لخّصلي

خدمة تلخيص النصوص العربية أونلاين،قم بتلخيص نصوصك بضغطة واحدة من خلال هذه الخدمة

نتيجة التلخيص (100%)

من الصعب أن يُحدِّد المرء نقطة بداية لذلك النوع من النشاط الذي نُطلق عليه اسم العلم؛ إذ إن كل سلوك كان يقوم به الإنسان — منذ عهوده البدائية السحيقة — قد أسهَمَ — بغير شك — في تهذيب تفكيره وصقله على نحوٍ يُساعد على ظهور العلم في مرحلة لاحقة، ومثل هذه الظواهر البشرية لا تَنطوي على مفاجآت أو على انبثاق مباغت بلا تمهيد، بل إن كل شيء فيها يتدرج ببطء شديد في البداية، ثم تَتسارع خُطاه حين يتم الاهتداء إلى الطريق الصحيح. وهكذا فإن مما لا شك فيه أن التجارب الشديدة البطء — التي مرَّت بها الإنسانية في عصورها البدائية — قد أكسبتها خبراتٍ أدى تراكُمها في المدى الطويل إلى ظهور البوادر الأولى للتفكير العلمي، ولكن لما كانت هذه العصور البدائية تُمثِّل مرحلة «ما قبل التاريخ»، فلن نستطيع — في مثل هذا العرض الموجز — أن نتخذ نقطة بدايتنا منها، أعني من تلك الحضارات القديمة التي ترَكت لنا وثائق تُعيننا على معرفة تاريخها، سواء اتَّخذت هذه الوثائق شكل كتابات مدوَّنة أو آثار مادية تُتيح للمرء أن يَستنتِج منها نوع الحياة ونوع الفِكر السائدَين لديها. وكما نَعلم فإن أقدم الحضارات الإنسانية قد ظهرت في الشرق؛ ففي هذه المنطقة من العالم التي نَعيش فيها الآن، ظهرت منذ عدة آلاف من السنين حضارات مُزدهِرة في أودية الأنهار الكبرى كالنِّيل والفرات، وإلى الشرق منها في أنهار الهند والصين، وتدلُّ الآثار التي خلَّفتها هذه الحضارات المجيدة على أنها كانت حضارات ناضِجة كل النُّضج بالقياس إلى عصرها؛ ومن ثم فقد كان من الضروري أن تَرتكِز في نهضتها على أساس من العلم. وإذا كانت هذه الحضارات الشرقية القديمة تَبعُد عنا في الزمان بما يَتراوح بين سبعة وخمسة آلاف سنة؛ فقد ظهرت في العصر القديم أيضًا — ولكن في وقت أقرب إلينا بكثير من ذلك العصر — حضارة أخرى عظيمة هي الحضارة اليونانية القديمة، التي يَرجع تاريخها إلى ما يقرب من ألفَين وخمسمائة عام، وهي بدورها حضارة كان من مظاهر ازدهارها وجود علم ناضج. وهنا نجد أنفسنا إزاء السؤال الذي تُثيره هذه المرحلة القديمة في تاريخ العلم، وأعني به: إذا كان من المحتَّم علينا أن نبدأ هذا التاريخ بمرحلة الحضارات القديمة، التي بقيت لدينا منها وثائق تُعيننا على فهمها، فهل نتخذ نقطة بدايتنا من الحضارات الشرقية أم من الحضارة اليونانية الأحدث منها عهدًا؟ وهل ظهرت الأصول الأولى للعلم في الشرق أم أن ما ظهر هناك كان بوادر أولى لا تَستحِق أن تُعَدَّ بداية حقيقية للعلم الذي لم تظهر معالِمُه الحقيقية إلا فيما بعد عند قدماء الإغريق؟
هذا السؤال هو — في واقع الأمر — المِحوَر الذي ينبغي أن تدور حوله مناقشتنا لتلك المرحلة الأولى في طريق العلم، وسوف نبدأ كلامنا بالإجابة التقليدية عن هذا السؤال، أعني تلك التي نجدها في معظم مراجع تاريخ العلم، ففي الحضارات الشرقية القديمة تراكمت حصيلة ضخمة من المعارف ساعدت الإنسان في هذه الحضارات على تحقيق إنجازات كبرى، ما زالت آثارها تَشهَد بعظمتها حتى اليوم، ربما كانت راجعة في أصلها إلى أقدم العصور البدائية للإنسان، وقد ظلَّت تُورَث جيلًا بعد جيل، ذلك لأن هذه الشعوب التي عاشت في الشرق القديم كانت بارعة في الاستخدام «العلمي» للمعارف الموروثة، ولكنها لم تكن تَملِك نفس القدر من البراعة في التحليل العقلي «النظري» لهذه المعارف، كانت لدَيها خبرات تُتيح لها أن تُحقِّق إنجازات عملية هائلة ولكنها لم تتوصَّل إلى النظريات الكامنة وراء هذه الخبرات، أما الحضارة التي توصَّلت إلى هذه المعرفة «النظرية»، والتي توافرت للإنسان فيها القدرة التحليلية التي تُتيح له كشف «المبدأ العام» من وراء كل تطبيق عمَلي، وهكذا يمكن تشبيه العلاقة بين حضارات الشرق القديم والحضارة اليونانية — فيما يتعلَّق بنشأة العلم — بالعلاقة بين المقاول والمهندس؛ فالمقاول هو — في معظم الأحيان — شخص اكتسب قدرًا هائلًا من الخِبرات العمَلية، سواء عن طريق التلقين أو الممارسة، ولولا القوانين التي تسنُّها الدول في عصرنا الحديث لكان في استطاعة معظم المُقاوِلين أن يُشيِّدوا أبنية سليمة تؤدِّي كل الأغراض التي نَتوقَّعُها من البناء، أما المهندس فهو — إلى جانب إلمامه ببعض الخِبرات العملية — يمتلك «العلم النظري» الذي يُتيح له معرفة «أسس» عملية البناء، ويُمكِّنه من التصرُّف بحرية والخروج عن القواعد المألوفة في حالة وقوع أي طارئ. ولو قارنَّا بين المقاول والمهندس من حيث النتائج العمَلية للجهد الذي يقومان به، لأن كلًّا منهما يستطيع — في الغالب — أن يُشيِّد بناءً متماسكًا متينًا. أما الاختلاف بينهما فهو في نوع المعرفة التي يعمل وفقها كلٌّ منهما، وهل هي معرفة تطبيقية مستمدة من خبرات متراكمة، أم معرفة نظرية تَعتمد على التحليل والبراهين المُقنِعة للعقل؟
وهناك مثل مشهور يُضْرَب في معظم المراجع التي تتناول هذا الموضوع لتوضيح الفارق بين هاتين الحضارتين في هذا الصدد؛ فقد اهتدى المصريُّون القدماء بالخِبرة إلى أن مجموع المربَّعَين المُقامَين على ضلعَي المثلث القائم الزاوية يُساوي المربع المقام على وتر هذا المثلث، وكانوا يستخدمون هذه الحقيقة بطريقة عمَلية في أعمال البناء؛ فعندما كانوا يُريدون التأكد من أن الجدار الذي يَبنونه عمودي على سطح الأرض، كانوا يَصنعون مثلثًا أبعاده ٣ و٤ و٥ أو مضاعفاتها؛ حتى يضمنوا أن هذا المثلث سيكون قائم الزاوية، ومن ثم يكون الجدار عموديًّا بحق (لأن مربع ٣ هو ٩، وقد ظلت هذه الحقيقة تُستخدَم عندهم بطريقة عملية تطبيقية، دون أن يُحاولوا إثباتها بالدليل العقلي المُقنع. بل إن الرغبة في إيجاد مثل هذا الدليل لم تتملَّكهم على الإطلاق؛ لأن كل ما يهدفون إليه هو الوصول إلى نتيجة عملية ناجحة، وهذه النتيجة الناجحة تتحقَّق بتطبيق القاعدة فحسب، ولن يزيدها الاهتداء إلى الدليل العقلي نجاحًا. وهو سعي إلى القاعدة النظرية، وليس اكتفاءً بتحقيق أهداف عمَلية؛ ولذلك فإن العلم لم يظهر — للمرة الأولى — إلا عند اليونانيين القدماء الذين كان يتملَّكهم حافز آخر — يُضاف إلى حافز الإنجاز العملي — هو الرغبة في الاقتناع، ولم تكن عقولهم تهدأ إلا حين تَهتدي إلى الدليل القاطع والبرهان المُقنِع. هذه باختصار هي الصور التقليدية التي كان مؤرِّخو العلم يُصوِّرون بها العلاقة بين الحضارات الشرقية القديمة والحضارة اليونانية في موضوع نشأة العلم، ونودُّ أن نبدي على هذه الصورة بضع ملاحظات نَعتقد أنها على جانب كبير من الأهمية:
فهذه الصورة لا تَخلو من التحيز الحضاري؛ إذ إن الأوروبيِّين المحدثين هم أحفاد الحضارة اليونانية، على حين أن الحضارات الشرقية القديمة لا تمتُّ إليهم بصلة، ومِن هنا فقد دأب المؤرِّخون الأوروبيون — وخاصةً في عصر اشتداد الرُّوح القومية خلال القرن التاسع عشر — على تمجيد الحضارة اليونانية — حضارة الأجداد — وتحدَّثوا طويلًا عن «المعجزة اليونانية»؛ أي عن ذلك الإنجاز الهائل الذي حقَّقه اليونانيون فجأة دون أية مُقدِّمات تذكر، ودون أن يكونوا مَدِينين لأي شعب سابق، وعن ذلك الوليد الذي ظهر إلى الوجود يافعًا هائل القوة … وكلها تعبيرات لا يُمكن أن تخلو من عنصر التحيُّز، لا سيما وأن أحفاد الحضارات الشرقية القديمة كانوا هم الشعوب الواقعة تحت قبضة الاستعمار الأوروبي في ذلك الحين، وكانوا يُعامَلون على أنهم شعوب «من الدرجة الثانية»؛ ومن ثم كان من الطبيعي أن تكون الحضارات التي انحدَرُوا منها حضارات «من الدرجة الثانية» أيضًا. وتَفترض هذه الصورة التقليدية الشائعة انفصالًا تامًّا بين ميدان الخبرة العملية وميدان البحث العِلمي النظري، فهي ترتكز على الاعتقاد بأن شعبًا مُعيَّنًا يستطيع أن يكدس خبرات موروثة لمدة آلاف السنين ويُحقِّق بواسطتها إنجازات هائلة — كالهرم الأكبر مثلًا — دون أن يكون قد توصَّل خلال ذلك إلى النظريات العِلمية التي تُكوِّن أساسًا لهذه الخبرات، ومثل هذا الاعتقاد يَنطوي على مبالغة في الفصل بين الجوانب العمَلية والجوانب النظرية للمعرفة، وهو فصلٌ لا تُبرره تجربة البشرية ذاتها في مختلف العصور؛ فعندما تتراكم لدى مجتمع معين خبرات عمَلية طويلة، يكون من الطبيعي أن تقودَه هذه الخبرات ذاتها إلى بعض النظريات العِلمية على الأقل، وليست النظرية ذاتها إلا حصيلة لتطبيقات عديدة؛ فالعلاقة بين النظرية والتطبيق علاقة مُتبادَلة، بحيث إنَّ الممارسة العملية تمهِّد الطريق إلى كشف النظرية العلمية، كما أن الوصول إلى النظرية يفتح الباب أمام كشفِ تطبيقات جديدة مُثمِرة. أما القول بأن هناك شعبًا لم يَعرف طوال تاريخه إلا تطبيقات وخبرات عَملية وشعبًا آخر توصَّلَ لأول وهلة — ومن تلقاء ذاته — إلى الأسس النظرية للعلم، فإنه زعم يَتنافى مع التجارب الفعلية للبشرية، على أن هذه الصورة التقليدية قد أخذت تتغيَّر ملامحها بالتدريج، فقد أحرز العلم التاريخي — في ميدان الحضارات القديمة — تقدمًا هائلًا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وفي كل كشف جديد كان العلماء يُلقون مزيدًا من الضوء على حياة القدماء وفكرهم، حتى أصبحنا نعرف اليوم عن هؤلاء القدماء أكثر مما كانت الإنسانية تعرف عنهم في عهود قريبة منهم — من الناحية الزمنية — كل القرب، وكانت كل هذه الكشوف الجديدة في الميدان التاريخي تُشير إلى حقيقة واحدة؛ هي أنَّ التضادَّ بين الحضارة اليونانية والحضارات الشرقية القديمة ليس بالحدة التي كان يُصوَّر بها، وأن عوامل الاتصال بين اليونانيين والشرقيين القدماء كانت أقوى مما كنا نتصوَّر، وكان كلُّ كشفٍ تاريخي جديد يؤكِّد — بشكل مُتزايد — أن اليونانيِّين كانوا مَدِينين بالكثير للسابقين عليهم من الشرقيِّين، لا سيما وأن الاتصالات بين هاتين المنطقتَين لم تنقطع لحظة واحدة، سواء أكانت اتصالات سلمية عن طريق التجارة وتبادُل الخبرات والسِّلَع، أو اتصالات حربية في المعارك التي لم تتوقَّف بين اليونانيين وبين الشعوب الشرقية. o (ب)
أدرك الباحثون أنَّ الكلام عن «معجزة» يونانية ليس من العلم في شيء؛ فالقول إن اليونانيِّين قد أبدعوا فجأة — ودون سوابق أو مؤثِّرات خارجية — حضارة عبقرية في مختلف الميادين — ومنها العلم — هو قول يَتنافى مع المبادئ العلمية التي تُؤكِّد اتصال الحضارات وتأثير بعضها في بعض. وعلى حين أن لفظ «المعجزة» يبدو في ظاهره تفسيرًا لظاهرة الانبثاق المفاجئ للحضارة اليونانية، فإنه في واقع الأمر ليس تفسيرًا لأي شيء، بل إنه تعبير غير مُباشِر عن العجز عن التفسير؛ فحين نقول: إنَّ ظُهور العلم اليوناني كان جزءًا من «المعجزة اليونانية» يكون المعنى الحقيقي لقولنا هذا هو أننا لا نَعرف كيف نُفسِّر ظهور العلم اليوناني. ولا جدال في أن المكان الذي ظهرت فيه أولى المدارس الفلسفية والعلمية اليونانية، هو في ذاته دليل على الاتصال الوثيق بين الحضارة اليونانية والحَضارات الشرقية السابقة؛ فلم تظهر المدرسة الفكرية الأولى في أرض اليونان ذاتها، وإنما ظهَرت في مُستوطَنة «أيونية» التي أقامها اليونانيون على ساحل آسيا الصغرى (تُركيا الحالية)؛ أي في أقرب أرض ناطقة باليونانية إلى بلاد الشرق ذوات الحضارات الأقدم عهدًا، وهذا أمر طبيعي لأنَّ من المحال أن تكون هذه المجموعة من الشعوب الشرقية قريبة من اليونانيِّين إلى هذا الحد، وأن تتبادل معها التجارة على نطاقٍ واسع، وتدخل معها أحيانًا أخرى في حروب طويلة، o (جـ)
