لخّصلي

المجتمع والأزمة الاقتصادية

إجهاد البنى القبلية

تابع أحد المؤرخين المغاربة تطور الحادية هسكورة منذ الفترة الوسيطية، ووقف بالنسبة للقرنين الثامن الهجري الرابع عشر الميلادي والتاسع الهجري الخامس عشر الميلادي على سيرورة التفكك التي آل إليها مصير هذه العصبية. وقد اعتبر هذا المؤرخ من خلال منوغرافية دقيقة أن المضمون البنيوي القبلي قد عرف تحولات جوهرية بسبب اندماج جماعات وافدة، وأن هذه الحركية قد أدت في النهاية إلى إضعاف التلاحم والتضامن داخل المجموعات، فكان من النتائج المباشرة لهذه السيرورة الطويلة أن تم تعويض نظام المشيخة بنظام الجماعة. ومعلوم أن سيرورة التفكك - وإن همت العصبيات الكبرى بأشكال متفاوتة بحسب قرب أو بعد المجال الجغرافي الذي تراقبه من مجال الدولة المرينية الحيوي - قد مست مجموع العصبيات الكبرى آنذاك بما فيها الكتلة الزناتية والعصبيات البدوية العربية.

على أن العصبية الزناتية الحاكمة كانت تعاني قلة الوسائل البشرية، وأن هذا الواقع دفع بها إلى الاستعانة بعصبيات أخرى، والالتجاء بطريقة ممنهجة إلى أسلوب التدبير المفوض للمحال، وهو أسلوب مكلف من الناحية السياسية والمالية وكان لتلك الإستراتيجية أثرها في تماسك العصبية المتغلبة ذاتها، إذ أن اقتسامها المجال بشكل دائم والغراس القبائل الزناتية وسط مجموعات أخرى كان يستند إلى قوة الدولة وإلى تماسك عصبيتها. وقد رأينا أن أسلوب الحكم القائم على المشاركة والتفويض كان مسؤولا إلى حد بعيد عن كل الصعوبات السياسية من ثورات القرابة وعصيان المشيخة التي عانتها الدولة بشكل دوري وهي في أوج قوتها. وكان من انعكاسات ذلك أن ضعفت شوكة العصبية الزناتية وذابت بعض مكوناتها في النسيج البشري المحلي الذي انبثت فيه، وهو ما أثاره أحد 7 أحمد التوفيق مساهمة في دراسة المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر إينولدان (1850-1912)، منشورات كلية

الأداب والعلوم الإنسانية بالرياض 1978 981-95

309

الفصل السادس

المغرب ومنعطف القرن التاسع المجري / الخامس عشر للميلاد

ص .(76-71 بدكالة (أحمد بوشرب، 1984. ومن جهة أخرى، فلقد أدى الانتقال التدريجي للقبائل العربية نحو السهول مثلما أدت الترتيبات التي لجأ المرينيون إليها في أفق احتواء توسعاتها واستخدامها لوقاية بحالها الحيوي إلى نتائج متباينة منها إخضاع الهلاليين واستنزاف قواهم وفي المقابل فإن أولاد حصين المعاقلة ونظرا لتحكمهم في مجالات هامشية قد دخلوا وقائع القرن التاسع الهجري الخامس عشر الميلادي بإمكانيات أفضل، وهو ما سمح بالخراطهم في هياكل الدولة في إطار توافقات مجالية جديدة.

الباحثين حينما تساءل عن ظروف اندماج القبائل الأمازيغية والعربية واحتواء بعضها بعضا، وأعطى كمثال على ذلك حالة بني جابر الذين اختلطوا بسدراتة وأولاد مختار الذين اختلطوا بدورهم في الجنوب بالقبائل الصنهاجية أو المصمودية (1986 M. Kably 239,248). وعرفت قبائل دكالة بدورها سيرورة مماثلة، إذ بالإضافة إلى تفكك عصبية القبائل المصمودية بها واتخاذ بعضها مثل بني ماكر وركراكة أسماء وأصولا عربية، فإن هناك إجماعا على اختلاط عناصرها الأمازيغية والعربية منذ القرن السابع للهجرة الثالث عشر الميلاد والدماجها، وهو ما يؤشر عليه ظهور تسميات جديدة مثل عبدة والشرقية والغربية

يفصل بين تاريخ تأليف كتاب العبر لابن خلدون وتأليف كتاب وصف إفريقيا للموزان زهاء قرن ونصف، وهو زمن تأكدت فيه صورة تفكك الهياكل القبلية الكبرى وتوقف سعي أقواها شوكة إلى مشاركة الدولة في سلطانها. فالغالب على حالها ما وصفت به من ريحها ونسيانها عهد البداوة والنجعة ومالها إلى عداد القبائل الغارمة والعسكرة مع السلطان وتعاطي الزراعة؛ ذلك أن أعزها قوة وأكثرها عددا كقبائل الخلط ورياح ومقدم والعاصم اندثرت وتلاشت شأن كل أمة ولم يتمكن من البقاء كقوة ذات شأن سوى عرب المعقل وذلك بسبب الزوائهم في الهوامش، وهو ما دفع بالوطاسبين إلى الاستعانة بأولاد حصين منهم، من أجل استرجاع نفوذهم بشمال وغرب المغرب بينما تمكن أولاد مختار من تحميش جزولة والاستيلاء على بلاد سوس في انتظار الفراج الأمور لصالح السعديين ومن انضم إليهم من قبائل الجنوب ذهاب

على أن حالة الضعف والتفكك التي مست الهياكل القبلية لم تنقص من قدراتها العسكرية، إذ أن الاضطرابات التي همت البلاد وأضرت بالمنتجين وأفسدت سبل المبادلات وأضعفت المدن وقادت الثوار والزعامات التقليدية إلى العصيان أو الاستقلال كانت تجد في القبائل وسائلها العسكرية، كما أن التحولات السياسية لهذا القرن لم تكن ممكنة دون تعبئة القبائل والملاحظ أن دولة العصبيات الكبرى قد أوشكت على نهايتها لأسباب تتصل بتفكك الهياكل القبلية وبالدينامية الاجتماعية التي أهلت قوى أخرى القيادة التحول السياسي للبلاد لما بعد القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي.