبي على شكل مدرج ليسهل صعودنا عليه . تختصر المسافة إلى الملعب كثيراً . لأنّ له كلباً ضخماً أسود ، رغماً عن كلبه الغليظ . أم يحملها إلى المزبلة القريبة ، وقد يتبرع بتقديم خدماته ، وهذا ما فعله حين جاءنا ذات يوم حاملاً نبوّته وكيسه المشؤوم ، وعيناه الصغيرتان تتجولان في أرجاء الدار :
رأيت عندكم هراً كثير الحركة . وقال : كلام فارغ . أنتم لا ترونها عندما تصعد إلينا ، صغيراً بين حين وآخر» . قلنا : بارك الله في همتك . كنا نمر بدار قديمة تتألف من بيتين صغيرين بنيا على حافة الحاكورة المشرفة على الطريق ، يسكنها العم حنا ذيبان . كان أبوه يدعى إلى إحياء حفلات الأعراس اثنين أو ثلاثة - مع يؤلفون تختاً معاً : أحدهم تجار يعزف على الكمان ، ويغنون أغاني جماعية على إيقاع مناشيرهم ، وكلما مررت في طريقي إلى ملعب الدير بالعم حنا ذيبان الضرير ، وبعـزفـه وغنائه يملأ الطريق فرحاً حتى بلوغي بوابة الدير . في تلك الأثناء عاد المعلم جريس من بعد انتظار طويل من أبوي ، حتى أنه ليحوّل القداس صباح كل أحد إلى جنة صغيرة من عذوبة
قرب سوق البلدية ، والغرف الأرضية منها اختنقت أبوابها ونوافذها بركام الحجارة الساقطة
قبل دخول المدرسة ، كنا نلعب في غرف هذه الخرابة - وتسمى خربة الكنيسة» - بقدر ما نجرؤ على مجابهة العفن والظلام ، ونتخيل أنها ملأى بالمردة ، ويسد الطريق على من يريد دخولها. المتحدي بعد قليل مرتعباً وهو يقسم أنه رأى مارداً عملاقاً أبيض الشكل ، ينتهي بخروجي إلى النور ، بينما يكون العديد من آبائنا ، منهمكين برفع الردم على ظهورهم وبناء الكنيسة الجديدة . مؤكداً على إيقاع الكلمات :
فيدور معه الآخر على إيقاع كلماتنا :
وشكلها إجاصي يستدق إلى رأس مسمار براق : أدير حولها الخيط الغليظ ابتداء من طرفها الدقيقة وصعوداً نحو جسمها العريض المزيّن بدوائر ملونة ، وهكذا يفعل رفيقي بفرانته ، ثلاثة!» ويقذف كلانا بحنكته الخاصة بالفرّانة على أرض مبلطة ، توضع على نتوء في الأرض ، يكون طرف منها مرتفعاً قليلاً ، نحو الغرفة الكبيرة المتكاملة الوحيدة ، وعدد من العصي المتباينة الطول والمتانة ، وعلى اليمين واليسار منه نافذتان طويلتان ، والشرقية ترى منها عن بعد قباب كنيسة المهد ، بينهما الممشى الذي يؤدي إلى منضدة المعلّم ، كانت هناك خمسة أو ستة بنوك في كل جانب ، يتسع كل منها لخمسة طلاب وقد يجلس سبعة أو ثمانية ، ويتدرجون إلى الخلف حسب «صفوفهم» . أعلى الصفوف ، هؤلاء كان المعلم جريس يعهد للأولاد الكبار» بتلقينهم الأبجدية والصفحات الأولى من القراءة . مما جعلني أحلم لسنين عديدة بعد ذلك بأن أكون معلماً ، صفاً صفاً يتعامل المعلم مع تلاميذه : يُنزل الصف الواحد ليكون أفراده نصف دائرة على جانب من منضدته جاعلاً «أشطرهم أقربهم إليه ، ويقرأ لهم ، أنزله درجتين أو ثلاثاً على الخط ، أو قد يرسله إلى نهاية الخط ليكون الطش» ويضحك عليه الجميع ، وقد كان يوسف عن حق «أشطر» أولاد صفه ، فـيـمـا بعـد ، أكل أم لم يأكل!» وقد أقلقني ذلك ، عندما سمعناه ، كثير المرح، ووضعت أمامه بزر البطيخ المحمص ليتسلّى به ، مستبشرة ، وعندما غادرنا ، قالت أمي لأبي : «ما ألطف هذا الرجل والله لو طلب مني أن أعطيه دجاجتين حيتين من دجاجاتنا ، لفعلت! صوته إذا تكلّم يسحر اللب ، فكيف إذا رتل؟ سأبكر صباح الأحد القادم للقداس معك أخذا اللغات الثلاث بالتناول . ولكن أحد الطلاب الكبار
- وكان لطوله أقرب شكلاً إلى الرجال - واسمه جليل ، حين أمره المعلم بإعادة قراءة إحدى الجمل من كتاب القراءة العربية ، بل أمره بأن يترك مكانه وينزل الى رأس أحد المقاعد «السفلى» ، جليل! قلت لك تعال ، واندفع نحو المعلم لكي يمسك به ، فركض الولد و احتمى بالفسحة الضيقة بين الجدار والمقاعد . وانطلق الولد من زقاقه باتجاه المنضدة ، ثمن دخل بسرعة الفسحة الضيّقة بين الجدار الآخر والمقاعد ، وهو يشير إلى ابنه : «هذا الولد مش ابني ، فيكرّر المعلم بصوت رخيم مقولته التي يفرح الأب
والعصاة بين الصبية كانوا حقاً كثيرين . أو الانسراح بين الناس في سوق البلدية القريب . من أمثال حنّا أبو الحرادين . يكثّف جلد راحة اليد ويقويها ، ولكن لم يكن الصبية كلهم مثل حنا بارعين ، عندما تغمر الشمس سلاسل الحواكير ، ويهز رأسه عالياً سافلاً ، «صلى صلاتك يا حردون
وكنت أنا أفرح عندما أرى الحرذون ، بعد أن يفرغ من صلاته» ، في معظمها أناشيد وتراتيل تعود إلى أزمان سحيقة في القدم ، لحنها آباء الكنيسة الأوائل في أنطاكيا ودمشق والقدس والرها ومدن وادي الرافدين ، وفق مقامات كان الشمامسة يتقنونها . يساعده في ذلك أحياناً رهبان شباب من دير مار مرقس بالقدس ، الواحد إلى اليمين والآخر إلى اليسار ، وخطوطها بالحبر الأسود بالنسبة للمتن ، يقسم الكورس إلى نصفين ، وكل نصف يلتف حول محمل ، لتكون التلاوة المرتلة بالتناوب بينهما ، والمرتلون يتحلقون حول المحمل ، وبالتالي تكون الكتابة بالنسبة لبعضهم ،