اقتنع العلماء بأن من المُستحيل تجاهُل شهادة اليونانيين القدماء أنفسهم، فقد شهد فيلسوفهم الأكبر «أفلاطون» — الذي كان في الوقت ذاته عالِمًا رياضيًّا — بفضل الحضارة الفرعَونية على العلم والفكر اليوناني، وأكَّد أن اليونانيين إنما هم «أطفال» بالقياس إلى تلك الحضارة القديمة العظيمة. وهناك روايات تاريخية كثيرة تحكي عن اتصال كبار فلاسفة اليونانيين وعلمائهم — ومنهم أفلاطون ذاته — بالمصريِّين القدماء وسفرهم إلى مصر وإقامتهم فيها طويلًا لتلقِّي العلم. والمشكلة الكبرى في هذا الصدد هي أن الأدلة المباشرة على هذا الاتصال العلمي قد فُقِدَت؛ فعلى حين أن كثيرًا من الإنجازات العلمية اليونانية قد ظلت باقية، ومعظم ما نَعرفه عنه غير مباشر؛ أي من خلال التطبيقات العمَلية لهذا العلم كما تتمثَّل في الآثار الباقية من هذه الحضارات، ومن الأسباب التي يُعلِّل بها البعض ضياع العلم الشرقي القديم أن الفئة التي كانت تُمارسه كانت فئة الكهنة التي حرصت على أن تحتفظ بمعلوماتها العِلمية سرًّا دفينًا، تَتناقله هذه الفئة جيلًا بعد جيل، دون أن تبوح به إلى غيرها، حتى تظلَّ محتفظة لنفسها بالقوة والنفوذ والمهابة التي تُولِّدها المعرفة العلمية، وحتى تُضفي على نفسها — وعلى الآلهة التي تخدمها — هالةً من القداسة أمام عامة الناس الذين لا يعرفون عن العلم شيئًا، وفضلًا عن ذلك فهناك كوارث طبيعية وحروب كثيرة وحرائق مُتعمَّدة أو غير مُتعمَّدة؛ أدَّت بدورها إلى ضياع ما يمكن أن يكون قد دُوِّن من هذا العلم في كتب. ونتيجةُ هذا كله هي أن معلوماتنا عن الأصول النظرية للعلم القديم تكاد تكون مُنعدمة، على حين أن معظم ما أنجزه اليونانيون ظلَّ باقيًا، مما ساعد على نسبة الفضل الأكبر في بدء ظهور العلم إلى اليونانيين، وجعَل من المستحيل إجراء مقارنة بين العلم اليوناني والعلم الشرقي القديم، أو تبيان مقدار ما يدين به اليونانيون في علومهم للحضارات الكبرى التي سبقتهم. تلك هي الملاحظات التي نود أن نُعلق بها على التصوُّر التقليدي الشائع للعلاقة بين العلم اليوناني وعلوم الحضارات الشرقية، وربما كان مُرتكِزًا على أسس غير علمية، ولكنَّ الصعوبة الكبرى التي تجعل من العسير رفضه كلية هي — كما قلنا — النقص الشديد في معلوماتنا عن الأصول النظرية للعلوم التي تَوصَّل إليها الشرقيون القدماء؛ ولذا لا يجد الباحثون في هذا الموضوع مفرًّا من الاحتفاظ بقدر من هذه الصورة، وعلى أية حال، فإن نفس هذه الدوافع العمَلية التي تُنْسَب إلى الشرقيين القدماء، هي التي يُمكن أن تكون قد أدَّت إلى ظهور بدايات العلم النظري لديهم؛ فهناك ارتباط وثيق بين عملية البناء — بناء المساكن أو القصور أو المعابد — وبين ظهور علم الهندسة؛ إذ إنَّ مِن الضروريِّ حساب مساحة البناء من أجل مَعرفة كمية المواد اللازمة لبنائه وعدد العُمال اللازمين لإنجازه، كما أن قوالب الحجارة لن تتلاصَق إلا إذا كانت مستقيمة، ولا بد أن تكون جدران البناء كلها قائمة الزوايا لضمان سلامته. ومن ناحية أخرى، فقد كانت شعوب معظم الحضارات الشرقية القديمة شعوبًا زراعية؛ لأن هذه الحضارات ظهَرت — كما قلنا — على ضفاف أنهار كبرى، وكانت عملية الزراعة تتطلَّب — من أجل نجاحها — معلومات فلَكية كثيرة؛ إذ إنَّ من الضروري حساب المواسم الزراعية حتى يُمكن زرع المحصول في الوقت المناسب، ولا بدَّ من توقيتٍ دقيق لعمليات وضع البذور وري الأرض وجني المحصول … إلخ، فضلًا عن ضرورة حساب مواعيد فيضان النهر والتغيُّر في حالة الطقس. وهكذا كان من الضروري أن تعرف هذه الحضارات حساب الفصول والسنين، وكانت أدق التقويمات الفلَكية هي التي عرفتها حضارات زراعية عريقة كالحضارة المصرية القديمة وحضارة بلاد ما بين النهرين. وكان من العوامل الأخرى التي أدَّت إلى تقدم علم الفلك في هذه الحضارات أن كثيرًا من شعوبها كانت تمارس التجارة، وتحتاج إلى الملاحة البحرية على نطاق واسع؛ وأخيرًا، فقد كان للمعتقدات والأديان الشعبية تأثير هام في نمو معارف علمية كثيرة، وحسبنا أن نذكر في هذا الصدد أهمية العقيدة الدِّينية عند الفراعنة في عمليات البناء الهائلة — التي تحقَّقت تلبية لمطالب دينية — كالأهرامات والمعابد الضخمة، وكذلك الحاجة إلى تخليد الإنسان، والرغبة في قهر الإحساس بفنائه التي حفَّزتهم إلى اكتساب المقدرة الخارقة على التحنيط، والإيمان بالتنجيم ومعرفة الطالع من التطلُّع إلى النجوم، الذي أعطى بعض الناس — في تلك المرحلة القديمة — طاقة هائلة من الصبر أتاحت لهم أن يقوموا بملاحظات وعمليات رصد مرهقة، أضافَت إلى رصيد البشرية في ميدان الفلك معلوماتٍ لها قيمة لا تُقَدَّر. ولنذكر في هذا الصدد أن الارتباط بين التنجيم وعلم الفلك قد ظلَّ قائمًا في أوروبا ذاتها حتى مطلع العصر الحديث، وأن كبار علماء الفلك حتى القرن السابع عشر كانوا مُنجِّمِين في الوقت ذاته، ولم يكونوا يجدون أي تعارض بين الملاحظة الفلَكية المتأنية الدقيقة وبين البحث عن طالعِ حاكم، أو التنبؤ بنتيجة معركة حربية وشيكة الحدوث من خلال النجوم. في كل هذه الحالات كانت هناك مُقتضيات عملية حتَّمت على الحضارات الشرقية القديمة البحث في علوم معيَّنة، وما دامت هذه الحضارات قد نجَحت في تحقيق تلك المقتضيات العملية نجاحًا رائعًا، فلا بد أن نَستنتِج أن حصيلتها العِلمية في هذه الميادين لم تكن ضئيلة. وإنه لمن الصَّعب أن يتصور المرء أن أولئك العباقرة الذين بنَوا الأهرامات بتلك الدقة المُذهلة في الحساب، بحيث لم يخطئوا إلا بمقدار بوصة واحدة في محيط قاعدة الهرم الأكبر البالغ قدمًا، لا يستحقُّون اسم «العلماء»، وأنهم لم يكونوا إلا أصحاب تجارب موروثة، شكَّلت مجموعة من القواعد والخبرات العملية التي استعانوا بها في تحقيق هذه الإنجازات. ومِن الظلم أن نأبى اسم «العلم» على تلك المعلومات الفلَكية الرائعة التي توصل إليها هؤلاء القدماء، وعلى الكشوف الرياضية الهامة التي كانت ضرورية من أجل إجراء الحسابات الفلَكية وغيرها من الأغراض. ومن قِصَر النظر أن نتصوَّر أن تلك المعلومات الكيميائية العظيمة — التي أتاحَت للمصريين القدماء أن يَصبِغوا أنسجة ملابسهم وحوائط مبانيهم بألوان ما يَزال بعضها زاهيًا حتى اليوم، أو التي مكَّنتهم من تحنيط جُثَث ظلَّت سليمة لمدة تقرب من الأربعة آلاف عام — لا تَستحِق اسم «العلم التجريبي»، وقل مثل هذا عن مجالات كثيرة لا بد أن هذه الحضارات قد جمعت فيها بين الخبرة العمَلية والمعلومات النظرية، وإذن، فلم تكن نشأة العلم يونانية خالصة، ولم يبدأ اليونانيون في استكشاف ميادين العلم من فراغٍ كامل، بل إن الأرض كانت ممهَّدة لهم في بلاد الشرق التي كانت تجمعهم بها صلات تجارية وحربية وثقافية، والتي كانت أقرب البلاد جغرافيًّا إليهم، وإذا كانت الحلقة المباشرة — فيما يتعلق بانتقال العلوم الأساسية من البلاد الشرقية إلى اليونانيِّين — هي حلقة مفقودة، فإن المنطق والتاريخ والكشوف المُتتابعة تؤكِّد لنا أنها لا بد كانت موجودة. على أن هذا لا يعني على الإطلاق أننا نُنكر فضل اليونانيين في ظهور العلم. والحق أن الاعتقاد بضرورة وجود أصل واحد للمعرفة العلمية وتصوُّر واحد يرجع إليه الفضل في ظهورها ربما كان عادة أوروبية سيئة يَنبغي التخلُّص منها؛ أو أنهم لم يأتوا في ميدان العلم بجديد، أو جانب معين من جوانبه، مع اعترافنا بأن لكلٍّ من هذه الأصول — في ميدانه الخاص — فضلًا يستحيل إنكاره. ذلك لأن الاعتقاد بأن للعلم أصلًا واحدًا، يفترض أنه كان هناك شيء محدَّد المَعالم اسمه «العلم» ظهر منذ أقدم الحضارات الإنسانية، وهذا افتراض لا يقوم على أساس؛ إذ إن معنى العلم نفسه قد استغرق وقتًا طويلًا جدًّا كيما يتبلور. وربما كان عمر «العلم» — بمفهومنا الحالي لهذا اللفظ — لا يزيد على أربعمائة سنة، ولكن هذا لا يعني أن كل ما سبق ذلك لم يكن «عِلمًا»، ويحذف منه عناصر أخرى؛ فلقد كان من الطبيعي أن يختلط العلم — في مراحله الأولى — بعناصر غريبة عنه كالأساطير والشِّعر والعقائد القديمة والرغبات والأماني البشرية، وعلى رأسها رغبة الإنسان في أن يَعيش في عالم يتَّسم بالنظام والجمال ويكون مُتعاطفًا معه. ولم يكن من المُمكِن في تلك العهود القديمة أن يضع العقل البشري حدًّا فاصلًا بين ما هو عِلم وما ليس بعلم. بل إن كل هذه العناصر كانت تَمتزج في وحدة واحدة يستحيل التمييز فيها بين ما هو أصلي وما هو دخيل، وفي كل مرحلة جديدة من مراحل تقدم العلم كانت البشرية تتوصَّل إلى بعض العناصر الغريبة التي تُشوِّه بناء العلم فتَستبعِدها، وتُضيف عناصر أخرى كانت مفقودةً في المراحل السابقة. وليَتذكَّر القارئ ما قُلناه في مُستهلِّ هذا الفصل من أن العرض الذي سنُقدِّمه لمراحل تطور العلم هو ذاته عرض لتطوُّر «معنى» العلم، فإذا لم يكن العلم قد تحدَّدت معالمُه، وإذا لم يكن شكلًا من أشكال النشاط العقلي الإنساني — خلال تاريخه الطويل — فلن يكون من حقنا عندئذ أن نقول: إنَّ حضارة معينة هي التي يرجع إليها الفضل في ظهور العلم، بل إن كل ما يمكننا أن نقوله هو أن هذه الحضارة يرجع إليها الفضل في إضافة عنصر هام إلى مفهوم العلم، واستبعاد عناصر ضارة من هذا المفهوم. فإذا كان هذا هو الوضع الصحيح للمسألة فلن يكون هناك ما يحول دون نسبة الفضل في ظهور العلم إلى عدة حضارات متلاحِقة، أدى كلٌّ منها دوره في تشكيل معنى العلم خلال مراحل التاريخ. فما الذي أضافه اليونانيُّون إذن إلى العلم؟ وما هي العناصر التي كانت متداخلة فيه من قبل، والتي أدركوا أن من الواجب تحريرَ العلم وتخليصَه منها؟
لو نظرنا إلى الإنجازات العملية التي حققها اليونانيون وإلى الآثار المادية التي خلَّفوها، لما وجدناها تمتاز كثيرًا عن تلك التي تركتها لنا الحضارات الشرقية الأقدم منهم عهدًا؛ ولكن أعظم إنجازاتهم كانت في الناحية النظرية؛ أي في المعارف العِلمية بمعناها «العقلي» البحت؛ فقد كانت لدى اليونانيِّين قدرة هائلة على التعميم، جعلتهم لا يهتمُّون بالأمثلة الجزئية لأيَّة ظاهرة، أو على قانونها العام؛ فهم — على سبيل المثال — لا يَبحثُون في خصائص ذلك المربع الذي يُكوِّنه سقف بيت معيَّن أو حقل مزروع، أي المربع في ذاته، بغضِّ النظر عن الجزئيات التي يتحقَّق فيها، بل حتى ولو لم يكن مُتحقِّقًا في الواقع على الإطلاق. وهكذا توصَّل اليونانيون إلى سِمة عظيمة الأهمية من سمات العلم هي «العمومية والشمول»، وقد عبَّر أرسطو عن هذه السمة بوضوح في عبارته المشهورة: «لا علم إلا بما هو عام»، ولا شك في أن هذه السمة لا زالت ملازمة للعلم حتى يومنا هذا، وإن كنا نَقبلها اليوم بتحفُّظات معيَّنة لا يتسع المجال هنا للحديث عنها. فمنذ العصر اليوناني أصبحنا نُدرك أن العلم لا يتعلق بدراسة حالات فردية لذاتها، وإنما ينبغي أن نجعل هذه الحالات وسيلة للانتقال إلى كشف الخصائص العامة «للنوع» بأكمله، أو للاهتداء إلى «القانون» الشامل الذي يَسري على كل الأفراد. وعلى حين أن هذه السِّمة تبدو اليوم في نظرنا أمرًا مألوفًا، فإنها قد احتاجت إلى وقت طويل حتى استقرَّت دعائمها عند مفكري اليونان وعلمائهم، الذين أصرُّوا عليها في كل ما كتبوا، وإذا كان العلم يتَّصف بالعمومية، ويبحث في قوانين الأشياء لا في حالاتها الفردية، فإنه بطبيعته يتسم ﺑ «التجريد» وهي سمة أخرى تفوَّق فيها اليونانيون إلى أقصى حد، وتمكَّنوا من جعلها جزءًا لا يتجزأ من خصائص العلم منذ ذلك الحين. والحقُّ أن اليونانيين كانوا من أقدر شعوب الأرض على التعمُّق في المجرَّدات والبحث فيها بلا كلل، ولن نستطيع أن نُدرك فضلهم في هذا الصدد إلا إذا تذكَّرنا أن الجانب الأكبر من البشر ما زالوا حتى اليوم يجدون عناءً كبيرًا في التفكير في الأمور المجرَّدة مدة طويلة؛ لأنه يتعامل مع أفكار مجرَّدة، ولا يتعامل مع أشياء ملموسة أو أشخاص محسوسين كما هي الحال في الرِّوايات الأوروبية والمسرحيات الفنية. كذلك يجد الكثيرون حتى اليوم صعوبة في التعامل مع الأرقام، بل إن عددًا كبيرًا من الناس يأبَون قراءة الكتاب إذا تصفَّحُوه فوجدوا فيه أرقامًا كثيرة، وما زالت دروس الرياضة تُكوِّن عُقدة في نفوس الكثيرين ممن يعتقدون — عن خطأ في الغالب — أن عقولهم لم تُخْلَق لهذا النوع من العلوم؛ فالتفكير المجرد يحتاج إلى جهد وعناء يَصعُب على كثير من الناس بذله حتى في عصرنا الحاضر، ولكن اليونانيِّين كانت لديهم — منذ ألفين وخمسمائة عام — قدرة خارقة على التعامل مع المجرَّدات بلا كلل. لذلك كانت أعظم الإنجازات العقلية التي توصَّل إليها اليونانيون هي تلك التي تمت في ميدان الفلسفة والرياضيات. والواقع أنَّ الحدَّ الفاصل بين الفكر الفلسفي والعلم الرياضي قد أزيل عند معظم الفلاسفة اليونانيِّين، بحيث كانوا ينظرون إلى الرياضة على أنها مرحلة من مراحل التفلسُف، أو على أنها تدريب أو «ترويض» للذهن يُهيِّئه للتعمُّق في الفلسفة. بل إن مفهوم العلم ومفهوم الفلسفة كانا متداخلَين ومُتشابكَين عندهم إلى أبعد حد، فلم يكن هناك نشاطٌ واعٍ مُستقلٌّ اسمه «العلم»، ويُنتج ما نُسمِّيه نحن فلسفة أو علمًا، تبعًا لنوع الميدان الذي يتَّجه إليه، ولكنه كان عند اليونانيين «معرفة» أو «حبًّا للحكمة» فحسب. ولما كان هدف هذه المعرفة أو الحكمة اليونانية هو معرفة ما هو عام، والوصول إلى القوانين المجرَّدة للأشياء، فقد كان من الطبيعي أن يكون العلم اليوناني علمًا «نظريًّا» قبل كل شيء، وتلك في الحق هي الميزة الكُبرى التي يَنسِبها مؤرِّخو الفكر الغربيون إلى الحضارة اليونانية، ويَرون فيها الحد الفاصل بين الفكر اليوناني وكل تفكير سابق له؛ فعلى حين يُفترض أن الاعتبارات العمَلية وحدها هي التي كانت تُحرِّك الحضارات السابقة إلى جمع المعلومات العِلمية، فإن اليونانيِّين بحثوا عن العلم من أجل العلم فحسب، ولإرضاء نزوع العقل إلى المعرفة، دون أن يكون لهم من وراء ذلك هدفٌ عملي، ولقد كان تفوُّقهم في المعارف العقلية الخالِصة — كالفلسفة والرياضيات — أكبر شاهد على ذلك، وكانت قدرتُهم الفائقة على التجريد هي التي أتاحَت لهم أن يَستكشِفوا أبعد الآفاق في هذَين الميدانين. ولكي يقتنع العقل — على المستوى النظري — فلا بد له من الوصول إلى «الأدلة» و«البراهين» القاطعة. ولقد كان هذا البحث عن «البرهان» مطلبًا أساسيًّا في الفكر اليوناني، فلم يكن هذا الفكر يَقبل أية قضية ما لم يَقتنع بها عن طريق دليل يفرض نفسه على العقل فرضًا، ولم يكن يَكتفي بالنتائج النافعة أو السلوك العمَلي الناجح، بل كان يبحث دائمًا عن «الأسباب». ولكي نُدرك الفارق بين وجهتَي النظر هاتين، نُقارن بين الفلاح المدرب وعالم الزراعة؛ معظمها مجرَّب أو موروث، تؤدي به إلى أن يَجني محصولًا ناجحًا، ولكنه لا يُحاول أن يتساءل: «لماذا» يؤدِّي اتباع هذه الأساليب إلى زيادة المحصول؟ بل ربما رأى ذلك سؤالًا عقيمًا، ما دامت النتيجة المطلوبة — وهي المحصول الوفير — قد تحقَّقت، أما العالِم الزراعي فإنَّ هدفه الأول هو البحث عن «السبب»، بل ليسَتْ هي الهدف المطلوب، وإنما الهدف الحقيقي هو «معرفة الأسباب»، ومن أجلِ سَعيه إلى هذا الهدف كان عالِمًا. ولو تأمَّلنا مراحل حياة الفرد لوجدنا أن مرحلة الوعي الفكري عنده مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بهذا البحث عن الأسباب؛ فالسؤال «لماذا» هو الخطوة الأساسية في طريق اكتساب المعرفة خلال حياة كل إنسان. وإنا لنَجدُ الطفل في السنوات الأولى لحياته يستجيب لدوافعه وحاجاته المباشرة دون محاولة للبحث عن سبب أي شيء، ولكنه في المرحلة التي يبدأ فيها وعيه في التفتح، والتي يودُّ فيها أن «يَعرف» نفسه والعالم المحيط به، يظلُّ يُردِّد السؤال «لماذا» بلا انقطاع، وقد يصل في ترديده إلى حدِّ الإملال، كما أنه قد يسأل عن أسباب أشياء لا تحتاج إلى تعليل، ومثل هذا يقال عن الإنسانية كلها؛ فعندما تتخطَّى مرحلة الفعل ورد الفعل المباشر، ومرحلة الاستجابة للحاجات الأولية، وتبدأ مرحلة الوعي بالعالم ومحاولة تفسيره عقليًّا؛ تكون علامة نُضجها هي أنها لا تأخذ الظواهر على ما هي عليه، ولا تكتفي باستخدامها لتحقيق أهدافها العملية، وإنما تبحث — قبل كل شيء — عن أسبابها؛ ولهذا السبب بعينِه كانت الحَضارة اليونانية تُعَد — في نظر كثير من المؤرِّخين — نقطة البداية الحقيقية للعلم. ولنَعُد — في هذا الصدد — إلى ذلك المثل المشهور الذي ضربناه من قبل، والذي يَرِد ذكره في معظم الكتب التي تُعالج هذا الموضوع، وهو مثل المثلث القائم الزاوية؛ ولكن اليونانيِّين لم يُقنعهم مثل هذا الاستخدام العملي، بل كان سعيُهم يتجه إلى «البرهنة» (أي تقديم الأسباب في صورة مُتسلسلة منطقيًّا ومُقنعة للذهن) على الخصائص المعروفة لهذا المثلَّث، وهي أن مربع الوتر يُساوي مجموع مربَّعي الضِّلعين الآخرين، وكان هذا السعي إلى إيجاد «البرهان» والتوصُّل إلى «الأسباب» العقلية هو الذي جعل الهندسة عند اليونانيين تُصبح علمًا، على حين أنها كانت قبل ذلك فنًّا يُكتسَب بالخبرة والممارسة فحسب. هذه النظرية الهندسية الخاصة بالمثلث القائم الزاوية تُنْسَب إلى الرياضي والفيلسوف اليوناني المشهور فيثاغورس، على أن قيمة فيثاغورس هذا — الذي يُمكن اتخاذه نموذجًا لما وصَلت إليه الرُّوح العِلمية عند اليونانيِّين — لا تقتصر على هذه النظرية المعروفة، بل لقد انتقل في مجال آخر من حقيقة مُشاهَدة بسيطة إلى تقديم نظرية كاملة عن العالم، كان لها تأثيرُها الأكبر في العصور اللاحقة، وإن كان هذا الجانب من تفكيره أقلَّ شُهرة من نظريته الهندسية المعروفة؛ فقد أدرك فيثاغورس وجود علاقة بين النَّغمة الصوتية وطول الوتر الذي تَصدُر عنه النغمة عندما يتذبذب، وهذا هو المبدأ الذي يسير عليه الموسيقيُّون عندما تسير أصابع يَدِهم اليسرى جيئةً وذهابًا على الأوتار في الآلات الوترية لكي تجعل للوتر — تبعًا لموضع الإصبع — طولًا معينًا، هو الذي يُحدِّد النغمة التي تَصدُر عنه. هذه الحقيقة البسيطة لم تكن كافية لاستخلاص نتائج ذات أهمية كبيرة، بل إنَّ الأهم منها هو أن هذه العلاقة بين النغمة الصوتية وطول الوتر يُمكن التعبير عنها بنِسَب رياضية معيَّنة؛ فإذا قصَّرتَ الوتر إلى نصفِه تَصدُر نغمة «الجواب» (أي الصوت الثامن في السلَّم الموسيقي)، وإذا قسَّمت الوتر بنسبة ٢ / ٣ كانت النغمة هي الصوت الرابع. ومعنى ذلك أن الأصوات الرئيسية في السلَّم الموسيقي يُعبَّر عنها بنِسَب رياضية ثابتة، أو بعبارة أخرى: إنَّ التآلف والتناغم هو حقيقة رياضية؛ ومن ثم فإن ما نجده في الكون بأكمله من انسجام إيقاعي أشبه باللحن الموسيقي، ومن انضباط ودقَّة تُعبِّر عنها القوانين الطبيعية الثابتة، يرتدُّ آخر الأمر إلى الصيغ الرياضية المجردة، وكانت حصيلة هذا كله هي عبارة فيثاغورس المشهورة: «العالم عدد وتوافق أو نغم. في هذا الاتجاه الذي سار فيه فيثاغورس نهتدي إلى بذرة النظرة العلمية إلى العالم؛ إذ إنه أرجع الاختلاف في الكيفيات (أي في الأصوات) إلى مجرد اختلاف في الكم (أي في طول الأوتار)، وعمَّم هذه الحقيقة على الكون بأكمله حين جعل العالم كله «عددًا وتوافقًا»، أي مقادير كمية ونسبًا أو علاقات بينها، كذلك فإنه في هذه العبارة يُعبِّر عن سمة هامة من سمات التفكير العلمي، هي محاولة الكشف عما يوجد وراء المظهر السطحي للأشياء؛ فالأصوات — كما تدركها آذاننا — تُثير فينا أحاسيس متباينة، ولكن من وراء هذا العالم «الظاهر» كله توجد حقيقة أساسية واحدة، هي النِّسَب العددية التي يُمكن بواسطتها التعبير عن أي اختلاف صوتي، وهنا نَجد تلك التَّفرقة الحاسمة بين «مظهر الأشياء وحقيقتها»، وهي تَفرقة كان لها دور كبير في الفكر اليوناني، ولولاها لأصبح التفكير العِلمي مستحيلًا؛ إذ إن جوهر هذا التفكير هو ألا نَنبهِر بالشكل الظاهر للأشياء ولا ننساق وراءه، وإنما نُحاول البحث عما يَكمن وراءه من حقائق أساسية. ويترتَّب على هذه التفرقة بين المظهر والحقيقة إرجاعُ الأشياء المحسوسة إلى معانٍ مجرَّدة؛ لأن من طبيعة العلم أن يُجرِّد الظواهر من مظهرها العادي الملموس، ويُعبِّر عنها في صِيَغ مُجرَّدة من معادلات أو نِسَب أو علاقات رياضية. ذلك هو المثل الأعلى الذي يُحاول العلم تحقيقه في جميع المجالات، فأقصى ما يَحلم به العالم هو أن يَتمكَّن من التعبير عن كل ما يَحدث في الطبيعة بقوانين ذات صبغة رياضية. وربما كنا قد أطَلْنا قليلًا في التعقيب على هذه العبارة التي قالها «فيثاغورس»، ولكننا قد اتَّخذنا منها أنموذجًا يكشف لنا عن طبيعة الإنجاز الذي تحقَّق على أيدي اليونانيِّين، ويضع أمامنا المثل الأعلى الذي كان الفكر اليوناني يتطلع إليه. ولا شكَّ أن القارئ قد أدرك — من خلال ما قلناه عن هذا الإنجاز — أن اليونانيين القدماء قد تركوا في التراث العلمي البشري آثارًا لا تُمْحَى، وأنهم خطوا أولى الخطوات في ذلك الطريق الذي لم تَستكشف البشرية بقية معالِمه إلا بعد وقت طويل من انتهاء عهد الحضارة اليونانية القديمة بأسرها. على أنه إذا كان اليونانيون قد خلَّفوا للبشرية عناصر أساسية ظلَّت ملازمة لمفهوم العلم في عصور تَقدُّمه اللاحقة، وإذا كان التفكير العلمي مدينًا لهم بأول تحديد دقيق لطبيعة ووظيفة هذا النوع من المعرفة الذي نُسمِّيه علمًا، فإن تصوُّرهم للعلم كان في الوقت ذاته مشوبًا بعيوب أساسية ظلَّت هي الأخرى تكوِّن عائقًا هامًّا في وجه نمو العلم، وبطبيعة الحال، لم يكن اليونانيون أنفسهم على وعي بوجود عناصر صحيحة وعناصر باطلة في تصوُّرهم للعلم، فقد كان هذا التصور في نظرهم متكاملًا، يؤلِّف وحدة واحدة اقتنع بها أصحابها اقتناعًا تامًّا، ولكن التطور اللاحق للعلم قد عمل على تثبيت بعض جوانب هذا التصور، فأصبحت في نظرنا هي الجوانب الإيجابية، على حين أنه سعى إلى التخلُّص من جوانب أخرى هي التي نَعدُّها سلبية، والحكم ما هو إيجابي أو سلبي يتم في هذه الحالة من خلال وجهة نظر العصور اللاحقة، بعد أن أتيح للإنسان أن يتبيَّن ماذا فعل مضيُّ الزمن في فكرة اليونانين عن العلم، وأي عناصرها استطاع أن يَصمُد خلال التاريخ، وأيها أثبت أنه عائق ينبغي التغلب عليه. والواقع أن نفس العناصر التي اكتسب بفضلها العلم اليوناني سماته المميزة، هي التي انقلبَت إلى عيوب بسبب تطرُّف اليونانيين في تأكيدها. فاليونانيون قد أسدوا إلى البشرية خِدمةً كبرى حين أكَّدوا أن المعرفة لكي تكون صحيحة يجب أن تنصبَّ على الحقائق النظرية والعامة، ويجب أن ترتكز على براهين مقنعة، ولكنهم بالغوا في تأكيد هذه الصِّفات إلى حدٍّ ألحق الضرر بتصوُّرهم للعلم، ولم تتمكَّن الإنسانية من إزالة هذا الضَّرر إلا بعد مضي وقت طويل جدًّا كان فيه العلم شبه متوقِّف، وكان من الممكن استثماره على نحو أفضل بكثير لو لم يكن الجانب السيِّئ من التصور اليوناني للعلم هو الذي ساد طوال هذه الفترة. فعندما أكَّد المُفكِّرون اليونانيون أن هدف العلم هو «النظرية» التي تسير الظواهر وفقًا لها، ولكنهم لم يكتفوا بذلك، بل تمسكوا بالتأكيد المضاد؛ وهو أن العلم لا علاقة له بمجال التطبيق، ولا صلة له بالعالم المادي بأكمله، وإنما الواجب أن يكون العلم «عقليًّا» فحسب. فالمثل الأعلى للعالِم — في نظرهم — هو المُفكِّر النظري الذي يَستخلِص الحقائق كلها بالتأمُّل النظري، أما محاولة تدعيم هذه الحقائق بمُشاهَدات أو ملاحظات أو تجارب نُجريها على العالم المحيط بنا، فكانت في نظرهم خارجة عن العلم، بل إنها تحطُّ من قدر العلم وتجعله مجرَّد «ظن» أو تخمين، بل إنَّ أفلاطون — فيلسوف اليونان الأكبر الذي كان في الوقت نفسه ذا إلمام واسع بالرياضيات — قد عاب على أحد علماء الهندسة التجاءه إلى «رسم» أشكال هندسية لإيضاح حقائق هذا العلم، هو إنزال لهذا العلم من مكانته العالية، فيُصبِح جزءًا من عالم الأشياء المرئية والمحسوسة، بينما ينبغي — لكي يظلَّ محتفظًا بمكانته — ألا نستخدم فيه التفكير العقلي وحده، فتظلَّ حقائق الهندسة «عقلية» على الدوام. ويطول بنا الحديث لو حاولنا أن نتتبَّع مظاهر هذه النظرة العقلية الخالصة إلى العلم، ومدى تطرُّف اليونانيين في تأكيدها، كما أنَّ المجال لا يتَّسع للتحدث طويلًا عن الأسباب المُحتمَلة لإصرار اليونانيين عليها، وحسبنا أن نقول: إنَّ هذا التأكيد المُتطرِّف للعلم النظري على حساب التطبيق العلمي ربما كان راجعًا إلى أحد عاملين:
فمِن المُمكن أن يكون مرتبطًا بنظرة إلى العالَم المادي على أنه عالم ناقص، وإلى العالم الرُّوحي والعقلي على أنه عالم الكَمال، وهي نظرة ربما كانت قد تسرَّبت إلى الفكر اليوناني عن طريق مُعتقَدات شرقية قديمة كان لها تأثيرها في كثير من اليونانيين. ومن المعروف أن فيثاغورس نفسه كانت له «طريقة» — أشبه بالطريقة الصوفية — تأثَّرت طقوسها وشعائرها وتعاليمها بالعَقائد الشرقية تأثُّرًا بالغًا، كما أن أفلاطون سار في اتجاه مماثل. هذا الازدواج بين عالَم رفيع غير مادي وعالم وضيع هو العالم المادي يمكن أن يكون قد انعكس على نظرة اليونانيين إلى العلم، وأدَّى إلى الاعتقاد بأن العلم الجدير بهذا الاسم هو العلم العقلي، وأن مجرد اقتراب العلم من العالَم الطبيعي، ومحاولته حل مشاكله، يقضي على كل ما هو رفيع في هذا العلم. ومن المُمكن أن يكون هذا التطرف في تأكيد العلم العقلي راجعًا إلى التقسيم الذي كان سائدًا في المجتمع اليوناني — الذي كان مُجتمعًا يسودُه نظام الرق — بين المواطنين الأحرار وبين العبيد؛ ذلك لأن العبيد كانوا هم الذين يقومون بالأعمال الجسمية واليدوية الشاقة؛ أي إنهم هم الذين كانوا يتَّصلون — في عملهم اليومي — بالعلم المادي، وبذلك كانوا يُوفِّرون لأسيادهم الأحرار الوقت والجهد الذي يَسمح لهم بمُمارسة التفكير والجدل والحوار في المسائل النظرية الخالصة. وكان من الطبيعي في هذه الحالة أن تَنعكِس مكانة الإنسان على نَوع العمل الذي يُمارسه، بحيث يرتبط العالم المادي في أذهانهم بالوضع الاجتماعي المُنحط، ويَرتبط العالم العقلي بالوضع الاجتماعي الرفيع، وبحيث يُؤكِّدون في النهاية أن الجهد اللائق بالإنسان الكريم والمثل الأعلى الذي يَنبغي أن يسعى الإنسان إلى تحقيقه هو التأمُّل النظري الذي لا تشوبُه من المادة شائبة، وأن الاقتراب من العالَم المادي فيه حطٌّ من كرامة الإنسان. وعلى أية حال فقد أدَّى ذلك إلى تجاهُل اليونانيِّين لمبدأ تطبيق العلم في حلِّ المشكلات الفِعلية للعالم، وبالرغم من أن تَفوُّقَهم الهائل في التفكير النظري — في ميادين الفلسفة والرياضيات وما يتَّصل بها — يشهد بأن قدراتهم العقلية كانت ممتازة، فإنهم لم يكونوا ميَّالين أصلًا إلى استخدام هذه القدرات لأغراض تطبيقية، فكانت نتيجة ذلك أنهم تركوا للعالم فكرًا نظريًّا رائعًا، ولكنهم لم يتقدَّموا خطوة تستحق الذكر في الميدان التطبيقي. ولقد عبَّر عن هذه الحقيقة العالِم الإنجليزي الكبير «برنال» حين قال:
إنَّ الروعة العقلية والفنية لليونانيين يُمكن أن تُبهرنا إلى حدٍّ يَصعب علينا معه أن نتبيَّن أن تأثير معرفتهم وذكائهم كان مرتبطًا بالمظاهر أكثر مما كان مرتبطًا بالحقائق العمَلية والمادية للحياة، فجمال المدن والمعابد والتماثيل والأواني اليوناني، ودقة منطق اليونانيين ورياضتهم وفلسفتهم، تُخفي عنا حقيقةَ أن أسلوب الحياة في معظم شعوب البلاد المتحضِّرة كان — عند سقوط الإمبراطورية الرومانية — مُماثلًا إلى حدٍّ بعيد لما كان عليه قبل ذلك بألفَي عام، عندما انهارت الحضارة البرونزية القديمة (عند المصريِّين القدماء والبابليين … إلخ). ولو استثنيا بعض التحسينات الطفيفة في الري وشقِّ الطرق وبعض الأساليب الجديدة في العمارة الضَّخمة وتخطيط المدن؛ وليس في هذا ما يدعو إلى الدهشة؛ إذ إن العلم — أولًا — لم يكن يلقى اهتمامًا من المواطنين ميسوري الحال لأي هدف من هذا النوع، بل كان هؤلاء يَحتقرون مثل هذه الأهداف — وثانيًا — لأنَّ العلم الذي توصَّلوا إليه كان محدودًا ذا طابع كيفي إلى حدٍّ يستحيل معه استخدامه على نطاق عملي واسع،


النص الأصلي

من الصعب أن يُحدِّد المرء نقطة بداية لذلك النوع من النشاط الذي نُطلق عليه اسم العلم؛ إذ إن كل سلوك كان يقوم به الإنسان — منذ عهوده البدائية السحيقة — قد أسهَمَ — بغير شك — في تهذيب تفكيره وصقله على نحوٍ يُساعد على ظهور العلم في مرحلة لاحقة، ومثل هذه الظواهر البشرية لا تَنطوي على مفاجآت أو على انبثاق مباغت بلا تمهيد، بل إن كل شيء فيها يتدرج ببطء شديد في البداية، ثم تَتسارع خُطاه حين يتم الاهتداء إلى الطريق الصحيح.
وهكذا فإن مما لا شك فيه أن التجارب الشديدة البطء — التي مرَّت بها الإنسانية في عصورها البدائية — قد أكسبتها خبراتٍ أدى تراكُمها في المدى الطويل إلى ظهور البوادر الأولى للتفكير العلمي، ولكن لما كانت هذه العصور البدائية تُمثِّل مرحلة «ما قبل التاريخ»، فلن نستطيع — في مثل هذا العرض الموجز — أن نتخذ نقطة بدايتنا منها، وإنما سنبدأ من «المراحل التاريخية»؛ أعني من تلك الحضارات القديمة التي ترَكت لنا وثائق تُعيننا على معرفة تاريخها، سواء اتَّخذت هذه الوثائق شكل كتابات مدوَّنة أو آثار مادية تُتيح للمرء أن يَستنتِج منها نوع الحياة ونوع الفِكر السائدَين لديها.
وكما نَعلم فإن أقدم الحضارات الإنسانية قد ظهرت في الشرق؛ ففي هذه المنطقة من العالم التي نَعيش فيها الآن، ظهرت منذ عدة آلاف من السنين حضارات مُزدهِرة في أودية الأنهار الكبرى كالنِّيل والفرات، وإلى الشرق منها في أنهار الهند والصين، وتدلُّ الآثار التي خلَّفتها هذه الحضارات المجيدة على أنها كانت حضارات ناضِجة كل النُّضج بالقياس إلى عصرها؛ ومن ثم فقد كان من الضروري أن تَرتكِز في نهضتها على أساس من العلم.
وإذا كانت هذه الحضارات الشرقية القديمة تَبعُد عنا في الزمان بما يَتراوح بين سبعة وخمسة آلاف سنة؛ فقد ظهرت في العصر القديم أيضًا — ولكن في وقت أقرب إلينا بكثير من ذلك العصر — حضارة أخرى عظيمة هي الحضارة اليونانية القديمة، التي يَرجع تاريخها إلى ما يقرب من ألفَين وخمسمائة عام، وهي بدورها حضارة كان من مظاهر ازدهارها وجود علم ناضج.
وهنا نجد أنفسنا إزاء السؤال الذي تُثيره هذه المرحلة القديمة في تاريخ العلم، وأعني به: إذا كان من المحتَّم علينا أن نبدأ هذا التاريخ بمرحلة الحضارات القديمة، التي بقيت لدينا منها وثائق تُعيننا على فهمها، فهل نتخذ نقطة بدايتنا من الحضارات الشرقية أم من الحضارة اليونانية الأحدث منها عهدًا؟ وهل ظهرت الأصول الأولى للعلم في الشرق أم أن ما ظهر هناك كان بوادر أولى لا تَستحِق أن تُعَدَّ بداية حقيقية للعلم الذي لم تظهر معالِمُه الحقيقية إلا فيما بعد عند قدماء الإغريق؟
هذا السؤال هو — في واقع الأمر — المِحوَر الذي ينبغي أن تدور حوله مناقشتنا لتلك المرحلة الأولى في طريق العلم، وسوف نبدأ كلامنا بالإجابة التقليدية عن هذا السؤال، أعني تلك التي نجدها في معظم مراجع تاريخ العلم، وخاصةً ما كان منها أقدم عهدًا.
ففي الحضارات الشرقية القديمة تراكمت حصيلة ضخمة من المعارف ساعدت الإنسان في هذه الحضارات على تحقيق إنجازات كبرى، ما زالت آثارها تَشهَد بعظمتها حتى اليوم، ولكن هذه المعارف لم تكن سوى خبرات موروثة، ربما كانت راجعة في أصلها إلى أقدم العصور البدائية للإنسان، وقد ظلَّت تُورَث جيلًا بعد جيل، وساعدت على إثراء حياته العقلية.
ذلك لأن هذه الشعوب التي عاشت في الشرق القديم كانت بارعة في الاستخدام «العلمي» للمعارف الموروثة، ولكنها لم تكن تَملِك نفس القدر من البراعة في التحليل العقلي «النظري» لهذه المعارف، كانت لدَيها خبرات تُتيح لها أن تُحقِّق إنجازات عملية هائلة ولكنها لم تتوصَّل إلى النظريات الكامنة وراء هذه الخبرات، ولم تُخضِعها للتحليل العلمي الدقيق. أما الحضارة التي توصَّلت إلى هذه المعرفة «النظرية»، والتي توافرت للإنسان فيها القدرة التحليلية التي تُتيح له كشف «المبدأ العام» من وراء كل تطبيق عمَلي، فهي الحضارة اليونانية.
وهكذا يمكن تشبيه العلاقة بين حضارات الشرق القديم والحضارة اليونانية — فيما يتعلَّق بنشأة العلم — بالعلاقة بين المقاول والمهندس؛ فالمقاول هو — في معظم الأحيان — شخص اكتسب قدرًا هائلًا من الخِبرات العمَلية، سواء عن طريق التلقين أو الممارسة، ولولا القوانين التي تسنُّها الدول في عصرنا الحديث لكان في استطاعة معظم المُقاوِلين أن يُشيِّدوا أبنية سليمة تؤدِّي كل الأغراض التي نَتوقَّعُها من البناء، أما المهندس فهو — إلى جانب إلمامه ببعض الخِبرات العملية — يمتلك «العلم النظري» الذي يُتيح له معرفة «أسس» عملية البناء، ويُمكِّنه من التصرُّف بحرية والخروج عن القواعد المألوفة في حالة وقوع أي طارئ. ولو قارنَّا بين المقاول والمهندس من حيث النتائج العمَلية للجهد الذي يقومان به، لما كان الفارق بينهما كبيرًا؛ لأن كلًّا منهما يستطيع — في الغالب — أن يُشيِّد بناءً متماسكًا متينًا. أما الاختلاف بينهما فهو في نوع المعرفة التي يعمل وفقها كلٌّ منهما، وهل هي معرفة تطبيقية مستمدة من خبرات متراكمة، أم معرفة نظرية تَعتمد على التحليل والبراهين المُقنِعة للعقل؟
وهناك مثل مشهور يُضْرَب في معظم المراجع التي تتناول هذا الموضوع لتوضيح الفارق بين هاتين الحضارتين في هذا الصدد؛ فقد اهتدى المصريُّون القدماء بالخِبرة إلى أن مجموع المربَّعَين المُقامَين على ضلعَي المثلث القائم الزاوية يُساوي المربع المقام على وتر هذا المثلث، وكانوا يستخدمون هذه الحقيقة بطريقة عمَلية في أعمال البناء؛ فعندما كانوا يُريدون التأكد من أن الجدار الذي يَبنونه عمودي على سطح الأرض، كانوا يَصنعون مثلثًا أبعاده ٣ و٤ و٥ أو مضاعفاتها؛ حتى يضمنوا أن هذا المثلث سيكون قائم الزاوية، ومن ثم يكون الجدار عموديًّا بحق (لأن مربع ٣ هو ٩، ومربع ٤ هو ١٦، ومجموعهما هو مربع ٥، أي ٢٥)، وقد ظلت هذه الحقيقة تُستخدَم عندهم بطريقة عملية تطبيقية، دون أن يُحاولوا إثباتها بالدليل العقلي المُقنع. بل إن الرغبة في إيجاد مثل هذا الدليل لم تتملَّكهم على الإطلاق؛ لأن كل ما يهدفون إليه هو الوصول إلى نتيجة عملية ناجحة، وهذه النتيجة الناجحة تتحقَّق بتطبيق القاعدة فحسب، ولن يزيدها الاهتداء إلى الدليل العقلي نجاحًا.
وفي مثل هذا الجو يَستحيل أن يظهر العلم؛ لأن العلم هو في أساسه بحث عن المبادئ العامة، لا عن التطبيقات الجزئية، وهو سعي إلى القاعدة النظرية، وليس اكتفاءً بتحقيق أهداف عمَلية؛ ولذلك فإن العلم لم يظهر — للمرة الأولى — إلا عند اليونانيين القدماء الذين كان يتملَّكهم حافز آخر — يُضاف إلى حافز الإنجاز العملي — هو الرغبة في الاقتناع، ولم تكن عقولهم تهدأ إلا حين تَهتدي إلى الدليل القاطع والبرهان المُقنِع.
هذه باختصار هي الصور التقليدية التي كان مؤرِّخو العلم يُصوِّرون بها العلاقة بين الحضارات الشرقية القديمة والحضارة اليونانية في موضوع نشأة العلم، ونودُّ أن نبدي على هذه الصورة بضع ملاحظات نَعتقد أنها على جانب كبير من الأهمية:
• (١)
فهذه الصورة لا تَخلو من التحيز الحضاري؛ إذ إن الأوروبيِّين المحدثين هم أحفاد الحضارة اليونانية، وهم يَنتسبون إليها انتسابًا مباشرًا، على حين أن الحضارات الشرقية القديمة لا تمتُّ إليهم بصلة، ومِن هنا فقد دأب المؤرِّخون الأوروبيون — وخاصةً في عصر اشتداد الرُّوح القومية خلال القرن التاسع عشر — على تمجيد الحضارة اليونانية — حضارة الأجداد — وتحدَّثوا طويلًا عن «المعجزة اليونانية»؛ أي عن ذلك الإنجاز الهائل الذي حقَّقه اليونانيون فجأة دون أية مُقدِّمات تذكر، ودون أن يكونوا مَدِينين لأي شعب سابق، وعن ذلك الوليد الذي ظهر إلى الوجود يافعًا هائل القوة … وكلها تعبيرات لا يُمكن أن تخلو من عنصر التحيُّز، لا سيما وأن أحفاد الحضارات الشرقية القديمة كانوا هم الشعوب الواقعة تحت قبضة الاستعمار الأوروبي في ذلك الحين، وكانوا يُعامَلون على أنهم شعوب «من الدرجة الثانية»؛ ومن ثم كان من الطبيعي أن تكون الحضارات التي انحدَرُوا منها حضارات «من الدرجة الثانية» أيضًا.
• (٢)
وتَفترض هذه الصورة التقليدية الشائعة انفصالًا تامًّا بين ميدان الخبرة العملية وميدان البحث العِلمي النظري، فهي ترتكز على الاعتقاد بأن شعبًا مُعيَّنًا يستطيع أن يكدس خبرات موروثة لمدة آلاف السنين ويُحقِّق بواسطتها إنجازات هائلة — كالهرم الأكبر مثلًا — دون أن يكون قد توصَّل خلال ذلك إلى النظريات العِلمية التي تُكوِّن أساسًا لهذه الخبرات، ومثل هذا الاعتقاد يَنطوي على مبالغة في الفصل بين الجوانب العمَلية والجوانب النظرية للمعرفة، وهو فصلٌ لا تُبرره تجربة البشرية ذاتها في مختلف العصور؛ فعندما تتراكم لدى مجتمع معين خبرات عمَلية طويلة، يكون من الطبيعي أن تقودَه هذه الخبرات ذاتها إلى بعض النظريات العِلمية على الأقل، وليست النظرية ذاتها إلا حصيلة لتطبيقات عديدة؛ فالعلاقة بين النظرية والتطبيق علاقة مُتبادَلة، بحيث إنَّ الممارسة العملية تمهِّد الطريق إلى كشف النظرية العلمية، كما أن الوصول إلى النظرية يفتح الباب أمام كشفِ تطبيقات جديدة مُثمِرة. أما القول بأن هناك شعبًا لم يَعرف طوال تاريخه إلا تطبيقات وخبرات عَملية وشعبًا آخر توصَّلَ لأول وهلة — ومن تلقاء ذاته — إلى الأسس النظرية للعلم، فإنه زعم يَتنافى مع التجارب الفعلية للبشرية، فضلًا عن تناقُضِه مع المنطق السليم.
• (٣)
على أن هذه الصورة التقليدية قد أخذت تتغيَّر ملامحها بالتدريج، وساعدت على ذلك عدة أمور:
o (أ)
أولها تقدم البحث العلمي والتاريخي ذاته؛ فقد أحرز العلم التاريخي — في ميدان الحضارات القديمة — تقدمًا هائلًا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وما زال هذا التقدُّم مستمرًّا حتى يومنا هذا، وفي كل كشف جديد كان العلماء يُلقون مزيدًا من الضوء على حياة القدماء وفكرهم، حتى أصبحنا نعرف اليوم عن هؤلاء القدماء أكثر مما كانت الإنسانية تعرف عنهم في عهود قريبة منهم — من الناحية الزمنية — كل القرب، وكانت كل هذه الكشوف الجديدة في الميدان التاريخي تُشير إلى حقيقة واحدة؛ هي أنَّ التضادَّ بين الحضارة اليونانية والحضارات الشرقية القديمة ليس بالحدة التي كان يُصوَّر بها، وأن عوامل الاتصال بين اليونانيين والشرقيين القدماء كانت أقوى مما كنا نتصوَّر، وكان كلُّ كشفٍ تاريخي جديد يؤكِّد — بشكل مُتزايد — أن اليونانيِّين كانوا مَدِينين بالكثير للسابقين عليهم من الشرقيِّين، لا سيما وأن الاتصالات بين هاتين المنطقتَين لم تنقطع لحظة واحدة، سواء أكانت اتصالات سلمية عن طريق التجارة وتبادُل الخبرات والسِّلَع، أو اتصالات حربية في المعارك التي لم تتوقَّف بين اليونانيين وبين الشعوب الشرقية.
