لخّصلي

أولاً: الخوارج في بلاد المغرب
ليس ثمة شك في أن مبادئ الخوارج بما تنطوي عليه من تمسك بالشريعة في جانبها العقائدي، وثورية في قوامها السياسي، وبساطة ووضوح في جوانبها الفكرية، وجدت مناخاً ملائماً في ظروف المغرب الإسلامي وطبيعة سكانه. وقد اكتست نزعة الاستقلال عند الأمازيغ بفضل مذهب الخوارج طابعاً ثورياً دينياً، فالتقى الأمازيغ مع الخوارج في مواجهتهم لعدو مشترك تمثل في السلطة الأموية ثم العباسية.
لقد انتشر المذهب الصفري بين قبائل أمازيغية كثيرة من بينها برغواطة ومطغرة ومكناسة وزناتة، وكذا اعتنقته أقليات سودانية وعربية. وكان رسوخ قدم المذهب الاباضي في جبل نفوسة سبباً في انتشاره بين القبائل الأخرى مثل هوارة ولماية وسدراتة وزواغة ولواتة ومطماطة.
وبسبب قبضة الدولة المركزية على قلب البلاد الإسلامية فقد لجأ حملة المذهب إلى المغرب عاقدين العزم على إعلان إمامة الظهور، الشيء الذي تم لهم بدءاً من سنة 140هـ بسجلماسة وسنة 161هـ بتاهرت، بعد سلسلة من المحاولات التمردية في عصر الولاة الأمويين. وجاء استقلال الخوارج بأجزاء من بلاد المغرب معاصراً لقيام الأدارسة ذوي المذهب الشيعي الزيدي سنة 172هـ، ولاستقرار الأغالبة بإيعاز من الدولة السنية في بغداد بافريقية منذ سنة 184.
والمتأمل لمصادر بني مدرار في سجلماسة يمكنه أن يتوقف عند بعض العناصر التي كونت سياسة الإمارة على المستوى الداخلي. فتعيين الأمراء وعزلهم وقيام الثورات واحتدام المنازعات على العرش، واتساع الدولة وتقلصها كل ذلك كان مرتبطاً بالصراع القبلي والخلاف المذهبي. وقد تمثل العامل الأول في تباين الكيان الاجتماعي في سجلماسة واختلاف عناصر سكانها ما بين امازيغ وسودان وأندلسيين، فضلاً عن ما هو معروف من انقسام البربر إلى بتر ورانس. كما وجد اليهود الذين هيمنوا على مصائر البلاد الاقتصادية باحتكارهم استغلال المناجم في درعة. والمعتزلة الذين كانوا يبعثون بزكاة أموالهم إلى رئيسهم بتاهرت. كما وجدت أقلية من الخوارج الإباضية كان لها أيضاً دورها البارز في تطور الأحوال السياسية داخل دولة بني مدرار.
وسارت سياسة بني مدرار في اتجاهين: إقامة علاقات عدائية اتجاه الخلافة العباسية ودولة الأغالبة والأدارسة، ثم ربط علاقات ودية مع بني رستم والأمويين بالأندلس.
