لخّصلي

5-1 مفهوم النفي :

لم ترد كلمة النفي في القرآن الكريم إلا مرة واحدة فعلا مضارعا بصيغة الجمع وذلك في قوله تعالى:

(أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض) (أ)، ويرى بعض المفسرين أن النفي معناه

(2) عدم الوجود، والمراد الإبعاد من المكان الذي هو وطنه )

مندى عبيدان المحلى باقره.

ويقال نفوا فلانا، أي أخرجوه من بينهم، فهو الخليع، قال النابغة:

ليهنا لكم أن قد نفيتم بيوتنا

أي : أقصيتمونا عن دياركم، و لا يعرف في كلام العرب معنى للنفي غيرها. قال أبو حنيفة وأصحابه : المراد بالنفي ها هنا: السجن (3) وحملهم على التأويل البعيد التفادي من دفع

أضرار المحاربة عن قوم كان فيهم بتسليط ضره على قوم آخرين. وهو نظر يحمل على التأويل (4) أما ابن جرير، فيرى " أن المراد بالنفي ها هنا أن يخرج من بلده إلى بلد آخر فيسجن فيه "(5) ويرى آخرون النفي في هذه الآية بمعنى الحبس، لأنه إذا حبسوا ومنعوا من التصرف والتقلب في البلاد، فقد نفوا منها وألجئوا إلى مكان آخر (1) وقد بين العلماء أن النفي يحصل به دفع الضرر، لأن العرب كانوا إذا أخرج أحد من وطنه ذل وضعفت شوكته ، قال امرؤ القيس :

وواد كجوف الغير قفر قطعته به الذئب يعوي كالخليع المعيل (7)

و تلك حال غير مختصة بالعرب، وذلك أن للمرء في بلده وقومه من الإقدام ما ليس له في غير بلده . على أن من العلماء من قال ينفونه فينحاز إلى جهة بحيث يكون فيه كالمحصر (9)، بيد أنه عنداستعراضنا لما تعنيه مادة "نفي" في المعاجم اللغوية نجد أن الحبس أو العزل شيء لا تفيده الكلمة في أصلها اللغوي ، إذ يقال نفاه أو ينفيه أي نحاه ... ونفيت الرجل وأنفيته نفيا إذا طردته ( )، وفي الحديث : "المدينة كالكير تنفي خبثها أي تخرجه عنها وهو من النفي أي الأبعاد عن البلد، ويقال نفيته أنفيه نفيا إذا أخرجته من البلد وطردته (2) وانتفى الشجر من الوادي: ذهب، ونفيت الدراهم نثرتها للانتقاد، قال الشاعر : تنفي يداها الحصى في كل هاجرة نفى الدراهم تنقاد الصياريف (3)

وكل ما رددته فقد نفيته (4) . ويرى بعض الباحثين أن النفي مرادف للجحد (3) قال أحمد محمود

ماهر البقري: "كثيرا ما نجد كلمة "الجحد " في كتب النحو يقصد بها النفي " (6). وقد وردت تلك اللفظة في القرآن في أثني عشر موضعا، و إذا ما رجعنا إلى كتب اللغة لنعرف ما معنى الكلمة، نجد أن جحد حقه وبحقه، كمنعه، جحدا وجحودا: أنكره مع علمه به ()، ويقصد من قوله تعالى : أفبنعمة الله يجحدون (8) إنكارهم بألسنتهم، ما تستيقنه أنفسهم كما قال تعالى: وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوان (1)، فهي إذن تفيد الإنكار والجحد والتنحية. وكذلك الفعل "" ينفوا " في الآية الكريمة معناه الإخراج من البلد (10). لأن الظاهر من الآية ؟ أنهم يطردون من الأرض

التي وقع منهم فيها ما وقع، من غير سجن ولا غيره، و هو رأي يتفق والمعنى اللغوي (11) وإذا كانت كلمة النفي تستعمل في الاصطلاح النحوي استعمال كلمة "الجحد"فإن في الاستعمال القرآني أن الأولى للمادي والثانية للمعنوي، وقد تتشابهان في اللغة فيقال: نفى الشيء

نفيا جحده ونفى ابنه جحده أي أنكر نسبته إليه ، ثم أنكر حقه عليه (1). قال إبراهيم أنيس : " إن النفي معنى عقلي مشترك بين جميع العقول، عبرت عنه اللغات بأساليب لا تطابق دائما الأساليب