o (ب)
أدرك الباحثون أنَّ الكلام عن «معجزة» يونانية ليس من العلم في شيء؛ فالقول إن اليونانيِّين قد أبدعوا فجأة — ودون سوابق أو مؤثِّرات خارجية — حضارة عبقرية في مختلف الميادين — ومنها العلم — هو قول يَتنافى مع المبادئ العلمية التي تُؤكِّد اتصال الحضارات وتأثير بعضها في بعض. وعلى حين أن لفظ «المعجزة» يبدو في ظاهره تفسيرًا لظاهرة الانبثاق المفاجئ للحضارة اليونانية، فإنه في واقع الأمر ليس تفسيرًا لأي شيء، بل إنه تعبير غير مُباشِر عن العجز عن التفسير؛ فحين نقول: إنَّ ظُهور العلم اليوناني كان جزءًا من «المعجزة اليونانية» يكون المعنى الحقيقي لقولنا هذا هو أننا لا نَعرف كيف نُفسِّر ظهور العلم اليوناني.
ولا جدال في أن المكان الذي ظهرت فيه أولى المدارس الفلسفية والعلمية اليونانية، هو في ذاته دليل على الاتصال الوثيق بين الحضارة اليونانية والحَضارات الشرقية السابقة؛ فلم تظهر المدرسة الفكرية الأولى في أرض اليونان ذاتها، وإنما ظهَرت في مُستوطَنة «أيونية» التي أقامها اليونانيون على ساحل آسيا الصغرى (تُركيا الحالية)؛ أي في أقرب أرض ناطقة باليونانية إلى بلاد الشرق ذوات الحضارات الأقدم عهدًا، وهذا أمر طبيعي لأنَّ من المحال أن تكون هذه المجموعة من الشعوب الشرقية قريبة من اليونانيِّين إلى هذا الحد، وأن تتبادل معها التجارة على نطاقٍ واسع، وتدخل معها أحيانًا أخرى في حروب طويلة، دون أن يَحدُث تفاعل بين الطرفين.
o (جـ)
اقتنع العلماء بأن من المُستحيل تجاهُل شهادة اليونانيين القدماء أنفسهم، فقد شهد فيلسوفهم الأكبر «أفلاطون» — الذي كان في الوقت ذاته عالِمًا رياضيًّا — بفضل الحضارة الفرعَونية على العلم والفكر اليوناني، وأكَّد أن اليونانيين إنما هم «أطفال» بالقياس إلى تلك الحضارة القديمة العظيمة. وهناك روايات تاريخية كثيرة تحكي عن اتصال كبار فلاسفة اليونانيين وعلمائهم — ومنهم أفلاطون ذاته — بالمصريِّين القدماء وسفرهم إلى مصر وإقامتهم فيها طويلًا لتلقِّي العلم.
والمشكلة الكبرى في هذا الصدد هي أن الأدلة المباشرة على هذا الاتصال العلمي قد فُقِدَت؛ فعلى حين أن كثيرًا من الإنجازات العلمية اليونانية قد ظلت باقية، فإن ما أنجزته الحضارات الشرقية — في باب العلم النظري أو الأساسي — لا يكاد يُعرف عنه شيء بطريق مباشر، ومعظم ما نَعرفه عنه غير مباشر؛ أي من خلال التطبيقات العمَلية لهذا العلم كما تتمثَّل في الآثار الباقية من هذه الحضارات، ومن الأسباب التي يُعلِّل بها البعض ضياع العلم الشرقي القديم أن الفئة التي كانت تُمارسه كانت فئة الكهنة التي حرصت على أن تحتفظ بمعلوماتها العِلمية سرًّا دفينًا، تَتناقله هذه الفئة جيلًا بعد جيل، دون أن تبوح به إلى غيرها، حتى تظلَّ محتفظة لنفسها بالقوة والنفوذ والمهابة التي تُولِّدها المعرفة العلمية، وحتى تُضفي على نفسها — وعلى الآلهة التي تخدمها — هالةً من القداسة أمام عامة الناس الذين لا يعرفون عن العلم شيئًا، وفضلًا عن ذلك فهناك كوارث طبيعية وحروب كثيرة وحرائق مُتعمَّدة أو غير مُتعمَّدة؛ أدَّت بدورها إلى ضياع ما يمكن أن يكون قد دُوِّن من هذا العلم في كتب. ونتيجةُ هذا كله هي أن معلوماتنا عن الأصول النظرية للعلم القديم تكاد تكون مُنعدمة، على حين أن معظم ما أنجزه اليونانيون ظلَّ باقيًا، مما ساعد على نسبة الفضل الأكبر في بدء ظهور العلم إلى اليونانيين، وجعَل من المستحيل إجراء مقارنة بين العلم اليوناني والعلم الشرقي القديم، أو تبيان مقدار ما يدين به اليونانيون في علومهم للحضارات الكبرى التي سبقتهم.
تلك هي الملاحظات التي نود أن نُعلق بها على التصوُّر التقليدي الشائع للعلاقة بين العلم اليوناني وعلوم الحضارات الشرقية، وهي تُؤدِّي بنا إلى القول بأن هذا التصوُّر يَفتقر إلى الدقة، وربما كان مُرتكِزًا على أسس غير علمية، ولكنَّ الصعوبة الكبرى التي تجعل من العسير رفضه كلية هي — كما قلنا — النقص الشديد في معلوماتنا عن الأصول النظرية للعلوم التي تَوصَّل إليها الشرقيون القدماء؛ ولذا لا يجد الباحثون في هذا الموضوع مفرًّا من الاحتفاظ بقدر من هذه الصورة، مع اقتناعهم — في قرارة أنفسهم — بافتقارها إلى الدقة.
وعلى أية حال، فإن نفس هذه الدوافع العمَلية التي تُنْسَب إلى الشرقيين القدماء، هي التي يُمكن أن تكون قد أدَّت إلى ظهور بدايات العلم النظري لديهم؛ فهناك ارتباط وثيق بين عملية البناء — بناء المساكن أو القصور أو المعابد — وبين ظهور علم الهندسة؛ إذ إنَّ مِن الضروريِّ حساب مساحة البناء من أجل مَعرفة كمية المواد اللازمة لبنائه وعدد العُمال اللازمين لإنجازه، كما أن قوالب الحجارة لن تتلاصَق إلا إذا كانت مستقيمة، ولا بد أن تكون جدران البناء كلها قائمة الزوايا لضمان سلامته. وهكذا ترتبط عملية البناء بمعانٍ أساسية في علم الهندسة كالخطِّ المستقيم والزاوية القائمة وحساب المساحات.
ومن ناحية أخرى، فقد كانت شعوب معظم الحضارات الشرقية القديمة شعوبًا زراعية؛ لأن هذه الحضارات ظهَرت — كما قلنا — على ضفاف أنهار كبرى، وكانت عملية الزراعة تتطلَّب — من أجل نجاحها — معلومات فلَكية كثيرة؛ إذ إنَّ من الضروري حساب المواسم الزراعية حتى يُمكن زرع المحصول في الوقت المناسب، ولا بدَّ من توقيتٍ دقيق لعمليات وضع البذور وري الأرض وجني المحصول … إلخ، فضلًا عن ضرورة حساب مواعيد فيضان النهر والتغيُّر في حالة الطقس. وهكذا كان من الضروري أن تعرف هذه الحضارات حساب الفصول والسنين، وكانت أدق التقويمات الفلَكية هي التي عرفتها حضارات زراعية عريقة كالحضارة المصرية القديمة وحضارة بلاد ما بين النهرين.
وكان من العوامل الأخرى التي أدَّت إلى تقدم علم الفلك في هذه الحضارات أن كثيرًا من شعوبها كانت تمارس التجارة، وتحتاج إلى الملاحة البحرية على نطاق واسع؛ ومن ثم كان الرصد الفلكي الدقيق ضروريًّا في عمليات توجيه السفن في أعالي البحار.
وأخيرًا، فقد كان للمعتقدات والأديان الشعبية تأثير هام في نمو معارف علمية كثيرة، وحسبنا أن نذكر في هذا الصدد أهمية العقيدة الدِّينية عند الفراعنة في عمليات البناء الهائلة — التي تحقَّقت تلبية لمطالب دينية — كالأهرامات والمعابد الضخمة، وكذلك الحاجة إلى تخليد الإنسان، والرغبة في قهر الإحساس بفنائه التي حفَّزتهم إلى اكتساب المقدرة الخارقة على التحنيط، والإيمان بالتنجيم ومعرفة الطالع من التطلُّع إلى النجوم، الذي أعطى بعض الناس — في تلك المرحلة القديمة — طاقة هائلة من الصبر أتاحت لهم أن يقوموا بملاحظات وعمليات رصد مرهقة، أضافَت إلى رصيد البشرية في ميدان الفلك معلوماتٍ لها قيمة لا تُقَدَّر. ولنذكر في هذا الصدد أن الارتباط بين التنجيم وعلم الفلك قد ظلَّ قائمًا في أوروبا ذاتها حتى مطلع العصر الحديث، وأن كبار علماء الفلك حتى القرن السابع عشر كانوا مُنجِّمِين في الوقت ذاته، ولم يكونوا يجدون أي تعارض بين الملاحظة الفلَكية المتأنية الدقيقة وبين البحث عن طالعِ حاكم، أو التنبؤ بنتيجة معركة حربية وشيكة الحدوث من خلال النجوم.
في كل هذه الحالات كانت هناك مُقتضيات عملية حتَّمت على الحضارات الشرقية القديمة البحث في علوم معيَّنة، وما دامت هذه الحضارات قد نجَحت في تحقيق تلك المقتضيات العملية نجاحًا رائعًا، فلا بد أن نَستنتِج أن حصيلتها العِلمية في هذه الميادين لم تكن ضئيلة. وإنه لمن الصَّعب أن يتصور المرء أن أولئك العباقرة الذين بنَوا الأهرامات بتلك الدقة المُذهلة في الحساب، بحيث لم يخطئوا إلا بمقدار بوصة واحدة في محيط قاعدة الهرم الأكبر البالغ قدمًا،١ والذين ابتَدعوا فنَّ الضرب والقسمة، لا يستحقُّون اسم «العلماء»، وأنهم لم يكونوا إلا أصحاب تجارب موروثة، شكَّلت مجموعة من القواعد والخبرات العملية التي استعانوا بها في تحقيق هذه الإنجازات. ومِن الظلم أن نأبى اسم «العلم» على تلك المعلومات الفلَكية الرائعة التي توصل إليها هؤلاء القدماء، وعلى الكشوف الرياضية الهامة التي كانت ضرورية من أجل إجراء الحسابات الفلَكية وغيرها من الأغراض. ومن قِصَر النظر أن نتصوَّر أن تلك المعلومات الكيميائية العظيمة — التي أتاحَت للمصريين القدماء أن يَصبِغوا أنسجة ملابسهم وحوائط مبانيهم بألوان ما يَزال بعضها زاهيًا حتى اليوم، أو التي مكَّنتهم من تحنيط جُثَث ظلَّت سليمة لمدة تقرب من الأربعة آلاف عام — لا تَستحِق اسم «العلم التجريبي»، وقل مثل هذا عن مجالات كثيرة لا بد أن هذه الحضارات قد جمعت فيها بين الخبرة العمَلية والمعلومات النظرية، كالطب وصناعة العقاقير والهيدروليكا (الري والسدود والخزانات … إلخ).
وإذن، فلم تكن نشأة العلم يونانية خالصة، ولم يبدأ اليونانيون في استكشاف ميادين العلم من فراغٍ كامل، بل إن الأرض كانت ممهَّدة لهم في بلاد الشرق التي كانت تجمعهم بها صلات تجارية وحربية وثقافية، والتي كانت أقرب البلاد جغرافيًّا إليهم، وإذا كانت الحلقة المباشرة — فيما يتعلق بانتقال العلوم الأساسية من البلاد الشرقية إلى اليونانيِّين — هي حلقة مفقودة، فإن المنطق والتاريخ والكشوف المُتتابعة تؤكِّد لنا أنها لا بد كانت موجودة.
على أن هذا لا يعني على الإطلاق أننا نُنكر فضل اليونانيين في ظهور العلم. والحق أن الاعتقاد بضرورة وجود أصل واحد للمعرفة العلمية وتصوُّر واحد يرجع إليه الفضل في ظهورها ربما كان عادة أوروبية سيئة يَنبغي التخلُّص منها؛ فإصرارنا على تأكيد أهمية الدور الذي أسهمت به حضارات الشرق القديم لا يعني أبدًا أن اليونانيِّين كانوا مجرد ناقلين، أو أنهم لم يأتوا في ميدان العلم بجديد، وليس هناك على الإطلاق ما يَمنع من وجود أصول متعدِّدة أسهم كلٌّ منها في ظهور مفهوم معين من مفاهيم العلم، أو جانب معين من جوانبه، مع اعترافنا بأن لكلٍّ من هذه الأصول — في ميدانه الخاص — فضلًا يستحيل إنكاره.
