Online English Summarizer tool, free and accurate!
هذا الجزء من البحث يتناول الاتجاهات النظرية الحديثة في دراسة البناء الاجتماعي للمجتمعات البدوية، مُعتمداً على محورين: الأول يعرض الاتجاهات التقليدية، والثاني يعرض الاتجاهات الحديثة. تُظهر الدراسات الحديثة ترابطاً بين النظرية والبحث، حيث تُستخدم الأخيرة لاختبار النظريات القائمة أو توليد نظريات جديدة قابلة للاختبار. تُناقش الاتجاهات التقليدية، بدءاً من أصول الأنثروبولوجيا في القرن التاسع عشر، مُسلطةً الضوء على سيادة أنماط الفكر التطوري والانتشاري في دراسة نشأة المجتمعات. يُبرز النصّ إسهامات المدرسة البريطانية (إيفانز بريتشارد، راد كليف براون) و تأثير المدرسة الفرنسية (إميل دوركايم) عليها، بالإضافة إلى نقاشٍ حول المنهج المقارن والتاريخي في دراسة التحولات الثقافية من "النمط البدائي" إلى "النمط المتقدم". كما يُناقش النصّ بحوث المدرسة البريطانية، وانتقاداتها، ومساعيها للجمع بين التحليل الوظيفي والاهتمام التاريخي، مع التأكيد على أهمية الأبحاث الحقلية.
أما الاتجاهات النظرية الحديثة، فتُشير إلى تعديلات نظرية ومنهجية في الأنثروبولوجيا، دون نفي كامل للأساليب التقليدية. يُذكر النصّ أفكار ليفي ستروس حول الأنثروبولوجيا البنيوية وظهور الأنثروبولوجيا التطبيقية، مُشيراً إلى تنوع المدارس والنظريات في هذا المجال. يُسلط الضوء على إسهامات غير أنثروبولوجية، كالكتابات الجغرافية والتاريخية، وخاصةً إسهامات ابن خلدون ومفهوم "العصبية" في فهم التنظيم القبلي، بالإضافة إلى كتابات مستشرقين كويليام روبرتسون سميث، واستخدام إيفانز بريتشارد لمفهوم العصبية في دراساته. يُناقش أيضاً أثر التغيرات السريعة على المجتمعات البدوية، وحاجة الدراسات الحديثة إلى تجاوز النظرة الوظيفية السلبية للتغير الاجتماعي، مُشيراً إلى دراسات التحديث والتغير البنيوي في الكويت وقطر، مع التركيز على دراسة ديناميكيات التغير الاجتماعي والتفاعل بين الجماعات القبلية. يُختتم النصّ بالتأكيد على أهمية علم الأيكولوجيا الثقافية في دراسة العلاقة بين الإنسان وبيئته، ومساهمات جوليان ستيوارت في هذا المجال، مع شرح خطوات التحليل الأيكولوجي الثقافي، والتأكيد على أن الأنثروبولوجيا الحديثة، مع تركيزها على دراسة التكيفات الأيكولوجية، هي الأنسب لدراسة المجتمعات البدوية والتغيرات التي تطرأ عليها.
ثانياً: الاتجاهات النظرية الحديثة في موضوع البناء الاجتماعي للمجتمعات البدوية.
نحاول في هذا الجزء إلقاء الضوء على أهم الاتجاهات النظرية الحديثة التي انطلقت منها الدراسات الأنثروبولوجية للمجتمعات البدوية والتي سوف نعرض للبعض منها في العنصر الرابع من هذه الدراسة
وبالتتمعن في هذه الدراسات الحديثة ، اتضح أنها لم تغفل الإشارة للاتجاهات التقليدية في دراسة هذا الموضوع ، والتي كانت تركز اهتمامها على دراسة ما عرف بالجماعات القبلية البسيطة أو (البدائية) ، وذلك قبل تركيزها على الاتجاهات الحديثة ، والتي جاءت نتيجة لسعي الأنثروبولوجيين ناحية تطوير منطقاتهم النظرية واستخداماتهم العملية التي ارتبطت بمرحلة تاريخية معينة ، وقد شمل هذا التطوير أطر التفكير ومناهج الدراسة والتحرر في النظرة للكثير من القضايا الإنسانية المعاصرة. (حسين فهيم ، ١٩٨٩ : ٢٥٢).
ومن هنا سوف يتناول هذا الجزء من البحث محورين اثنين ، يعرض الأول منهما للاتجاهات التقليدية في دراسة البناء الاجتماعي للمجتمع البدوي، بينما يعرض المحور الثاني للاتجاهات النظرية الحديثة في هذا الموضوع.
١- أهم الاتجاهات النظرية التقليدية:
مما لا شك فيه أن هناك ترابط وتلازم بين النظرية والبحث ، حيث أنه بالإضافة لإسهام البحث الموجه للنظرية معينة في نمو المعرفة ، فإنه يستخدم أيضاً في اختبار هذه النظرية وقد يؤدي هذا أيضاً إلى ظهور نظرية جديدة ، والتي يقاس مدى الاعتماد عليها بمدى إمكانية اختبارها بالملاحظة (Smith ، 1966 : 24).