Original text

في المدرسة رأيتهم يكتبون . يمسك الواحد منهم بالابصة» (قلم الرصاص) ، ويكتب على الورق الأبيض المسطّر . كانوا يرفعون رؤوسهم وينظرون عبر رأس المعلم إلى «اللوح» - وهو مجموعة من أخشاب شدت معاً على شكل مربع ، وركزت على مسند ثلاثي الأرجل ، وصبغت يوماً بالأسود ، ولكنها الآن تكاد تكون بيضاء من تراكم أثر الطباشير ، وقد خط المعلم على هذا اللوح بضعة حروف . ويبلل طرف القلم على حافة لسانه ويكتب . ويمحو بممحاة صغيرة عليها صورة فيل. ويغمس الأسود المبري بلعاب لسانه . وينظر إلى اللوح ويكتب . أو أحد أيامي الأولى في «مدرسة الروم» الواقعة خلف كنيسة المهد . وأنا على «بنك» طويل بين أربعة أو خمسة أطفال
قال : «هل أحضرت معك دفترك وقلمك؟»
قلت : لا. قال : كيف تكتب إذن؟»
حتى المعلم ضحك ، واكتب.
بعد قليل دق المعلم جرساً . وخرجنا إلى الملعب . كانت هناك شجرة صنوبر كبيرة منحنية ، تكاد تقسم الساحة الصغيرة إلى قسمين . قفزت على الجذع المنحني ، ومنه تسلقت إلى الأغصان العليا . ولحق بي جماعة من الصبية . وعدنا إلى «الصف» . كنا على الأقل خمسين ولداً ، من أعمار شتى . وأكثرنا حفاة ، خلفها الجيش العثماني لآبائهم . في ساعة الغداء . رحت ركضاً إلى بيتنا ، ووجدت جدتي في الحاكورة تنظر إلى ظل شجرة اللوز الواقع على حائط البيت . - لا يا حبيبي . لم يصل الظل إلى هذا الحجر بعد . » وأشارت إلى حجر ناتئ في الجدار. وقال ارجعوا في الساعة الواحدة . فصاحت جدتي : «مريم! حضري الغداء . فهي تعلم أن أمي «عصبية» ، فكانت جدتي تتستر علي . تلمسته ، فقالت :
ها؟ عندك شيء تقوله؟ فعلت شيئاً غير لائق؟»
فقلت وأنا أنظر في عينيها العسليتين : «ستي ، أريد أن أشتري دفتراً وقلماً» . - «دفتراً وقلماً! ليش؟» - «لكي أكتب» . - «قل ذلك لأمك . أو انتظر إلى أن يعود أبوك في
كانت أمي تتأمل في الطنجرة» ، وقالت : «أهلاً بابن المدارس!»
قلت : يمه ، - صحيح؟ ومن أين أجيء لك بالدفتر والقلم؟«الدفتر والقلم بنصف قرش . هكذا يقول الأولاد . نصف قرش ، خذ شوية حشيش للخروفين» أخرجت شيئاً من الحشيش الذي كنا نجمعه في كيس كبير في طلعاتنا الى
وأخذته للخروفين الأبيضين ، ووضعت لهما الحشيش ، وأقبلا عليه بنهم ، وأنا أربت على ظهر هذا وظهر ذاك
وأصوات الأجراس تتمازج عبر الفضاء ، بعد الغداء عدت إلى المدرسة ، إلى أن دق المعلم جرسه . ودخلنا الصف . كتب المعلم حروفاً على اللوح ، وطلب



  • «تاء!»

  • «ألف باء!»

