لخّصلي

الناس صنفان موتى في حیاتھم وآخرون ببطن الأرض أحیاء الناس نوعان: زائد على الحیاة، وزائد فیھا، وزايد بن سلطان من النوع الثاني؛ زاد إلى حیاته حیاة شعب، وأضاف لمسیرته إحیاء أمة، ونفع بحكمته وحنكته ملايین البشر، ھذا ھو الخلود الحقیقي. علمنا زايد كیف يمكن أن يبقى الإنسان حیاً في القلوب والعقول، علمنا زايد كیف يمكن أن يبقى الإنسان عالیاً في الحیاة وفي الممات. صحبت زايد كثیراً، وتعلّمت منه الكثیر. تعلمت منه البحث عن مساحات الاتفاق لا الاختلاف، البحث عن المستقبل لا عن الماضي، البحث عن أسباب ُتوحدنا وتجمعنا وتقوّينا وترف ُعنا؛ ھكذا كان زايد في سعیه لجمع
شمل الإمارات، ولولا حكمته ربما لم تكن الإمارات ھي الإمارات. زايد ھو أول حاكم للإمارات، أول مؤ ِّسس، أول من س َّن قوانینھا وتشريعاتھا، أول من وضع حجر الأساس لبنائھا. زايد ھو الأول في كل شيء، والأول دائماً له محب َّة مختلفة، ومكانة مختلفة، ومنازل في القلوب أي منازل. حكم زايد العین منذ العام 1946 عندما كان عمره 28 عاماً فقط. أحبته القبائل، واجتمع حوله الرجال، وبدأ مسیرته من قلب الصحراء. حفر الآبا َربیده مع البدو، وشق الأفلاج معھم بنفسه، ولم تقف ندرة الماء والمال عائقاً أمامه. أنشأ لھم أول مدرسة، وأول سوق، وأول مشفى، وأول شبكة طرق حديثة. ھو الأول دائماً. أحبه الناس ھناك لأنه كان يأكل معھم على الأرض، ويحاورھم ويشاورھم ويعمل بیده معھم. من بساطة العین انطلق زايد في مسیرته من غیر تكبر أو غطرسة مصطنعة، فنجح في ترسیخ حكمه وحكمته عبر أكثر من نصف قرن وھبھا لبلده. صحبتُ زايد كثيراً. تعل َّمتُ منه البحثَ عن مساحات الاتفاق لا الاختلاف، البحث عن المستقبل لا عن الماضي، البحث عن أسبابٍ تُوحدُنا وتجمعُنا وتقوّينا وترفعُنا هي الإمارات في العام 1953، وقبل أن يحكم أبوظبي بنحو 13 عاماً، سافر الشیخ زايد في جولة شملت الولايات المتحدة وبريطانیا وفرنسا وسويسرا ومصر والعراق والھند وغیرھا؛ فرجع من رحلته بقناعة، وبحلم، وبعزم؛ قناعة أن شعبه يستحق أن يعیش مثل تلك الشعوب، و ُحلم بأن يبني دولة تكون مثل تلك الدول، و عزم بألا يتوقّف عن حلمه حتى تتوقف أنفاسه.