وتحفل المصادر بكثير من الشواهد التي تؤكد طابع العداء بين بني مدرار والأدارسة الذين اقتطعوا مجال دولتهم من نفوذ الصفرية منذ ثورة ميسرة. فلما نجح إدريس الأول في إقامة مملكته تعرض الصفرية لاضطهاد دولته، إذ لا يخفى العداء التقليدي بين الشيعة والخوارج. ولم تتحدث نفس هذه المصادر عن مواجهات عسكرية بين الإمارتين. ويبدو أن الأدارسة كانوا منشغلين أكثر بكشف مؤامرات الأغالبة والتي أدت إلى اغتيال إدريس الأول والثاني. كذلك كان ضعف الدولة من أسباب التقاعس عن غزو الأدارسة لبني مدرار الذين اكتفوا بدورهم بتعزيز مواقعهم الاستتراتيجية والاقتصادية. ومعلوم أن الأدارسة كانوا قد أذعنوا صفرية تلمسان لحكمهم. وتمثل رد فعل خوارج سجلماسة في تحريض صفرية فاس على الثورة ضد الأمير علي بن عمر بن إدريس. وبالفعل نجح أحد صنائعهم ويدعى عبد الرزاق الصفري في لم شمل صفرية مديونة وغياثة ومكناسة. واستولى على صفرو ثم دخل فاساً فهزم أميرها الذي لاذ بأوربة، في حين استدعى أهل عدوة القرويين يحيى بن القاسم المعروف بالعدام وبايعوه بالإمامة، فتمكن من هزم الصفرية وقتل زعيمهم سنة 293هـ. ولعل ما أحدثته هــذه الحركة من تصدع في حاضرة الادارســة هو ما دفـع اليسـع بـن مدرار حـسب بعض المصادر إلى التفكير في غزو فاس ثانية. لكن التدخل الفاطمي الشيعي عجل بإنهاء الإمارتين معاً سنة 297هـ.
ولم يحل الاختلاف المذهبي بين بني مدرار وأمويي الأندلس ولا البعد الجغرافي بين سجلماسة وقرطبة، دون وجود صلات ودية بينهما، فقد جمعهما العداء المشترك للخلافة العباسية والأغالبة والأدارسة. حقيقة لم يكن لبني مدرار موانئ على ساحل البحر المتوسط، لكنهم لم يعدموا وجود منافذ على ساحل الأطلسي كانت على صلة بإشبيلية وشاطبة. ومن ثم فليس من المستغرب أن تضم مدن الأندلس عناصر صفرية من سجلماسة. كما غصت سجلماسة بالكثير من أهل الأندلس. ويبدو أن هذه العلاقات قد تكدرت أواخر عهد الحكم بن هشام (206-180هـ) على إثر ثورة الربض بقرطبة ونزوح أعداد غفيرة منهم إلى سجلماسة. لكن الجفوة لم تدم طويلاً فسرعان ما استعادت العلاقات طابعها الودي في عهد عبد الرحمن الثاني الذي وثق صلاته ببني مدرار وخاصة بعد استفحال الخطر الأغلبي في البحر المتوسط. ويظهر أيضاً أن ميموناً بن مدرار قد آزر حليفه الأموي في مواجهة القحط الذي حل ببلاد الأندلس سنة 232هـ، فبعث إليه ما توافر لديه من الحنطة والسكر والتمر. ومن المعروف أن بلاد المغرب كانت ميداناً للدعوة الفاطمية، فقد عهد محمد الحبيب المقيم بسليمة من أرض حمص إلى اثنين من دعاته ببث دعوته في بلاد كتامة. فنجحا في التمهيد لما قام به أبو عبد الله الشيعي داعية عبيد الله المهدي فيما بعد. واستطاع أبو عبد الله هذا الذي دخل بلاد المغرب سنة 280هـ أن ينشر دعوته بين قبائل كتامة. كما نجح في إعداد جيش منهم تمكن بفضله من مناجزة دولة بني الأغلب في افريقية سنة 289هـ وبعث أبو عبد الله في استدعاء مولاه عبيد الله المهدي سنة 292هـ، فخرج إليه يتصدى للسلطان برفقة خاصته وثقاة رجاله. وما لبث أن استقام إليه أمر المغرب الأوسط والأقصى إلى حين. هذا وقد اندلعت سلسلة من ثورات الصفرية في سجلماسة حاولت الاستقلال عن نفوذ الفاطميين.
وإذا كان الفاطميون قد نجحوا في السيطرة على تاهرت دون عناء، فإنهم في المقابل لم يفلحوا في الاستيلاء على جبل نفوسة ووارجلان لمنعة الجبل وتطرف الواحة في أقاصي الصحراء. وأضحت هذه الجهات معقلاً للحركات الاباضية المناوئة للفاطميين. كما لم ينجح الفاطميون في إرغام الاباضية بالمناطق الخاضعة لحكمهم عن التخلي عن مذهبهم واعتناق المذهب الإسماعيلي. ولم يترتب عن سياسة البطش والتعصب التي جرى عليها الفاطميون إلا عن اندلاع ثورات الخوارج الاباضية، مما سبب لهم في المزيد من المتاعب.
