لخّصلي

كان يا ما كان ...

وكانت جالو ميناء في سالف الأزمان، وكانت تدعى أيضاً جوهرة البحار وترتادها سفن التجار والقراصنة وتنقل إليها أحمال العاج وسن الفيل وتزدحم أسواقها بالتوابل والعبيدالقوافلوالصندل والخزف الصيني.

وكان كل امرىء في جالو يعيش مثل السلطان، ما عدا السلطان نفسه الذي أحاقت به مصيبة عجيبة، ولعنة رهيبة، جعلته لا يضع رأسه فوق الوسادة ويغمض عينيه في أي وقتمن أوقات الليل أو النهار دون أن يحلم بالكلب الأسود.

وكان الكلب فظيعاً ومنتناً ومفقوء العينين وكان يتراءى للسلطان دائماً فوق التلال الرملية القاحلة التي تمتد وراء أسوار جالو ويرفع رأسه القبيح ويعوي بجنون حتى تغرق التلال في أنفاسه الكريهة، ثم ينطلق في أعقاب السلطان فيما تتدلى عيناه المفقوءتان فوق خديه. وكان السلطان يتخلى عن نعليه ويعدو في المنام، وكان يعبر التلال الرملية القاحلة ويقفز فوق أسوار «جالو» ويتسلق عرائش العنب وأسقف البيوت ويواصل العدو إلى قصره المرمري المشرف على الميناء الذي تحوطه عشرة أسوار من الحديد. وقد تعود الكلب أن يتوقف عند السور الأول في بداية الأمر، ولكنه عاد فاخترقه في رأس السنة، ثم اخترق السور الثاني في رأس السنة التالية، فيما كان السلطان يراقبه في المنام مفتوح العينين.

ولقد حير ذلك الحلم كل فقهاء جالو .. وتواردوا على قصر السلطان واحداً بعد الآخر وكووه في رأسه وفكوا له الرصيدة وقرأوا عليه الأوراد وكتبوا له الأحجبة دون أن يتمكنوا من إنقاذ السلطان البائس الذي فقد كل رغبة في النوم وطفق يسكر طوال النهار ويترنح من الإعياء في قصره المرمري.

وفي رأس السنة الرابعة أفرط السلطان في الشراب حتى سقط على الأرض، وحلم بالكلب الأسود، وسمعه يعوي فوق التلال الرملية القاحلة ثم رآه يعبر السور الثالث. وقد صحا السلطان مصعوقاً من الرعب واستدعى الفقي الذي كتب له آخر حجاب وقطع رأسه بنفسه ثم عاد إلى غرفته وطفق يندب سوء حظه.

في ذلك اليوم وصل إلى (جالو اثنان من الغرباء وكان أحدهما فقياً ذائع الصيت، وكان الآخر مزارعاً أعرج، وقد دخل الفقي راكباً بغلته البيضاء من باب المدينة الغربي، ودخل المزارع من باب المدينة الشرقي والتقيا في وسط الميدان المؤدي إلى قصر السلطان المرمري. وقد توقف المزارع لكي يسأل الفقي عن الطريق لأنه اعتقد أنه من أهالي جالو» ولكن الفقي رأى على الفور أنه حافي القدمين وأنه يعرج حتى يلتوي عند وسطه وأنه لا يحمل شيئاً سوى جراب من النوى، وعرف أنه شحاذ غريب فصدمه بصدر بغلته البيضاء منطلقاً في عجلة إلى قصر السلطان. وقد مثل بين يديه، ودعا له بطول العمر ثم قال له:

اعلم يا مولاي أنه ليس ما يعيب الحكيم سوى إمساكه عن النصيحة وبخله بالمشورة الصحيحة على سيده ومولاه، وولي نعمته وعطاه. وقد قيل منذ سالف الأمد، إن الحكمة رأس الفضائل، وإنه ليس أمضى من السيف سوى رأي العالم الحصيف».
. وكان السلطان قد بدأ يقضم أظافره. وكان يمارس هذه العادة الرديئة أمام الغرباء دائماً إلى حد أن الديوان قرر أن يكتري له وصيفاً خاصاً ليقضم أظافر السلطان. ولكن الوصيف لم يكن حاضراً إذ ذاك، وقد قرر السلطان أن يقضم أظافره بنفسه.

