Lakhasly

Online English Summarizer tool, free and accurate!

Summarize result (50%)

تتناول هذه الورقة بالتحليل ظاهرة التسريب من حيث هي ظاهرة قديمة، وعلاقتها بمبدأ الشفافية في النظام الديمقراطي. وتقسم ظاهرة التسريب إلى تسريبات مقصودة من داخل المؤسسة، وهي تُنتج جدلية سلبية في تعامل المواطن مع السياسة، وتسريبات على شكل فضائح ناجمة عن وظيفة مؤسسة الإعلام، وعن التوازن بينها وبين المؤسسة السياسية، ثم التسريبات النقدية الناجمة عن فاعل منشقّ أو من خارج المؤسّسة، هذه الورقة تجعل موقع المصدر المفتوح عند تقاطع هذا التراث مع وسائل الإعلام الجديدة على شبكة الانترنت. وفي ظاهرة التسريب نفسها. وتغيّر موقفها من الشفافية حين يمسّ قضايا تتعلق بجدلية العدوّ والصديق، الصحيح والكاذب، وتبين أنّ المصدر المفتوح والتقاء الحقائق المسربة مع ما توصّل إليه التحليل العقلاني نظرياً يلعبان دوراً تنويرياً في إعادة الاعتبار إلى العقل والحقائق. يتصدر الحقّ في الوصول إلى المعلومة ذات العلاقة بالشأن العام قائمة الحقوق التي يقوم عليها الحق في حرّية الرأي والحقّ في التعبير والحقّ في المشاركة. وهذا الحق هو أهم الحقوق السياسية في النظام الديمقراطي. مع أن مؤسّسة السرية والسرية المقوننة هما من نتائج تطوير النظام الديمقراطي في مقابل حقّ المواطن في المعرفة، لأن النظام الذي يعتبر الشفافية هي القاعدة، في حين أنّ الأنظمة الدكتاتورية غالباً ما تعتبر السريّة جزءاً من تعريف النظام؛ في حين أنّ العلنية هي ما يختار النظام أن يعلنه، أكان ذك حقيقة أم كذباً. وهنا تكمن الهوّة بين الشعب والحاكم، ثمة قطبان لهذه العملية: احتكار المعلومة كنوع من احتكار القوّة والسلطة من جهة، وتتوسط بينهما عناصر عدّة مثل الرقابة على النشر، وتصنيف المعلومات كمواد سرية، والشفافية المنظمة قانونياً. وتمنح الحقّ في أن تكون مؤسّسة للرقابة على السلطة للحدّ من استخدام القوة والنفوذ لأهداف غير شرعية ولأهداف غير مشروعة. إنّ تطوّر الشّفافية كآلية جاء مع تطور المؤسسات الديمقراطية وحقوق المواطن وتحوّلها إلى مؤسسات في كثير من الحالات، والمناقشات البرلمانية المفتوحة (البثّ المباشر مؤخراً)، فقد ظل برج المراقبة الذي تقبع فيه السلطة أعلى وأكثر إشرافا واستدارة وبانورامية، وظلّ حجب المعلومة أداةً أساسية في صنع السياسات الذي يتم من دون موافقة الرأي العام، أو حتى للكذب الصريح في إطار تبريري سُمّي "الأمن القومي". وتوسَم "المسائل الخاصة بالأمن القومي بأنها" فوق الحقوق والقوانين الدنيوية، ولا يُسمح بدخوله إلا لأصحاب الشأن المصنّفين. ويباح حجب المعلومات عمّن يقع خارج حرم هذه القدسية، ويباح حتى الكذب في شأن أي قضية توسم بهذه العلامة. أمّا الآليات التي طُورت من أجل نقل الخبر واستقصاء المعلومة ونقلها إلى الجمهور، فيمكنها -في هذه الحالات- أن تتحول إلى أداة لمنع الشفافية وللتضليل، لأن العلاقة الممأسسة بين الإعلام والسلطة تتضمن خدمات متبادلة، ما كانت لتتخذ لو عُلم أنّ الأسباب التي تبرّرها كاذبة، أو لو عرفت حقيقة الدوافع، ولجرى تشويش تنفيذها على الأقل (1). لا يعد تسريب الوثائق والحقائق المحجوبة ظاهرة جديدة في العلاقة بين الحكومات والمؤسسات الرسمية من جهة، والإعلام والرأي العام من جهة أخرى. تماماً مثل احتكار استخدام العنف؛ خارج هذا السياق، في إطار الصراع ضدّ الحكومات، بما في ذلك الفعل الثوري (ما قبل الديمقراطية، وما قبل نشوء مفهوم الشفافية)، ومنذ أن نشأ مفهوم الرأي العام، ومعه وسيط نقل الخبر والمعلومة، أي الصحافة ووسائل الإعلام عموماً، أصبح التسريبُ جزءاً من عملية صناعة الرأي العام وتكوينه. لا علاقة ضرورية لآلية التسريب إذاً بهذه الجدلية الموصوفة أعلاه. فيقوم الجناح غير الموافق على خطوة ما، بتسريب خبر عنها إلى الرأي العام لعرقلتها. وكمثال أكثر أهمية نذكر أنّ هنري كيسنجر قام بخطوات التقارب مع الصين في حقبة إدارة نيكسون بشكل سرّي، ومن دون أن يُعلم الخارجية والبنتاغون كي لا تقع الوثائق أو الرسائل في أيدي سياسيين ومسؤولين ممّن يعارضون سياسة الانفراج هذه، مثل راي كلاين في "سي آي إيه" والسيناتور باري غولد ووتر، أو تسجيل نقاط في الصراع داخل المؤسسة، وليس الوصول إلى الحقيقة ولا تحقيق الشفافية. ولكن في المجمل فإن الرأي العام يصبح، بعد أيّ تسريب كهذا، أكثر وعياً بأساليب الحكم وأكثر ريبية وتشكيكاً في السياسة