(2) صفتين متضادتين تقبلها اللغة ولا يشق علينا فهمها. وفي هذا المعني ، فإن الأساليب اللغوية المعبرة عن النفي لا تطابق دائما الأساليب المنطقية التي ترسم

المنطقية أو الرياضية، لأن الموقف اللغوي في الاستعمال العادي يأبى التمنطق ويقبل وجود وسط بين الطرفين المتضادين وقد يستعين بالخيال فيتجاوز ما يوحيه العقل والمنطق ليدرك حالة ثالثة تجمع بين

المسألة في إطار تقابل المتناقضين المنفي والمثبت اللذين لا يصدقان معا في آن واحد على شيء واحد، ولا يقبل التوسط بينهما ، كما أن الشيء لا يخلو بأن يتصف بواحد منهما. وقصد توضيح التمييز بين

الناحية النطقية والموقف اللغوي، يقول إبراهيم أنيس : "ولذا لم يجد اللغويون عننا في فهم الآية الكريمة: هو الأول والأخر والظاهر والباطن (3)، بل فسروها في سهولة ويسر "(4).

والاستعمال اللغوي يؤكد صحة هذا التعبير الذي قد يشعر بالتضاد أو التناقض، ولا يشق علينا فهمه فالله سبحانه قد يوصف بالظاهر لأن أثاره بادية للعيان ويوصف بالباطن لأنه سبحانه لا تدركه

الأبصار والمرء وإن لم يستسغ القول بعقله فقد يستسيغه بخياله ولا يزال الخيال به حتى يقتنع بمثل هذا الجمع بين التضاد أو التناقض ويطمئن إليه (5) .

يتبين مما سبق أن النفى ليس التضاد أو التناقض كما قد يراه المناطقة والرياضيون وإنما هو أسلوب خاص يقره الاستعمال اللغوي ويعبر عن قيم دلالية معينة ولا يساير الدقة المنطقية دائما بل يحيد عنها

في كثير من الأحيان .

قال المهدي المخزومي: والنفي أسلوب لغوي تحدده مناسبات القول، وهو أسلوب نقض وإنكار يستخدم لدفع ما يتردد في ذهن المخاطب ، فينبغي إرسال النفي مطابقا لما يلاحظه المتكلم منأحاسيس ساورت ذهن المخاطب خطأ مما اقتضاه أن يسعي لإزالة ذلك بأسلوب النفي وبإحدى طرائقه

المتنوعة الاستعمال ().

فالأساليب اللغوية إنما تستخدم على النحو الذي يتفق مع ما تتطلبه مناسبات القول وحال المخاطب فيها ، فلا يكون توكيد دون أن تشعر حال المخاطب بشك وبحاجتها إلى التوكيد، ولا نفي دون أن يلاحظ ما في نفس المخاطب من شك . فإذا كان المخاطب شاكا في وقوع فعل ما منك أو عدم وقوعه

وأردت أن تزيل الشك عن نفسه، قلت : ما فعلت وإذا كان المخاطب قد اعتقد أن فعلا ما وقع، ثم

أردت أن تنفي عنك فعله، قلت: ما أنا فعلت (2) وبين التعبيرين فرق واضح، فأنت في الأول تنفي عنك فعلا يجوز أن يكون غيرك قد فعله، وألا يكون قد فعل أصلا ، وفي الثاني تنفي عنك فعلا كان قد ثبت وتحقق وقوعه، ولكنك أردت بقولك أن تنفي أن تكون أنت الفاعل، ولو استعملت الثاني مكان الأول أو عكست لم يفهم كلامك (3).

كذلك ينبغي إرسال النفي بحسب ما تمليه ملابسات القول ومناسباته فإذا كان المخاطب يتوقع مثلا أن يقدم زيد من سفره ثم أردت أن تزيل عن نفسه مثل هذا التوقع قلت : لما يقدم زيد من سفره ، ولو قلت لم يقدم زيد من سفره كان القول لغوا، لأنه يعرف أنه لم يقدم فيما مضى ولكنه يتوقع قدومه في

الزمان القريب من الحال (4). وإذا تردد في ذهن المخاطب أن زيد سافر في الماضي ، لم يكن يتوقع أن يكون سافر في زمان قريب من الحاضر، ثم أردت أن تنفي ما تردد في نفسه قلت : لم يسافر زيد ، و لا يليق بمثل هذه الحال أن (5