مما سبق يمكن القول أننا في تناولنا للاتجاهات النظرية لموضوع البناء الاجتماعي للمجتمعات البدوية ، سنجد أنفسنا مدفوعين للإشارة لأهم الاتجاهات المهنية المرتبطة بذلك الموضوع ، وذلك منذ المراحل الأولى لنشأة الأنثروبولوجيا وأصولها النظرية وحتى قيامها ببلورة موضوعاتها ومناهجها في القرن التاسع عشر وبالتحديد في النصف الثاني منه والذي شهد مولد الأنثروبولوجيا كمهنة وتخصص دراسي مميز ومعروف ما بين تلك الفروض والنظريات التطورية في مجالي التاريخ الطبيعي للكائنات الحية والمجتمعات الإنسانية معاً وخلال ازدياد السيطرة الغربية على شؤون العالم حيث ساهمت الإنجازات الكبيرة للعلوم الطبيعية في تشجيع المشتغلين بالقضايا والموضوعات الاجتماعية في تلك الوقت على تطبيق قواعد المنهج العلمي في أبحاثهم ودراستهم وذلك حينما سعى المفكرون بوجه عام والاجتماعيون والأنثروبولوجيون بوجه خاص ناحية البحث عن نشأة ثقافات حضارات العالم. وعلى الرغم من سيادة أنماط الفكر التطوري في إطار نشأة المجتمعات في خط واحد ، فلقد ظهرت إجابة أخرى لهذه النشأة ، وذلك في إطار النظرية الانتشارية والتي ترجع في جذورها إلى مفكرين سابقين على القرن التاسع عشر أمثال العالم البريطاني أسحق نيوتن ، صاحب مقولة أن مصر تمثل مركز الانتشار الحضاري في العالم ، وقد تبعه في هذا "لورد مونت بودو" ، في الوقت الذي افترض فيه الألماني هيردر أن آسيا وليست مصر هي المركز الأول لانتشار الحضارة الإنسانية ومع وجود الاتجاه الانتشاري وبخاصة خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن التاسع عشر ، إلا أنه يمكن القول أن نمط الفكر التطوري قد حظى بالقبول والتأييد بدرجة تفوق نمط الفكر الانتشاري وإن كان هناك البعض من أنصار الفكر التطوري قد اتجهوا في أواخر القرن الماضي ناحية الأخذ بأنماط الفكر الانتشارى أمثال العالم البريطاني وليام ريفوز (حسين فهيم ، ١٩٨٦ : ١٤٢ - ١٤٣).
ولعل ذلك يرتبط بطبيعة الاتجاه الانتشارى الذي لم يبتعد كثيراً عن النظرة التاريخية في دراسة الثقافة ، حيث اتخذ هذا الاتجاه موقفاً وسطاً بين التطور المستقل والتطور عن طريق الاحتكاك الثقافي. ويمكن القول أن تلك الرؤية لم ترفض بوجه عام فكرة التطور حيث افترضت إمكانية وجود تطور جزئي لبعض العناصر الثقافية في أماكن جغرافية معينة من العالم وخلال مراحل تاريخية محددة (عبد الله غانم وآخرون ، ١٩٨٩ : ١١٢).
ومع تواجد نمطي الفكر (الانتشاري والتطوري) في القرن التاسع عشر ، إلا أن مفاهيم التقدم والتطور كانت هي الشائعة والسيطرة لدى علماء القرن التاسع عشر نتيجة لتأثيرات النظرية التطورية ، ولقد تضمنت أفكار البعض منهم الكثير من مجالات البحث غير البيولوجي مما انعكس بشكل واضح على البحث الأنثروبولوجي والذي تميز بالسعي ناحية الكشف عن مراحل التحول في الثقافة الإنسانية من "النمط البدائي" إلى النمط الأكثر تقدماً ، ولقد استتبع ذلك ظهور نظريات المراحل المتعاقبة سواء على مستوى التطور الإنساني بوجه عام أو على مستوى تطور النظم الاجتماعية كالعائلة والاقتصاد والقانون.
وعلماء هذه المرحلة أمثال لويس مورجان وإدوارد ب. تايلور استعانوا في بحوثهم بالمنهج المقارن والمنهج التاريخي بدلاً من الاعتماد على وسائل وطرق الاستدلال الفلسفي التقليدية ، كما حرصوا على دراسة تلك النظم من زاوية اجتماعية ، وقد اتجهوا في ذلك ناحية الاستعانة بالعديد من الشواهد من مختلف الثقافات والمجتمعات في مناطق مختلفة من العالم. وقد تضمن تصور إيفانز بريتشارد للخطوات المنهجية التي اتبعها هؤلاء العلماء ، وضع أشكال النظم والمعتقدات الخاصة بكل نظام اجتماعي يراد دراسته كما كانت عليه في المجتمع الأوربي والأمريكي في القرن التاسع عشر في جانب معين ، وفي الجانب الآخر يتم وضع النظم والمعتقدات البدائية ، ويتم ترتيب المراحل بعد ذلك بشكل يتناسب مع ما يجب أن يكون عليه (من الناحية المنطقية البحتة) تاريخ التطور من أحد الطرفين إلى الطرف المقابل له ثم يتم البحث أخيراً عن الدلالات والمعلومات الواقعية من المجتمعات المختلفة والتي تمثل كل مرحلة من مراحل التطور وتساهم في تدعيم النظرية بوجه عام. (إيفانز بريتشارد ، ١٩٧٥ : ٦٠).
ولقد أدرك البعض من الكتاب المهتمين بتطور النظم ، أن تاريخ المجتمع يتضمن مزيجاً من التنمية المستقلة إلى تأثير المؤثرات الخارجية ، وأن معظم هؤلاء الكتاب قد تركز اهتمامهم حول تطور النظم أكثر من اهتمامهم بانتشارها الجغرافي. (لوسي مير ، ١٩٨٨ : ٣٣).
وتعتبر بحوث المدرسة البريطانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والتي وضع أسسها وقواعدها إيفانز بريتشارد وراد كليف براون من الإسهامات الواضحة في مجال دراسة الحياة الاجتماعية للمجتمعات البدوية، ومن تلك الإسهامات (المراجعة التحليلية) النقدية لكتاب "أنساق القرابة والزواج الإفريقية" والتي قام بها روبرت ميردوك بالإضافة إلى إسهامات كل من ريموندفيرث وماير فورتس. وعلى الرغم من الانتقادات التي وجهت للمدرسة البريطانية من أنها تفتقر إلى الشمولية والجزالة التي تتميز بها البحوث الأنثروبولوجية الأمريكية ، إلا أنها تتميز بعمق توافرها على دراسة مجموعة محددة من المشكلات وأن الدراسات الحقلية التي اعتمدت على الطريقة الأنثروبولوجية البريطانية تعتبر من الإضافات التي أصلتها تلك الدراسة. وقد اعترف الباحث الأمريكي "إيفان" بالإتجاه البنيوي الوظيفي في الأنثروبولوجيا البريطانية وبضرورة تكامله مع ما أسماه بالاهتمامات الأمريكية التقليدية بالعمليات الثقافية وتتبع تاريخها ، وفي ذلك أيضاً يعتقد روبرت ميردوك بإمكانية وضرورة المزاوجة بين التحليل الوظيفي والاهتمام التاريخي ، كما ظهرت بعض الدراسات الهامة التي حاولت إلى حد بعيد الربط بين أفكار بعض الرواد من المدرستين مثل روبرت ريد فيلد وراوكليف براون ، كما أن بحوث الأستاذ رالف لينتون تعطي مثالاً واضحاً على ذلك (محمد عبده محجوب ، ١٩٨٥ : ٧٣ - ٧٤).