ولم يكن أن يتراجع المذهب الخارجي أمام الشيعة الفاطميين أو السنة المرابطين دون أن يترك آثاراً واضحة على النظم العامة ببلاد المغرب: فعلى مستوى الفكر السياسي تبدو نظرية الخوارج في الحكم أكثر نظريات الفرق الإسلامية ميلاً إلى الديموقراطية. فعلى خلاف السنة الذين قصروا أحقية الإمامة على قريش، والشيعة الذين جعلوها في علي بن أبي طالب وأعقابه، أقر الخوارج مبدأ جواز إمامة أي مسلم عالم بالكتاب والسنة وفقه المذهب. وفكر الخوارج اعتمد على الدين أكثر من العصبية. فقد التزموا تعاليم المذهب في اختيار الأئمة وجباية الأموال والجهاد ومعاملة الخصوم. وكان التطرف الشديد من سمات فكرهم السياسي ومن أسباب فشلهم في المشرق حتى قيل بأن سياستهم غير سياسية. وليس أدل على ذلك من قولهم بالاستعراض ورفض التقية وتشددهم في قبول المهاجرة. لكن مع بداية ق 2هـ اتخذت مبادئ الخوارج طابعاً عملياً وجنحت نحو الاعتدال. وظهر ذلك بشكل واضح في عقائد الاباضية والصفرية متمثلاً في تجويز التقية ومعايشة الجماعة الإسلامية بترك فكرة تكفير المخالفين في المذهب. كما آمن خوارج المغرب بمبدإ وجود إمامين في نفس الوقت: فقد تولى الحارث بن تليد وعبد الجبار بن قيس المرادي إمامة الاباضية في طرابلس سنة 132هـ أحدهما للصلاة والآخر للحرب. كما فرق فقهاء المذهب بين إمامة الدفاع وإمامة الظهور، إذ حينما يتعرض الخـوارج لمحـن سياسـية فهم يختارون إماماً في الخفـاء تكون مهمته جمع شمل الأنصار وتسيير الأمور وإعداد العدة للظهور إذا ما واتت الظروف وانقشعت المحنة. وعلى مستوى ممارسة الحكم فقد تحولت الإمامة إلى ملك وراثي غلبت عليه الصراعات القبلية والمذهبية.
لقد قامت دولتي الخوارج في مناطق صحراوية ومع ذلك واكب قيامها ازدهاراً في الزراعة والصناعة ورواجاً في التجارة. ففي مجال الزراعة استفاد بنو مدرار من مياه بعض الأنهار في تحويل أراضي العاصمة إلى سهل فيضي شقوا فيه القنوات واستكثروا من الغروس. وساعدت وفرة المناجم بالأطلس ودرعة على توفير موارد مالية مهمة أفادت في بناء القصور والمصانع. وقد اشتهرت سجلماسة بصناعة الثياب وسك النقود.
وبالإضافة إلى البربر والأندلسيين تواجد بالمنطقة اليهود والسودان. فقد أسهمت عناصر سودانية في تأسيس الدولة. وساهمت هجرة القبائل إلى سجلماسة في تحولها من حياة البداوة إلى حياة الاستقرار، وغيرت الكثير من مظاهر الحياة الاجتماعية. فاختلفت حياة السكان تبعاً للانتماء الطبقي والقبلي. كما برز دور المرأة في المجتمع.
ولا ريب أن الاتصال الثقافي بالمشرق أثرى الحياة الثقافية في بلاد المغرب، فظهر أعلام كثيرون مثل الشيخ المهدي النفوسي المتكلم، وابن يانس المفسر، وأبو الحسن الابدلاني. وإلى الخوارج يعزى الفضل في وضع البذور الأولى لنشر اٌلإسلام في بلاد السودان.