والسياسيين. ولا يلبث أن يؤدّي التسريب المتبادل، في ما لو أفقده التنافس الروادع، ليس من "الحقيقة" وحدها، ولكن في السياق التاريخي نفسه، تلاؤُم ما يقول مع الوقائع، أو مضمونه قياسا على حقيقة موضوعية ما. وهو مفهوم وجيه وذو فائدة في العلوم الاجتماعية يقوم على العلاقة بين المعرفة والسلطة، إنه نموذج لفهم رواية الأحداث كسرد ناجم عن موقف ثقافي وأيديولوجي معين. وكلا المفهومين لم يهدفا إلى مساواة الحقيقة بالكذب في أي لحظة معطاة، وعند أي مقارنة بين القول والوقائع. وخلع ألقاب ما بعد حداثية على هذا التسخيف وترويجه كثقافة سياسية، هو الوجه الآخر لاحتكار المعلومة وجواز كذب المؤسسات الحاكمة. وفي المقابل وُجدت دائماً أنواع أخرى من التسريب التي يقوم بها منشقون عن الحكومات والمؤسسات ممّن لم يتمكنوا من تحمل التبعات الأخلاقية لعدم البوح في الفضاء العام بما يعرفونه من معلومات عن أعمال تقوم بها مؤسسة ما، ويعتبرونها غير أخلاقية أو ضارة بالخير العام. كما وجدت تسريبات قامت بها حركات ثورية لتُثبت صحة ما قالته عن الدولة. وغالباً ما يُضرب كمثال على ذلك كشف البلاشفة، بعد وصولهم إلى الحكم، والتي كانت أساساً للحرب العالمية الأولى التي اعتبرها البلاشفة حرباً استعمارية لا حرباً وطنية، وكان فضح البلاشفة الوثائق والمراسلات نوعاً من التسريب بالجملة، ولا شكّ في أن هذا الكشف ساهم في بلورة الوعي بالمواطنة كمشاركة سياسية احتجاجية ضد الحرب، وضد التعامل مع قرار الحرب كشأن متعلق بالحكومات وحدها. ولكن هذا الأمر مثال ثوري تاريخي من مرحلة ما قبل نشوء الشفافية كمفهوم وكمؤسسة ديمقراطية. وبيّنت الوثائق أن الإدارات، وبالتحقيق الصحافي، واضطرت إلى اتخاذ إجراءات ضد الرئيس نيكسون نفسه، وهكذا تعود المؤسسة إلى روتينها الجديد بعد أن تُقدم ضحايا من السياسيين المتهمين بالفضيحة، ولا تلبث هذه المؤسسة أن تسن تشريعات تتلاءم مع مفهوم أكثر تطوّراً للشفافية. ونجد هنا علاقة جدلية بين المؤسسات الإعلامية الكبرى وبين المؤسسة الحاكمة، وهي تُعيد إنتاج التوتر والتوازن بعد كل كشف، يصح هذا على ما تقوم به وسائل الإعلام يومياً فيما يتعلق بالفضائح المالية والفساد واستخدام الشرطة العنف في أثناء التحقيق، وغير ذلك من مزايا الصحافة الاستقصائية. ويجري هذا كله في إطار ممأسس بين فاعلين لا ينأون بأنفسهم عن تبادل الخدمات بالمعنى السلبي المذكور أعلاه فحسب، بل يدخلون في صراع فعلي من حين إلى آخر تنجم عنه علاقة تفاعلية نسميها هنا جدلية إيجابية، وحتى حين يعاد رسم الحدود المشوشة بين المؤسستين السياسية والإعلامية خلال التسريبات والكشوفات في إطار الجدلية الإيجابية، إذا صحّ التعبير، فإنّ المؤسّستين تتّفقان غالباً على الفضاء الذي يجمعهما داخل حدود الأمن القومي، بل ضرورة نابعة من تعريف السياسة وتعريف العدو والصديق. ولهذا لا تنطبق عليها الشفافية حتى لو أخذت في الاعتبار الحقوق الأخرى التي توازن الشفافية وتقيدها. أو تحرش جنسي يقوم به مسؤول في حكومة، قد يندمج بسهولة فائقة في جوقة نشر الأكاذيب أو حجب الحقائق، حين يتعلق الأمر بالأكاذيب التي تبرر شنّ حرب على دولة أخرى. لأن مكافحة الفساد والشفافية داخلياً هي مصلحة وطنية، وهذا ما يجعل الحدود لدى المؤسستين الإعلامية والسياسية واضحة بين التسريب الذي تقوم به وسيلة إعلامية ممأسسة من جهة، وأخيراً ما يقوم به على أوسع نطاق مصدر مفتوح على شبكة الانترنت يتجاوز جميع الحدود المؤسساتية الداخلية والوطنية بين الدول، وفي هذه الحال تنشأ ظاهرة جديدة لم يتم الاستعداد لها على الإطلاق، ولذلك غالبا ما تنتظم المؤسستان الإعلامية والسياسية في جوقة ضدّها. وهذا النقاش صحيح في الظروف العادية، وهو ليس للتستر على الجرائم، ولكنه مفتعل في حالة تسريب معلومات عن قضايا الأمن القومي، لأن هذه القيم تتضاءل أمام قيمة الشفافية في حالة واحدة فقط هي استغلال السرية لارتكاب جرائم. ولكن النقاش يبرز هذه القيم في حالة المس بما يسمى الأمن القومي حتى لو كشفت الشفافية المكتسبة بالتسريب جرائم حقيقة ضد المدنيين، وأسراراً مخفية وراء قرار الخروج إلى حرب غير عادلة. والمقصود هو التناقض فيما يتعلق بالشؤون العامة. أما إخفاء الحقيقة في الشأن الخاص، وهو أمر متغير التعريف والتحديد عبر التاريخ، فلا يجوز أن يكون موضوعا للاهتمام العام، وبالتالي للتسريبات أيضا إلا لغرض التشهير وتلطيخ السمعة والإثارة،