وبدأ رحمه الله حلمه، واستمرّ دون كلل، حتى توقفت أنفاسه في العام 2004، وما زالت إنجازاته باقی ًة تتن ّف ُس بیننا ما بقیت ھذه الدولة. صحب ُت زايد في الكثیر من اللقاءات والاجتماعات والأزمات أيضاً. إن كان لي أن أصفه بكلمة فھي "الحكمة"، والحكمة كنز عظیم يؤتیه الله من يشاء من عباده؛ " َو َمن ُيؤ ت الحكمة فقد أوتي خیراً كثیراً". كانت له حكمة في التصرف بالأموال التي تحت يديه، أموال النفط. ھناك الكثیر من الدول النفطیة في العالم، لكن القلیل منھا فقط يملك الحكمة، حكمة زايد. سخر زايد الأموال لبناء تنمیة مستدامة لشعبه، و ُص ْنع دولة من لا شيء، وبناء إنسان قادر على إكمال حلم زايد. بل سبق زمانه بحكمته المالیة في تأسیس صندوق سیادي لیحتفظ بجزء كبیر من تلك الأموال ويستثمرھا لأجیال لم تأت بعد. كان يفكر، رحمه الله، بأحفاده وأحفاد أحفاده من أجیال الإمارات، حتى أصبح الصندوق السیادي الذي أسسه الیوم أحد أكبر صناديق الثروة السیادية في العالم. زايد كانت لديه حكمة في إدارة الاتحاد. كسب قلوب حكام الإمارات الست منذ البداية، وامتلك قلوب المواطنین، كل المواطنین. وأخمد كافة الخلافات مع الجیران بشكل كامل ونھائي، ثم تفرغ لمشاريع التنمیة والعمران والبناء، واندفع فیھا بكل قوة. كانت بساطته تأسر الشباب، وكان كرمه يأسر القلوب، وكانت مشاريعه تأسر العقول دھشة. إنھا الحكمة التي أعطاھا الله لزايد، " َو َمن ُيؤ َت الحكمة فقد أوتي خیراً كثیراً".ما مات مَن بنى أوطاناً، ما مات مَن خلّف قادةً ورجالاً، ما مات مَن فعل معروفاً، وما مات مَن صنع أجيالاً أحب َّت الشعوب العربیة الشیخ زايد، رحمه الله، أيضاً بسبب حكمته. سعى زايد بقوة من أجل بناء مجلس التعاون الخلیجي مع أخیه الشیخ جابر الصباح، واستضاف في العاصمة أبوظبي أولى اجتماعاته في مايو 1981. تدخل بین سلطنة عمان والیمن الجنوبي في خلافات نشأت بینھما في ثمانینات القرن الماضي واستطاع حلھا، ودعا لقمة عربیة لإنھاء حرب لبنان في الفترة نفسھا، وتو ّسط بین مصر ولیبیا لحل الخلافات. كان أول من دعا لإعادة مصر لجامعة الدول العربیة بعد الخلاف حول اتفاقیة السلام التي وقعتھا مع إسرائیل. كان أول من دعا للمصالحة بین العراق والكويت بعد الغزو الغاشم للكويت، وحاول تجنیب العراق الغزو الأمريكي عبر عرضه على الرئیس العراقي الخروج واستضافته في أبوظبي. كما ساھم مع الأمم المتحدة في حفظ الأمن في الصومال الجريح من خلال مشاركة قوة إماراتیة في القوة الدولیة المتعددة الجنسیات في مطلع العام 1993؛ وغیرھا الكثیر الكثیر من القرارات والمواقف التي تبرز سعي زايد للبحث عن مساحات الاتفاق، وإطفاء نیران الخلافات، والجمع بین الإخوة، ونبذ الفرقة؛ مواقف تبرز حكمة ھذا الرجل، " َو َمن ُيؤ َت الحكمة فقد أوتي خیراً كثیراً". لعل أكثر ما جعل الناس تحب زايد ھو حبّه للإنسان، حبّه لخیر الإنسان أينما كان، وشھادتنا في عمل زايد الإنساني شھادة مجروحة، لأنه علّمنا معنى العطاء دون انتظار مقابل. وتعلّم ُت منه بشكل شخصي العطاء في السرّ؛المعلن من تبرعات وعطايا زايد أقلم ما أعرفه شخصیاً. كان، رحمه الله، صاحب قلب كبیر وعمل مخلص. لعل ذلك أحد أسباب محب َّة الناس له، لعل الله أحبه ووضع محبته بین الناس. لذلك لا أستغرب أن تكون ذكرى زايد من الأشیاء الثمینة التي كلما ذكر ُتھا زادت بريقاً، وكلما مرّ علیھا الزمن زادت قیمة. رحل زايد بھدوء في الثاني من نوفمبر من العام 2004. لعل رحیله بھدوء ھو الذي يجعل شعب الإمارات ما زال يعیش مع زايد كل يوم، يعیش مع أقواله، يعیش مع تسجیلاته، يعیش مع حكمته ويستذكرھا ويتخذھا منھاجاً له في مسیرته. حتى في رحیله، ترك لنا زايد حكمة عظیمة؛ ما مات َمن بنى أوطاناً، ما مات َمن خلّف قاد ًة ورجالا، ما مات َمن فعل معروفا، وما مات َمن صنع أجیالاً. ھم أحیاء عند ربھم يرزقون، وفي قلوب الناس باقون.. باقون. في جنة الخلد يا زايد الخیر.