  • «ألف باء!»
    جعلنا أنا واثنان من رفاقي نردد ونرنّم : «ألف با بوباية ، نص رغيف وكوساية . ومررنا بدكان حنا الطبش ، - «معك تعريفة؟»
    ونظرت إليها راجياً ، ففهمتني في الحال . ودون أن تقول كلمة واحدة ، ووأخرجت منديلاً معقوداً . وقالت : «خذ . عنفص!» وركضت معنفصاً إلى دكان الطبش ، وناولني دفتراً وقلماً . ففعل ، وقال : «إذا لم تكن لديك براية ، وطرت بما اشتريت عودة إلى البيت . لم تكن أمي في البيت ، وجدتي مشغولة بشؤون العائلة . كان قرب باب بيتنا مصطبة حجرية طويلة ، تمددت فوقها على بطني ، وفتحت الدفتر عند أول صفحة . كالعصا ، غصباً عني ، وكتبت – والأسطر تهبط بي من اليمين الى اليسار . في
    وضع
    ذلك المساء ، كان دفتري «فرجة» العائلة . ودر بالك على الدفتر ، متفاهمة
    اقعد مكانك واكتب . ولكن الأولاد الذين بقربي كانوا لا يكتبون ، لأن ليست معهم دفاتر ، ويتململون ، وأرجلهم الحافية في عبث متواصل ، هذا يدفع ذاك بقدمه تحت «البنك» ، ويروح قلمي شاحطاً على الصفحة المفتوحة بين يدي . عند الغداء سألتني أمي : «هل رأى المعلم دفترك؟»
    قلت : : «نعم . دفترك؟»
    بعد الظهر ، أنت العريف اليوم. أو يضحك ، أنتم أولاد الصف الأول والثاني ، واقرأوا . الخلف ، اجعلوا سواعدكم على البنك ، هكذا ، وناموا . وفي الحال أغمض عينيه ، وراح في نومة هنيئة . ولكن من منا نحن العفاريت يستطيع النوم؟ قضينا ساعة ورؤوسنا على البنك ، في الثرثرة والضحك . وجعل «علامة ضرب» إزاء أحدها . رفع رأسه على أثرها مباشرة ، وأجال عينيه الرهيبتين في وجوه الأولاد . وببطء ، وخرج جريس من بين رفاقه ، «والله معلمي
    ".. بلا حكي!»
    وهكذا فعل بصاحب الاسم الثاني . فأذاقه ضربتين اثنتين ، ثم دق الجرس ، كان اسم رفيقي على البنك «عبده» . وأقنعني بالذهاب الى دارهم ، فتحه واقتلع الورقتين.
    كانت دارنا تتألف من غرفة صغيرة مبنية من الحجر الخشن ، حاكورة فيها شجرتا رمان وشجرة لوز أو شجرتان ، وعلى مقربة منها «الخشية» المبنية أيضاً من حجر خشن ، وأمامها حوش مبلط بالحجارة ، ويمتد من بوابة عتيقة اختلط فيها الصفيح الصدئ بالخشب المتأكل ، وكانت غرفتنا وخشيتنا كلتاهما مسقوفتين بالأحطاب ، إذ تمتد من حائط إلى حائط ، وكان من مهام أبي وبقية أفراد العائلة بين الحين والحين ، ولكنه يقلله ويحصره على الأغلب في الزوايا . وكثيراً ما كنت أستلقي على ظهري ، وحملته بين شدقيها إلى الحاكورة لتأتي عليه بطريقتها القططية . وكثيراً ما رأيتها تجابه الفئران ، غير أنها استطاعت أخيراً أن تدفعه الى الفرار والاختفاء عن العين - عن عينها على الأقل . كانت دارنا هذه تعلوها من الخلف جدران ودور أخرى تتصاعد طبقات إلى أعلى الجبل الذي بنيت البلدة على سفحه منذ القدم . فكان هناك الزقاق الذي يتفرّع عن مدرّج شديد الانحدار ينزل إلى
أو شارع النجمة كما سمي فيما بعد . ولكن المدرّج - ولم يكن عريضاً جداً - كان يبدأ بعمارة فخمة على اليمين ، مبنية من حجارة مدقوقة منتظمة ، لها بوابة حديد صبغت ذات . وعلى اليسار جدار عال ، عند قاعدته معلف يربط عنده حمار أبيض ، كلما وقف عبر المدرج ورأسه في المعلف ومؤخرته متجهة نحو الدار الضخمة ، كان هذا حمار الحكيم الرومي» ، فكنا نراه وهو راكب حماره - المتميز طبقياً عن الحمير الكثيرة في البلدة بلونه الأرستقراطي الأبيض ، بينما كانت الحمير الأخرى أقرب إلى الرمادي المسكين في لونها – وحقيبته في خرج الحمار الأحمر ، وهو ينهره بشموخ وأنفه بخيزرانة
    في طريقة إلى دار هذا المريض أو ذاك . خالط الشيب سواد فوديه ، لم تقسم بيني وبين هذا الطبيب أو حماره أية مودة . تجربة سجلها لي حماره المحترم وأنا في الخامسة من عمري . أردت صعود الدرج إلى البيت ، والحمار واقف على قوائمه يكاد يسـد عـرض المعـبـر بجثته ، وروثه وتبنه يملآن الدرجتين أو الثلاث التي في المستهل . تريثت طويلاً للنظر إلى ذيله وحشراته ، ولكنني ربما مددت يدي الى الذيل لأكف حركته عني ريثما امر . ونفذت إلى الدرجات العليا وأنا مرتعب أبكي . وذات مرة أصيبت أمي بوعكة شديدة دامت يومين أو ثلاثة أقـعـدتـهـا عن الحركة ، وهي تتلوى وتئن ، وطلبت إلي جدتي أن أنزل الدرج إلى دار الحكيم الرومي قبل أن يخرج في دورته التطبيبية في طرقات البلدة ، وأطلب إليه الحضور إلى دارنا لمعالجة أمي . ولو لم أدرك أن الأمر خطير على نحو ما ، لما جازفت بدخول العمارة التي يقيم فيها الحكيم ، تشجعت ، وإذا هو في الرواق يتهيأ للخروج. يا ولد؟»
    التي لم أفهم منها الكثير أصلاً ، ولكن لا بد أنني أفهمته ما أريده ، الدار . وهي في ألمها مندهشة : «خمسة قروش! وماذا فعلت يا حكيم لتطلب خمسة قروش؟ زوجي يعمل من شق الفجر
    حتى غروب الشمس مقابل خمسة قروش» . تأفف الطبيب ، ثم قال : «طيب هاتي قرشين ، وأخرجت «شلنا» ناولته إياه ، شكراً أخذ الحكيم الشلن وألقمه الجيب الصغير في الصدرية التي يرتديها تحت سترته ، وخرج . كنت قد التحقت بمدرستي الجديدة ، وقد خاطت لي أمي كيساً أحمله حول عنقي أضع فيه لوازمي المدرسية ، حيث كانت
    المدرسة : وهي أيضاً غرفة واحدة كبيرة بنيت قرب كنيسة حديثة التشييد ، فأوقفني المعلم صموئيل ، فتی؟» . فقال : «ولماذا؟ أهي عليلة؟»
    ولو أننا قد نحزر معناها - أحياناً . ويأخذ دفاترنا ويصححها بحبر أحمر جميل ، وفيما كان آدم نائماً تحت شجرة من أشجار الجنة ، أخذ الله ضلعاً من صدره وخلق منه امرأة سماها حواء . وقص علينا قصة محزنة : كيف أن قايين المجرم قتل أخاه الطيب هابيل . ولما كنت أتصور الله وهو يجبل الطين كما يجبله عمال البناء الذين أراهم في أماكن كثيرة من بيت لحم ، تصورت وجه قايين الرهيب ، منه
    في جباههم ، متسائلاً إن كان قايين واحداً منهم . عندما أخذت مكاني على المقعد ذلك الصباح.
    كان أخي يوسف يكبرني بأربع سنوات، أنه ينتمي إلى عالم غير عالمي - عالم الكبار . لا يقول كلمة إلا وأفتح أذني لسماعها ، فأشعر أنه يدخلني الى عالمه . وهو أيضاً كان يذهب إلى المدرسة ، ولا أراه أحياناً بعد خروجه صباحاً إلا . عودته إلى الدار ، فضلاً عن كتبه العربية ، فيطلعني على الصور ، ويتباهى بمقدرته على قراءة ما تحتها من كلمات إنكليزية لم يكن قد جاء دوري لتعلمها . وقال : «أتدري ما هذا الصندوق ؟ إنه صندوق الدنيا . وضعت عيني اليمنى عليها وأغمضت اليسرى ، أعلى الصندوق واحداً من محورين جانبيين فيه ، بينهما يتحرك شريط ورقي لصقت عليه صور من كل نوع ، سحرني صندوقه وتمنيت لو يبقيه في البيت تحت يدي ، إذ كنا أنا وعبده نلعب في ساحة المهد ، رأينا صندوق الدنيا الحقيقي . يقيمه صاحبه على قاعدة متنقلة ، وقد زيّن أعلاه بمرايا وصور ملونة لنساء وفرسان وخيول ، ويصيح : تعال تفرج یا سلام ، الفرجة بتعريفة يا ولدا تعال تفرّج يا سلام . وقفنا قرب الصندوق نتفرج على شكله وزينته، إلى أن جاء رجلان أو ثلاثة ، أجلسهم صاحب العجائب على صناديق أمام الفتحات الزجاجية ، وألصقوا عيونهم بالعدسات ، وراح هو يدير المحور من الأعلى ، بعنتر وعبلة ، نتأمل في الصندوق الحاوي كل هذه البدائع ، وبغتةً أخرج صديقي من عبه قطعة من كعكة بالسمسم ، وقال لصاحب الصندوق : «أتفرجنا أنا وصاحبي بهذي
فأجابه : «أنت وصاحبك بهذي الشقفة؟» قال : «نعم ، وقال وهو يمضغها : «طيب . «يشعر» و «يفسّر» والصور الملونة الزاهية تتوالى وراء العدسة السحرية : صيادون ، لم يكن بين ما يرويه وبين الصور إلا أوهى العلاقة . مساء ذلك اليوم عاد أبي من العمل ومعه إطارة مطاطية قديمة . وانتبهت أنا إلى ضخامتهما . وبعد ذلك جاء بصندوق العدّة . وكان يحتوي على مطرقة ، وحجر مسن يلمع سواده بما عليه من زيت ، وأدخل قدمه اليمنى في تجويف إحداهما ، ثم فعل ذلك بالقطعة الأخرى . ثقب في جوانب القطعتين ثقوباً أدخل فيها حبلاً رفيعاً في هذه وتلك ، تخرج إلى الحوش لتتأكد من غليان الطنجرة» على نار الموقد ، وتصيح بي وبأخي : جيبوا لي حطبتين! اسحبوا سطلاً . » في هذه الأثناء انتهى أبي من عمله : وجدته يلبس قطعتي الإطارة المقوستين في قدميه ، ويشد كلا منهما بالحبل حول كاحله . وقال مزهواً بما صنع : «شايفة يا مريم؟ أحسن وطا!»