وقال الفقي: واعلم يا مولاي أنني سمعت بما اعتراك من العيش الأنكد والحلم بالكلب الأسود، ونقبت في الكتب، واطلعت على آراء السلف الصالح، والتمست مشورة الأسياد وأصحاب السر الأعظم حتى عرفت أصل الداء وموطن الدواء وإنه بإذن الله يا مولاي على يدي شفاؤك، وخيرك وهناؤك».

وتوقف السلطان عن قضم أظافره وقال في إعياء: «يا جناب العالم، والفقي الكامل، أنا سمعت هذا الكلام ألف مرة، وقطعت رأس ألف فقي، حتى تعبت من السماع ومن قطع الرؤوس، فلا تدع الشيطان يخدعك. إنك إذا كويتني في رأسي بدون فائدق فأنا أيضاً سوف أقطع أسك وركع الفق

يدي السلطان وقال على الفور: «ليس كل ما يلمع ذهباً يا مولاي، وليس كل من لبس عمامة يتطاول لشفاء الملوك، وأنا لم أقطع الفيافي والقفار من أقصى مملكة زنجبار، لكي أكويك في رأسك، لقد جئت فقط لأمنحك النصيحة والمشورة المليحة، إن الكلب الأسود الذي تراه في حلمك يا مولاي هو نذير الدمار بعثه إليك الواحد القهار، لكي ينذرك من المصيبة القادمة في ير الغيب.. وانحنى السلطان إلى الأمام وتساءل بدهشة أية مصيبة؟

وبقي الفقي مطرقاً لبرهة من الوقت ثم رفع رأسه وقال بثبات: اعلم يا مولاي أننا قرأنا في كتب السلف الصالح أن جالو» ستخرب بعد عمار، وسوف يرسل الله عليها ريحاً حامية تجوس بها سبعة أيام وسبع ليال، لا تتنفسها نبتة إلا ماتت في حينها، وتيبست جذورها في طينها، ولا تمر على عريشة عنب أو بستان أو حديقة تفاح، إلا تركتها قاعاً صفصفاً تذروه الرياح، ولا تمر على جدول ماء إلا نضب ولا بيت إلا خرب، فسبحان من له الدوام.. ووضع السلطان يده على فمه وقال بعد برهة: ومتى يحدث ذلك يا جناب الفقي؟».

بعد سبع سنوات قال الفقي في هدوء بعد سبع سنوات، عندما يخترق الكلب الأسود داخل الأسوار ويصل إليك لكي يعضك في عقبك. إنك لن تراه سوى مرة واحدة في رأس كل سنة وقاطعه السلطان فجأة: «مرة واحدة في رأس كل سنة؟ مرة واحدة فقط؟ وقال الفقي مؤكداً: «أجل، يا مولاي، مرة واحدة فقط لكي تتذكر تعداد السنين، وسوف يخترق السور السابع ويصل إليك ويعضك في عقبك. إن تلك يا مولاي عضة

الفقر، وصروف الدهر. وقاطعه السلطان مرة أخرى: وماذا تريدنا أن نفعل يا جناب الفقي ؟  فرفع الفقي يديه إلى رأسه وقبل الأرض بين يدي السلطان ثم بثبات: «الرأي والحكمة لك يا مولاي.

ولكننا قرأنا في كتب السلف الصالح، وسمعنا من الأسياد وأصحاب السر الأعظم أن «جالو» بعد أن تخرب من أقصاها إلى أقصاها، يغفر لها الله ذنوبها وخطاياها، بفضل رجل صالح يعمر قلبه الإيمان ليس للريح الساخنة عليه سلطان. وتعود جالو) تعمر من جديد، وترتادها القوافل وتزدحم أسواقها بالعبيد والتوابل والرأي يا مولاي أن تعد لنفسك ولرعيتك وجندك ألف مركب مجهز بما تحتاجون إليه، فإذا حلت النكبة، وجاء أمر الله، حملتم معكم أمتعتكم وممتلكاتكم وأقلعتم في عرض البحر، بعيداً عن الريح والحر، حتى تمر أيام النحس، ومحنة القبلي والبؤس، ثم تعودون إلى مدينتكم، وتعمرونها من جديد، وتعيدون إليها مجدها التليد. وسأله السلطان بلهفة والرجل الصالح، يا جناب الفقي، الرجل الذي قلت إنه يعمر قلبه الإيمان وليس للريح الساخنة عليه سلطان، أين هو الآن؟».