Original text

مقدمة


تتناول هذه الورقة بالتحليل ظاهرة التسريب من حيث هي ظاهرة قديمة، وعلاقتها بمبدأ الشفافية في النظام الديمقراطي. وتقسم ظاهرة التسريب إلى تسريبات مقصودة من داخل المؤسسة، وهي تُنتج جدلية سلبية في تعامل المواطن مع السياسة، وتسريبات على شكل فضائح ناجمة عن وظيفة مؤسسة الإعلام، وعن التوازن بينها وبين المؤسسة السياسية، ثم التسريبات النقدية الناجمة عن فاعل منشقّ أو من خارج المؤسّسة، ويكون في العادة مدفوعاً بدوافع خارجة عن علاقات إعادة إنتاج المؤسّسة الإعلامية والسياسية.


هذه الورقة تجعل موقع المصدر المفتوح عند تقاطع هذا التراث مع وسائل الإعلام الجديدة على شبكة الانترنت. وتبين الورقة تأثير ذلك في مبدأيْ الشّفافية والسرّية، وفي ظاهرة التسريب نفسها. كما تفحص سلوك المؤسستين الإعلامية والسياسية، وتغيّر موقفها من الشفافية حين يمسّ قضايا تتعلق بجدلية العدوّ والصديق، وموقفها السلبي من التسريبات المنشقة والفردية أو الناجمة عن فاعلين عابرين لحدود الدولة الوطنية. كما تعالج الدراسة أيضاً الشفافية المصطنعة المفرطة القائمة على ضخّ معلومات يتساوى فيها، بالقيمة، الصحيح والكاذب، والقائمة على مفهوم نسبية الحقائق كوجه آخر لاحتكار المؤسسة الحاكمة للحقيقة. وتبين أنّ المصدر المفتوح والتقاء الحقائق المسربة مع ما توصّل إليه التحليل العقلاني نظرياً يلعبان دوراً تنويرياً في إعادة الاعتبار إلى العقل والحقائق.