قال : «عندما تكبر ، حذائي القديم يتهرأ بالاستعمال . ولهذا سأحتفظ به لأيام الأحد . وقال : يلا نتعشى . قلت لأخي : «أين صندوق الدنيا؟»
قلت : «تفرجت اليوم على صندوق الدنيا الكبير ، يطيـر العقل!» قال : والله لو كان عندي صور ، قائلاً : «شو يا جماعة . بدناش نحكي قصة الليلة؟» قلنا جميعاً : «طبعاً ، ويوم الأحد لا نذهب الى المدرسة ، أما أنا فقصدت إلى دار عبده ، وأحضرته معي إلى دارنا ، ومعه صندوق كرتوني من صنادق الأحذية ، كان أبوه قد جاء به قبل يومين . وعودين أحضرناهما من كومة الحطب التي تجمعه أمي وجدتي للوقود بعد ساعتين أو ثلاث كان كل شيء قد اكتمل – إلا الصور . أسرع عبده إلى البيت ، ثم عاد ومعه ثلاث أو أربع صور فوتوغرافية كالحة من صور تعجبني كثيراً . وعندها تذكرت كتاب أخي الإنكليزي . أو في ملعب دير أبونا أنطون» . وجئت بمقص أمي – وهي بانشغالها لا تعلم ما الذي نحن منهمكان به في الحاكورة – ورحنا نقص الصور عن كل ورقة ، ورقة بعد أخرى ، ونلصقها على الشريط ، إلى أن لم يبق من الكتاب إلا القصاصات . وهذا بالضبط ما فعلنا : خرجنا إلى الزقاق ، وأخذنا صندوق الدنيا إلى أصحابنا نفرّجهم عليه ، «سينما ابلاش سينما بلا مصاري كنا نصيح . ولكن سرعان ما ندمنا على كرمنا . ثم تفرفط بين أيدينا . وعندما حاولت إنقاذه . وبين أيدينا بقايا مشروعنا المحطم . تركني عبده وذهب إلى البيت . واستبد بي الإحساس بالقهر ، ولم يبق لبؤسي لكي يكتمل إلا أن يمر أخي برفقة جماعته ، وجاءني مرحاً يقول : «يلاً . وقال : أتبكي؟ من ضربك؟ قل لي من ، أشرت إلى الصور الممزقة ، وقلت : «صندوق الدنيا ، وأنهضني من مكانني قائلاً : «أعلى هذا
تبكي؟ سأصنع لك ألف صندوق . الصور؟»
سلّمت أمري لله وقلت : من كتابك الإنكليزي . فصاح : «إيش؟ شو بتقول؟»
وهو قوي جداً