وكما ارتبطت المدرسة الأنثروبولوجية البريطانية بالمدرسة الأمريكية فإنها كانت قد تأثرت وإلى حد كبير بالمدرسة الفرنسية في علم الاجتماع برئاسة أميل دوركايم ، وقد اعتبر البعض من أعضاء المدرسة البريطانية اتباعاً مباشرين لأميل دوركايم ، ولقد تضمن مفهوم علم الاجتماع لدى أميل دوركايم الكثير من الموضوعات والمصطلحات التي تعتبرها الأنثروبولوجيا في الوقت الحالي مجالاً لدراستها.
ولقد أطلق رادكليف براون بعد ذلك اصطلاح "علم الاجتماع المقارن" على الأنثروبولوجيا الاجتماعية في بريطانيا ، وما مصطلح التساند الوظيفي بين الظواهر المختلفة والمستخدم في الدراسات الأنثروبولوجية إلا ترجمة لما أسماه أميل دوركايم بالفسيولوجيا الاجتماعية Physiologie Sociale وذلك في تقسيمه مجال علم الاجتماع إلى مزرعة مختلفة مثل علم الاجتماع العائلي وعلم الاجتماع الاقتصادي وعلم الاجتماع الديني وعلم الاجتماع السياسي.
وعلى الرغم من محاولة بعض الاتجاهات الجديدة الخروج على تعاليم وتقاليد المدرسة الأنثروبولوجية التقليدية ، إلا أن هناك شكوك في مدى جدوى وفاعلية هذه الاتجاهات . ويمكن القول بأن الأبحاث الأنثروبولوجية الحقلية التقليدية والتي تتبع الاتجاهات النظرية لهذه المدرسة تهتم بالبحث إحاطة بكل مظاهر الحياة الاجتماعي وأن يقوم بدراسة هذه الظواهر في كل أبعادها ، ويقوم بتصنيف العلاقات الاجتماعية في نظم وأنساق تتداخل مع بعضها مؤلفة ما يطلق عليه اسم البناء الاجتماعي، ويعتبر بحث دراسة "المجتمعات الصحراوية في مصر ، أحد بل أهم الأبحاث التي تناولت المجتمعات البدوية معتمدة على الطريقة الأنثروبولوجية التقليدية التي اعتمدت على المدخل الأنثروبولوجي البنائي الوظيفي مع إدخال بعض التعديلات أو الإضافات تتلاءم وطبيعة المجتمع الصحراوي في مصر. (أحمد أبو زيد ، ١٩٩١ : ٢٧-٢٩).
٢- أهم الاتجاهات النظرية الحديثة:
على الرغم من اتجاه الأنثروبولوجيين ناحية البحث في تاريخ الشعوب والمجتمعات التي لا تعرف القراءة والكتابة Preliterate والتي ليس لها تاريخ ، إلا أنهم قد اتجهوا أيضاً ناحية البحث في تاريخ الأنثروبولوجيا نفسها (E.R.Wolf ، 1982 : 1-6).
ولقد ارتبط بذلك تلك التعديلات النظرية والمنهجية في مجال هذا العلم ، وذلك على الرغم من أن حجم هذه التعديلات لم يكن كبيراً للحد الذي يمكن القول فيه أن الأنثروبولوجيا قد تخلت تماماً عن أساليبها النظرية والمنهجية ، ويعتبر بحث دراسة المجتمعات الصحراوية في مصر والذي سبق الإشارة إليه في الجزء السابق ، مثالاً على تلك الدراسات ، ويمكن القول أنه بينما تخلى الأنثروبولوجيون الأوائل عن قدر كبير من المصداقية وأطلقوا العنان لتساؤلاتهم فيما يتعلق بماضي الشعوب البدائية ، البسيطة ، فلقد بدأ من المنطقي أن نرى الأنثروبولوجيا الحديثة وقد أصبحت إلى ما هي عليه الآن لتتوسف بأنها وجهة نظر آنية أو برهنة للحاضر ، وهذا المعنى الجديد للأنثروبولوجيا لا ينسخ المعارف الأنثروبولوجية التقليدية ، وإنما يوضح أن هذه المعارف نراها في ضوء جديد يضفي عليها دلالة جديدة. (مايكل كاريرس ، ١٩٩٨ : ٣٥ - ٣٦).