عن التسريب


يتصدر الحقّ في الوصول إلى المعلومة ذات العلاقة بالشأن العام قائمة الحقوق التي يقوم عليها الحق في حرّية الرأي والحقّ في التعبير والحقّ في المشاركة. وهذا الحق هو أهم الحقوق السياسية في النظام الديمقراطي. ولكن قلة من الدول الديمقراطية شرّعت فعلاً حق الوصول إلى المعلومات، مع أن مؤسّسة السرية والسرية المقوننة هما من نتائج تطوير النظام الديمقراطي في مقابل حقّ المواطن في المعرفة، لأن النظام الذي يعتبر الشفافية هي القاعدة، والسرية هي الاستثناء اللاّزم لعمل المؤسّسات، يرى أنّ السرية تحتاج إلى حماية مقوننة. في حين أنّ الأنظمة الدكتاتورية غالباً ما تعتبر السريّة جزءاً من تعريف النظام؛ فهو الذي يجب أن يعلم ويعرف ويفكّر نيابةً عن الشعب. ولا حاجة في هذه الحال إلى تحديد السرية لأنها هي القاعدة، في حين أنّ العلنية هي ما يختار النظام أن يعلنه، أكان ذك حقيقة أم كذباً. وهنا تكمن الهوّة بين الشعب والحاكم، والتي تتشكّل منها هيبة الحاكم ومهابته.


ثمة قطبان لهذه العملية: احتكار المعلومة كنوع من احتكار القوّة والسلطة من جهة، والحقّ في المعرفة وحب الاستطلاع غير المحدود من جهة أخرى. وتتوسط بينهما عناصر عدّة مثل الرقابة على النشر، وتصنيف المعلومات كمواد سرية، والشفافية المنظمة قانونياً. وهذه الأخيرة حين تقونن تمنح الحقّ في المعرفة لغاية محدّدة هي تكوين موقف ورأي، وتمنح الحقّ في أن تكون مؤسّسة للرقابة على السلطة للحدّ من استخدام القوة والنفوذ لأهداف غير شرعية ولأهداف غير مشروعة..


إنّ تطوّر الشّفافية كآلية جاء مع تطور المؤسسات الديمقراطية وحقوق المواطن وتحوّلها إلى مؤسسات في كثير من الحالات، ومن ضمنها مؤسسات الرقابة الرسمية وغير الرسمية التي تقدّم تقاريراً للجمهور، ومن بينها أيضاً مؤسّسات تتوسّط بين الإعلام والسياسة مثل التقارير اليومية للناطقين الرسميين، والمناقشات البرلمانية المفتوحة (البثّ المباشر مؤخراً)، وحقّ عضو البرلمان في توجيه الأسئلة إلى الوزارات المختلفة وغيرها. ومهْما مُنح المواطن من حقوق الرقابة على ما تقوم به السلطة، فقد ظل برج المراقبة الذي تقبع فيه السلطة أعلى وأكثر إشرافا واستدارة وبانورامية، وظلت نوافذ المواطنين مسطحة وواسعة وأكثر نفاذية، وظلّ حجب المعلومة أداةً أساسية في صنع السياسات الذي يتم من دون موافقة الرأي العام، وأداة في تنفيذ خطوات غير شعبية، أو أداة للقيام بخطوات لا تتلاءم مع برامج الحكومات، أو حتى للكذب الصريح في إطار تبريري سُمّي "الأمن القومي". و يُحرّم كل ما "يمسّ الأمن القومي"، وتوسَم "المسائل الخاصة بالأمن القومي بأنها" فوق الحقوق والقوانين الدنيوية، ثم تحاط بهالة من القدسية، وينشأ لها حرم تشيّد فيه قلاع السرية المحظورة، ولا يُسمح بدخوله إلا لأصحاب الشأن المصنّفين. ويباح حجب المعلومات عمّن يقع خارج حرم هذه القدسية، ويباح حتى الكذب في شأن أي قضية توسم بهذه العلامة.


أمّا الآليات التي طُورت من أجل نقل الخبر واستقصاء المعلومة ونقلها إلى الجمهور، فيمكنها -في هذه الحالات- أن تتحول إلى أداة لمنع الشفافية وللتضليل، لأن العلاقة الممأسسة بين الإعلام والسلطة تتضمن خدمات متبادلة، منها أن "يخدم" السياسي أو صاحب السلطة الإعلام بمنحه خبراً، وأن يخدم الإعلام السلطة بحجب خبر ما أو بتمرير معلومة كاذبة ترغب السلطة في إيصالها إلى المتلقي. وقد يكون منع المعلومات أو نشر المعلومات الكاذبة غطاء ضرورياً لصنع الرأي العام المؤيد لخوض حروب أو لتقييد الحريات، أو لاتخاذ خطوات غير شعبية، ما كانت لتتخذ لو عُلم أنّ الأسباب التي تبرّرها كاذبة، أو لو عرفت حقيقة الدوافع، ولجرى تشويش تنفيذها على الأقل (1).