كانت مزيّة «الخشاشي (كما كنا نسمّي بيتنا ذاك) وجود الحاكورتين اللتين تحويان عدة أشجار رمان ، ودالية تحاول عبثاً الانتشار فوق المدخل المؤدّي إلى الدار فيهما قرأت أولى الكلمات ، تلف كتفيها بحرام لترافق أبي إلى مستشفى راهبات المحبة ، وبعد يومين أو ثلاثة تعود إلينا ومعها طفل صغير في قماط . يا حبيبي وكان الطفل أخي عيسى الذي يصغرني بست سنوات ، وفي الحاكورتين غنيت أولى الأغنيات ، وأنشدت أولى الأناشيد التي بدأت أعي بعض معانيها ، إضافة إلى معلمنا الوحيد في مدرسة السريان الأرثوذكس ، وفيهما بدأت أعي الفوارق بين طبائع الناس وتصرفاتهم ، ولا مواعظ قسسهم ورهبانهم . لنمـثل مـسـرحـيـة كالمسرحيات التي رأيناها في دير أبونا أنطون». وهي تنتهي دائماً إلى عراك كنت أصر على المضي فيه إلى أن يعترف الآخرون بأنني أنا الغالب . ففي إحدى النهايات «العراكية» تألب علي عدد من الصبية ، وبينهم أخوان مشهوران بالعض . إلى شجار حقيقي ، وكاد يقتلع حلمتي! ولم يتركاني إلا عندما رأيا الدم يملأ ويسيل على ثيابهما ، وكنت أنشد الدفء على صدره فلا أنام إلا قربه . فاندفع الثلج أكواماً مع انفتاح الباب إلى الداخل ، ورحنا جميعاً نحمل الثلج بالأيدي ، والثلج في كل مكان إلى ما هو أعلى من الركبة؟
يبدو أن أبي كان يتوقع هجوم الثلج هذا ، راح يدفع بها التراكمات عن الباب ، إلى أن فسحنا مجالاً للخروج . وأبي في أثناء ذلك يردّد ، وهو يصعد عينيه بقلق إلى أحطاب السقف : «أنا خايف على السقف من الانهيار . يجب أن أصعد الى السطح قبل أن يسقطه الثلج علينا . وخطر لى أن الدار قد تنهار علينا قبل أن يستطيع أبي أن