ذلك لأن الاعتقاد بأن للعلم أصلًا واحدًا، يفترض أنه كان هناك شيء محدَّد المَعالم اسمه «العلم» ظهر منذ أقدم الحضارات الإنسانية، وهذا افتراض لا يقوم على أساس؛ إذ إن معنى العلم نفسه قد استغرق وقتًا طويلًا جدًّا كيما يتبلور. وربما كان عمر «العلم» — بمفهومنا الحالي لهذا اللفظ — لا يزيد على أربعمائة سنة، ولكن هذا لا يعني أن كل ما سبق ذلك لم يكن «عِلمًا»، بل لقد كان العلم في طريقه إلى التشكُّل والتحدُّد، وكان كل عصر يضيف إليه عناصر، ويحذف منه عناصر أخرى؛ فلقد كان من الطبيعي أن يختلط العلم — في مراحله الأولى — بعناصر غريبة عنه كالأساطير والشِّعر والعقائد القديمة والرغبات والأماني البشرية، وعلى رأسها رغبة الإنسان في أن يَعيش في عالم يتَّسم بالنظام والجمال ويكون مُتعاطفًا معه. ولم يكن من المُمكِن في تلك العهود القديمة أن يضع العقل البشري حدًّا فاصلًا بين ما هو عِلم وما ليس بعلم. بل إن كل هذه العناصر كانت تَمتزج في وحدة واحدة يستحيل التمييز فيها بين ما هو أصلي وما هو دخيل، وفي كل مرحلة جديدة من مراحل تقدم العلم كانت البشرية تتوصَّل إلى بعض العناصر الغريبة التي تُشوِّه بناء العلم فتَستبعِدها، وتُضيف عناصر أخرى كانت مفقودةً في المراحل السابقة.
وليَتذكَّر القارئ ما قُلناه في مُستهلِّ هذا الفصل من أن العرض الذي سنُقدِّمه لمراحل تطور العلم هو ذاته عرض لتطوُّر «معنى» العلم، فإذا لم يكن العلم قد تحدَّدت معالمُه، وإذا لم يكن شكلًا من أشكال النشاط العقلي الإنساني — خلال تاريخه الطويل — فلن يكون من حقنا عندئذ أن نقول: إنَّ حضارة معينة هي التي يرجع إليها الفضل في ظهور العلم، بل إن كل ما يمكننا أن نقوله هو أن هذه الحضارة يرجع إليها الفضل في إضافة عنصر هام إلى مفهوم العلم، واستبعاد عناصر ضارة من هذا المفهوم. فإذا كان هذا هو الوضع الصحيح للمسألة فلن يكون هناك ما يحول دون نسبة الفضل في ظهور العلم إلى عدة حضارات متلاحِقة، أدى كلٌّ منها دوره في تشكيل معنى العلم خلال مراحل التاريخ.
فما الذي أضافه اليونانيُّون إذن إلى العلم؟ وما هي العناصر التي كانت متداخلة فيه من قبل، والتي أدركوا أن من الواجب تحريرَ العلم وتخليصَه منها؟
لو نظرنا إلى الإنجازات العملية التي حققها اليونانيون وإلى الآثار المادية التي خلَّفوها، لما وجدناها تمتاز كثيرًا عن تلك التي تركتها لنا الحضارات الشرقية الأقدم منهم عهدًا؛ فهم من هذه الناحية لم يكونوا أكثر تفوقًا من غيرهم، ولكن أعظم إنجازاتهم كانت في الناحية النظرية؛ أي في المعارف العِلمية بمعناها «العقلي» البحت؛ فقد كانت لدى اليونانيِّين قدرة هائلة على التعميم، جعلتهم لا يهتمُّون بالأمثلة الجزئية لأيَّة ظاهرة، وإنما يُركِّزون على أعمِّ جوانبها، أو على قانونها العام؛ فهم — على سبيل المثال — لا يَبحثُون في خصائص ذلك المربع الذي يُكوِّنه سقف بيت معيَّن أو حقل مزروع، بل كان ما يُهمُّهم هو خصائص «المربع» بوجه عام؛ أي المربع في ذاته، بغضِّ النظر عن الجزئيات التي يتحقَّق فيها، بل حتى ولو لم يكن مُتحقِّقًا في الواقع على الإطلاق.
وهكذا توصَّل اليونانيون إلى سِمة عظيمة الأهمية من سمات العلم هي «العمومية والشمول»، وقد عبَّر أرسطو عن هذه السمة بوضوح في عبارته المشهورة: «لا علم إلا بما هو عام»، ولا شك في أن هذه السمة لا زالت ملازمة للعلم حتى يومنا هذا، وإن كنا نَقبلها اليوم بتحفُّظات معيَّنة لا يتسع المجال هنا للحديث عنها. فمنذ العصر اليوناني أصبحنا نُدرك أن العلم لا يتعلق بدراسة حالات فردية لذاتها، وإنما ينبغي أن نجعل هذه الحالات وسيلة للانتقال إلى كشف الخصائص العامة «للنوع» بأكمله، أو للاهتداء إلى «القانون» الشامل الذي يَسري على كل الأفراد. وعلى حين أن هذه السِّمة تبدو اليوم في نظرنا أمرًا مألوفًا، فإنها قد احتاجت إلى وقت طويل حتى استقرَّت دعائمها عند مفكري اليونان وعلمائهم، الذين أصرُّوا عليها في كل ما كتبوا، ونجحوا في فرضها على الأذهان منذ ذلك الحين.
وإذا كان العلم يتَّصف بالعمومية، ويبحث في قوانين الأشياء لا في حالاتها الفردية، فإنه بطبيعته يتسم ﺑ «التجريد» وهي سمة أخرى تفوَّق فيها اليونانيون إلى أقصى حد، وتمكَّنوا من جعلها جزءًا لا يتجزأ من خصائص العلم منذ ذلك الحين. والحقُّ أن اليونانيين كانوا من أقدر شعوب الأرض على التعمُّق في المجرَّدات والبحث فيها بلا كلل، ولن نستطيع أن نُدرك فضلهم في هذا الصدد إلا إذا تذكَّرنا أن الجانب الأكبر من البشر ما زالوا حتى اليوم يجدون عناءً كبيرًا في التفكير في الأمور المجرَّدة مدة طويلة؛ فمُعظم الناس يَشعرون بالعَناء إذا قضوا ساعة في قراءة كتاب فلسفي يَتَّسم بشيء من العُمق؛ لأنه يتعامل مع أفكار مجرَّدة، ولا يتعامل مع أشياء ملموسة أو أشخاص محسوسين كما هي الحال في الرِّوايات الأوروبية والمسرحيات الفنية. كذلك يجد الكثيرون حتى اليوم صعوبة في التعامل مع الأرقام، بل إن عددًا كبيرًا من الناس يأبَون قراءة الكتاب إذا تصفَّحُوه فوجدوا فيه أرقامًا كثيرة، وما زالت دروس الرياضة تُكوِّن عُقدة في نفوس الكثيرين ممن يعتقدون — عن خطأ في الغالب — أن عقولهم لم تُخْلَق لهذا النوع من العلوم؛ فالتفكير المجرد يحتاج إلى جهد وعناء يَصعُب على كثير من الناس بذله حتى في عصرنا الحاضر، ولكن اليونانيِّين كانت لديهم — منذ ألفين وخمسمائة عام — قدرة خارقة على التعامل مع المجرَّدات بلا كلل.
لذلك كانت أعظم الإنجازات العقلية التي توصَّل إليها اليونانيون هي تلك التي تمت في ميدان الفلسفة والرياضيات. والواقع أنَّ الحدَّ الفاصل بين الفكر الفلسفي والعلم الرياضي قد أزيل عند معظم الفلاسفة اليونانيِّين، بحيث كانوا ينظرون إلى الرياضة على أنها مرحلة من مراحل التفلسُف، أو على أنها تدريب أو «ترويض» للذهن يُهيِّئه للتعمُّق في الفلسفة.
بل إن مفهوم العلم ومفهوم الفلسفة كانا متداخلَين ومُتشابكَين عندهم إلى أبعد حد، فلم يكن هناك نشاطٌ واعٍ مُستقلٌّ اسمه «العلم»، وإنما كان هناك سعي عقلي واحد يتجه نحو ميادين متعدِّدة، ويُنتج ما نُسمِّيه نحن فلسفة أو علمًا، تبعًا لنوع الميدان الذي يتَّجه إليه، ولكنه كان عند اليونانيين «معرفة» أو «حبًّا للحكمة» فحسب.
ولما كان هدف هذه المعرفة أو الحكمة اليونانية هو معرفة ما هو عام، والوصول إلى القوانين المجرَّدة للأشياء، فقد كان من الطبيعي أن يكون العلم اليوناني علمًا «نظريًّا» قبل كل شيء، وتلك في الحق هي الميزة الكُبرى التي يَنسِبها مؤرِّخو الفكر الغربيون إلى الحضارة اليونانية، ويَرون فيها الحد الفاصل بين الفكر اليوناني وكل تفكير سابق له؛ فعلى حين يُفترض أن الاعتبارات العمَلية وحدها هي التي كانت تُحرِّك الحضارات السابقة إلى جمع المعلومات العِلمية، فإن اليونانيِّين بحثوا عن العلم من أجل العلم فحسب، ولإرضاء نزوع العقل إلى المعرفة، دون أن يكون لهم من وراء ذلك هدفٌ عملي، ولقد كان تفوُّقهم في المعارف العقلية الخالِصة — كالفلسفة والرياضيات — أكبر شاهد على ذلك، وكانت قدرتُهم الفائقة على التجريد هي التي أتاحَت لهم أن يَستكشِفوا أبعد الآفاق في هذَين الميدانين.
ولكي يقتنع العقل — على المستوى النظري — فلا بد له من الوصول إلى «الأدلة» و«البراهين» القاطعة. ولقد كان هذا البحث عن «البرهان» مطلبًا أساسيًّا في الفكر اليوناني، فلم يكن هذا الفكر يَقبل أية قضية ما لم يَقتنع بها عن طريق دليل يفرض نفسه على العقل فرضًا، ولم يكن يَكتفي بالنتائج النافعة أو السلوك العمَلي الناجح، بل كان يبحث دائمًا عن «الأسباب». ولكي نُدرك الفارق بين وجهتَي النظر هاتين، نُقارن بين الفلاح المدرب وعالم الزراعة؛ فالفلاح الخبير يَتبع أساليب معيَّنة، معظمها مجرَّب أو موروث، تؤدي به إلى أن يَجني محصولًا ناجحًا، ولكنه لا يُحاول أن يتساءل: «لماذا» يؤدِّي اتباع هذه الأساليب إلى زيادة المحصول؟ بل ربما رأى ذلك سؤالًا عقيمًا، ما دامت النتيجة المطلوبة — وهي المحصول الوفير — قد تحقَّقت، أما العالِم الزراعي فإنَّ هدفه الأول هو البحث عن «السبب»، والنتيجة الناجحة ليست في نظره كافية، بل ليسَتْ هي الهدف المطلوب، وإنما الهدف الحقيقي هو «معرفة الأسباب»، ومن أجلِ سَعيه إلى هذا الهدف كان عالِمًا.
ولو تأمَّلنا مراحل حياة الفرد لوجدنا أن مرحلة الوعي الفكري عنده مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بهذا البحث عن الأسباب؛ فالسؤال «لماذا» هو الخطوة الأساسية في طريق اكتساب المعرفة خلال حياة كل إنسان. وإنا لنَجدُ الطفل في السنوات الأولى لحياته يستجيب لدوافعه وحاجاته المباشرة دون محاولة للبحث عن سبب أي شيء، ولكنه في المرحلة التي يبدأ فيها وعيه في التفتح، والتي يودُّ فيها أن «يَعرف» نفسه والعالم المحيط به، يظلُّ يُردِّد السؤال «لماذا» بلا انقطاع، وقد يصل في ترديده إلى حدِّ الإملال، كما أنه قد يسأل عن أسباب أشياء لا تحتاج إلى تعليل، ولكن المهم أن مرحلة الوعي عند الطفل مرتبطة بالسؤال عن الأسباب. ومثل هذا يقال عن الإنسانية كلها؛ فعندما تتخطَّى مرحلة الفعل ورد الفعل المباشر، ومرحلة الاستجابة للحاجات الأولية، وتبدأ مرحلة الوعي بالعالم ومحاولة تفسيره عقليًّا؛ تكون علامة نُضجها هي أنها لا تأخذ الظواهر على ما هي عليه، ولا تكتفي باستخدامها لتحقيق أهدافها العملية، وإنما تبحث — قبل كل شيء — عن أسبابها؛ ولهذا السبب بعينِه كانت الحَضارة اليونانية تُعَد — في نظر كثير من المؤرِّخين — نقطة البداية الحقيقية للعلم.
ولنَعُد — في هذا الصدد — إلى ذلك المثل المشهور الذي ضربناه من قبل، والذي يَرِد ذكره في معظم الكتب التي تُعالج هذا الموضوع، وهو مثل المثلث القائم الزاوية؛ فقد تمكن القدماء — كما قلنا — من الاستفادة من خصائص هذا المثلَّث في أغراض عمَلية، ولكن اليونانيِّين لم يُقنعهم مثل هذا الاستخدام العملي، بل كان سعيُهم يتجه إلى «البرهنة» (أي تقديم الأسباب في صورة مُتسلسلة منطقيًّا ومُقنعة للذهن) على الخصائص المعروفة لهذا المثلَّث، وهي أن مربع الوتر يُساوي مجموع مربَّعي الضِّلعين الآخرين، وكان هذا السعي إلى إيجاد «البرهان» والتوصُّل إلى «الأسباب» العقلية هو الذي جعل الهندسة عند اليونانيين تُصبح علمًا، على حين أنها كانت قبل ذلك فنًّا يُكتسَب بالخبرة والممارسة فحسب.
هذه النظرية الهندسية الخاصة بالمثلث القائم الزاوية تُنْسَب إلى الرياضي والفيلسوف اليوناني المشهور فيثاغورس، على أن قيمة فيثاغورس هذا — الذي يُمكن اتخاذه نموذجًا لما وصَلت إليه الرُّوح العِلمية عند اليونانيِّين — لا تقتصر على هذه النظرية المعروفة، بل لقد انتقل في مجال آخر من حقيقة مُشاهَدة بسيطة إلى تقديم نظرية كاملة عن العالم، كان لها تأثيرُها الأكبر في العصور اللاحقة، وإن كان هذا الجانب من تفكيره أقلَّ شُهرة من نظريته الهندسية المعروفة؛ فقد أدرك فيثاغورس وجود علاقة بين النَّغمة الصوتية وطول الوتر الذي تَصدُر عنه النغمة عندما يتذبذب، وهذا هو المبدأ الذي يسير عليه الموسيقيُّون عندما تسير أصابع يَدِهم اليسرى جيئةً وذهابًا على الأوتار في الآلات الوترية لكي تجعل للوتر — تبعًا لموضع الإصبع — طولًا معينًا، هو الذي يُحدِّد النغمة التي تَصدُر عنه.