لا يعد تسريب الوثائق والحقائق المحجوبة ظاهرة جديدة في العلاقة بين الحكومات والمؤسسات الرسمية من جهة، والإعلام والرأي العام من جهة أخرى. فمن اكتساب الحكومات حقّ السرية؛ في إدارة مداولاتها الداخلية وفي إدارة علاقاتها بالدول الأخرى، وحق حجب المعلومة كجزء من وحدانية السلطة، تماماً مثل احتكار استخدام العنف؛ نشأ أيضا التسريب الانتقائي. ويولد التسريب كجزء من عملية التحكم في الرأي العام أو كنوع من الفضح المتبادل للخصوم السياسيين في داخل المؤسسة الحاكمة. كما ينشأ التسريب، خارج هذا السياق، في إطار الصراع ضدّ الحكومات، بما في ذلك الفعل الثوري (ما قبل الديمقراطية، وما قبل نشوء مفهوم الشفافية)، كعملية فضح للتناقض بين القول والفعل في إطار "توعية الجماهير بمصالحها". ومنذ أن نشأ مفهوم الرأي العام، ومعه وسيط نقل الخبر والمعلومة، أي الصحافة ووسائل الإعلام عموماً، أصبح التسريبُ جزءاً من عملية صناعة الرأي العام وتكوينه.


لا علاقة ضرورية لآلية التسريب إذاً بهذه الجدلية الموصوفة أعلاه. فقد ينجم التسريب عن صراع داخل الحكومة أو داخل حزب حاكم، أو بين حزب حاكم وصل إلى السلطة للتو، وحزب آخر كان في السلطة. كما أنّ التسريب راح ينتشر مؤخراً على خلفية الصراعات بين أجنحة مختلفة، أمنية وسياسية وغيرها، داخل النظام الحاكم في شأن السياسات المتبعة، فيقوم الجناح غير الموافق على خطوة ما، ولا يمكنه منعها، بتسريب خبر عنها إلى الرأي العام لعرقلتها. وكمثال على ذلك ما صادفناه كثيراً في تسريبات إسرائيلية للصحافة قام بها وزراء يمينيون أو موظفون أمنيون لعرقلة خطوات إسرائيلية في إطار المفاوضات مع الفلسطينيين. وكمثال أكثر أهمية نذكر أنّ هنري كيسنجر قام بخطوات التقارب مع الصين في حقبة إدارة نيكسون بشكل سرّي، ومن دون أن يُعلم الخارجية والبنتاغون كي لا تقع الوثائق أو الرسائل في أيدي سياسيين ومسؤولين ممّن يعارضون سياسة الانفراج هذه، مثل راي كلاين في "سي آي إيه" والسيناتور باري غولد ووتر، وكي لا يسرّبوا رسائلَ أو وثائقَ إلى حكومة تايوان لتحذيرها (2).


يهدف التّسريب هنا عموماً إلى وصم المنافس أو الخصم بالكذب، وبأنه يفعل ما لا يقول، ويقول ما لا يفعل، ويتخذ التسريب هنا شكل الفضيحة. وهو على أهميته يبقى إحدى آليات الحكم، لأن دافع التسريب هو تنفيذ أجندة سياسية مخالفة، أو تسجيل نقاط في الصراع داخل المؤسسة، وليس الوصول إلى الحقيقة ولا تحقيق الشفافية. ولكن في المجمل فإن الرأي العام يصبح، بعد أيّ تسريب كهذا، وعبر تراكم تاريخي طويل، أكثر وعياً بأساليب الحكم وأكثر ريبية وتشكيكاً في السياسة والسياسيين. ولا يلبث أن يؤدّي التسريب المتبادل، في ما لو أفقده التنافس الروادع، إلى موقف سلبي عام عند الناس من السياسة والسياسيين. ويتحوّل هذا النوع من التسريب الموجّه إلى آلية مضادّة للشفافية؛ فهدف الشفافية الأصلي هو إشراك الناس فيما يجري، وليس تنفيرهم ممّا يجري.