وحول عدم التلاشي التام للأساليب النظرية التقليدية في مجال الأنثروبولوجيا يذكر إيفانز بريتشارد أننا نستطيع أن نجد في التفكير النظري الذي كان سائداً في القرن العشرين عشر عناصر ومكونات النظرية الأنثروبولوجية في القرن التاسع عشر بل وفي القرن العشرين : الاهتمام الشديد بالنظم الاجتماعية واعتبار المجتمعات البشرية أنساقاً طبيعية يجب أن تدرس دراسة استقرائية يكون الغرض منها كشف المبادئ الكلية أو القوانين ثم صياغتها على الخصوص في شكل مراحل التطور التي يمكن الوصول إليها باستخدام منهج المقارنة الذي يعتمد على التاريخ الظني اعتماداً كبيراً ، ولكن الغرض النهائي أو الأكبر من الدراسة يجب أن يكون تحديد الأخلاق بطريقة علمية خالصة (حسين فهيم ، ١٩٨٦ : ١٠٥). أما ليفي ستروس Levi-Strauss صاحب مؤلف الأنثروبولوجيا البنيوية ، والسابق من حيث صعوده على الوظيفية والعقل الوحشي (عبد الله يقيم ، ١٩٩٦ : ١٢٠) ، فيذكر أنه إذا كان هناك من يعتقد أن الأنثروبولوجيا مضى عليها وعلى مادتها التقليدية الخاصة بالشعوب البدائية ، وأنه يجب عليها أن تهتم بمشكلات الدول النامية وبالظواهر المرضية التي يمكن ملاحظتها في مجتمعاتنا من جهة أخرى مما يبرر بروز ما يطلق عليه الأنثروبولوجيا التطبيقية . وإذا كان البعض قد تنبأ مرة تلو الأخرى بإنذار الوشيك لهذه المجتمعات (البدائية) البعيدة عبر المائة والخمسين عاماً الأخيرة تقريباً وقد اتخذت هذه الحجة في انجلترا فيما بين ١٨٣٠ ، ١٩٤٠ لتبرير أهمية وضرورة البحث الأنثروبولوجي ، وأنه في عام ١٩٠٨ قد تقدم فريزر بنفس الفكرة في محاضرته في ليفربول ، فإنه قد ظهر في نفس الوقت البحث الإثنولوجي لجزر ميلانيزيا . ويمكن القول أن ما تم الحصول عليه من معلومات عن هذه المجتمعات قد ساهمت في تحديد أسس النظرية الأنثروبولوجية (ليفي ستروس ١٩٧٨ : ٧١ - ٧٢)
وعلى الرغم من الحداثة النسبية لهذه النظرية ، إلا أنه قد ظهر فيها العديد من المدارس والنظريات والمناهج المتعددة بل والمتعارضة أحياناً، كما أنها لا تزال مسرحاً لظهور البعض من التخصصات الجديدة نتيجة للرغبة في فهم بعض الجوانب الخاصة بالإنسان وذلك من حيث طبيعته ومراحل تطوره وعلاقته بغيره من الكائنات الأخرى ووضعه بالنسبة للعالم المحيط به ونظمه الاجتماعية من حيث نشأتها ووظائفها وثقافاتها المختلفة من حيث تطورها والعلاقة ما بينها (وليام هاولز ، ١٩٨٤ : ١٠ - ١١).
ويعتبر مجال المجتمعات البدوية من المجالات التي حازت على اهتمام الأنثروبولوجيين المحدثين ، وأن يكن قد سبقهم في ذلك علماء الجغرافيا والذين نجح البعض منهم في تسجيل الكثير من مظاهر التنظيم الاجتماعي والسياسي والقبلي وذلك في إطار السمات الجغرافية والأيكولوجية التي تميز المناطق الصحراوية في بعض البلدان العربية حيث قام بذلك بعض العلماء الجغرافيين الأجانب وبعض الرحالة وذلك منذ أواخر القرن الماضي ، وبالإضافة لهؤلاء كان هناك البعض من الكتابات التي صدرت عن عدد من العسكريين والحكام خلال الفترة التي خضعت فيها البلدان العربية للاستعمار.
وهذه الكتابات تناولت العديد من الموضوعات والمشكلات الأقرب في طبيعتها إلى مجال الدراسات السوسيولوجية والأنثروبولوجية . ومن ثم فإن هذه الكتابات تعتبر جزءاً من التراث الأنثروبولوجي لا يمكن إغفاله ، وهي تمثل أهم المصادر التي يعتمد عليها الأنثروبولوجيون في فهمهم وتحليلهم للأبنية الاجتماعية والثقافية عن المجتمعات البدوية . ومن أمثلة تلك الإسهامات التي ركزت على الشمال الإفريقي ، كتاب عالم الجغرافيا الفرنسي جان ديبوا Jean Despois عن شمال إفريقيا ، والذي تحدث في أجزاء كبيرة منه عن الجماعات البدوية كما لا يزال يستعان بتصنيفه والذي وضعه لتلك الجماعات حتى الآن حيث ميز ما بين البدو الذين يعيشون في الغالب على الزراعة وبين جماعات البدو الرحل والذين يعيشون في حركة أو نجعة دائمة حسب تعبير ابن خلدون والذين يتنقلون بإبلهم لآلاف الكيلو مترات ، وبين هذين النمطين توجد كل درجات التحرك أو الاستقرار حيث يمكن أن تحل جماعات أنصاف الرحل أو أشباه المستقرين . وعلى الرغم من أن دراسة ديبوا هذه دراسة مسحية تنظر لشمال أفريقيا كوحدة متكاملة .
وعلى الرغم من تركيزه على الجوانب البشرية ، وأن منهجه يختلف عن المنهج الأنثروبولوجي الذي يعتمد على الدراسة المتعمقة ، إلا أن هذه الدراسة تزود الباحث الأنثروبولوجي بخلفية أيكولوجية واقتصادية عامة تساعد على إتمام بحوثه الميدانية المركزة ضمن السياق العام الشامل والذي يصعب الإلمام به إلا من خلال كتابات مثل ديبوا .
وبالإضافة لدراسة ديبوا فإن هناك البعض من الكتابات والمقالات قد استفاد من مادتها الخصبة العديد من الأنثروبولوجيين ، مثل مقالات العالم الفرنسي الجغرافي روبير كابوراي والتي نشرها في دوريه معهد الدراسات الصحراوية في الجزائر
ومن كتابات الحكام العسكريين والتي استعان بها الأنثروبولوجيون كتاب كوناي لقبران ليبيا والذي أظهرت دراسته أن تحركات البدو من رعاه الإبل لا تتم بطريقة عشوائية بل تخضع لقانون محكم دقيق. ومن دراسات الحكام العسكريين التي يجب على الأنثروبولوجيين الاستعانة بها دراسة فريدرك بارت عن قبائل البصيري في إيران. وهناك أيضاً كتابي الكونت داجوستيني عن سكان برقة وسكان طرابلس في ليبيا وذلك خلال فترة الاحتلال الإيطالي لها .