أردنا الخوض في الثلج مع أبي ، وتسلّق إلى سطح الدار ، بدفعه الى الحاكورة الجانبية ، ولم يعد إلينا إلا بعد أن أخلى السطح ، والمزية الأخرى لبيتنا ذاك كانت قربه من ملعب دير أبونا أنطون» ، بحيث لا يستغرقنا الذهاب إليه إلا بضع دقائق . مهده أبي على شكل مدرج ليسهل صعودنا عليه . ومنه نسلك طريقاً بمحاذاة حواكير عليا ، تختصر المسافة إلى الملعب كثيراً . وكانت أولى هذه الحواكير يؤدي مدخلها إلى دار بطرس الكندرجي . وهل هربنا أرنباً من أرانبه؟ وما كنا لنجرؤ على شيء من ذلك ، لأنّ له كلباً ضخماً أسود ، رغماً عن كلبه الغليظ . ولا ندري هل كان يدفنها بعد ذلك ، أم يحملها إلى المزبلة القريبة ، يرجعون إليه كلما ابتلوا بها هم أيضاً . وقد يتبرع بتقديم خدماته ، وهذا ما فعله حين جاءنا ذات يوم حاملاً نبوّته وكيسه المشؤوم ، وعيناه الصغيرتان تتجولان في أرجاء الدار :
رأيت عندكم هراً كثير الحركة . وقال : كلام فارغ . أنتم لا ترونها عندما تصعد إلينا ، صغيراً بين حين وآخر» . قلنا : بارك الله في همتك . وعاد إلى بيته بعد دار بطرس الكندرجي ، كنا نمر بدار قديمة تتألف من بيتين صغيرين بنيا على حافة الحاكورة المشرفة على الطريق ، يسكنها العم حنا ذيبان . وكان أولاده مثلنا يترددون على ملعب الدير ، كان أبوه يدعى إلى إحياء حفلات الأعراس اثنين أو ثلاثة - مع يؤلفون تختاً معاً : أحدهم تجار يعزف على الكمان ، على طاولة صغيرة ، لم يكن هناك يومئذ مذياع يغني فيه المطربون ليلاً ونهاراً ، أو على الأقل يجربون أصواتهم ويرفعونها ، حيث يعمل الصدّافون الماهرون جالسين على الأرض ، ويغنون أغاني جماعية على إيقاع مناشيرهم ، وكلما مررت في طريقي إلى ملعب الدير بالعم حنا ذيبان الضرير ، كنت أتخيله يعزف على عوده ، وبعـزفـه وغنائه يملأ الطريق فرحاً حتى بلوغي بوابة الدير . في تلك الأثناء عاد المعلم جريس من بعد انتظار طويل من أبوي ، واستبشروا بعودته خيراً لأكثر من سبب : فهو معلم أولادهم المشهود له بمعرفة العربية والسريانية والإنكليزية ، حتى أنه ليحوّل القداس صباح كل أحد إلى جنة صغيرة من عذوبة


قرب سوق البلدية ، والغرف الأرضية منها اختنقت أبوابها ونوافذها بركام الحجارة الساقطة
قبل دخول المدرسة ، كنا نلعب في غرف هذه الخرابة - وتسمى خربة الكنيسة» - بقدر ما نجرؤ على مجابهة العفن والظلام ، ونتخيل أنها ملأى بالمردة ، ويسد الطريق على من يريد دخولها.


المتحدي بعد قليل مرتعباً وهو يقسم أنه رأى مارداً عملاقاً أبيض الشكل ، لولا أنه استطاع الهرب من بين يديه . ينتهي بخروجي إلى النور ، بينما يكون العديد من آبائنا ، منهمكين برفع الردم على ظهورهم وبناء الكنيسة الجديدة . وقد ألف ذراعي حول خصر أول رفيق يصادفني ، مؤكداً على إيقاع الكلمات :
تترنّح جدائلها المسترسلات فوق نهديها تسقي جملها المحبوب ، فيدور معه الآخر على إيقاع كلماتنا :
وشكلها إجاصي يستدق إلى رأس مسمار براق : أدير حولها الخيط الغليظ ابتداء من طرفها الدقيقة وصعوداً نحو جسمها العريض المزيّن بدوائر ملونة ، وهكذا يفعل رفيقي بفرانته ، ثم نقول معاً : «واحد ، ثلاثة!» ويقذف كلانا بحنكته الخاصة بالفرّانة على أرض مبلطة ، لتدور بسرع رعة هائلة على مسمارها ، يروح يسوطه بهذا الخيط على ساقه