في مثل هذا السياق، وفي الفضح المتبادل للسياسيين عبر التسريبات، وما يسبقها ويتلوها من تركيب للوقائع والحقائق (facts) بما يلائم السياسات التي توضع والخطوات التي تتخذ، ينشأ الشكّ في السياسة والسياسيين. ومن مظاهره عزوف الناس عن السياسة واعتبارها لعبة قوى ومصالح في أفضل الحالات. كما ينشأ أيضاً التشكيك في الوقائع، وينشأ الموقف الريبي، ليس من "الحقيقة" وحدها، بل من مجرد السّعي لمعرفة الحقائق أيضاً. هنا يمكننا الحديث عن جدلية سلبية بين المؤسّسات السياسية والإعلامية وتأثيرها في الشفافية وفي حقّ المواطن في المشاركة، وبين ثقته في المعرفة العقلانية كطريق للتفكير في الشؤون العامة.


نشأت، لا نتيجة لذلك، ولكن في السياق التاريخي نفسه، أمزجة ونزعات ثقافية، وتيارات فلسفية تُؤسّس لتحويل الحقيقة والخيال إلى وجهات نظر متساوية القيمة، وتحويل الحقائق والأباطيل إلى سرديات تعبّر عن زوايا نظر، لأن المهم هو "موقع" المتكلم، أي سيرته وأهدافه ومصالحه، وليس مهماً، من وجهة النظر هذه، تلاؤُم ما يقول مع الوقائع، ولا قيمة ما يقول، أو مضمونه قياسا على حقيقة موضوعية ما. هنا تُنتج نسخ مسطحة من مفهوم "الخطاب"، وهو مفهوم وجيه وذو فائدة في العلوم الاجتماعية يقوم على العلاقة بين المعرفة والسلطة، كما تصدر نسخ مشوهة لمفهوم السردية، وهو مفهوم وجيه أيضاً يساهم في فهم عمليات التحقيب والتأريخ وإنتاج الهوية. إنه نموذج لفهم رواية الأحداث كسرد ناجم عن موقف ثقافي وأيديولوجي معين. وكلا المفهومين لم يهدفا إلى مساواة الحقيقة بالكذب في أي لحظة معطاة، وعند أي مقارنة بين القول والوقائع.


إنّ تسخيف الحقائق بحجة نسبية الحقيقة، وخلع ألقاب ما بعد حداثية على هذا التسخيف وترويجه كثقافة سياسية، هو الوجه الآخر لاحتكار المعلومة وجواز كذب المؤسسات الحاكمة. وفي المقابل وُجدت دائماً أنواع أخرى من التسريب التي يقوم بها منشقون عن الحكومات والمؤسسات ممّن لم يتمكنوا من تحمل التبعات الأخلاقية لعدم البوح في الفضاء العام بما يعرفونه من معلومات عن أعمال تقوم بها مؤسسة ما، ويعتبرونها غير أخلاقية أو ضارة بالخير العام. كما وجدت تسريبات قامت بها حركات ثورية لتُثبت صحة ما قالته عن الدولة. وغالباً ما يُضرب كمثال على ذلك كشف البلاشفة، بعد وصولهم إلى الحكم، الاتفاقات السرية بين الدول الاستعمارية لتقسيم التركة العثمانية، والتي كانت أساساً للحرب العالمية الأولى التي اعتبرها البلاشفة حرباً استعمارية لا حرباً وطنية، وكان ذلك مناقضاً تماماً لما ادّعته الحكومات الأوروبية ومنها حكومة القيصر. وكان فضح البلاشفة الوثائق والمراسلات نوعاً من التسريب بالجملة، وصل إلى حد الكشف ذي الأثر البالغ والبعيد المدى في الثقافة السياسية في أوروبا. ولا شكّ في أن هذا الكشف ساهم في بلورة الوعي بالمواطنة كمشاركة سياسية احتجاجية ضد الحرب، وضد التعامل مع قرار الحرب كشأن متعلق بالحكومات وحدها. ولكن هذا الأمر مثال ثوري تاريخي من مرحلة ما قبل نشوء الشفافية كمفهوم وكمؤسسة ديمقراطية. أمّا في السياقات الأحدث فنذكر جميعاً تسريب دانييل ألسبرغ وثائق البنتاغون إلى صحيفة "نيويورك تايمز "، والتي فضحت التناقض بين الفعل والقول في شأن حرب فيتنام. وبيّنت الوثائق أن الإدارات، خاصة إدارة جونسون، كانت تكذب على الجمهور وحتى على الكونغرس كي تطيل بلا داعٍ التدخل العسكـري الأميركي، وبالتالي الحرب في فيتنام(3). كما نذكر أيضاً تسريب صحيفة "واشنطن بوست" شهادات ووثائق عن التنصت غير القانوني الذي قامت به أجهزة الأمن لأغراض انتخابية لمصلحة الرئيس الأميركي ضدّ خصومه السياسيين في فضيحة "ووترغيت" المشهورة (1972-1974) في عهد ريتشارد نيكسون الذي أطاحت به الفضيحة ولم يكمل لهذا السبب فترة رئاسته الثانية.