فأطرق الفقي برأسه في تواضع برهة من الوقت، ثم قال بصوت هادىء النبرات: لقد قرأنا يا مولاي في كتب السلف الصالح، وسمعنا من الأسياد وأصحاب السر الأعظم، أنه يصل إلى «جالو قبل النكبة بسبع سنين فانظر أنت بحكمتك من ذلك يكون». وفهم السلطان إشارة الفقي، وفهم أنه الرجل الصالح بلحمه ودمه، ولكنه لم يشأ أن يقول له ذلك قبل أن يختبر صحة أقواله، وقد ذهب السلطان على الفور إلى فراشه وأوصى وصيفه لكي يوقظه إذا رأى أنه بدأ يحلم بالكلب الأسود. ولكن السلطان لم يحلم بالكلب الأسود، وقد نام في ذلك اليوم ملء جفنيه ونام بقية اليوم التالي، وعندما صحا في

ماية المطاف استدعى الفقي على الفور واحتضنه بين ذراعيه وسيله بين عينيه دليل الرضاء وزوجه ابنته وأجلسه على النطع بجانبه، ثم أعلن لأهالي جالو الخبر، وطلب منهم البدء في العمل لبناء المراكب. هذا ما كان من أمر الغريب الذي دخل جالو من الباب الغربي راكباً بغلته البيضاء.

. أما الغريب الأعرج الذي يحمل جراب النوى فقد ظل ملقى في وسط الميدان حتى آخر النهار بعد أن صدمه الفقي بصدر بغلته، ثم نهض متحاملاً على نفسه وجمع النوى الذي تبعثر فوق الأرض، وبصق على أهل جالو، وانطلق يعرج إلى التلال الرملية القاحلة. وقد وصلها خلال الليل ولكنه لم يشأ أن ينام، بل شرع على الفور يحفر الرمل بأظافره ويدس النوى في الحفر، ويحمل لها الماء في كفيه من البئر. ثم حفر بئراً آخر في صباح اليوم التالي، وصنع لنفسه دلواً من جرابه وانطلق يحمل فيه الماء إلى مشاتل نخلاته التي ما تزال مجرد نوى متيبس في الرمل. وقد سمع الغريب الأعرج في ذلك اليوم بأمر السلطان، ورأى أهالي جالو من فوق تلته الرملية يجرون في كل اتجاه ويحملون ألواح الخشب وأدوات النجارة، وقطع القماش المعدة لصناعة الأشرعة ويعملون في بناء المراكب، ولكنه لم يذهب للعمل معهم مخالفاً بذلك أمر السلطان.

ووصل خبره إلى أمير الحرس الذي لم يسمع قط بأن أحداً من سكان جالو يستطيع أن يخالف أمر السلطان، وقد ركب مع مائة فارس من أفضل جنوده وانطلقوا إلى التلال الرملية القاحلة رعوا قميص الغريب الأعرج وجلدوه مائة جلدة ثم طلبوا منه أن يستعد للعودة إلى جالو لكي يعمل في مراكب السلطان ولكن الغريب الأعرج لبس قميصه وعاد يحمل الماء من البئر ويدلقه فوق مشاتل نخلاته.. وفي اليوم التالي زاره أمير الحرس مرة أخرى وجلده مائة جلدة وطلب منه أن يعود إلى جالو لكي يعمل في مراكب السلطان، ولكن الغريب الأعرج لبس قميصه وانطلق يحمل الماء

من البئر ويدلقه فوق مشاتل نخلاته. وفي اليوم الثالث زاره أمير الحرس وأمسكه من خناقه وقال له بغضب هائل: «أنا سأضطر لقتلك أيها الغريب الأعرج. ما الذي يدعوك إلى مخالفة أمر السلطان».

وقال الغريب الأعرج: «لا أريد أن أعمل في مراكب السلطان يا أمير الحرس. إنني مزارع فقط. أعني أنا لا أعرف مهنة أخرى سوى زراعة النخل يا أمير الحرس». وتبادل الجنود النظرات فيما فتح أمير الحرس ذراعيه وسأله بدهشة وما هو النخل أيها الغريب الأعرج؟». وكان الناس في جالو لا يعرفون النخل. وكانوا لم يروا نخلة في حياتهم. وكانت جالو من أقصاها إلى أقصاها لا تضم نخلة واحدة.