وفيما يتعلق بأهم إسهامات الفكر العربي في مجال البداوة والتنظيم القبلي ، تعتبر مقدمة ابن خلدون المثال التقليدي لهذا الفكر والتي تضمنت التقابل ما بين أهل البادية وسكان الحضر ، وعرضت لمفهوم العصبية والذي يعتبر ليس فقط أهم مفاتيح نظريته الاجتماعية هو نفسه بل وأيضاً فهم وتحليل ودراسة التنظيم القبلي ذاته .
وقد عمل بعض المستشرقين وعلماء الأنثروبولوجيا في الغرب على استخدام ذلك المفهوم في وضع نظريات جديدة أصبحت تمثل الآن جزءاً من التراث الأنثروبولوجي الحديث ، ومن هؤلاء المستشرق البريطاني الشهير ويليام روبرتسون سميث في كتابة عن القرابة والزواج في بلاد العرب القديمة (أحمد أبو زيد ، ١٩٩٢ : د - ح).
وقد انتقل ذلك الاهتمام إلى عالم الأنثروبولوجيا إيفانز بريتشارد والذي استخدم ذلك المفهوم في دراسته الشهيرة للتنظيم القبلي والنسق القرابي عند قبائل النوير بجنوب السودان ، ودراسته عند التنظيم القبلي في ليبيا ، كما وضع إيفانز بريتشارد في ضوء نظرية ابن خلدون المبدأ الهام الذي يستعين به العديد من علماء الأنثروبولوجيا المعاصرين لدراسة هذا النمط من التنظيم القبلي وهو مبدأ الانشقاق والالتحام والذي يميز النسق الانقسامي والذي يسود في ذلك النمط من التنظيمات القبلية .
وبذلك فإن كتاب ابن خلدون قد يكون هو المثال الواضح الذي ينبغي الاستشهاد به على وجود اهتمام واضح بالبدو والبداوة والتنظيمات القبلية والقرابية ، وذلك لأنه يقدم نظرية اجتماعية منهجية متكاملة .
وبالإضافة لكتاب ابن خلدون فإن التراث العربي مليء بالإشارات والكتابات المختلفة عن الإنسان والأعراق وتفرعاتها ، وهو تراث ضخم لم يجد من يقوم بدراسته دراسة نقدية تفيد في دراسة المجتمعات الصحراوية والجماعات البدوية . (أحمد أبو زيد ، ١٩٩٦ : ح - ط).
وعلى الرغم من وجود عدد قليل من الكتابات القيمة عن ابن خلدون ومقدمته وآرائه ونظرياته ووجود دراسات أخرى تناقش هذه الآراء بالإشارة إلى بعض النظريات الاجتماعية الجديدة ، إلا أن هناك ندرة في تلك الدراسات التي تتناول مبدأ العصبية عند ابن خلدون وذلك في ضوء المادة الأنثروبولوجية التي يتم جمعها عن المجتمعات القبلية في الوطن العربي ، وإلى أن تكون هذه الدراسات من وجهة نظر عربية من ناحية ، وأن تسعى ناحية البحث عن بعض المبادئ النظرية والتي تصلح لأن تكون فروضاً موجهة لبحوث جديدة وهذه الأعمال سوف تسهم في إظهار مدى دقة نظرية ابن خلدون ومطابقتها للواقع وصلاحيتها لفهم وتفسير أشكال التنظيم الاجتماعي في المجتمع العربي المعاصر (أحمد أبو زيد ، ١٩٨٣ : ٨ - ٩) ، ذلك المجتمع الذي تعرض للعديد من عوامل التغيير التي أثرت على بنيته الاجتماعية وطبع بها بطابع معين يجعل من الضروري العمل على استحداث الطرق النظرية والمنهجية الملائمة لبحث النظر عن كم وكيف هذا الاستحداث حيث كشفت العديد من الدراسات الحقلية المقارنة عن ضرورة تطوير الرؤية البنيوية الوظيفية للنسق القبلي في تمايزه وعزلته .
كما كشفت تلك الدراسات أيضاً عن ضرورة تجاوز التحليل الوظيفي للعلاقات القبلية التي يمكن رصدها خلال لحظة معينة ، وذلك إلى البحث عن المقومات التاريخية لنمو هذه العلاقات وتطورها ، حيث أن الصراعات القبلية والتمايز بين الأوضاع القانونية والاجتماعية لسكان المجتمع الواحد ، وكذا العزوف اللامنطقي مثلاً من بعض السكان عن العمل بقطاعات معينة من الأنشطة الاقتصادية الحديثة في بعض المجتمعات القبلية مثلاً ، كلها تمثل ظواهر يصعب تفسيرها إلا من خلال الرجوع للتاريخ الاجتماعي.
ويسجل النصف الثاني من القرن العشرين اهتماماً كبيراً بالتتبع التاريخي والتغير الاجتماعي للمجتمعات البدوية والجماعات المحلية غير البدائية التي تعرف القراءة والكتابة والتي شهدت ظهور نظم جديدة ،
وقد حاولت تلك الدراسات مواجهة للدعاوى التي وصفت الاتجاه الوظيفي الذي انتهجته الدراسات الأنثروبولوجية بالسلبية وذلك في مواجهة التغير الاجتماعي واتصال الثقافات وتمثل الانعكاسات السلبية للاتجاه الوظيفي في البحوث الأنثروبولوجية في تلك الرؤية العضوية للمجتمع باعتباره وحدة وظيفية كلية تختلف عن مفهوم البنية الاجتماعية والتي تشتمل على عمليات التطور والتحسين والتحليل .