نجم عن فضيحة "ووترغيت" احتفاء بالصحافة الاستقصائية، وبالتحقيق الصحافي، لأنه يكشف الاستخدام غير المشروع للقوة والنفوذ الذي يمارسه السياسيون في السلطة. وعلى الرغم من محاولة المؤسسة الحاكمة منع الوثائق من النشر في الحالتين (حالة البنتاغون وحالة "ووترغيت") إلا أنها أذعنت للنشر في النهاية، واضطرت إلى اتخاذ إجراءات ضد الرئيس نيكسون نفسه، وتطوّر -جراء ذلك- مفهوم الشفافية وكذلك طرائق ممارستها. وهكذا تعود المؤسسة إلى روتينها الجديد بعد أن تُقدم ضحايا من السياسيين المتهمين بالفضيحة، ولا تلبث هذه المؤسسة أن تسن تشريعات تتلاءم مع مفهوم أكثر تطوّراً للشفافية. ونجد هنا علاقة جدلية بين المؤسسات الإعلامية الكبرى وبين المؤسسة الحاكمة، وهي تُعيد إنتاج التوتر والتوازن بعد كل كشف، من دون أن يؤدي ذلك إلى نفور الناس من السياسة. يصح هذا على ما تقوم به وسائل الإعلام يومياً فيما يتعلق بالفضائح المالية والفساد واستخدام الشرطة العنف في أثناء التحقيق، وغير ذلك من مزايا الصحافة الاستقصائية. ويجري هذا كله في إطار ممأسس بين فاعلين لا ينأون بأنفسهم عن تبادل الخدمات بالمعنى السلبي المذكور أعلاه فحسب، بل يدخلون في صراع فعلي من حين إلى آخر تنجم عنه علاقة تفاعلية نسميها هنا جدلية إيجابية، بمعنى الشفافية وحقوق المواطن. وحتى حين يعاد رسم الحدود المشوشة بين المؤسستين السياسية والإعلامية خلال التسريبات والكشوفات في إطار الجدلية الإيجابية، إذا صحّ التعبير، فإنّ المؤسّستين تتّفقان غالباً على الفضاء الذي يجمعهما داخل حدود الأمن القومي، ولا سيما عندما يتعلق الأمر بما يسمَّى "المصالح الوطنية العليا"، والعلاقات بالدول والشعوب الأخرى، وبشكل أكثر تحديداً حين تلج المؤسّستان مجال ما يسمّيه كارل شميت "جدلية العدو والصديق"، وهي الجدلية التي لا يصحّ فيها للعدو ما يصحّ للصديق، ولا تُعتبر فيها ازدواجية المعايير نقيصة، بل ضرورة نابعة من تعريف السياسة وتعريف العدو والصديق. ولهذا لا تنطبق عليها الشفافية حتى لو أخذت في الاعتبار الحقوق الأخرى التي توازن الشفافية وتقيدها. وبهذا المعنى فليس غريبا أن من يعمل على التسريب وفضح الحقائق من دون هوادة في قضية فسادٍ مالي لوزير ما، أو تحرش جنسي يقوم به مسؤول في حكومة، قد يندمج بسهولة فائقة في جوقة نشر الأكاذيب أو حجب الحقائق، حين يتعلق الأمر بالأكاذيب التي تبرر شنّ حرب على دولة أخرى. ولا تناقض هنا بحسب رأي هؤلاء، فهم في الحالتين يخدمون المصلحة الوطنية، لأن مكافحة الفساد والشفافية داخلياً هي مصلحة وطنية، وحجب الحقيقة والكذب من أجل التعبئة والتحشيد لخوض الحرب قد تكون في خدمة المصلحة الوطنية أيضاً. وهذا ما يجعل الحدود لدى المؤسستين الإعلامية والسياسية واضحة بين التسريب الذي تقوم به وسيلة إعلامية ممأسسة من جهة، والتسريب غير المنظم للمعلومات السرية الذي يقْدم عليه فرد منشقّ عن الحكومة أو موظّف أو جندي، وأخيراً ما يقوم به على أوسع نطاق مصدر مفتوح على شبكة الانترنت يتجاوز جميع الحدود المؤسساتية الداخلية والوطنية بين الدول، وتقوم عليه مجموعة أفراد من جنسيات مختلفة. وفي هذه الحال تنشأ ظاهرة جديدة لم يتم الاستعداد لها على الإطلاق، ولذلك غالبا ما تنتظم المؤسستان الإعلامية والسياسية في جوقة ضدّها. وفي خضمّ النقاش في شأن هذا النوع من الشّفافية تُجلب القيم الديمقراطية الأخرى. صحيح أن الشفافية ليست القيمة الديمقراطية الوحيدة، لكن، يجب موازنتها بقيم مثل الشرعية والقانونية والخصوصية والمحاسبة ( فلأي محاسبة يخضع موقع غامض shadowy مثل ويكيليكس مثلا؟)(4). وهذا النقاش صحيح في الظروف العادية، وهو ليس للتستر على الجرائم، ولكنه مفتعل في حالة تسريب معلومات عن قضايا الأمن القومي، لأن هذه القيم تتضاءل أمام قيمة الشفافية في حالة واحدة فقط هي استغلال السرية لارتكاب جرائم. ولكن النقاش يبرز هذه القيم في حالة المس بما يسمى الأمن القومي حتى لو كشفت الشفافية المكتسبة بالتسريب جرائم حقيقة ضد المدنيين، وأسراراً مخفية وراء قرار الخروج إلى حرب غير عادلة.