وأطرق الغريب الأعرج برهة ثم رفع رأسه وأغمض عينيه من وهج الشمس وقال بتردد النخل يا أمير الحرس عرائس أقراطها ياقوت وتيجانها زمرد تخرج من باطن الأرض، وترفع قاماتها

في السحاب، لكي يراها العطشان فيرتوي، والتائه فيهتدي». وضحك الجنود حتى كادوا أن يقعوا من سروجهم، وهز أمير الحرس رأسه وشرع يراقب الغريب الأعرج الذي انطلق يحمل الماء من البئر ويدلقه في الرمال، ثم أدار جواده في اتجاه «جالو» وقال لرجاله: دعونا من هذا الخنزير المعتوه. إنه مملوك من أحد

الشياطين وليس ثمة فائدة من حرق جلده بالسوط. وكان أمير الحرس قد تذكر لتوه أنه جلد ذات مرة رجلاً مملوكاً، فمات ولده في اليوم التالي.

. ومرت السنة الأولى والناس في «جالو» يعملون في بناء المراكب، ثم مرت السنة الثانية والعمل لم ينته بعد، واضطر السلطان إلى إحضار مزيد من العمال، وأهملت البساتين وعرائش العنب، وأقفل التجار حوانيتهم للعمل في مراكب السلطان. وكان الفقي يشرف بنفسه على سير العمل، وكان يشجع النجارين ويقرأ لهم آيات من سورة نوح.

ومرت السنة الثالثة ثم الرابعة، ونهضت المراكب واحدة بعد الأخرى على طول ميناء جالو، وشرع الناس يحضرون للفرجة عليها في المساء. وكان الغريب الأعرج يحضر للفرجة عليها أيضاً ولكنه لم يكن يحب أحجامها الهائلة، وكان يقضي أغلب أوقاته فوق التلال الرملية القاحلة التي لم يجد بها سوى بئر واحد. وكان يحضر منه الماء طوال الوقت في الدلو الذي صنعه من جرابه القديم ويدلقه في مشاتل نخلاته، وكانت النخلات قد بدأت ترتفع من الأرض وتنهض بقامتها الفارهة فوق التلال، ولكن أحداً من أهل جالو لم يرها لأن الناس ظلوا مشغولين بمراكب السلطان.

ومرت السنة الخامسة ثم مرت السنة السادسة ونهض مزيد المراكب في ميناء جالو، ورزق الفقي بستة أولاد من ابنة السلطان.

وفي نهاية السنة السابعة رزق الفقي بولد آخر، وحلم السلطان بالكلب الأسود ورآه يخترق آخر سور وينطلق وراءه مفقوء العينين لكي يعضه في عقبه بنابه المسموم، وقد صرخ السلطان في المنام وفتح عينيه مذعوراً واستدعى الفقي على الفور الذي أعطى إشارة بدء الرحلة. وفي المساء خرجت المراكب مسرعة من ميناء جالو، ونشرت أشرعتها في الفضاء الأزرق مثل ألف صقر أبيض الجناح، فيما وقف الغريب الأعرج يراقبها مشدوها فوق تلته الرملية. وكان قد بقي وحده في «جالو».

فليسمع الأطفال.. ليسمع الرجال الصغار الواقفون فوق كل تلة رملية قاحلة لكي يشاهدوا مراكب السلطان.

لقد جاءت الريح الحامية - كما قال الفقي، وجاست في شوارع «جالو» سبعة أيام وسبع ليال ـ كما قال الفقي ـ لم تمر على عريشة عنب أو بستان أو حديقة تفاح، إلا تركتها قاعاً صفصفاً تذروه الرياح - كما قال الفقي، ولم تمر على جدول ماء إلا نضب - كما قال الفقي - وقد نضب البحر أيضاً وانحسر عن جالو وأقعت مراكب السلطان فوق الرمال. فليسمع الأطفال. لقد هدأت الريح بعد سبعة أيام وسبع ليال - كما قال الفقي - وخربت جالو من أقصاها إلى أقصاها ثم غفر لها الله ذنوبها وخطاياها - كما قال الفقي - وعادت ترتادها القوافل وتزدحم أسواقها بالعبيد والتوابل - كما قال الفقي .. لكن السلطان لم يعد لأن المراكب لا تبحر في الرمال، ولأنك إذا أدرت ظهرك لجالو، فإن جالو ستدير لك ظهرها.