وهذه الرؤية السلبية للوظيفة قد افترضت أن التفاعل المتبادل بين الأجزاء المكونة لتلك الوحدة يسعى ناحية تحقيق المحافظة على استمرارها ككل متمايز ، كما أن التغير سوف يؤدي إلى حدوث خلل في هذا التوازن المثالي ، ومن ثم فإن النموذج الوظيفي يفشل في أن يصبح فرضية تتناول ما يحدث حقيقة في المجتمع ، ولقد رفض الأنثروبولوجيون المحدثون هذا التصور الغير المنطقي للمجتمع. (محمد عبده محجوب ، ١٩٨٥ : ٨٠ - ٨١).
وبينما نجد أن الاتجاه الوظيفي المتزامن والذي يقتصر على الأطر المرجعية التاريخية والنتائجية والوراثية يخفق في الوصول إلى طبيعة التغيرات الثقافية والاجتماعية التي تتعرض لها المجتمعات البدوية في الوقت الحاضر ، فلقد ساهمت الرؤية الجديدة للعلاقات البنيوية والتساند الوظيفي والتي تعتمد على الأسلوب التوافقي للإنساق الاجتماعية ومواجهة أي تغير جذري في عناصر ومكونات البنية الاجتماعية ولقد استتبع ذلك أن الاتجاه البنيوي الوظيفي استطاع استيعاب العديد من ظواهر التغير المختلفة .
ولقد أجريت البعض من الدراسات الأنثروبولوجية للتحديث والتغير البنيوي والذي يمثل أعمق مستويات التغير التي يمكن للمجتمعات التقليدية البدوية أن تشاهده كدراسات التغير البنيوي في الكويت وقطر والمجتمع شبه البدوي في قطاع مربوط بمصر .
ويمكن القول أن هذه الدراسات الحديثة تمثل خطوة لم تكن ممكنة في تلك الدراسات الحقلية الإفريقية التي قام بها علماء الأنثروبولوجيا البريطانيين ، حيث أجريت الدراسات الكلاسيكية لمالينوفسكي وراد كليف براون على جماعات كلية متمايزة ومنعزلة ، ولا يتوفر عنها مادة تاريخية ، ومن ثم اقتصر في دراستها على الحاضر فقط. (محمد عبده محجوب ، ١٩٨٥ : ٨٤ - ٨٥).
ومما لا شك فيه أن صعوبة الدراسات الأنثروبولوجية وبالتحديد الدراسات الإثنوغرافية تتمثل في محاولة تتبع تلك التغيرات الثقافية والاجتماعية التي تتعرض لها تلك المجتمعات حيث لم يعد الهدف من الدراسة هو دراسة القبائل أو العشائر في حالة استقرارها نظراً لتعرضها للعديد من عوامل التغير السريع ، ومن ثم وجب التركيز على علاقة الأبنية القبلية بعضها بالبعض ، ولقد جذب هذا الموضوع اهتمام البعض من الأنثروبولوجيين التقليديين في دراستهم للمجتمعات القبلية بشرق إفريقيا حيث كانوا يهتمون بدراسة تلك المجتمعات كل منها كوحدة متماسكة ومنعزلة عن الأخرى .
ولقد ركز الأنثروبولوجيون اهتمامهم على دراسة العمليات الاجتماعية المختلفة أي دراسة ديناميات التغير الاجتماعي والتلقائي وعمليات التفاعل بين الجماعات القبلية المختلفة على اختلاف أحجامها وأشكالها. (Shorter ، 1976 : ١ - ٢).
مما سبق نرى أن البعض من البحوث الأنثروبولوجية قد انتهت في دراستها للمجتمعات الصحراوية نهجاً جديداً حيث أصبحت تهتم بموضوعات ومشكلات لم يتعرض لها الباحثون الأوائل الذين يوصفون بأنهم أنثروبولوجيون تقليديون ، وذلك على الرغم من أن ميدان الأنثروبولوجيا للمجتمعات الصحراوية لم يمض عليه أكثر من أربعين عاماً تقريباً .
ولقد ساعد على ظهور هذه التغيرات ، ذلك التطور الذي تعرضت له الأنثروبولوجيا بوجه عام وبخاصة خلال فترة السبعينات ، وهذا التطور يقتضي من الباحث الأنثروبولوجي تناول موضوعات معينة محددة ، واستخدام مناهج وأساليب جديدة لجمع وتفسير المعلومات الأنثروبوغرافية ، ودراسة الأفراد Individuals أو الأشخاص persons وذلك أكثر من تركيزه على دراسة المجتمع المحلي Community ويعني ذلك أن الشخص أصبح هو وحدة البحث ، على أن يتم ذلك وفق السياق الاجتماعي العام مع الاهتمام بالوقوف على نظرة أعضاء المجتمع أنفسهم إلى بعضهم البعض وإلى ما يسود المجتمع من نظم وثقافة معينة وما مدى إدراك أعضاء المجتمع لواقعهم واستشفافهم للمستقبل .
ويمكن القول أن هذه الدراسات تعكس رؤية أفراد المجتمع أكثر مما تعكس رؤية الباحث نفسه عن ذلك المجتمع وفهمه لثقافته والتي يتوصل إليها عن طريق الملاحظة والمشاركة. وقد يحدث أن تتعارض رؤية الناس لأنفسهم مع الواقع ، حيث كثيراً ما يدخل في هذه الصورة بعض عناصر الخيال أو المثالية ، وهذا الأمر كان يلقى تعارضاً واضحاً من بعض الأنثروبولوجيين التقليديين ، كما يمكن القول أيضاً أن الجماعات البدوية في الوطن العربي بوجه عام وفي مصر بوجه خاص تتعرض لما يمكن تشبيهه بالثورة الثقافية والاجتماعية والتكنولوجية ، تلك التي تساهم في تغيير الكثير من الملامح المألوفة للحياة التقليدية تغييراً جذرياً ، ذلك بالإضافة لما تحدثه مشروعات التنمية والتوطين البدوي والتي تقوم بها الكثير من الهيئات الحكومية والدولية. (أحمد أبو زيد ، ١٩٩١ : ٧ - ٨).