تقول : لما يسافر زيد ، لأنه لم يتردد في ذهنه أنه سافر في الماضي )

والنفي اللغوي لا يكون عادة إلا بأداة تشعر بهذا النفي فإذا خلا الكلام من أداة نفي ، وعبر مع هذا عن النفي ، عد مثل هذا نفيا ضمنيا ) . ذلك أن في بعض أساليب التمني والاستفهام الإنكاري والشرطبـ (لو) حين تفيد امتناع الجواب لامتناع الشرط نوعا من النفي الضمني الخالي من أداة النفي مثل: ليت لي مالا أمثلك يرتكب هذا الإثم ، لو اتحد العرب لهزموا اليهود.

فنحن نرى في مثل هذه الأساليب اللغوية نفيا ضمنيا وإن لم تشتمل على أدوات النفي. فعبارة ليت لي مالا " تنفي أن لي مالا، أو أني من ذوي اليسر، وجملة " أمثلك يرتكب هذا الإثم ؟ " تنفي نسبة مثل هذا الإثم إلى المخاطب الذي يعد في نظر المتكلم مبرأ من ذلك، وهكذا.

6-1 أدوات النفي: يؤدي النفي في العربية أدوات بعضها مفرد مثل: لا، ما، إن وبعضها مركب

مثل: لم، لما، لن، ليس، لات (1) قال الأندلسي (2): " . حروف النفي ستة اثنان لنفي الماضي وهما لم ولما. واثنان لنفي الحال وهما: ما وإن. واثنان لنفي المستقبل وهما: لا ولن (3)

قال السيوطي في شرح أرجوزة عقود الجمان . (4)

قلت وأما نفيه فالأحرف

فما وإن كليس نفي الحال

فإن أدق ثم للتأكيد لن

ولم ولما نفي ماض وانفرد

ofe

ست لمعنى كل حرف يؤلف.

ولا ولن لنفي الاستقبال.

ونفي ما كان حصوله يظن.

لما بالاستغراق مع مدخول قد.

في هذه الأبيات كلام عن تقييد المسند بحروف النفي وعددها ستة. ف (لما) و (إن) لنفي الحال مثل: ليس و (لا) و (لن) لنفي الاستقبال و (إن) أدق في الاستعمال من (ما)) و (لن) لتأكيد ما كان حصوله مظنونا، و (لم) و (لما) لنفي الماضي مع انفراد (لما) للاستغراق. ف (ما) و (إن) و (لا) لنفي الاسم والفعل، بينما (لن) و (لم) و (لما) تختص بنفي الفعل. كما هو مبين في الجدول أدناه.والواقع أن لأفعال اللغة إمكانات زمنية مختلفة، فأزمنة الأفعال هي التي تصنع النسق الزمني في لغة من اللغات، هناك بنية زمنية داخلية للحدث كاللحظة والامتداد وغيرهما، وهناك الوجهة الزمنية التي تتمثل في الاحتمال أو الشرط، وهي معلومات لها قواعد بناء في نظام اللغة العربية. ولكن لا ينبغي التركيز على الخصائص الزمنية الصرفية الماثلة في الأفعال فقط ، وأهمال الأبعاد الأخرى أو الوجهات

الزمنية التي تزخر بها النصوص:

كالاحتمال أو الشرط أو الافتراض ..... أو الزمن المركب وعلاقته بالبسيط،

• 
  

  أو الأوجه الزمنية المختلفة ،

  
  


• 
  

  أو الأزمنة المتداخلة في الجملة الواحدة،

  
  


• 
  

  أو تضمن كافة المقولات النحوية والأدوات اللغوية المضمون زمني معين مثل الزمن الإشاري ( أي زمن اسم الإشارة ( والمضمون الزمني الحروف المعاني والمضمون الزمني لأدوات الشرط (حروفاً وأسماء)

  
  

والمضمون الزمني لظروف الزمان وظروف المكان الخاصة والمبهمة

و لا شك أن اللغات تختلف في إسناد معنى الزمن أو التأويل الزمني للحملة ، كما تختلف في

مرجعياتها الزمنية التي تعترف منها التأويل الزمني كالمرجعية المنطقية أو الزمن المنطقي الفلسفي والزمن

الواقعي .