هذه الحقيقة البسيطة لم تكن كافية لاستخلاص نتائج ذات أهمية كبيرة، بل إنَّ الأهم منها هو أن هذه العلاقة بين النغمة الصوتية وطول الوتر يُمكن التعبير عنها بنِسَب رياضية معيَّنة؛ فإذا قصَّرتَ الوتر إلى نصفِه تَصدُر نغمة «الجواب» (أي الصوت الثامن في السلَّم الموسيقي)، وإذا قسَّمت الوتر بنسبة ٢ / ٣ كانت النغمة هي الصوت الرابع. ومعنى ذلك أن الأصوات الرئيسية في السلَّم الموسيقي يُعبَّر عنها بنِسَب رياضية ثابتة، أو بعبارة أخرى: إنَّ التآلف والتناغم هو حقيقة رياضية؛ ومن ثم فإن ما نجده في الكون بأكمله من انسجام إيقاعي أشبه باللحن الموسيقي، ومن انضباط ودقَّة تُعبِّر عنها القوانين الطبيعية الثابتة، يرتدُّ آخر الأمر إلى الصيغ الرياضية المجردة، وكانت حصيلة هذا كله هي عبارة فيثاغورس المشهورة: «العالم عدد وتوافق أو نغم.»
في هذا الاتجاه الذي سار فيه فيثاغورس نهتدي إلى بذرة النظرة العلمية إلى العالم؛ إذ إنه أرجع الاختلاف في الكيفيات (أي في الأصوات) إلى مجرد اختلاف في الكم (أي في طول الأوتار)، وعمَّم هذه الحقيقة على الكون بأكمله حين جعل العالم كله «عددًا وتوافقًا»، أي مقادير كمية ونسبًا أو علاقات بينها، كذلك فإنه في هذه العبارة يُعبِّر عن سمة هامة من سمات التفكير العلمي، هي محاولة الكشف عما يوجد وراء المظهر السطحي للأشياء؛ فالأصوات — كما تدركها آذاننا — تُثير فينا أحاسيس متباينة، ولكن من وراء هذا العالم «الظاهر» كله توجد حقيقة أساسية واحدة، هي النِّسَب العددية التي يُمكن بواسطتها التعبير عن أي اختلاف صوتي، وهنا نَجد تلك التَّفرقة الحاسمة بين «مظهر الأشياء وحقيقتها»، وهي تَفرقة كان لها دور كبير في الفكر اليوناني، ولولاها لأصبح التفكير العِلمي مستحيلًا؛ إذ إن جوهر هذا التفكير هو ألا نَنبهِر بالشكل الظاهر للأشياء ولا ننساق وراءه، وإنما نُحاول البحث عما يَكمن وراءه من حقائق أساسية.
ويترتَّب على هذه التفرقة بين المظهر والحقيقة إرجاعُ الأشياء المحسوسة إلى معانٍ مجرَّدة؛ لأن من طبيعة العلم أن يُجرِّد الظواهر من مظهرها العادي الملموس، ويُعبِّر عنها في صِيَغ مُجرَّدة من معادلات أو نِسَب أو علاقات رياضية. ذلك هو المثل الأعلى الذي يُحاول العلم تحقيقه في جميع المجالات، فأقصى ما يَحلم به العالم هو أن يَتمكَّن من التعبير عن كل ما يَحدث في الطبيعة بقوانين ذات صبغة رياضية.
وربما كنا قد أطَلْنا قليلًا في التعقيب على هذه العبارة التي قالها «فيثاغورس»، ولكننا قد اتَّخذنا منها أنموذجًا يكشف لنا عن طبيعة الإنجاز الذي تحقَّق على أيدي اليونانيِّين، ويضع أمامنا المثل الأعلى الذي كان الفكر اليوناني يتطلع إليه. ولا شكَّ أن القارئ قد أدرك — من خلال ما قلناه عن هذا الإنجاز — أن اليونانيين القدماء قد تركوا في التراث العلمي البشري آثارًا لا تُمْحَى، وأنهم خطوا أولى الخطوات في ذلك الطريق الذي لم تَستكشف البشرية بقية معالِمه إلا بعد وقت طويل من انتهاء عهد الحضارة اليونانية القديمة بأسرها.
على أنه إذا كان اليونانيون قد خلَّفوا للبشرية عناصر أساسية ظلَّت ملازمة لمفهوم العلم في عصور تَقدُّمه اللاحقة، وإذا كان التفكير العلمي مدينًا لهم بأول تحديد دقيق لطبيعة ووظيفة هذا النوع من المعرفة الذي نُسمِّيه علمًا، فإن تصوُّرهم للعلم كان في الوقت ذاته مشوبًا بعيوب أساسية ظلَّت هي الأخرى تكوِّن عائقًا هامًّا في وجه نمو العلم، وربما كانت بعض آثارها الضارة لا تزال ملازِمة للعلم — في بعض جوانبه — حتى يومنا هذا.
وبطبيعة الحال، لم يكن اليونانيون أنفسهم على وعي بوجود عناصر صحيحة وعناصر باطلة في تصوُّرهم للعلم، فقد كان هذا التصور في نظرهم متكاملًا، يؤلِّف وحدة واحدة اقتنع بها أصحابها اقتناعًا تامًّا، ولكن التطور اللاحق للعلم قد عمل على تثبيت بعض جوانب هذا التصور، فأصبحت في نظرنا هي الجوانب الإيجابية، على حين أنه سعى إلى التخلُّص من جوانب أخرى هي التي نَعدُّها سلبية، والحكم ما هو إيجابي أو سلبي يتم في هذه الحالة من خلال وجهة نظر العصور اللاحقة، بعد أن أتيح للإنسان أن يتبيَّن ماذا فعل مضيُّ الزمن في فكرة اليونانين عن العلم، وأي عناصرها استطاع أن يَصمُد خلال التاريخ، وأيها أثبت أنه عائق ينبغي التغلب عليه.
والواقع أن نفس العناصر التي اكتسب بفضلها العلم اليوناني سماته المميزة، هي التي انقلبَت إلى عيوب بسبب تطرُّف اليونانيين في تأكيدها. فاليونانيون قد أسدوا إلى البشرية خِدمةً كبرى حين أكَّدوا أن المعرفة لكي تكون صحيحة يجب أن تنصبَّ على الحقائق النظرية والعامة، ويجب أن ترتكز على براهين مقنعة، ولكنهم بالغوا في تأكيد هذه الصِّفات إلى حدٍّ ألحق الضرر بتصوُّرهم للعلم، ولم تتمكَّن الإنسانية من إزالة هذا الضَّرر إلا بعد مضي وقت طويل جدًّا كان فيه العلم شبه متوقِّف، وكان من الممكن استثماره على نحو أفضل بكثير لو لم يكن الجانب السيِّئ من التصور اليوناني للعلم هو الذي ساد طوال هذه الفترة.
فعندما أكَّد المُفكِّرون اليونانيون أن هدف العلم هو «النظرية» التي تسير الظواهر وفقًا لها، وليس القدرة على استغلال هذه الظواهر والانتفاع بها في المجال التطبيقي، كانوا في الواقع يُؤكِّدون سمة أساسية من سمات العلم، ولكنهم لم يكتفوا بذلك، بل تمسكوا بالتأكيد المضاد؛ وهو أن العلم لا علاقة له بمجال التطبيق، ولا صلة له بالعالم المادي بأكمله، وإنما الواجب أن يكون العلم «عقليًّا» فحسب. فالمثل الأعلى للعالِم — في نظرهم — هو المُفكِّر النظري الذي يَستخلِص الحقائق كلها بالتأمُّل النظري، أما محاولة تدعيم هذه الحقائق بمُشاهَدات أو ملاحظات أو تجارب نُجريها على العالم المحيط بنا، فكانت في نظرهم خارجة عن العلم، بل إنها تحطُّ من قدر العلم وتجعله مجرَّد «ظن» أو تخمين، بل إنَّ أفلاطون — فيلسوف اليونان الأكبر الذي كان في الوقت نفسه ذا إلمام واسع بالرياضيات — قد عاب على أحد علماء الهندسة التجاءه إلى «رسم» أشكال هندسية لإيضاح حقائق هذا العلم، ورأى أن إعطاء علم رفيع كالهندسة صورة محسوسة يُمكن رؤيتها بحاسة كالعين، هو إنزال لهذا العلم من مكانته العالية، فيُصبِح جزءًا من عالم الأشياء المرئية والمحسوسة، بينما ينبغي — لكي يظلَّ محتفظًا بمكانته — ألا نستخدم فيه التفكير العقلي وحده، فتظلَّ حقائق الهندسة «عقلية» على الدوام.
ويطول بنا الحديث لو حاولنا أن نتتبَّع مظاهر هذه النظرة العقلية الخالصة إلى العلم، ومدى تطرُّف اليونانيين في تأكيدها، كما أنَّ المجال لا يتَّسع للتحدث طويلًا عن الأسباب المُحتمَلة لإصرار اليونانيين عليها، وحسبنا أن نقول: إنَّ هذا التأكيد المُتطرِّف للعلم النظري على حساب التطبيق العلمي ربما كان راجعًا إلى أحد عاملين:
فمِن المُمكن أن يكون مرتبطًا بنظرة إلى العالَم المادي على أنه عالم ناقص، وإلى العالم الرُّوحي والعقلي على أنه عالم الكَمال، وهي نظرة ربما كانت قد تسرَّبت إلى الفكر اليوناني عن طريق مُعتقَدات شرقية قديمة كان لها تأثيرها في كثير من اليونانيين. ومن المعروف أن فيثاغورس نفسه كانت له «طريقة» — أشبه بالطريقة الصوفية — تأثَّرت طقوسها وشعائرها وتعاليمها بالعَقائد الشرقية تأثُّرًا بالغًا، كما أن أفلاطون سار في اتجاه مماثل. هذا الازدواج بين عالَم رفيع غير مادي وعالم وضيع هو العالم المادي يمكن أن يكون قد انعكس على نظرة اليونانيين إلى العلم، وأدَّى إلى الاعتقاد بأن العلم الجدير بهذا الاسم هو العلم العقلي، وأن مجرد اقتراب العلم من العالَم الطبيعي، ومحاولته حل مشاكله، يقضي على كل ما هو رفيع في هذا العلم.
ومن المُمكن أن يكون هذا التطرف في تأكيد العلم العقلي راجعًا إلى التقسيم الذي كان سائدًا في المجتمع اليوناني — الذي كان مُجتمعًا يسودُه نظام الرق — بين المواطنين الأحرار وبين العبيد؛ ذلك لأن العبيد كانوا هم الذين يقومون بالأعمال الجسمية واليدوية الشاقة؛ أي إنهم هم الذين كانوا يتَّصلون — في عملهم اليومي — بالعلم المادي، وبذلك كانوا يُوفِّرون لأسيادهم الأحرار الوقت والجهد الذي يَسمح لهم بمُمارسة التفكير والجدل والحوار في المسائل النظرية الخالصة. وكان من الطبيعي في هذه الحالة أن تَنعكِس مكانة الإنسان على نَوع العمل الذي يُمارسه، بحيث يرتبط العالم المادي في أذهانهم بالوضع الاجتماعي المُنحط، ويَرتبط العالم العقلي بالوضع الاجتماعي الرفيع، وبحيث يُؤكِّدون في النهاية أن الجهد اللائق بالإنسان الكريم والمثل الأعلى الذي يَنبغي أن يسعى الإنسان إلى تحقيقه هو التأمُّل النظري الذي لا تشوبُه من المادة شائبة، وأن الاقتراب من العالَم المادي فيه حطٌّ من كرامة الإنسان.
وعلى أية حال فقد أدَّى ذلك إلى تجاهُل اليونانيِّين لمبدأ تطبيق العلم في حلِّ المشكلات الفِعلية للعالم، وبالرغم من أن تَفوُّقَهم الهائل في التفكير النظري — في ميادين الفلسفة والرياضيات وما يتَّصل بها — يشهد بأن قدراتهم العقلية كانت ممتازة، فإنهم لم يكونوا ميَّالين أصلًا إلى استخدام هذه القدرات لأغراض تطبيقية، فكانت نتيجة ذلك أنهم تركوا للعالم فكرًا نظريًّا رائعًا، ولكنهم لم يتقدَّموا خطوة تستحق الذكر في الميدان التطبيقي. ولقد عبَّر عن هذه الحقيقة العالِم الإنجليزي الكبير «برنال» حين قال:
إنَّ الروعة العقلية والفنية لليونانيين يُمكن أن تُبهرنا إلى حدٍّ يَصعب علينا معه أن نتبيَّن أن تأثير معرفتهم وذكائهم كان مرتبطًا بالمظاهر أكثر مما كان مرتبطًا بالحقائق العمَلية والمادية للحياة، فجمال المدن والمعابد والتماثيل والأواني اليوناني، ودقة منطق اليونانيين ورياضتهم وفلسفتهم، تُخفي عنا حقيقةَ أن أسلوب الحياة في معظم شعوب البلاد المتحضِّرة كان — عند سقوط الإمبراطورية الرومانية — مُماثلًا إلى حدٍّ بعيد لما كان عليه قبل ذلك بألفَي عام، عندما انهارت الحضارة البرونزية القديمة (عند المصريِّين القدماء والبابليين … إلخ). ولو استثنيا بعض التحسينات الطفيفة في الري وشقِّ الطرق وبعض الأساليب الجديدة في العمارة الضَّخمة وتخطيط المدن؛ فإنَّ العلم اليوناني لم يُطبَّق إلا على نطاق ضيق، وليس في هذا ما يدعو إلى الدهشة؛ إذ إن العلم — أولًا — لم يكن يلقى اهتمامًا من المواطنين ميسوري الحال لأي هدف من هذا النوع، بل كان هؤلاء يَحتقرون مثل هذه الأهداف — وثانيًا — لأنَّ العلم الذي توصَّلوا إليه كان محدودًا ذا طابع كيفي إلى حدٍّ يستحيل معه استخدامه على نطاق عملي واسع، حتى لو استقر عزم العلماء على ذلك.