حين يجري تحليل أنواع التسريب القديمة والجديدة، يجب أن يتذكر القارئ دائما أن لا معنى للتسريب إذا لم يوجد تناقض بين القول والفعل لدى السياسيين. والمقصود هو التناقض فيما يتعلق بالشؤون العامة. أما إخفاء الحقيقة في الشأن الخاص، وهو أمر متغير التعريف والتحديد عبر التاريخ، فلا يجوز أن يكون موضوعا للاهتمام العام، وبالتالي للتسريبات أيضا إلا لغرض التشهير وتلطيخ السمعة والإثارة، من دون أن يغيب عن النظر ما هو لافت في تطابق الإثارة والتشهير في مشهدية الإعلام وخضوعها لقوانين العرض والطلب. ولو اختفى التناقض بين القول والفعل وتقلصت الهوة بينهما -على الأقل- لما بقي هنالك من معنى للتسريب(5).


Summarize English and Arabic text online

Summarize text automatically

Summarize English and Arabic text using the statistical algorithm and sorting sentences based on its importance

Download Summary

You can download the summary result with one of any available formats such as PDF,DOCX and TXT

Permanent URL

ٌYou can share the summary link easily, we keep the summary on the website for future reference,except for private summaries.

Other Features

We are working on adding new features to make summarization more easy and accurate


Latest summaries

La Préparation ...

La Préparation Cutanée Préopératoire La préparation à une intervention chirurgicale devrait toujou...

إنها لو ثاقها ل...

إنها لو ثاقها لم تكن أدلة للعباد على حكم شرعي ، ولا غيره ، ولكنه أدلة باتفاق فدل على أنها جارية على ...

Pros and cons o...

Pros and cons of ERP systems is crucial for any organization considering its adoption. On the positi...

‏أحب الضوء الذي...

‏أحب الضوء الذي يدخل الغرفة أول شي في الصباح اشعر إنني بحالة جيدة قبل أن افكر في كل ما يجب أن افعله ...

تصميمات البرنام...

تصميمات البرنامج Program Designs وفيما يلى أمثلة مختارة لتصميمات برنامج التربية البدنية المبنية على...

فى هذه الدراس...

فى هذه الدراسة تم تحليل المناطق الجينومية للفيروسات التاجية فيما يتعلق باختلافات التسلسل ’U...

تاريخ مصر هو تا...

تاريخ مصر هو تاريخ الحضارة الإنسانية حيث أبدع الإنسان المصري وقدًّم حضارة عريقة سبقت حضارات شعوب الع...

Relevant resear...

Relevant research indicates that “the development of technologies affects folklore, and student joke...

‎فقه اللغة العر...

‎فقه اللغة العربية يعد أوّل من استعمل هذا المصطلح في عنوان كتاب هو أبو الحسين أحمد ابن فارس (ت 395 ه...

الأعمال: لكسب ا...

الأعمال: لكسب الأرباح لأصحابها. على سبيل المثال، الأموال التي تساهم بها شركة شيفرون أو جنرال إلكتريك...

Social responsi...

Social responsibility comprises the ethical conduct, environmental sustainability, and community inv...

يمكن أن يكون ات...

يمكن أن يكون اتخاذ قرار الخروج لكبار السن في المستشفى عملية معقدة تتضمن تقييمات وظيفية وتقييم القدرا...