وانظر في أثر استقرار البدو على التغيرات الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع البدوي الدراسة الأنثروبولوجية التي ك Bonea-Dan عن استقرار عشائر الـ Jarawcen في منطقة Negev في إسرائيل ، كما لم تغفل الدراسة الإشارة لأهم معوقات استقرار البدو في تلك المنطقة (1983 ,Donea – Dan) . وبعد عرض لأهم الاتجاهات النظرية التقليدية والحديثة في دراسة المجتمعات البدوية ، والتي ينتمي روادها إلى علوم أخرى غير علم الأنثروبولوجيا ، كعلوم الجغرافيا والتاريخ مثلاً ، فإنه يجدر بنا القول أن اتجاه علم الأيكولوجيا الثقافية يعتبر من أهم الاتجاهات التي حاولت الاستفادة من تلك العلوم في دراسة المجتمعات البدوية ، ويتضح ذلك من تتبع إسهامات رواد هذا الاتجاه والذي يعد أحد مجالات البحث الأنثروبولوجي ويطلق عليه أحياناً الأنثروبولوجيا الأيكولوجية وهي تركز على العلاقة بين البشر وبيئتهم ، وذلك بالإضافة إلى محاولة تقديم تفسير مادي للمجتمع البشري والثقافة باعتبارهما نتاجاً للتكيف مع ظروف بيئية معينة (Smith, 1987 : 62).
كما يهتم علم الأيكولوجيا الثقافية بكيفية تأثر الإنسان ببيئته الطبيعية بالثقافة كآلية، وتوضح إمكانية تفسير الفوارق بين الطبقات وذلك من خلال الرجوع إلى التأثير البيئي المتباين (Hunter and others (ed), 1976 : 98) . انظر بالتفصيل في مفهوم الأيكولوجيا وعلاقتها بالعلوم الاجتماعية (السيد عبد العاطي السيد ، ۱۹۸۱ الفصل الثاني) ، (علي مراد ، ۱۹۹۱) و (Wilson ، 1987).
ويمكن القول أن الدراسة الأنثروبولوجية لمجتمع معين لا تقف عند حدود الوصف البسيط لموقع هذا المجتمع أو خصائصه الجغرافية المعينة وإنما تسعى إلى الوقوف على نوع وطبيعة التكيف الذي يتم بين الإنسان وتلك الظروف الجغرافية وإلى أي مدى يمكن الاعتماد على تلك الظروف في تفسير السلوك الاجتماعي دون أن تغفل التغيرات السوسيولوجية الأخرى ودون أن تذهب إلى حد الاعتراف بحتمية هذه الظروف ، أو أنها تسيطر سيطرة كاملة على مقدرات الإنسان ونشاطه أو أن تذهب من الناحية الأخرى إلى محاولة البرهنة على حرية الإنسان وقدرته على التحكم في تلك الظروف ، وذلك كما فعل البعض من العلماء الذين عارضوا بشكل صريح موقف الحتمية الجغرافية. (أحمد أبو زيد ، ١٩٧٥ : ١٠ - ١٢).
ومن منطلق أن أثر الظروف الأيكولوجية يكون أوضح في المجتمعات البسيطة والأقل تطوراً منه في المجتمعات الراقية المتقدمة نظراً لاعتماد الناس في الفئة الأولى من المجتمعات بشكل مباشر وبطريقة واضحة على ما تقدمه البيئة لهم من إمكانيات البدينة في صورتها الأولية (أحمد أبو زيد ، ١٩٧٨ : ١٠٦) فإنه مما سبق يمكن القول أن الأنثروبولوجيا الحديثة كانت ومازالت أفضل الاتجاهات النظرية الملائمة لدراسة المجتمع البدوي ، حيث أشارت بعض الكتابات الأنثروبولوجية الحديثة إلى أن الاهتمام بدراسة المحيطات الصحراوية ليس وليد اليوم ، فقد تضمنت بعض الدراسات الأنثروبولوجية التقليدية وصفاً وتحليلاً للبناء الاجتماعي للمجتمعات الصحراوية بنظمه وأنساقه وذلك في ضوء تصور الباحث نفسه لهذه المجتمعات والتي لابد أن تعكس ثقافته وقيمه.
وكما نت مثل هذه الدراسات تبدأ بدراسة النسق الأيكولوجي والبيئة الفيزيقية التي تحيط بالإنسان ، وكيفية تفاعله معها ومدى تأثيره منها وتنتهي بدراسة أنساق المعرفة والمعتقدات الدينية والخرافة واللغة ، أي يبدأ التحليل بدراسة الأنساق المادية المحسوسة الملموسة ثم يندرج التحليل من هذا النسق المادي المحسوس إلى الأنساق الأخرى الأكثر تجريداً..(أحمد أبو زيد ، ١٩٨٩ : ١٠ - ١١).
وترجع جذور الأيكولوجيا الثقافية (أو ما اصطلح على تسميتها بالأنثروبولوجيا الأيكولوجية) إلى العالم العربي عبد الرحمن ابن خلدون وذلك حينما ربط بين قيام صناعة التجارة في مجتمع ما وبين وجود خشب الأشجار في هذا المجتمع ثم تطور العلم ليستخدم هذا الخشب في صنع السفن وغيرها من الصنائع التي تعتمد عليه ولقد استطاع جوليان ستيوارت Julian H. Stewart أن يبلور هذه العلاقة في نظريته التي تقوم على وجود دينامية وخلاقة بين الثقافة والبيئة بحيث تشتمل أيضاً على التكنولوجيا والموارد والعمل ، حيث تذهب هذه النظرية إلى أن أنواعاً معينة من الجماعات الاجتماعية والنظم الاجتماعية تنشأ نتيجة لتطبيق مجموعة من التكنولوجيات على موارد معينة من خلال العمل البشري ، وأن هناك علاقة وظيفية بين الوسائل التي ينبغي على المجتمع أن يبحث بها عن طرق إعاشته والإطار الاجتماعي الذي يحدث فيه ذلك .