تلخيص النصوص العربية والإنجليزية أونلاين

تلخيص النصوص آلياً

تلخيص النصوص العربية والإنجليزية اليا باستخدام الخوارزميات الإحصائية وترتيب وأهمية الجمل في النص

تحميل التلخيص

يمكنك تحميل ناتج التلخيص بأكثر من صيغة متوفرة مثل PDF أو ملفات Word أو حتي نصوص عادية

رابط دائم

يمكنك مشاركة رابط التلخيص بسهولة حيث يحتفظ الموقع بالتلخيص لإمكانية الإطلاع عليه في أي وقت ومن أي جهاز ماعدا الملخصات الخاصة

مميزات أخري

نعمل علي العديد من الإضافات والمميزات لتسهيل عملية التلخيص وتحسينها


آخر التلخيصات

يقصد بالصفة الآ...

يقصد بالصفة الآمرة تقهقر وتراجع الفكرة التعاقدية ومبدأ سلطان الإرادة أمام التدخل التشريعي للدولة ، ه...

المبحث الأول: د...

المبحث الأول: دسترة البعد البيني في الجزائر بعد إدراج البعد البيتي ضمن الحقوق الأساسية الحقوق الإنس...

الهدف الشامل لل...

الهدف الشامل للتربية في الكويت تهدف التربية في دولة الكويت إلى : تهيئة الفرص المناسبة المساعدة الأفر...

Le capitaine av...

Le capitaine avait connu celui-ci lorsqu'il était à la rue aux Etats-Unis et avait accepté de le ram...

لا يخفى أن لفظ ...

لا يخفى أن لفظ المجتمع مشتق من جمع فالجمع ضم الأشياء المتفق عليها وضده التفريق والأفراد وقد أحسن صاح...

تعد المرافقة ال...

تعد المرافقة النفسية والتربوية خدمة نبيلة، تهدف للمحافظة على كيان المجتمع وجعله سليما وناميا بقوة وت...

الأميرة تطورت ا...

الأميرة تطورت الأحداث وتسارعت بعد مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه قولي علي بن أبي طالب الخلافة ونشبت...

وقد تأثر بكليلة...

وقد تأثر بكليلة ودمنة محمد بن أحمد بن ظفر ، في كتابه النشري : سلوان المطاع في عدوان الأتباع ، وحكايا...

توفي محمد سنة ١...

توفي محمد سنة ١١هـ 11 / ٦٣٢م بعد ، أن وحد كلمة العرب؛ فاستطاع خلفاؤه إنشاء دولة إسلامية مترامية الأط...

هو واحد من أهم ...

هو واحد من أهم رجال المعتزلة، ومن أوائل من تحدثوا عن الإعجاز القرآنى وله فيه رأى جعله يشغل الحياة ال...

للغذاء ثلاث وظا...

للغذاء ثلاث وظائف أساسية وهي : 1 - الوظيفة الفسيولوجية حيث يغطى الجسم احتياجاته من الطاقة من مصادره...

Despite lingeri...

Despite lingering perceptions, 37.0°C (98.6°F) is rooted in a historical convention that modern data...