بحيث يلتف عليها وينسحب بسرعة ، توضع على نتوء في الأرض ، يكون طرف منها مرتفعاً قليلاً ، ونتجه بعد شتاتنا المنتشر ، نحو الغرفة الكبيرة المتكاملة الوحيدة ، يجلس المعلّم إلى منضدة في الصدر رتبت عليها كتب القراءة والحساب ، وعدد من العصي المتباينة الطول والمتانة ، وعلى اليمين واليسار منه نافذتان طويلتان ، الغربية منها تطلّ على الخرابة ، والشرقية ترى منها عن بعد قباب كنيسة المهد ، ويجلس الصبية على مقاعد مدرسية طويلة رُتبت في صفين ، بينهما الممشى الذي يؤدي إلى منضدة المعلّم ، وبين المقاعد وبين الجدارين على اليمين واليسار مسافة كافية لاندساس الصبية في أماكنهم . كانت هناك خمسة أو ستة بنوك في كل جانب ، يتسع كل منها لخمسة طلاب وقد يجلس سبعة أو ثمانية ، ويتدرجون إلى الخلف حسب «صفوفهم» . أعلى الصفوف ، وفيه أخي يوسف وعدد ممن الأولاد يكبرونه سناً . ممن كنا نسميهم أولاد الألف باء» . هؤلاء كان المعلم جريس يعهد للأولاد الكبار» بتلقينهم الأبجدية والصفحات الأولى من القراءة . وجاء وقت كلفني فيه أنا أيضاً بتعليم مجموعة منهم القراءة – كنت عندها في الثامنة من عمري وكان ذلك أول عهدي بالتدريس ، مما جعلني أحلم لسنين عديدة بعد ذلك بأن أكون معلماً ، كأفضل ما يمكن أن أكون في الحياة . صفاً صفاً يتعامل المعلم مع تلاميذه : يُنزل الصف الواحد ليكون أفراده نصف دائرة على جانب من منضدته جاعلاً «أشطرهم أقربهم إليه ، إلى أن يكون أغباهم في نهاية الخط ، ويقرأ لهم ، وإذا غضب على كسل واحد منهم ، أنزله درجتين أو ثلاثاً على الخط ، أو قد يرسله إلى نهاية الخط ليكون الطش» ويضحك عليه الجميع ، أو أكثر ، بمقدار رضاه . وقد احتفظ أخي بمكانه في رأس الخط من صفه طيلة المدة التي قضاها في تلك المدرسة ، في حين أنني كنت أحتل أحياناً المكانة الأولى وأحياناً المكانة الثانية من الخط في صفّي ، لأنّ الذي يضعه المعلم بين آونة وأخرى في الرأس هو ابن الرجل «الوجيه» الذي خصص للمعلم غرفة لسكناه مع زوجته مجاناً قرب المدرسة . وقد كان يوسف عن حق «أشطر» أولاد صفه ، فضلاً عن راتبه الشهري ، ومن ضمنهم بالطبع أحد أبناء هذا الضيف ، أو اليوم التالي ، لأنه سيعتبر غياب «الدجاج المحشي» غمزاً من قیمته . أما أبي فلم يخطر له يوماً أن يحل ضيفاً على المدرسة . ولا يطلبها ، وبخاصة بين النسوة ، وجاءت إلى أمي إحدى صديقاتها وقالت لها : «إذا عرف المعلم أنك لم تطبخي له دجاجاً ، فـيـمـا بعـد ، أكل أم لم يأكل!» وقد أقلقني ذلك ، عندما سمعناه ، جاء المعلم . كثير المرح، على عكس ما توقعنا . وبعد أن جلسنا جميعاً على الحصيرة ، وجلس هو على وسادة ، أنزلتهما أمي له من المعزل ، ووضعت أمامه بزر البطيخ المحمص ليتسلّى به ، وابنك ذاك ، مستبشرة ، وعندما غادرنا ، قالت أمي لأبي : «ما ألطف هذا الرجل والله لو طلب مني أن أعطيه دجاجتين حيتين من دجاجاتنا ، لفعلت! صوته إذا تكلّم يسحر اللب ، فكيف إذا رتل؟ سأبكر صباح الأحد القادم للقداس معك أخذا اللغات الثلاث بالتناول . ولكن أحد الطلاب الكبار
- وكان لطوله أقرب شكلاً إلى الرجال - واسمه جليل ، حين أمره المعلم بإعادة قراءة إحدى الجمل من كتاب القراءة العربية ، بل أمره بأن يترك مكانه وينزل الى رأس أحد المقاعد «السفلى» ، غير أنه انتبه إلى أن جليل يلاعب جيرانه» الجدد ، وهدّده بأنه إذا لم يكف عن إضافة الشيطنة إلى كسله ، سيعاقبه بأربع عصي . جليل! قلت لك تعال ، واندفع نحو المعلم لكي يمسك به ، فركض الولد و احتمى بالفسحة الضيقة بين الجدار والمقاعد . وانطلق الولد من زقاقه باتجاه المنضدة ، ثمن دخل بسرعة الفسحة الضيّقة بين الجدار الآخر والمقاعد ، والمعلم يكاد يمسك به ولا يمسك ، وجليل يدور بين المقاعد ، وهو يشير إلى ابنه : «هذا الولد مش ابني ، فيكرّر المعلم بصوت رخيم مقولته التي يفرح الأب
والعصاة بين الصبية كانوا حقاً كثيرين . أو الانسراح بين الناس في سوق البلدية القريب . وكان هناك من اشتهر بأنه لا يخاف العقاب ، من أمثال حنّا أبو الحرادين . وحالما يدير ظهره عائداً إلى مكانه من المقعد ، يضحك للأولاد متباهياً ، دلالة على عدم شعوره بالألم ، يكثّف جلد راحة اليد ويقويها ، فلا تحس بأي ألم عندما يهوي المعلم عليها بعصاه ، ولكن لم يكن الصبية كلهم مثل حنا بارعين ، ففي ساعات الظهيرة، عندما تغمر الشمس سلاسل الحواكير ، قد نرى حرذوناً يخرج من بين الحجارة ، ويهز رأسه عالياً سافلاً ، «صلى صلاتك يا حردون