ولهذه الطرق في التجمع وأنماط التعاون وأشكال القياد. آثارها التي تمتد إلى باقي الجوانب الأخرى المكونة للنظام الاجتماعي .. ومن ثم يمكن القول أن التكيفات الأيكولوجية للمجتمع هي جزء لا يتجزأ من هذا البناء. (Stewart ، 19868 : 337 - 344).
وقد اعتمد "جوليان ستيوارت" في نظريته هذه على دراسته الشهيرة للحضارات "بيرو" وأمريكا الوسطى ، والتي استندت إلى بعض الأبحاث الميدانية ، وقد سعت هذه الدراسة إلى إثبات الحقيقة القائلة بأن عمليات التكيف الثقافي الأيكولوجي التي تتسم بصفة التكرار قد ترتبت على تطور الأنماط المتشابهة في العديد من الأماكن والأزمنة المختلفة . (فاروق إسماعيل ، ١٩٨٥ : ١٤٢).
ولقد اقترح جوليان ستيوارت ثلاث خطوات رئيسية للتحليل الأيكولوجي الثقافي وهي :
القيام بتحليل العلاقات المتبادلة بين تكنولوجيا الثقافة وبيئتها بمعنى إلى أي مدى يمكن للثقافة القيام باستغلال الموارد المتاحة لتوفير الغذاء والمسكن لأبنائها.
القيام بتحليل أنماط السلوك المرتبطة بتكنولوجيا الثقافة بمعنى كيف يقوم أبناء وثقافة معينة بالعمل الذي يجب عليهم القيام به من أجل بقائهم.
إقرار العلاقة بين هذا النمط السلوكي وبقية جوانب النسق الثقافي بوجه عام، بمعنى كيف يؤثر العمل الذي يقوم به أعضاء المجتمع للمحافظة على موقفهم واتجاهتهم وما هي العلاقة بين سلوكهم ناحية البقاء وبين علاقاتهم الشخصية وأنشطتهم الاجتماعية المختلفة. (Havil and ، 1974 : 172 - 173).
ولقد تأثر بستيوارت مجموعة من الأنثروبولوجيين الأمريكيين الذين جمعوا ما بين نظرياته ونظرية - لي هوايت Leslie a white ليكونوا المدرسة المعاصرة والمتميزة للأنثروبولوجيا الأمريكية والتي عرفت باسم "الأيكولوجيا الثقافية" والتي يؤمن روادها بفكرة عامة للتطور لا ترتبط بخط معين حيث يركزون على أنه مع تعدد خطوط التطور إلا أنه يحكمها مبدأ واحد يتمثل في التكيف مع بيئة جغرافية معينة وذلك في إطار الظروف التكنولوجيا المتاحة. كما يعتقد هؤلاء الرواد بأنه من الممكن تناول هذه النظم بالشرح ولكن في إطار ملاءمتها للتكيف مع البيئة مع افتراض وجود نمط معين من التكنولوجيا داخل هذه البيئة. (Maurice ، 1985 : 124-130)
مما سبق يمكن القول أنه إذا كانت نظرية الأيكولوجيا الثقافية تركز على علاقة الإنسان بالبيئة ، وإذا كانت البيئة هي العامل المحدد لتشكيل الثقافة . فإنه يمكن القول أن تلك النظرية (باعتبارها دراسة للعمليات المختلفة التي يتكيف بها المجتمع مع بيئته) إنما تعتمد وبشكل واضح على دراسة الأنماط التكنولوجية السائدة في المجتمع بالإضافة إلى اهتمامها بطبيعة البيئة بوجه عام ، وأن هذه النظرية في اهتمامها بتلك الجوانب إنما تعتمد على المنهج العلمي القائم على الدراسة التحليلية التجريبية للمجتمع وتعتبر المجتمعات البدوية كما سبق الإشارة مجالاً خصباً للدراسة ، حيث تتعرض أبنيتها الاجتماعية التقليدية لتغيرات مختلفة تشمل العناصر والنظم والأنساق المختلفة لهذه المجتمعات ، وهي نفس العناصر والمجالات التي ركزت عليها نظرية الأيكولوجيا الثقافية كما سبق التوضيح
Summarize English and Arabic text using the statistical algorithm and sorting sentences based on its importance
You can download the summary result with one of any available formats such as PDF,DOCX and TXT
ٌYou can share the summary link easily, we keep the summary on the website for future reference,except for private summaries.
We are working on adding new features to make summarization more easy and accurate
I think we might be a little bit uncertain on the potential complications from after the surgery, li...
لخص في نقاط طيب بسم الله الرحمن الرحيم والصلاه والسلام على اشرف الانبياء والمرسلين نبينا محمد وعل...
تتمثل أنجازات القسم في قيام الهيئة البحثية بالقسم بإجراء البحوث والدرسات والرسائل العلمية في مجال تش...
الجامعة الإسلامية أنا لا أحب أنْ أخدع نفسي عن نفسي، ولا أحب أنْ أخدع الناس عنها. أنا مسلمٌ قبل كل ش...
الحمد لله الملك المعبود، سبحانه ، لا أُحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه.وأصلي وأسلم على سيدنا محم...
رد وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، مساء الأربعاء، على التصريحات الأخيرة لمفوضة الأمن والخارجية ف...
إنجازات وحدة تعريف الكائنات الدقيقة والمقاومة الحيوية تُعَد وحدة تعريف الكائنات الدقيقة والمقاومة ال...
chief economic responsibility that a firm has is to its owners or investors. They want to earn a pro...
dresse mes sincères remerciements à ceux qui ont contribué àl'élaboration de ma mémoire. Je tiens à ...
في الولايات المتحدة، تخضع الرعاية خارج المنزل - مثل الرعاية البديلة، والبيوت الجماعية، ومرافق العلاج...
السلا السلام عليكم متابعين الكرام معكم السيد والنهاردة هبتدي معاكم كورس مهم جدا جدا وهو ال human re...
السريرة لو كُشِفَ للإنسان عن سريرة الإنسان لرأى منها ما يرى من غرائب هذا الكون وعجائبه، أَعْمَى أَدْ...