وكنت أنا أفرح عندما أرى الحرذون ، بعد أن يفرغ من صلاته» ، في معظمها أناشيد وتراتيل تعود إلى أزمان سحيقة في القدم ، لحنها آباء الكنيسة الأوائل في أنطاكيا ودمشق والقدس والرها ومدن وادي الرافدين ، وفق مقامات كان الشمامسة يتقنونها . يساعده في ذلك أحياناً رهبان شباب من دير مار مرقس بالقدس ، التنويعات السبعة لكل لحن يُنوع بها ، بدون التدوين الموسيقي الذي عرفته ألحان الكنائس فيما بعد . الواحد إلى اليمين والآخر إلى اليسار ، كانت هذه الكتب السريانية القديمة كنزاً تحتفظ به الكنيسة بعناية خاصة واعتزاز كبير . وخطوطها بالحبر الأسود بالنسبة للمتن ، وبالحبر الأحمر بالنسبة للإرشادات والعناوين التي تتخللها . لاستحال التعويض عنه ، لندرة الخطاطين بالسريانية في عهود متعاقبة من الأمية المتزايدة . يقسم الكورس إلى نصفين ، وكل نصف يلتف حول محمل ، لتكون التلاوة المرتلة بالتناوب بينهما ، ولشدة ظلام الكنيسة (لم تكن بعد قد زوّدت بالكهرباء) ، كان أحد المرتلين يمسك شمعةً يضيء بها النص الذي ينغمه نصف الكورس ، والمرتلون يتحلقون حول المحمل ، وبالتالي تكون الكتابة بالنسبة لبعضهم ، ولذا كان علينا أن نستطيع القراءة بالمقلوب : إذا اقتضى الأمر ، وكثيراً ما وجدتني أدفع من الآخرين - لأنني في الأغلب أصغر أفراد الكورس - لأخذ مكاني حول المحمل حيث يتوجب على أن أقرأ بالمقلوب!


أو بالمقلوب ، فرفقتي المرتلون كلهم تعلموا أن يفعلوا ذلك
والقليل النادر منا من كان يفهم تلك النصوص ، رغم قدرتنا على قراءتها عدلاً ، أو بالمقلوب ،


Summarize English and Arabic text online

Summarize text automatically

Summarize English and Arabic text using the statistical algorithm and sorting sentences based on its importance

Download Summary

You can download the summary result with one of any available formats such as PDF,DOCX and TXT

Permanent URL

ٌYou can share the summary link easily, we keep the summary on the website for future reference,except for private summaries.

Other Features

We are working on adding new features to make summarization more easy and accurate


Latest summaries

بالطبع! في هذه ...

بالطبع! في هذه القصيدة، يستخدم الشاعر العديد من الأفكار الفرعية للتعبير عن رغبته في أن يكون مثل أحمد...

بانَت سُعادُ فَ...

بانَت سُعادُ فَقَلبي اليَومَ مَتبولُ مُتَيَّمٌ إِثرَها لَم يُفدَ مَكبولُ يصف الشاعر حالته بعد فراق م...

الفائدة من القص...

الفائدة من القصة رغم قوّة حكم ذو القرنين وما أعطاه الله من الحكمة، وقوّة وعزّة لم يسكن قلبه الغرور، ...

يحتوى الفيجوال ...

يحتوى الفيجوال استوديو على محرر أكواد يدعم تعليم الصيغة والاكمال التلقائى ويستخدم أيضا تقنية انتليسن...

Importantly, Mo...

Importantly, Modified Low-Dose Bismuth Quadruple Therapy has shown high effectiveness in curing Heli...

قيل أنّ مركبة ا...

قيل أنّ مركبة الفضاء "الباحث" قد تمكنت من رصد وجودٍ لرجلٍ يبدو طاعناً في السنّ على كوكب المريخ، فقد ...

I am writing to...

I am writing to submit my enthusiastic Application for the position of Crew, I am confident that my ...

كتاب البيع البي...

كتاب البيع البيع في اللغة : أخذ شيء، وإعطاء شيء. وشرعا: (مبادلة مال ولو في الذمة، أو منفعة مباحة كمم...

أولاً: السمات ا...

أولاً: السمات المميزة للتأمين ضد التعطل عن العمل (1) : يتميز خطر البطالة بطبيعة خاصة تميزه عن غيره ...

A 57­year­old m...

A 57­year­old man is brought to the ED by his son at 10 AM after experiencing left arm numbness, slu...

Phonetics The ...

Phonetics The general study of the characteristics of speech sounds is called phonetics. Our main i...

يعتبر التوقع أح...

يعتبر التوقع أحد المعايير الأساسية لقياس مدى جودة أي نص قانوني وقدرته على تحقيق الأمنيين القانوني وا...